السرد والرؤى ( 5– 5) قراءات في نماذج روائية: (1) إبراهيم إسحق إبراهيم. (2)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد ضحية
    أديب وكاتب
    • 10-05-2010
    • 121

    السرد والرؤى ( 5– 5) قراءات في نماذج روائية: (1) إبراهيم إسحق إبراهيم. (2)

    السرد والرؤى ( 5– 5) قراءات في نماذج روائية: (1) إبراهيم إسحق إبراهيم. (2) محمود محمد مدني. (3) مختار عجوبة. (4) فرانسيس دينق. (5) مروان حامد الرشيد.
    (1) إبراهيم إسحق: السرد السوداني القادم ..
    قراءة في عالم إبراهيم إسحق الروائي : أخبار البنت مياكايا - نموذجاَ
    حول العالم الروائي لإبراهيم إسحق إبراهيم :
    التجربة الإبداعية لإبراهيم إسحق , لهي تجربة غنية . تجعلنا نتوقف عندها طويلا , ونحن نحاول سبر أغوارها , العصية في لغتها وتقنيات سردها وتنوعها الحكائي, الذي يتقاطع فيه الأسطوري مع الواقعي مع السحري ..
    القامة الإبداعية لإبراهيم إسحق لا تقل عن قامة الطيب صالح. فإسحق دون المبدعين الآخرين, الذين كتبوا منذ الستينيات. وعاصروا مرحلة التحولات الحداثية , شكلّت كتابته نسيجا حداثويا متميزا, منذ الوهلة الأولى : على مستوى إستخدامات اللغة والتقنيات. وربما طريقته المتفردة في إستخداماته للغة,هي ما يقف خلف عنايته, بشرح المفردات الواردة في متن روايته أخبار البنت مياكايا - على سبيل المثال - حتى لا تحول هذه الاستخدامات ومفرداتها في تلقي هذا النص الروائي المدهش.
    الولوج إلى عالم إبراهيم إسحق إبراهيم الروائي, لهو أمر تحفه المغامرة , لذا لا نملك أمام أعماله الشاهقة, سوى أن نأمل في التمكن - فعلا - من الكشف عن بعض القواعد الأساسية , التي ينهض فيها عالمه الروائي الثر, من خلال واحدة من رواياته البارزة : أخبار البنت مياكايا والتي يقول عنها :" كل الذي فعلته أنني أخذت قصة شعبية صغيرة ,ووسعتها من خلال الدراسة التاريخية (..) ووضع صورة واقعية لتلك القصة الشعبية , ومواجهة الأسئلة الملحة التي تفرضها أحداث رواية كهذه , في كيفية الإستطاعة على التفاهم وقبول الإختلاف بين العرب والشلك (1 )" .. ويكشف هذا المجتزأ من كلامه عن الإدراك العميق في توظيف الأسطوري في العمل السردي, الذي يعتني بالتحليل , وما ينطوي علىه من أهداف نبيلة تعني بالحراك الإجتماعي , وعمليات التشكيل القومي,بين عرب وأفارقة البلاد الكبيرة(السودان), من خلال المعرفة الجمالية التي نتحصلها من هذا النص دون أي تواطوأت آيديولوجية ..
    يحاول إبراهيم إسحق, عبر توظيفه للأسطورة. هدم هذا العالم - المحيط بمياكايا .. بنا - وإعادة بناءه من جديد , في محاولة لإبراز إسهام البسطاء البدائيين - إذا جازت التسمية - في صناعة هذا العالم الجديد والمعنى الإجتماعي العام لوجودهم ووجود الآخرين فيه! .
    فهم, يمتلكون قدرة تامة على التفكير اللانفعي, وإذ يتحركون بدافع الحاجة, أو الرغبة في فهم العالم المحيط بهم .. وفهم طبيعته فهم يحاولون فهم مجتمعهم من الجهة الأخرى , كما نلاحظ - لاحقا - في علاقتهم بالتماسيح وأفراس البحر والأرواح , إلخ ..
    وهكذا نجد هؤلاء الذين تخيم عليهم, أجواء الأساطير والوعي الأسطوري.. هؤلاء العالمثالثيون المنسيين , الذين عبرت عنهم أخبار البنت ماياكايا , أستطاعوا أن يمضوا في حياتهم, عبر وسائل فكرية ووجدانية , لا تقل أهمية عن وسائل الفيلسوف أو العالم (2).. وبهذا الوعي التام من قبل إبراهيم إسحق, لمعنى الأسطورة. وما تحمله من معرفة مختزنة, منذ آلاف السنوات , بما يصوغ الإنسان في اللحظة الراهنة. على نحو ما ,وفقا لما كان عليه أسلافه - بهذا الإسقاط - تعاصر الرواية فضاء البلاد الكبيرة - خاصة أن أحداثها ووقائعها تجري, في مساحة واسعة على امتداد النيل الأبيض بدء بقلبه , وصعودا إلى أدغال الجنوب.. فهذه المساحة الواسعة من الوسط والجنوب , هي جغرافيا التمازج بين السكان الأصليين(الزنوج الأفارقة) والوافدين(العرب المهجنين زنجيا) , ومنبع سؤال الهوية !! - بأساطيرها التي شكلّت وجدان إنسانها, وصاغت قوانين إستمراريته, وطرق تفكيره وممارسته اليومية !..
    أن إعتناء إبراهيم إسحق بالأسطورة في أعماله الإبداعية المختلفة, يعكس الإهتمام الملحاح ,لتفسير الحاضرعبر هذا الماضي ,الذي ينطوي عليه حاضرنا بصورة من الصور , ولذلك نجد الأسطورة يتم توظيفها بطريقة أو أخرى , في بناء شخصيات مثل الزاكي ود بخيت, الذي اشتهر لدى الأتراك وأعوانهم, بإسم "راصد القيزان" ,وصار طريدا مطلوبا, من قبل السلطة المصرية -التركية (3) فالزاكي نموذج للبطل الخارج من قلب الجماهير الشعبية , والذي لديه القدرة على الإتيان, بضروب من الشجاعة والبسالة, الأسطورية التي تستعصى على سواه , والزاكي ببطولته هذه يتبدى عن قانون إجتماعي ونفسي, حول الشخصية السودانية وإستجاباتها للتحديات ولموضوعات صراعها الوجودي: قانون حكم مسيرة شعب( اللوّة) الجنوبي العظيم بقيادة نيكانج في هجرته البطولية ,مصارعا قوى الطبيعة وعابرا البحر الكبير , إلى أن وصل إلى تخوم الجنوب وشكل قبائله المختلفة! ..
    ذات القانون يمكننا ملاحظته في شخصية أسطورية مثل مرين(4) الطفل الصغير الذي إتسم بالشجاعة, والجرأة إلى الحد الذي جعله يواجه المفتش الإنجليزي ..
    هذا القانون الذي يتخذ مظاهر مختلفة يرتبط في أعمال إسحق بصراع الإنسان ضد قوى الطبيعة - الناهضة في قلب الليل ,بكل ما يحتوي من هيبة المبتدأ ,و رعب القرون الماضية - وتوسله للماورائيات والأسطورة والسحر ,لتفسير متناقضات واقعه اليومي , أو توسل حياته الروحية.. كما في أخبار البنت ماياكايا, أو بتصعيد البطولة في الأشخاص العاديين, الذين ينتمون إلى عامة الشعب - كالزاكي ودبخيت ومرين - وتحويلهم إلى أبطال, في الرواية نفسها ..
    بهذه الاستخدامات أغنى إسحق نصوصه وأثراها .. وهو ما أشرت إليه فيما سبق . بل و أتصور أنه من السمات الأساسية, لعالم إبراهيم إسحق الروائي, الغني بالمعرفة بالتاريخ واللغة ,في بنيته الظاهرية. والرؤيا الثرية للعالم في بنيته الباطنية .
    في أخبار البنت مياكايا على المستوى الظاهري للنص , نتعرف على كثير من الألفاظ غير المألوفة على مسامعنا, و التي شكلتها ثقافة الوسط الإسلاموعربي المركزي, ونتعرف على أسماء العديد من الأماكن, والمواقع الوظيفية في جهاز القيم الهرمي, بل ونكاد نمتلك شجرة نسب, نمضي على هداها مستكشفين أغوار شخصيات الرواية..
    تماما مثلما نكتشف على المستوى الباطني : الرغبة في هدم هذا العالم, الناهض في قلب الظلام بسحره وشعوذته , وبناء عالم آخر جديد متحرر من سلطة الظلام المهيمن على كل شيء ! حتى قصص الحب الجميلة !!..
    هذا الظلام الكثيف. الذي يخيم على فضاء الرواية - وهو ما لاحظه أيضا الصديق الناقد المصري المبدع ,و المميز أحمد الشريف - الذي هو مثير الذكريات , ومتكأ الإنسان عندما تهتاجه الإنفعالات والأشجان ..
    هو ملك الزمان , وهو الرّحم الذي خرجت منه البشرية إلى فجرها.. وهو رمز الصراع الدائم على قاعدة الأضداد الثنائية : الظلمة / النور .. الخير / الشر ..
    ولطالما أرتبط بالسحر والخرّافة والأساطير , وظل مكمن خوف الإنسان , ورمزية لا شعوره.. هذا الظلام الذي تكون فيه الإنسان جنينيا بمثابة الرحم أو الماتريكس, الذي ينطوي على النور .. بمثابة الرحم للوجود الإنساني في الصراع الدائم ,لأجل الإستمرارية والبقاء ..
    لقد وظف إسحاق الليل والظلمة كثيرا, في هذه الرواية . على هذه القاعدة, التي يقابل فيها الأسود/ الأبيض ..العربي- الشلكاوي , إلخ من ثنائيات ..
    ولقاء الأضداد عموما . ظل يشكل محورا هاما للإبداع الإنساني بأجناسه المختلفة ,ومن هنا يمكننا الزعم - على مستوى التأويل -أن الظلمة أو الليل ,في أخبار البنت مياكايا, تطرح سؤلا مستمرا : هل هو ليل الإنسان؟ أم أنه الليل الناتج ,عن الحركة الظاهرية للقمر المضيء ,حول الأرض !.. أم هي تلك الأفكار, التي تنبع ليلا من اللاشعور! والتي هي أشبه بالأساطير .فللأساطير ملامح حلمية ,والليل هو لا شعور السلطة ,كما الريف أيضا حيال المدينة , وكما بلاد المستعمرات حيال المراكز الإستعمارية؟! ..
    لكن هل النهار هو مفتاح المعرفة ,ومشرع الرقي !! ..
    تركيز إسحق على تعاقب الليل والنهار ,في هذه الرواية. لا يتوقف عند الإحالة إلى ليل الأساطير .. ليل مايكايا.. الكامن في أعماق اللاشعور, حيث القدرات العجائبية.. ربما هو ليل الإنسان الراهن , بعد وقت طويل من فجر مياكايا ..
    أخبار البنت مياكايا:
    اخبار البنت ميا كايا يأتي إختلافها عن أعمال إسحق , الروائية والقصصية الأخرى, في كون مسرحها هو النيل الأبيض , فأحداثها التاريخية, والمستلهمة من وقائع حدثت, في القرن السادس عشر, تجري على إمتداد واسع, من أطراف الجزيرة أبا, إلى مقرن السوباط وبحر العرب - ويمكن الإحالة هنا أيضا, إلى مقرن النيلين الأبيض والأزرق , موطن الشلك الأول " جزيرة توتي " - على عكس مسرح الأعمال الأخرى لإبراهيم إسحق : أم درمان أو قري و"حلالات" غرب السودان(دارفور)..
    عالم هذه الرواية " أخبار البنت مياكايا ", محتشد و متشابك ومكثف . تنساب فيه اللغة بكل شاعريتها ومحتوياتها التاريخية , لتتدفق عبرها الأزمنة والحكايات, التي لا تخلو من شجن : عن أسلافنا وتاريخنا " الشخصي " - هذه الحكايات الخرافية والتي " في الحقيقة هي ليست خرافية "- والتي كانت جداتنا" تحجينا" بها كل مغرب, بعد أن نشرب الحليب إستعدادا للنوم..
    مع إبراهيم إسحق في أخبار البنت مياكايا تتداعي إلى أذهاننا ,كل حكايا طفولاتنا , لنخرج من قلب هذه الطفولة إلى اللحظة الراهنة, التي أراد أن ينقلنا إسحق إليها, ليتركنا عند مفترق أسئلة :عن الأمس واليوم ونحن؟!!..
    أن إبراهيم إسحق يستعيدنا إلى لحظات عزيزة علينا, تعود إلي عهد براءتنا ودهشتنا البكر , فنرقب معه الآن التحولات, التي طرأت علينا , ونشعر بالمرارة لإندثار مؤسسة الجدة "الحبوبة" .. صحيح أنها رواية قصيرة, لكنها متخمة بالأشياء الحميمة ,والعوالم التي تعبر عن البدايات الأولى, في قلب عالم يمور بالأساطير والخرافات, التي تعطي الحياة لكل شيء, في هذه الجغرافيا التي يرتبط فيها الإنسان بالطبيعة البكر ,حيث يعكس حال الأشجار والنهر , والهمس السري وهمس اللغة , ما يعتمل في النفوس " من جهة النهر هدأ الحال تماما , فلا شجار ولا غزل إلا غرغرة الماء على الجروف , كالأبد يهمهم الدّفاق بأسرار كونية كالطلاسم (5)".. يهدأ كل شيء وتبقى الطبيعة /الإنسان وحدهما , متحفزان للتواصل ..
    أخبار البنت مياكايا غنية بنهوضها في اللغة والتاريخ والذاكرة الشعبية , التي عندما نقرأ تقاطعاتنا معها, نكتشف مدى ما فقدناه من حنين !.. فهي رواية تتستعيد , الحنين الهارب منا , مرة أخرى إلينا, ليتخذ شكلا معذبا وملتاعا, في الحكي المشحون بالرموز, والدلالات والأساطير والأقنعة ..
    إذ يوظف إسحق كل ذلك وفقا لآلية التضمين, من خلال إقتراح عدد من الأساليب المحايثة , في السرد , حيث نجد أن الآراء حول طبيعة النفس الإنسانية ,التي يوحي بها لمعالجة فكرة الإنسان البدائي, وأزمة التواصل والتمازج بين العرب الهجين ,والسكان الأفارقة الأصليين.. حيث نجد كل ذلك دون تنظير أو تصورات فلسفية أو فكرية معقدة, إذ تتجلى المعرفة العميقة بالتاريخ والذاكرة الشعبية,على المستوى السردي .الذي يجعل من الأفكار الجافة ,كائنا حيا يمشي على قدمين , حاملا الرؤية الباطنية للرواية ..
    ربما أن مرجع ذلك هو وطء الحاجة الملحة عند إسحق, في محاولة تدمير القوالب, والديمومات والرّتابة.. ربما أن ذلك ما دعاه لإقتراح هذا الشكل الروائي ,الذي تجسد في أخبار البنت مياكايا(6 ) ..
    هذه الرواية المتمردة في شكلها ومضمونها على ما هو سائد ,تشكل بنضجها خط شروع جديد للرواية الإستيهامية , في السودان .. من خلال اللغة الإشارية بين غانم العربي, وماياكايا إبنة رث الشلك, اللذان يتعرفان على بعضهما- في الليل - وتنشأ العلاقة بينهما ,لتفضي في نهاية المطاف إلى الزواج . لتنهض في لغتهما الإشارية أسئلة اللغة/ و التنوع .. تنوع وتباين الثقافات والحضارات والعقائد في البلاد الكبيرة ..
    مثلما تنهض لغة الرواية ذاتها, بتعابيرها غير المألوفة في ثقافة الوسط الإسلاموعربي المركزي, في بلاد السودان الكبيرة , التي ينتمي إليها غانم . لتفضي الرواية في التحليل النهائي ,إلى سؤال الهوية : هؤلاء العرب الوافدون, وإختلاطاتهم بالقبائل الأفريقية الأصلية , من خلال علاقة غانم بمياكايا . وحول هذا السؤال ي,خلق إبراهيم إسحق الحوار الداخلي للنص, بين مكونات الأنواع السودانية المختلفة , محيلا عبر لغة السرد الروائي ,إلى القوانين التي صاغت إنسان هذا المسرح الواسع , الممتد من الجزيرة أبا في قلب النيل الأبيض (جزيرة المهدي عليه السلام )حتى قلب الجنوب (حيث منابع النيل).
    تحتشد أخبار البنت مياكايا ببنى حكائية - صغرى - عديدة تتشكل من الأساطير . مثل : أخذ التماسيح لجثة زوج أينابور " يقولون أن جدتهم تمساحة فهي تستلم أولادها من كل جرف .. وأهلها هن أفراس البحر(7) ".. الوعي الأسطوري أو الذاكرة الأسطورية يهيمنان على فضاءات الرواية, من خلال محاولات الإستفادة, من علاقة القرابة بأفراس البحر , إلخ " فرس البحر التي تمرّن أولادها على الشط الشرقي ,إغتاظت لمرورها . ترنمت أمامها وتعذرت لها بكلام حفظته عن أبيها , فما أجدى .. يقولون أنها وكل القرابات الدنيا , تنسى علاقتها أحيانا بالشولو(8)" .. إلخ من أساطير تشكل البنى الحكائية الصغرى, إلى جانب البنية الحكائية المركزية ( علاقة مياكايا بغانم ) ..
    منذ أول فقرة في الرواية, نلحظ تشابك وتعدد الرواة والشخصيات, وهو ما أشارت إليه, دكتورة آسيا محمد وقيع الله, في بحثها القيم عن الأسطورة, في عالم إبراهيم إسحق الروائي (9) " كما نلاحظ الرّوي الذي يتوسل صيغة الراوي/ المتكلم " جليل يغالطني يا حازم, من الذي يعرف هذه الأعاجيب هنا غير عمر وعبدالقادر. يقول لي.. ولا أجدني أرضى.. أقول له يا جليل ..أقول لك حكاها لي رجل في محطة لواري على الرمال ,وراء ودعشانا, تحت القمر والليل صاف وحلة المساعد تكركر فوق اللهيب .. يحيكها لنا ذلك الحساني القادم من بادية الدويم(10)".. فهذه الرواية حاولت أن تلقي بكل أعباء المواقف والأحداث على شخصياتها , دون سلطة قابضة للراوي أو المؤلف , وقد نجحت فيما أطلقت عليه يمنى العيد ديموقراطية السرد ,في بحثها الروائي القيم (الراوي : الموقع والشكل) . نلاحظ أيضا أن نتؤات الجغرافيا وتعرجاتها الإجتماعية والنفسية , التي وسمت الإنسان, حملتها لغة السرد فاتسمت بها , فجاء السرد معقدا , وأنعكس ذلك وظيفيا على التقنيات المستخدمة ( أعني بوظيفيا هنا أو بالتفاعل الوظيفي ليس مفهومه ذاته في علم النفس "الشرطية" بل التأثير المتبادل بين السرد والتقنية السردية ) والإستخدامات اللغوية غير المألوفة- كما أشار الناقد السوداني الرّصين أحمد عبد المكرم في بحثه القيم عن فتح مغاليق عالم إبراهيم إسحق الروائي إلى وعورة السرد في أعمال إبراهيم إسحق , وهي ملاحظة قريبة الشبه من ملاحظتنا (11) . فنصوص إبراهيم إسحق تنزع بإستمرار- نحو البحث عن قيمة إكتشاف, أو تحليل شارح لواقع ما: كما يقول عبد المكرم - واقع ملتبس غائب أو معزول ,تسعى النصوص في تكاملها إلى تبيانه أو تجليته.. أسلوب إبراهيم اسحق,شديد الإيجاز والثراء ..
    ثراء موضوع هذه الرواية , التي تنهض تيمتها في الطبيعة الفسيحة: جغرافيا - والمعقدة : إنسانيا , لكنها رغم ( كونها شائكة بهذا القدر) تختلف رؤيتها من زاوية أخرى, فهؤلاء الذين ارتبطوا بها "يتصارعون كالجواميس. وبشراتهم تجمرت مثل أكباد الإبل, ووجوههم عندما تشوّه.. تصبح كالذي تمضغ في أحشائه الأفاعي, وهم حذرون!. ينسابون على تعاريج الشط كالثعابين. يتحركون عندما تموت الشمس, ويهبط الظلام على الكون. يحيط بهم عواء الذئاب والثعالب والصقور, التي تداوم على خطف الأرانب والقطى والجديان. عندما ترجع الشمس وتكشف أماكن الأنهر والبحار ومجاري الأودية ,وغابات السنط والجبال وجذوع الأشجار والبردى ,في المستنقعات وطين الماء الضحل. يمكثون في قطياتهم حتى يظلم الليل, لمثل لون الغراب(12) هذه اللوحة التشكيلية , تشير إلى تقنية محددة لجأ اليها إسحق عبر توظيف الوصف في السرد التشكيلي بهذه الرواية , إذ نرى لوحة كاملة لإنسان بدائي وحياة برِّية , بطبيعتها الخلابة التي تنطوي على غموض الطبيعة وقوتها,وفي الوقت نفسه تنطوي على مخاوف الإنسان !!..
    فكل شيء في هذه الرواية يحدث بإتفاق مع الطبيعة ,التي يحيطها الليل في رحمه.وظواهر هذه الطبيعة القابضة على فضاءات الرواية .. فحتى علاقة الحب بين غانم ومياكايا ,ترعاها هذه الطبيعة. إذ تنشأ في ليلها المدلهم .. حيث يتم كل شيء في الرواية ,على قاعدة الأضداد الثنائية, التي أشرنا إليها سلفا - على مستوى المضمون - كذلك على مستوى الشكل: نجد تزاوج التراثي والحداثي/ و الثقافي والشعبي/ التاريخي واليومي /و العامي والفصيح /و الإيقاعي والسردي.. وكل ذلك في سياق التفكك والتشظي وكسر النموذج !..
    وزواج غانم من مايكايا هو الإيحاء بقصة كليلة ودمنّة عن الليل والنهار ,والجرذان اللذان يتناوبان قرض الحبل : الحياة والموت(13) فالحياة والموت كليهما مظهر من مظاهر هذه الطبيعة , وسمت به أبناءها فحملته حياتهم وسلوكهم .. ومثلما الشمس تموت لتحيا الدنيا بأسرها.. تولد من جديد "كأن الدنيا بأسرها ولدت من جديد عندما عوعّى الديك(14)".. هذا الثنائي في خروج الحياة من الموت.. والموت من الحياة . وخروجهما كليهما من مصدرهما الأساسي : الطبيعة , يدفعنا إلى المجازفة بزعم أن النص يقيم حوارا مع التفسير الديني للحياة! ..
    [mark=#FFFFCC]
    الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
    كي يسمى في القواميس بكاء ..
    الصادق الرضي
    [/mark]
  • صادق حمزة منذر
    الأخطل الأخير
    مدير لجنة التنظيم والإدارة
    • 12-11-2009
    • 2944

    #2
    [align=center]
    الأستاذ أحمد ضحية


    أحييك على هذا العرض النقدي الجميل والمتسلسل والجدير بالمتابعة والقراءة وهنا تتابع إلقاء الضوء على معالم السرد والرؤى في نموذج روائي للكاتب ابراهيم اسحق ابراهيم في روايته أخبار البنت مياكايا وقد أعجبت بهذا الربط الاستنتاجي بين الإنسان والطبيعة في ملحمة الموت والحياة .. الليل والنهار .. الظلمة والنور في تفسير - مجازف - يربط النص بالتفسير الديني للحياة ..!!

    تحيتي وتقديري لك
    [/align]




    تعليق

    • أحمد ضحية
      أديب وكاتب
      • 10-05-2010
      • 121

      #3
      (2أ جابر الطوربيد لمحمود محمد مدني .. رؤية نقدية: في الدلالة والسياق الرمزي

      (2أ) جابر الطوربيد لمحمود محمد مدني ..
      رؤية نقدية: في الدلالة والسياق الرمزي ...
      حول الرواية:
      الروائي السوداني محمود محمد مدني , من الروائيين الذين لا يقلون أهمية عن الطيّب صالح وإبراهيم إسحق إبراهيم . وتعتبر روايته "جابر الطوربيد (15)" من أكثر الروايات السودانية تميّزاً في الثلاثين سنة المنصرمة , وسط حركة روائية سودانية, لم تأخذ بعد مسمّى "الحركة" تماماً ! وذلك لقلة الإنتاج الروائي الكمّي والنّوعي , و لعدم وجود رؤى محددة بوضوح, في الحديث الروائي للعديد مما صدر, لولا روايات قليلة هي كتابة لإعادة ترتيب العالم بحق! ..
      صدرت ( جابر الطوربيد ) للمرة الأولى عن الشارقة في 1984م . وأستند حديثها الروائي على الأطفال كتيمة أساسية, خلال عملية جدلية ,يتفاعل فيها الأطفال مع مؤسسات التعليم : البني الإجتماعية والوطن الفوضى! ..
      وإذ تنطلق خلال كل ذلك ,رواية جابر الطوربيد , عبر روح مدني التجرِّيبية المغامرة , بما يجعل مسكوتات النّص متعددة ومتباينة ومتنوعة : ومشحون ــ النص ــ بالرؤى المتراكبة والمتجلية في مستوياته المختلفة, عن ثنائيات متنازعة, كالأضداد ومتفاعلة في الآن نفسه : الحياة , الموت , الخير , الشر , الإنتصار , الهزيمة , المثال , الواقع . مروراً بالطفولة /الرجولة وإنتهاءً بجدل الحياة / الواقع , لتشكل خلال كل هذه الثنائيات , المأساة في أفدح صورها . ومع ذلك يأتي الإنتصار على قهر الطبيعة : الجفاف .. وعلى الموت . موت الطفل المبارك ,وعلى السلطة التي تفشل في إقتلاع الشجرة "جابر" من جذورها ..
      والغزاة والإستبداد .. فيتشكل الطفل المبارك مرة أخرى في الشجرة .. في جابر ..في رقية.. ويفيض البحر ليعلن اللَّقاح ــ فينهزم الجفاف, وتبدأ دورة الحياة أكثر حيوية , بموت رمز الفساد "ناصر الخزّان ".. تحيلنا كل هذه الأفعال الدرامية متسارعة الإيقاع ,إلى "أن من أخطر أزمات الفنان المعاصر, أنه يعاني الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى , مشكلة التعبير عن موقفه إزاء المجتمع الذي يعايشه , ورغم أن هذه الأزمة ليست وليدة اليوم , فقد ظل الفن على مدى العصور, محاطاً بأسلاك شائكة من السلطات أو الشعوب أو العقائد الشائعة, أو ثلاثتها جميعاً غير أن العصر الحديث. قد ورّث خبرات كل ما سبقه من عصور, في الوقوف من حريّة التعبير موقفاً معوّقاً لرسالة النص (16)" خاصة في ظل اللحظة التاريخية الروائية ,التي ظل السودان يجتازها منذ موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1966 م وحتى مارتجلو .. ذاكرة الحراز 2003م مروراً بصباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل لعيسى الحلو 1997 م..
      فإذا كانت لوقت طويل, صناعة اللحظة الروائية ,قد إرتبطت بالطيب صالح , إبراهيم إسحق وعيسى الحلو وآخرين , مثلوا مع الأستاذ محمود محمد مدني أعمدة مهمة في تاريخ الرواية السودانية وحاضرها . لحظة إستمرت بشروط جديدة, فيما أثمرته للحظات أخرى ,يمثلها بلا شك دكتور عمرو عباس , إبراهيم بشير إبراهيم, أحمد حمد الملك , دكتور مروان حامد الرشيد ,سيف الدين محمد صالح وآخرين كثر لا يمكننا عدّهم الآن ..
      فاللحظة الأولى لم تستكمل حديثها الروائي , و هي لحظة مهمة . تفرض علينا التوقف عند إمتدادات ديناميكيتها, وتبين آثارها ,على اللحظات اللاحقة. التي تخللتها أو تعدتها ...
      ولهذا عندما نقرأ جابر الطوربيد , نضع في إعتبارنا تعدد مستويات الحديث الروائي , بتعدد لحظاته في جيل مدني عموماً -جيل الستينيات - فبينما كشف لنا الطيب صالح عن القوانين الدقيقة التي تحكم في الشمال, من خلال تكوين القرية للوجدان الثقافي لإنسانه . مضى إبراهيم إسحق للكشف عن الغرب(دارفور) , بينما أهتم عيسى الحلو بالتعبير عن المثقف المأزوم والمهزوم في الخرطوم . وهذه اللحظات المهمة, بصرف النظر عن الفواصل الزمنية , بينها طالت أو قصرت تقودنا للحديث : عن جابر الطوّربيد : كمثال لمحاولة إكتشاف الذات خلال التاريخ ,في أكثر جوانبه تعقيدا !..
      فعندما كتب الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال لم يكن "الشمال الجغرافي= مركز السودان المهيمن بثقافة الوسط التي أنتجها" هو ذاته كما هو عليه الآن, ومع ذلك هو الآن – إلى حد كبير - كما لحظة الكتابة فيه وعنه!! من الناحية المتعلقة بقوانين البنى الإجتماعية, وعلاقاتها بعوامل الترّدي والحرب والهجرة والنزوح ,والإغتراب والأمية الأبجدية والثقافية والجفاف والتصحر, والتشرزم القبلي والجهوي, إلخ.. هو نفسه كعقلية سلطوية مستبدة ومتحجرة, لا تزال تغامر بمستقبل كل البلاد الكبيرة!!...
      إذ لم تفلح الهزّات العميقة, التي مرّت بها البلاد الكبيرة - سوى- في إحداث تغيير بطيء وضئيل. فالزمن يبدو ثابتاً, والتغيرّات سطحية. ليست عميقة. فعلى مستوى السلوك, لم يحدث التغيير نتاج قرار إجتماعي , كما أن التغيرّات العمرّانية, ليست نتاج نمو إقتصادي ,بل إنبعاث للوعي الرِّيعي! وكذا المؤسسات ليست نتاج مؤسسية, وحاجات مجتمع !!بقدر ما هي نتاج قرارات سياسية ,لإنقلابات مدنية أو عسكرية,تستغل الدِّين كرأسمال معنوي ,لإنجاز تطلعاتها غير المشروعة, محدودة النظر والأفق! .. بالتالي مؤسسات فوقية لأغراض آيديولوجية ودعائية.
      فما تم منذ لحظة الستينيات وحتى الآن, نتاج لمثل هذه الأشياء .. وأشياء أخرى معقدة ومتشابكة عديدة, إسمها المشترك "التخريب لإنسان البلاد الكبيرة ,وأحلامها الكونية المرتسمة ,في وجوه البسطاء .. وإلى حد كبير تقف وراء هذا التخريب المتعمد , أحاسيس العجز لأسباب مختلفة , وربما يكون أحدها الفشل في مشروع بناء الدولة الوطنية ,بسبب المفارقة الكبيرة بين الوعي المهول للنخبة "العزلاء",وسطوة جماعات وحركات الإسلام السياسي"المسلحة" بطوائفها المختلفة ؟! ..
      ومع ذلك تظل اللحظة ذاتها ,تعيد إنتاج نفسها مستمِرَة ومستعمِرّة للروائي .. فهي لحظة المستعمِر الذي يرتدي ثوباً وطنياً , والوطن المهدّم وتنمية الإنسان التي لم تنجز, رغم تقادم العهد. وهي لحظة الهجرة لإشباع الرّغبات الناتجة عن الحرمان, والتطلعات الناتجة عن الإستلاب, والغربة في الوطن وعن الذات..
      الثنائية في اللغة والدلالة والعلاقات الإستبدالية:
      وعلى قلة الروايات السودانية المنشورة- حتى مستهل تسعينيات القرن الماضي - نجدها بشكل أو بآخر, تلامس هذه الجراحات التي أصبحت كالقوانين ,التي تتحكم في فضاء الكتابة في السودان , والتي غالباً تبدأ بالهروب إلى الرّيف كوعي برئ وبدائي, لتمر بأزمات المثقف لتلتقي بسؤال الهوية "التاريخ / ووعي الذات"..
      وسؤال الذات .. "يجد ما يبرره في فضاء الحالة الإبداعية السودانية (17)" وعلى هذا الأساس يمكن النظر ,إلى جابر الطوربيد , ككتابة روائية تنزع عبر الماضوية, للبحث عن الأصالة والهوية الخاصة بالأنا السودانية.. المدفوعة بوطنية حماسية "إن المثاقفة .أو التغريب كمحط عناية جماعة, ونقد أخرى وصورة المستعمِر ,والمستعمَر اللتان تتعرضان لمواجهة حادة - في سياق - مسودة الوعي الممكن الغارق في المثالية (18)" كل ذلك تعبير عن الأزمة الحضارية ,في الإبداعي في أعلى مستوياته الجمالية إلحاحاً على التاريخ المجيد لمثل هذا الشعب! .
      ومن السمات المميزة لهذه اللحظة عموماً, والتي نراها خلال جابر الطوربيد في "دائرية الزمن" فحرب الجراد تنتهي لتبدأ مرة أخرى ,وهكذا دواليك . ومع ذلك ثمة إنتصار في ختام الرِّواية على المستعمرين / الغزاة .. الذين يريدون تحويل مجرى النيل .. هذا الإنتصار يتحقق عبر بعث جابر كمخلّص ومُنقذ, عبر أدوات المعرِّفة النبيلة ومؤسساتها : الأطفال , المدارس : الأمل الذي يزرعه الكاتب منذ البداية, ويجعله يتنامى بكل ما لمفردة "مدارس", من محتوى معرفي ودلالي يتعلق بالعالم الذي يحكي عنه الرواة ,رغباتهم في البطولة, والتاريخ المجيد لشعبهم..
      ووفقاً لتطور شخصية جابر الطوربيد, كشخصية منبثقة ,عن الفضاء التاريخي والنفسي "لمملكة سنار القديمة, والتي نهضت بموجب تحالف "العرب العبدلاب القواسمة والأفارقة الزنوج العنج " كمبتدأ لأزمة الهوية في السودان , وصيرورتها إلى لحظة قيادة الحرب ضد الجراد, بما يمكن أن نطلق عليه إسقاط الحاضر في الرواية ,على صيرورة المستقبل ,و بما يقدم فلسفة منبثقة عن صميم التكوّن الحضاري والثقافي لشعبنا, ومحتوياته المعرفية التي تعود إلى زمن بعيد "العديد من الآمال تقول لنا بحاجة الإنسان الدائمة, إلى التعرّف على تاريخه , مهما إختلف الناس في تفسير أحداثه (19) بما لا يخلو في الحاضر من ضرورة إستمرار شروط المقاومة ,من عناصر الماضي الإيجابية , بإعتبارها المعادل الموضوعي ,الذي تفتقده خلال الضياع ,وسط حصار المفاهيم المتباينة ,والتي لم تنتج أو تتباين في سياقنا الحضاري "ولعل الأفكار الفنية الثلاثة : الحلم, الخيال والمستحيل ,أكثر الأدوات التعبيرية ,قدرة على نسيج الأسطورة الرومانسية ,فالحلم الرومانسي ليس تفسيراً للأحداث ,أو تغييراً للمواقف. وإنما هو تجسيد موازٍ لها , أي أنه بمثابة المرآة ( الحاضرة ) لكل ما يدور في العالم الرومانسي .. أن الحلم هنا لا علاقة له بالفلاش باك, أو التداعي الذّهني , فهو ليس من أدوات التعبير عن الماضي , بل هو من عناصر الحضور . أما الخيال فهو ليس من عالم الوّهم ,إلا إذا إعتبرنا الوّهم من عناصر الواقع الرومانسي (20)".. هذا الحضور المثالي .. لشخصية جابر الطوّربيد , والتي نجدها في جوانب أخرى دائمة الحركة dynamic والإدراك دون إعتبار حتى لمناخات سنار القديمة بحكاياتها العجيبة وبأولياءها وصالحييها .. إذ نلاحظ على إستجاباته – محمود محمد مدني - السرعة , والقدرة العالية على التأثير: ( بنتك حوصة زوجة لي على سنة الله ورسوله ) .. ( والجمعة القادمة يا عمّي تُكمل إجراءات الزواج .أنني أكاد أسمع غرغرة طفلي .. ولدي ... ألا تسمعها مثلي ؟! يا لهذا الهناء ) ... إنصرف جابر الطوربيد .. ذلك اليوم أصيب محمد أحمد مخارق بالحمّى (...) وعندما فرغ جابر الطوربيد من التمتمة , أخذ جابر يعصر ثديه الأيمن حتى غطى نصف الإناء باللبن, بعد ذلك أخذ جابر الإناء وأجلس الشيخ ,الذي كانت الحمّي قد أكلته تماماً ,وطلب منه أن يشرب (21)" وفي إتجاه آخر من هذا الجزء: نلاحظ التوليد ,الذي قام به محمود محمد مدني :إذ ولّد عن مناخات "الطبقات : طبقات الشيخ محمد ود ضيف الله في شأن الأولياء والصالحين" ما ينفي حكاية مثل حكاية الشيخ الهميم و الشيخ إدريس ود الأرباب , إلخ .. إذ أعاد مدني إنتاج هذه الحكايات على نحو كولاجي, وصيّرها بديلاً لأهم مصادر التاريخ السوداني منذ القرن الرابع عشر,وهذا ينطبق على اللغة المستخدمة أيضاً . إذ لا تخلو من علاقات استبدالية parachgmatiques جفّ ريق الغزّالات الجميلة: نشف / يبس .. وفي المنتهى يزاوج بين العقرب والنهر: العطش / اليباس .. وهذه العلاقات يتحدد فيها الحاضر بغياب الآخر ( الغائب ) ..
      و بذلك تنسجم تماماً مع فكرة غياب جابر في حضور المبارك... وما نلاحظه على الأبنية القاعدية intrastractures : الدلالات significations والأبنية الفوقية, الدوال في هذا المضّمار , أن حكايات الأولياء والصالحين ,كما وردت في كتاب الطبقات "وإن كانت وردت في تصورّها الذّهني : المرجع = الطبقات. فإن الدّال عليها ما قدم من إشارات مختلفة, مطابقة لها كما في المرجع :الطبقات ) بحيث أعطت ما نحن بصدده من مدلولات خاصة بالتاريخ والناس والكوّن والأشياء , وبالإحالة لديماس "ربما كان التاريخ ,مشجباً عظيماً لكي تعلق عليه كافة أشيائنا " بالتالي "الماضي لم يكن أداة تعبير عن قضية أكثر شمولاً من الماضي , وإنما كان الماضي مجرد ملجأ يحتمي به الأديب, من مشكلات الحاضر وأزماته . أن معالجة الماضي القريب ,شيء بالغ الأهمية , بالنسبة للأجيال التي لم تعايشه بكل ضراوته وعفويته (22)".. وسنلجأ هنا لطريقة مختلفة لتحليل الجزء التالي:
      مكي :إدريس العطشان , والعطشان هذا لا علاقة له بذلك الجفاف, وإنما إنحدر إليه من عطش جده الأكبر لعجيزات النساء النصف, أيام كان اللّحم أرخص من التراب (23). )..
      العطشان: علاقة ندرك فيها معاني الظمأ والجفاف , إلخ .. الجفاف: علامة ندرك فيها معاني القحط والمحل والجوع , إلخ.. المدلول أو الرسالة الحقيقيّة للنص الدال : علامة النص .. المرجع: الطبقات. وإذا عدنا مرة أخرى للعلاقات الاستبدالية, نلاحظ صياغة المألوف من لغتنا اليومية, على محور صرّفي فصيح : "جاء الطوربيد مشغولاً مع إبنه ( 24)" مطر كأنه مصفى من ثاني وثالث وعاشر أوكسيد الكربون .. وهشاشة التهجين (25) وبذات المستوى التوليف في الجملة الصرّفية للمفردة العامية ,بحيث لا نلحظ أنها لغة مؤلفة :دارجة / فصحى .. "منذ أن "شالت" السّحابة الصّبية الأولى وهو يعلم أن النهر فعلها" واللغة المؤلفة هي : لغة الخرطوم .. لغة الخلاصة المثقفة من سكان السودان, الذين تركوا بواديهم القبلية وتوطنوا هنا وتأزموا!,وقد أضفى عليهم موقعهم العاصمي, سانحة نادرة من التعرض لتيارات الحضارة الوافدة, عبر شريط النيل والمستقرة نهايته لديهم . هي لغة قاعات الدّرس الأكاديمي لمن يسبق أسماءهم حرف الدّال!, ولغة مقابلات الإذاعة والتلفزيون وجعجعة وتهويش السوق العربي , كما يقول إبراهيم اسحق في أحد الحوارات المميزّة معه!!.
      وفي مستوى آخر تتفتح اللغة عن إمكانياتها, وطاقتها الشعرِّية كلها ,لتعبر عن مأساتنا الإجتماعية "ضاقت حلقة الرجال الجرّاد على رّقية بنت حّمد النّحلان, حتى أحست بالرائحة الزّنخة تخترق خلاياها .. إرتجفت سرّة الماء ,وقبضت الأيدي الأظافر الوسخة ,الطويلة. على الجسد الرّقيق الصّغير. راقت صفحة النّهر . وقع ثور الساقية على الأرض ,من التعّب وكثرة الدوران ,وهجم ثعبان أسود ذو أظلاف ,على عشّ القُمْرِّيَّة الوحيدة, التي بعثت من عهد اليوم القديم . مزّق الرِّجال الجرَّاد, لحم الجسد الرّقيق الصّغير, لرّقية بنت حمّد النّحلان فإختلط الشعر بالدم , بالتراب , بالمخاطر , بالعرّق , بالشوك . وبما تبقى من الثياب همّد كل شئ.. الرغبة في كل شئ.. نام الثعبان الأسود ذو الأظلاف في عشِّ القمرية.. وفي أعلى النهر كانت مجموعة من التماسيح , تعبث بجثث آدمية متعفنة .. مجهولة .وعندما غادر الرجال الجراد, ضفة النهر. لم يتركوا سوى جثة رّقية بنت حمّد النّحلان عارِّية . مثقوبة كأنها ضربت بمدفع رشاش , وبالقرب منها ثيابها الطفولية البسيطة (26).."..
      ولا تتوقف اللغة عند هذا الحد في التعبير عن إمكاناتها الشعرية , بل عن جوهر الحدّث نفسه, بما مثلته اللغة كدلالة : "حافة" على الجنس, في أكثر مستوياته عنفاً :الإغتصاب .. بحيث نشعر بالطبيعة حولنا كلها متهتكة .
      على ضوء تلك الأحاسيس التي تشغلها لحظة إنتهاك لوليتا / فلاديمير نابوكوف . وليست جثة رّقية بنت حمّد النّحلان فحسب . بل الهتك كفعل عنف ضد الإنسان, متجاوزاً سياقه الجغرافي والتاريخي المحدود, إلى الكوني الكبير.. المرتبط بالأشياء حوله , والعالم .. فالمأساة الإجتماعية هنا لهي مأساة كونية , وهي أحد عناصر هذا التخلف الرهيب الذي يدفع لكل هذا العنف " مأساة المجتمع تنحصر في أشكال العلاقة الإنسانية ,بين الأفراد والطبقات والعصور ,ولكن مأساة الحضارة هذه تتجاوز الأسوار , تتخطاها إلى معالم الوجود الإنسانية الأكبر, في كفاح الإنسان البطولي لاكتشاف سر الأسرار , لاكتشاف معنى حياتنا (27)" ..
      على خلفية ذلك أيضا ,نجد أنه إذا كانت حكاية حمّد النّحلان بمثابة مسلّمة في كتاب الطبقات, فهي على مستوى التوظيف الروائي في جابر الطوربيد , أعيد إنتاجها في علاقات إستبداليةجمالية.. إن إستنهاض محمود محمد مدني لقيم الماضي , بعد هدّمها وإعادة بنائها على نحو ملائم للحاضر, في سبيل مقاومة الرِّجال الجرَّاد , كقضية أساسية مطلوبة في رسالة النص , وكقضية تشترطها معاناة " مناخنا الحضاري ويلات البتر والتمزق ,أو ما يمكن تسميته بمرّكب الإنفصال التاريخي في عصر العطاء العظيم . كما يعاني ويلات التخلف الحضاري المرعب ,وغياب التقاليد الديمقراطية, في أسلوب الحكم والقهر الإستعمارِّي الرّهيب ــ فإن عناصر الإيجاب متمثلة في الهبات الثورية, ومحاولات الإنبعاث الفكري والأدبي والفني ,تجد نفسها محاصرّة في مأزق تاريخي لا تحسد عليه (28)" هذا الإنبعاث هو إنبعاث الإنسان قبل كل شيء .. إنبعاث جابر ليمضي , كمغامرة جمالية معقدّة في العقل والوجدان! ..
      وبالإنتقال إلى سيرة جابر الطوربيد نفسه , نجد أنها لا تخلو من مأساوية , كأسطوريته المحاصرة بثنائية الغياب / الحضور , عبر الإحالة لإلتواءات الدلالة, بما تتبدى عنه من تعبئة للنّص ,بكل ما يرتبط بالجغرّافيا والتاريخ ,كما رسمهما ذلك العقل التحتي, الذي يستمد نظم إشتغاله من العرفان والحكايات الشعبية ,كأحد عناصر البنية الإجتماعية الفاعلة ,أو الرموز العقدّية الأخرى ..
      فحائط المبكى جزء من جراحات التاريخ العقدّي "الكتابة الأدبية مثل الفن الحديث برمته , تنطّوي في آنٍ على إستلاب التاريخ وعلى حلم التاريخ , فهي بصفتها ضرورة, تشهد على تمزّق اللغات المتصِّل بتمزّق الطبقات, وبصفتها حرِّية تكون هي وعي هذا التمزق, والجهد نفسه الطامح إلى تجاوزه ,ولأن الكتابة تحس نفسها بإستمرار مذنبة بعزلتها الخاصة ,فإنها تكون أيضاً مخيلّة .. متلهفة على تحقيق سعادة من الكلمات, فتهرع نحو لغة تحلّم بها , ستجسد طراوتها بنوع من الإنبثاق المثالي ..إكتمال عالم آدمي جديد . حيث لن تكون اللغة بعد مستلبة (29)" لذلك عندما يبكي جابر الطوربيد على الحائط , لا يعبر عن حالة جنون, ولا عن تلك الحالة التي إعترت النّحلان كما في كتاب الطبقات : مرجع هذا النص ,حيث هزيء منه الناس , بل عن حالة أعمق بكثير , حالة تعبر عن فداحة المأساة / التمزّق ..
      ولاشك أن لكل موقف داخلي معادل موضوعي , يربط اللحظة الداخلية ,ويرتبها إلى جانب شقيقاتها في الواقع الموضوعي , ليتحدد المجرى العام لحياة جابر الطوربيد.. والحركة الجدلية للدلالات الصريحة والمضمرة ,والإيحاءات المنصهرة في تفاعلات حادة , متضادة وغير مصرّح بها , لغاية محددة ,تتمثل في تداول الرؤى بين لغة مدني الشاعر ,وإحتمالات لغة النّص الموازي = جابر الطوربيد , بإيجاد طريق ثالثة "غير تلك الضاربة في التقليد أو الضاربة في المحاكاة , لهذا فهو يصارع خطيئته – النص - وينزع نحو الممكن عاكساً للهزيمة والأمة, والصِّراع داخل تجريبه الفني ..أنه يمثل الخاطيء كما يمثل الحقيقة ..حقيقة الفشل وحقيقة الإنتصار (30)" .. كما تتجلى النقوش التي على الماء في مستهل الرواية "هنا تصبح الكلمات مجرّد نقوش على الماء ــ عاد الرّعب والخوف .. جثّم تجاه حائط المبكى يبكى : قول لي مجنون .." ..
      وفي هذا الفضاء الرؤيوي.. الستبطن لإثواءات وإسقاطات بعضها تاريخي ,وبعضها ذو إرتباطات عقدِّية ,يتجلى ماهو شاعري صوفي حميم , كحضور إنساني للنّص . يتشكل مما هو متراكم من دلالات وإشارات, فاتحاً الفضاء الرؤيوي على المأساة الإنسانية العميقة "التي تطّفو على سطح هذا النّص".. والغامضة غموض الأقدار! ..
      فمن هذه الدرامية المستفزة لأبعاد المخيلة, وإحتمالات اللغة ,وميكانيزمات السياق التعبيري/ الرمزي في جدليته/ المستمرة . تنتسج أسطورة جابر الطوربيد, كآخر الأساطير المأساوية الحيّة ,و كمعادل موضوعي للطرِّيق الثالثة , في إطار معالجة التاريخ ,الذي يعيش أزمة المؤسسات والمجتمع: لأنه "شفوي .إرشيفي .مزّيف رسمياً .. كما أنه عمل مكتوب من مستعمر ,وهو بالتالي في حالة ولادة .. يحمل في داخله كل مخاطر التاريخ , ولهذا يجد مدني نفسه مضطراً لإفتراض طريق ثالثة عبر عنها جابر الطوربيد "يا عمي الشيخ.. أنت تعرف أن نظر المحب للمحب سلام ,والصمت بين العارِّفين كلام . تلعثم الرجل حتى تبين له أن القابض على ذراعه ,هو جابر الطوربيد . ما الأمر يا جابر , هل أصبت في عقلك ؟.. لا لم أصب في عقلي وإنما أصبت في سلسلتي الفقرية (31)" يا عمي الشيخ أنت تعلم ... تلعثم الرجل .. ــ ما الأمر يا.. يا جابر ؟ ... ( .. ) حسناً أوجز فأنا لاحق بالصلاة .."..
      وإذ تتفجر المفردة عن محمولاتها المعرفية ,والآيديولوجية ,وذلك النّوع من الأحاسيس المربكة, لما لا يحتمل فيها ــ المفردة ــ من حرقة , إذ تتفاعل .. تنشطر من مجرد مفردة صمت للعارِّفين, إلى ما تتبدى عنه , من عالم يتجاوز حدود الصمت, الذي يضمر الوّد والإرهاق الحميم, لتلك الرّعشة الحميمة, والحارقة . في السلسة الفقرية , كاشفاً ــ الخطاب - ما لم يختزنه مباشرة عن جابر الطوربيد- كشخصية أسطورية تعمل في تاريخ مفترض .. "جابر الطوربيد بدأ يتمتم ببعض الكلمات". كان كمن يخاطب كل الأزمنة والأمكنة, وكل النّاس والبيوت والأشجار, والأنهار الجارية. والتي جفت!.. والنّار والزّيتون والجبال والسهل والأرحام والغناء ,والدّوبيت والقوافل التي ضلت طريقها, والتي وصلت .وكل خطوط الطول والعرض .. كلام يصل عصفور الكنّاري بسمكة القرش ,في دورة ومضية خاطفة (32)".. وهكذا رغبة جابر هي رغبة الطبيعة ذاتها في تفاعلها ,وتفاعل كائناتها . رغبة الجغرافيا في الإلتئام ! فما جرّده مدني من رموز طبيعية, في سياقها الرّمزي .تشير للخصب والنماء ..
      الخصب بما يعطي دلالات تعبر عن القضية المطلوبة "النماء" . بدءً بتماهي الخصب في الطبيعة كرمز, وإنتهاءً به كفعل إنساني . وإذ يحيل مدني, مفهوم الإنزياح عن الأمكنة والأزمنة ,بإعطائها ذاكرة لتجربة الخصب مطلقاً, ولفعل الخصب في ذات الوقت على مستويات متعددة . تتفتق عنها الدلالة الإيمائية: إذ تصل الأرحام بالغناء والدوبيت والقوافل ,التي ضلّت طريقها تنتظر الوصول ,إلى حيث يتلفت القلب, لحبيب يقتله الشوق والإنتظار ..
      ضلت طريقها بكل ما للمتاهة من رعب ,وإذكاء للإحساس بالضياع ,يحيل للإمتلاء اللاشعوري, برغبة الحياة وغريزة البقاء . بالتالي الوصول والتواصل . هذه الرغبة / الغريزة التي تجعل المستحيل ممكناً: إذ تصل عصفور الكنّاري بسمك القرش! فهي إرادة الإستمرار قبل كل شئ . إرادة جابر الطوربيد..
      التعديل الأخير تم بواسطة أحمد ضحية; الساعة 22-06-2010, 18:21.
      [mark=#FFFFCC]
      الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
      كي يسمى في القواميس بكاء ..
      الصادق الرضي
      [/mark]

      تعليق

      • أحمد ضحية
        أديب وكاتب
        • 10-05-2010
        • 121

        #4
        (2-ب)مع محمود محمد مدني مرة أخرى :في الدّم في نخاع الوردة ..

        مع محمود محمد مدني مرة أخرى :
        بنية موقع التحدِّيث في رواية : " الدّم في نخاع الوردة "
        مقدمة:
        هذه الرواية(33), عبرت عن زّمنها .. زمن الأحلام الكبيرة , والمشاريع التي داعبت خيال حركات التحرر في العالم الثالث , وإمتدت في الخمسينيات والستينيات.. في هموم المستنيرين , حول إزاحة المفاهيم البالية , المتحكمة في البنى الإجتماعية . وإحلال المفاهيم الأخرى البديلة /الجديدة محلها . بما هي قيم تغيير وتنمية لخير الإنسان .
        هذه الرؤية الحداثوية , تجلت في "دومة ود حامد - للطيب صالح " , كقصة تنتمي لذات زمن هذه الرواية أو رواية موسم الهجرة إلى الشمال , بما حملت من قول حداثوي , تمثل في عودة مصطفى سعيد , ومحاولاته توطين قيم الحداثة وتنمية الإنسان "تجربة الجمعية التعاونية : إدخال محاصيل جديدة .. تطوير نظام الرّى ,الخ .."...
        ومثلما حاول مصطفى سعيد تحويل فراغه الوجداني , وهزيمته في الغرب إلى طاقة تغيير في تلك القرّية , عند منحنى النيل . تحاول هنا الشخصية المركزية "لطبيب أحمد حامد الماحي ", تحويل مرّارة هزِّيمتها الأسرية والعاطفية , إلى طاقة تغيير ..
        ومثل كل المحاولات , في تجارب التغيير , في التاريخ الإنساني , تصطدم القوى الجديدة , بقيمها الجديدة بالقوى القديمة , ومن هنا ينهض القول ويتنامى الفعل الروائي , كاشفا عن متناقضات هذه القرّية , بما يعيد إلى الأذهان , تصدى أهالي " ود حامد " في مجموعة الطيب صالح ( دومة ود حامد ) لرِّياح التغيير , بإلتفافهم حول الدّومة"الشجرة" , للحؤول دون قطعها لتنفيذ المشروع التحدِّيثي! .
        إذن رؤيا العالم في الحديث الروائي ل " الدّم في نخاع الوردة " , لا مناص من قراءتها , بشروط الزّمن الذي كتبت فيه هذه الرواية نفسها ,قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاما – أعني مفهوم التزامن والمحايثة - والهموم الفاعلة التي كان المستنيرون ,يتمسكون بها ويلتفون حولها . ومن هنا تأتي أهمية الدّم في نخاع الوردة, التي كتبت قبل أكثر من خمسة وثلاثون سنة من الزّمان!! .كنّص روائي ينهض القول فيه من موقع التحديث والتغيير , في أكثر المواقع تخلفا " الرِّيف " , بما تلقيه من ظلال التحولات المدينية .. ومقاومة حراس التخلف ,لقوى الحداثة والتنوير والتمدّين , حفاظا على مصالحهم التي إرتبطت بالمفاهيم والقيّم القديمة , التي تأخذ أعلى تجلياتها هنا في شخصية الشيخ " الضو " الدّجال , والشيخ " فرحان " , كعناصر محتمية بتوظيفات الدِّيني . وشخصية سعيدة بنت إبراهيم وزوجها حسان الممرض , كعناصر رِّدَّة , ينقض التغيير والتحديث مصالحها! ..
        وهكذا يتنامى الفعل الروائي , كاشفا عن متناقضات العلاقات , وتوازياتها وتقاطعاتها في و"حول" التغيِّير , في حالة من الشد والجذب والمفارّقة . خلال الإسترجاع للماضي , والتداعي فيه !.. الماضي كمنبع تعمل فيه الهزِّيمة فعلها .. وكذلك الإستباق , كشفا عن لحظة ربما هي حاضرة , إنتصرت فيها إرادة التغيير بقوة الفعل الإنساني , المضاد لدجل وشعوذة شيخ الضو . فالدُّرة الصبية الصّغيرة , تصير الآن مديرة مدرسة فاعلة في التغيير الإجتماعي , منتصرة بذلك على مرارات البيئة المظلمة , التي أنتجتها .. منتصرة على الماضي المرير لحياتها الأولى .. وكذا , بما مثلته حياة الأسى والعذّاب لأمها !..

        وإذ ينهض القول الروائي للدّم في نخاع الوردة , من موقعين : موقع التحدِّيث .. والموقع النقيض . تختلف هكذا الدّم في نخاع الوردّة.. كتجربة عن كثير من الرِّوايات , التي ينهض فيها الحديث الروائي منغلقا عن فضاء الممكنات ..


        موقع الرّاوي:


        بدء ينهض القول الروائي في " الدّم في نخاع الوردة " , من موقع الرّاوي . ومن جهة أخرى من موقع الشخصيات التي يختبيء خلفها الرّاوي , الذي يسرد الأحداث , التي تجرِّي في القرّية , مكان هذه الأحداث , إستباقا " اللحظة التي يبدأ فيها النّص " بشيخ فرحان محمولا إلى المستشفى , كتعبير عن هزّيمة الموقع النقيض للتحدّيث . وينقلنا الرّاوي عبر الإسترجاع إلى مشهد آخر , يتحاور فيه الطبيب أحمد حمد الماحي وأمل إبن المهندس خالد وزوجته فرِّيدة , وهكذا يمضي الرّاوي تقديما وتأخيرا , وتداعيا في لحظة ماضية. إلى ماض أبعد . أو أقرب . حتى تنتهي الرّواية , بإنتصار مفاهيم وتصورات قوى التغيِّير والتقدّم , بما يمثلهما الطبيب والمهندس والمعلم "الجيل الجديد " والأهالي البسطاء , الذين أقتنعوا بهذه التصورات والمفاهيم , بمواجهة قوى الرِّدة التى تحاول سحبهم للخلف . و التى يمثلها الشيخ فرّحان وسعيدة وحسّان , إلخ ..


        لتصبح المستشفى : هي المكان الذي يتقاطع عليه صراع الموقعين : موقع التحدِّيث والموقع النقيض له . فتتسامى المستشفى من محض توصيف لمكان معالجة الأمراض , الناتجة عن التلوث والجفاف.. والأمراض المنقرضة تاريخيا إلا في البلاد الكبيرة!! ...


        تتسامى أيضا إلى مؤسسة لمعالجة الفساد والتلوث الروحي والنفسي أمراض الواقع :


        دلالات الهزيمة - اليأس - الموت: الطبيب أحمد حامد الماحي , الذي يقود التغيِّير هو غرِّيب عن القرية = إرتباط التغيير بالغرباء ؟!.. يأتي إلى هذه القرية هاربا من ماضيه الذي يطارده =هزيمته العاطفية ازاء صافيناز! , التي يسميها اليأس , و الذي يتحوّل إلى أمل , فتتحول الهزيمة إلى إنتصار!!! ..


        وحكاية المهندس لا تختلف كثيرا عن حكاية الطبيب , إذ يهرب مهزوما, من نظام تفكير والده , التاجر الماضوي , الذي يقصي " صافية " بنت الجنايني , عن حياة إبنه , مقترحا زيجات مبنية على مصالحه الخاصة في السوق. وسعيه الجاد لإدخال إبنه في عالم السوق .. "وتزويجه لثريا شقيقة خالد من ثري عجوز جاهل" . .


        تتراكم كل هذه الهزائم , فيهرب خالد ويتزوج كيفما أتفق , من فريدة التي تنجب له , وليد فيموت . وبموته يموت جذر الهزيمة ,والهروب. مفسحا لنمو الجنين الثاني : أمل . فيتخذ الموت هنا بعدا مفاهيميا , متجاوزا الإطار المادي للموت . فنور حفيدة الشيخ فرحان , ومعشوقة مصطفى موظف البريد , بتوكيل القرية . تموت, مثلما ماتت ستنا أم الدرُّة . ليمثل موتها نقطة تحول في حياة إبنتها ..


        كما يمثل موت نور تحولا لصالح ميمونة إبنة الشيخ فرّحان !!.. ويمضي مفهوم الموت إلى التسامي ليأخذ بعدا معرفيا خاصا . ليس هو النقيض للحياة , بقدر ما هو إندثار للماضي , وموت للبالي : مفاهيم الرِّدة , لصالح ميلاد ونمو الأمل , ومفاهيم التقدّم . فموت على الأطرش الغامض! .. على الأطرش بنزوعه المدِّيني .. موته يفتح التأويل على إحتمالات عديدة ترتبط بخرق النظام الاجتماعي , وترتبط بنظام خاص إبتدعه الشيخ فرّحان! ..


        هكذا ينفتح التأويل على إحتمال غسيل العّار , لكنه ينطوي أيضا على الغدّر.. والخيانّة والسرقة. مثلما ينطّوي على العتق والتحرر لميمونّة , بإنهيارات البنى المتخلفة , تحت ضربات معاول قوى التغيير والتحديث , بإستسلام آخر معاقلها , ممثّلّة في الشيخ فرّحان ذاته . لمبضع الجرّاح, كما في المشهد الأول من الرِّواية ..


        رمزِّية الغريب :


        إرتبط التحدِّيث والتغيِّير في هذه الرِّواية بالغريب المدِّيني , الوافد إلى القرّية . وفكرة الغريب شهيرة في الرِّواية السودانية والعربية عموما . فهي فكرة المنقذ المنتظر! , الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا " .. دخل القرية رجلا غريبا , لا يحمل من متاع الدنيا إلا صُفارّة بوص طويلة , ومخلاة بها قليل من الزّاد . حيا الغريب الرِّجال والنساء , وسأل عن الحزن الذي يملأ العيون حتى تفيض بالحسرة (..) شرب طويلا , ثم بدأ ينفخ صفارته الطويلة (..) ظهرت آلاف الفئران الضخمة (..) كان المنظر كأنه جزء من حلم عائم فوق مياه الترعة , التي لا تتوقف مطلقا عن الجريان (..) كان يمضي بتلك السّحابة السوداء من المخلوقات , نحو الشمس . ومضى غريبا دون أن يلقي تحية الوداع (34)" ..


        وفكرة الغريب والمنقذ , فكرة ثاوية في أعماق التراث الإنساني بصورة عامة , لإرتباطها بالعقائد القديمة , وتبرز في فترات الإنحطاط , لتمثل محور تماسك للمظلومين والمقهورين والمحرومين , فتعزيهم!! .


        هذه الفكرة .. تتسامي هنا ..إلى ما أشرنا إليه ,ولا تأتي في سياق مقاومة الفئران بالمبيدات , كمنجز تحديثي للسيطرة على مخاطر إختلالات البيئة , وهو ما عنيناه بهموم مشروع التحدِّيث , في إزاحة المفاهيم السالبة وإحلال الأخرى الموجبة البديلة المرتبطة بتقدم الإنسان محلّها ...


        تداخل الأزمنة:

        ضمن هموم مشروع التحدِّيث للعقل العربي , إنهاء حالة تداخل الأزمنة الثقافية في نظم تفكير هذا العقل , هذا من وجهة النظر المعرفية .هنا على مستوى القول الروائي , يتجلى التداخل , لا كتقنية روّاية , بقدر ماهو تعبير عن حالة تداخل, إرتبطت بالهزائم التى تم التعبير عنها في شخصيات الشخوص..
        ويأخذ تداخل الأزمنة أقصى تعبير له في اللحظة التي يجلس فيها المهندس خالد قرب زوجته فريدة , التى كانت تتصفح مجموعة من كراسات تلميذاتها "باسطة أمامها مجموعة من كراسات التلميذات للمراجعة والتصحيح (35) ففي هذه اللحظة تنساب وتتداخل ذكرياته , منذ لحظات الإحساس باليتم والحرمان, مرورا بالهزِّيمة وميلاد أمل ووليد ..
        تتداخل حياته الماضية كلها , لتخرج من ركامها صافية وسارة تعابثان فريدة , ليمثل الإنعتاق من بوح ومواجد هذه اللحظة والهروب إلى طاقة مواجهة وتغيير ...
        التعديل الأخير تم بواسطة أحمد ضحية; الساعة 22-06-2010, 18:22.
        [mark=#FFFFCC]
        الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
        كي يسمى في القواميس بكاء ..
        الصادق الرضي
        [/mark]

        تعليق

        • أحمد ضحية
          أديب وكاتب
          • 10-05-2010
          • 121

          #5
          (3) مختار عجوبة : في صالح الجبل ...

          (3)مختار عجوبة : في صالح الجبل ...
          قراءة في استراتيجية العنوان في رواية صالح الجبل لدكتور مختار عجوبة ..
          مختار عجوبة , فضلا عن كونه قاص (36) وروائي , هو أحد أهم الذين أنجزوا قراءة بيانية للقصة السودانية , منذ مرحلة البدايات حتى خواتيم الستينيات (37) و تعتبر مجهودات معاوية البلال النقدية - التي إهتمت بتقديم قراءات مبدعة - (38) مكملّة لما بدأه عجوبة من مشروع رصد وتتبع نقدي لمسيرة القصة الحديثة في السودان . ولإدراك ماتنهض عليه رواية دكتور عجوبة: "صالح الجبل " , تستوقفنا بدء رمزية الجبل ذاتها "إذا كان الأدب نظاما من الرموز, له شفرّته الخاصة ,ويشبه النظم الدالة الاخرى, مثل اللغة المنطوقة والفنون والأساطير, فإنه يختلف عنها, باعتماده على بنية أخرى هي اللغة , ولهذا فهو نظام دال من الدرجة الثانية , أي أنه نظام إيحائي .
          وإذا كانت اللغة هي المادة الجوهرية, في تشكيل وحدات النظام الأدبي , فهي تنتمي إلى المستوى التعبيري . ولا تفقد معناها الخاص بالدخول في هذا النظام (39)..
          ومن هنا يمكننا أن نأخذ " الجبل "في رواية( صالح الجبل).. كرمز يسيطر مركزيا على التركيب الأدبي في الرواية .. خاصة أن" الجبل: ينتمي" إلى مجموعة الرّموز التي تتردد في ثقافات مختلفة, ليس بينها علاقة تاريخية. محافظة على قيمتها فيها جميعا ..
          ورمزّية الجبل نجدها في السرد العربي في أعمال العديدين .. على سبيل المثال إستخدام الجبل والحجر ( كرمز كوني ) في أعمال الليبي إبراهيم الكوني الروائية , التي تجعل – أيضا - من الصحراء ككائن حي موضوعا لها ..
          وعلى ذلك فإن العنوان ( صالح / الجبل ) الدال :( الجبل) على هذه الشخصية: (صالح ) " ينطوي على وعي صالح "بجبليته" .. بمعنى الذات التي تتكشف في تضاعيف النص عن معان حارقة : وعيها بتفاصيلها الإنسانية والتارِّيخية ..هذه الذات التي تتماهي في لغة السرد المحملة , بمكبوتاتها وأحلامها ووعيها ..
          فهذه الرواية لا تركض خلف السائد في السرد الروائي في السودان - بمعنى الشعرية في السرد - كما لا تقع في غواية بنيتها, كنص يستلهم التاريخ الغابر .. والمتخيل .. ولا تقدم تصورا لعالم مثالي - من وحي المخيلة - إذ تدرك نهوضها كنص .. في التحليل النهائي - في الخيال .. الذي يحاكي الواقع ويكوِّنه لكنه لا يكونه في آن .. وبذلك عالمها يكتفي بتصوير الواقع والتقاطع معه, في أكثر مناطقه المظلمة, ذات الصلة بهوية الإنسان - بماهي ( هذه الهوية) : تاريخه .. كما لاتطرح رواية صالح الجبل نفسها , كتشكيل سردي مفارق , إذ تكتفي بما تنطوي عليه, من وعي حاد , قادر على إصطياد البنى الحكائية , وإحيائها سرديا , في وعينا. دون مفارقات أو تجريدات ذهنية أو مقولات ..
          ومن هنا تتسم رواية صالح الجبل, بالبساطة الآسرة...
          تأسيس عجوبة لهذه الرواية في تيمتها الأساسية, على قاعدة الأثري الحفرِّي , بما هو التاريخ الغابر , بأبعاده السياسية وإسقاطاته على الرّاهن , سمح له, بأن تتأكد نوازعه الفكرية نفسها, في إطار يسمح لبساطة تركيبه لهذه النوازع , دون الإرتطام بجدران الواقع , ومحاولة فكّها وتحليلها ..
          أما على المستوى التشكيلي فقد سمحت للأداة الروائية , بالإشتغال في نسج الرواية بهدوء ودربة, فجاءت كنسيج محكم التماسك , يتحرك الشخوص على إحداثياته بسهولة ويسر وهو - ربما - ما جعل الروائي الفذ : ابراهيم إسحق يصف هذه الرِّواية, بأنها أكثر نضجا من أعمال آخرين معاصرين لعجوبة..
          يقول الأستاذ إبراهيم إسحق حول صالح الجبل " في منتصف السبعينيات , ظهر نمط ثالث للرواية السودانية , رواده أولئك الكتاب الذين عاشوا في الجو الأكاديمي لجامعة الخرطوم , وأحسوا بإهتمام الوسط الثقافي بكتابة الرِّواية , وأنه يمكنهم أن يدلوا بدلوهم في ذلك من خلال تجاربهم .. مثل دكتور : إبراهيم الحاردلو وروايته عربة الروح . والتي كانت أشبه بسرد تجربة ذاتية لم تكتمل لها تماما أدوات الصنعة الفنية للرِّواية . ومثلها رواية فضيلي جماع "دموع القرية " وصالح الجبل لدكتور مختار عجوبة ..
          وربما أحسست وأنت تطالع هذه الأعمال كأن أصحابها استعجلوا تجربة كتابة الرواية, أو أنهم لم يستعدوا جيدا لتجربة كتابة رواية بمقاييس حديثة ... ولا شك أن دكتور عجوبة كان أفضلهم , فلديه من قبل مجموعة قصصية ( عندما يهتز جبل البركل ) ورسالته للماجستير عن القصة .. لهذا كانت روايته أنضج فنيا(40)"..
          ومن خلال شخصية صالح الجبل , تتقدم الرِّواية في عرضها, لنماذج حيّة تتفاعل بالتجربة الإنسانية, وتصل بها إلى معنى الإلتزام, من خلال الإنتماء إلى حركة المجتمع .. في محاولة مقاومة العمدة,الذي يسعى لدفن التاريخ (المقبرة الأثرية), حتى لاتنتزع منه الأرض .. بحيث تطرح هنا مسألة التاريخ المتآمر عليه .. التارِّيخ بما هو ثقافة , وذاكرة .. بما هو الضحية الأساسية التي تتلوى تحت سياط الواقع .. لكنها تبقى صامدة , تبين كلما تم طمر جثتها بالتراب .. فمهما تم دفنه - التاريخ - من قبل السلطة الرسمية, يطل شيء منه ليذكرنا بأنه باق ..
          نلاحظ تكرار بعض شخصيات الرواية, التي نجد لها ملامحا في شخصيات مجموعته القصصية:"عندما يهتز جبل البركل" , لكأن الرواية صالح الجبل تقيم حوارا على مستوى الشخصيات مع هذه المجموعة القصصية - لا نريد أن نقول أنهما إعادة انتاج لبعضهما البعض- وهو ما أقتربت منه ملاحظة الصديق الناقد المصري أحمد الشريف, عندما قارّن شخصية( فتح الرحمن السّلفي في صالح الجبل) ( بشخصية ودحبوبة في المجموعة القصصية : - قصة اذكروا محاسن موتاكم -)"..
          ولا شك أن صالح الجبل من الرّوايات ذات القول المميز , إذ إشتغلت في هموم مشروع التحدِّيث .. وأتصور أن المفتاح لسبر أغوار الرؤيا في هذاالنّص (صالح الجبل) يكمن في رمزية الجبل نفسه - فالجبل يتكرر كعنوان للمجموعة القصصية والرِّواية , كما يرد كثيرا في نسيج التيمة القصصية والروائية , بما يشكل مفتاحا للرؤي التي تحملها هذه الرواية, التي تجد مرجعيتها في المجموعة القصصية - فالجبل ليس مجرد , موطن للعنج " في هذا الجبل يسكن قوم من " العنّج " يملكون سواقي من الذهب والفضة (41)".. فهو كرمز أكثر من ذلك .. فهو رمز الإستقرار والحنين الصّوفي - عزلة الزهاد - والقوة والباس , والصلابة التي تجد جذرها في الصبر والصمود . أنه الجبل صالح, الذي يحيلنا بأزليته إلى الأسلاف - الملكة ناصرية آخر ملكات و ملوك العنج ,والتي تتقاطع مع شخصية سمرتوية في مجموعته القصصية - ويحيلنا الجبل أيضا إلى مكوِّنات الطبيعة الأخرى التي ينهض فوقها, مثلما يحيلنا إلى هذا الوجود المنفي, في التاريخ بمؤامرة وتواطؤ الدفن للمدينة الاثرية ..
          وهو منفى الذات والبحث عن وجه لهوية, دائما ما تقع في اللاشعور. ولا تمكث في لحظة الشعور, إلابوصفها مقبورة بالتآمر .. صورة لا تنفك عوامل الطبيعة تزيح عنها الرِّكام فتظهر , لكنها تغمر من جديد فلا يجد لها علماء الآثار أثر ..أنها مدينة أشبه بقارة أطلنطيس الغارقة.. صالح الجبل تطرح سؤال حيوي : أين تنتهي الميثولوجيا ؟ أين يبدأ التارِّيخ ؟.. لدينا حالة جديدة تماما هي: حالة تاريخ شعبي غير مدون, وتجلياته في كرامات الاولياء والصالحين, وعلاقاته بالمدينة الأثرية .. أنه مجرد تراث لفظي ,يسود الزعم بأنه التاريخ في الوقت نفسه..
          ولدينا تواطؤ عليه كذلك, حتى لا يخرج إلى العلّن رسميا!!!.. صالح الجبل بحث روائي عن الهوِّية التي لايسعها- الرواية - أن تجدها في هذا المكان , فهي في مكان آخر " عندما نأتي إلى هذا العالم فأننا لانخلع في واقع الأمر عن جذورنا , بل نحمل في أنفسنا في واقع الأمر: الانفصال عن الجذور , وهذا الوجه الذي سنحاول طيلة حياتنا, أن نلصقه بجلدنا حتى لو أدى الأمر إلى فقدان هويتنا الأولى , سوف يكون بناء نتولاه عبر دروب تفضي الى لا مكان : "..فذهبت إلى النيل, وكانت مياهه أكواما كالقطن المتراكم ,أو السحب التي حملتها الرِّياح في عنف تتدافع وتتسابق. وكان مندفعا قويا ,تغير طعم مياهه العذبة حين تكون هادئة صافية(42)"..
          هذا الفضاء الطبيعي التاريخي يتشكل فيه الحنين , وتواطؤ الماضي على الماضي , وصراع هذا الماضي مع الحاضر - صراع العمدة رمز السلطة السياسية والأب رمز السلطة الأبوية في آن .. هذا الصراع ضد السلطة الزمنية المتغيرة .. هذا التواطؤ ضد التارِّيخ ( المدينة الأثرية ) في سبيل مكاسب آنية محدودة تفتقر لقيمة الخلود , هو ما يشكل الفضاء الروائي لصالح الجبل.. بهذا المعنى صالح الجبل رواية كبيرة تصور المجتمع, في تنوع ممارساته اليومية, متنازعا بين قيمتي : الشر والخير , ومن هنا لا يحضر العالم الروحي والداخلي لشخصياتها, إلا بقدر تحققه في وقائع وأحداث وعلاقات الحياة , أي بقدر تحققه روائيا في بنى مشهدية سردية وصفية - وهي البنى التي تشكل مقومات الخطاب الروائي ..
          وبمعنى آخر لا ينكشف هذا العالم, إلا بقدر تفاعله مع الواقع الموضوعي - علاقات الحياة - الذي يترك بصماته الحادة الحاسمة على مصائر الشخصيات . إذ يشكل هذا الواقع مرجع خصوصية الشخصية الروائية وتميزها , ومرجع إيهامنا بأنها من لحم ودم. وليس الواقع الموضوعي هنا, سوى إسم آخر لعلاقات الحياة, التي تضطلع بدور حاسم, في تحديد مصائر الأفراد, والمجتمع بشكل عام وتوجيهها (43)..
          استطاع عجوبة في هذا النص الروائي, توظيف تقنية الحكي الشعبي, بعوالمه الصوفيه والأسطورية, ولم تقتصر ظاهرة التناص عنده, على الإستلهامات الفلكلورية, وحسب وإنما تعداها ليتناص مع تراثات غابرة , إلى جانب توظيف العناصر الشعبية, ما جعل هذه العناصر الشعبية: إمتدادا لعناصر الثقافة الغابرة , ممثلة في ما أنطوى عليه إنسان( مكان الرِّواية) من ثقافة تلك المدينة الأثرية - ما يلغي الحاجة لإكتشافها, فهؤلاء القوم الماثلون أحفاد سكانها الغابرين, وينطوون على شيء مما تمثل في أجدادهم الغابرين, هم أيضا جزء من الأثر , ببسطائهم ومثقفيهم !! ..
          صالح الجبل هي قصة السودان: بفقراءه المعذّبين في الأرض , وأساطيره وخرافاته وتاريخه التليد, تلادة الجبل . وتلادة إنسانه .السودان الكوني الذي لا تتقاطع عنده عناصر الطبيعة المختلفة فحسب. بل بشره أيضا بسحناتهم المختلفة , وسلوكياتهم المختلفة .. سودان المثقفين الخرطوميين المأزومين , بأسئلتهم الوجودية الكبرى ولكن, القاصرة عن إنتاج إجابات للأسئلة التي يطرحها الواقع الشائك, الذي لا يخلو من خذلانات عميقة للإنسان /الجبل.. الإنسان /الأثر الصامد , رغم كل شيء ..
          [mark=#FFFFCC]
          الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
          كي يسمى في القواميس بكاء ..
          الصادق الرضي
          [/mark]

          تعليق

          • أحمد ضحية
            أديب وكاتب
            • 10-05-2010
            • 121

            #6
            (4) السرد في رواية " بذرة الخلاص " لدكتور فرانسيس دينق : بين المقولات وأ

            (4) السرد في رواية " بذرة الخلاص " لدكتور فرانسيس دينق : بين المقولات وأسئلة التاريخ ..


            توطئة:


            منذ أخذت الرِّواية في السودان , توظف التارِّيخ في إطار تحليلها للظاهرَّة الإجتماعيَّة , التي تُشكِّل المحتوى السردي , بأحداثه ودلالاته .. منذها أصبح التاريخ , بعداً أساسياً في الفضاءات التي تحيل الرِّواية إلى ملابساتها . وبهذا المعنى كوّنت ملابسات التاريخ في " موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح , شخصية مصطفى سعيد .كشخصية " منبتة " !! ووسمت هذه الملابسات مستر سعيد , بآثار عميقة! .


            كما لم يكن التارِّيخ بعيداً عن " الغرباء " الذين حفلت بهم رِّواية " أحمد حمد الملك " : "عصافير آخر أيام الخريف" المحتشِّدة بحكايا الذّاكرة الشعبية . والناهضة في الشفاهي , والأسطوري والفانتازي . وهي تبحث بين كل هذه العلاقات , التي تربط الغرباء , وتحكم علاقاتهم في الجغرافيا , التي يوجدون فيها ..


            كذلك أولئك الرجال " الجراد " في رواية محمود محمد مدني "جابر الطوربيد" , وما وَسم علاقاتهم من عنف وعنف مضاد - وقد أشرنا إلى ذلك في فيما سبق من هذا الكتاب - وقد إرتبطت ملابسات التاريخ في الرِّواية في السودان , برمزِّية " الغريب " , الذي يرتبط بالتغيير والتحديث .. الغريب الوافد .. فهي - هذه الفكرة - شهيرة في التراث الإنساني , والتي يُلاحظ عليها : أن مدياتها قد توسعت في السرديات العربية , وكذلك السرد في السودان .


            ربما لإرتباطها بإثواءات وجدانية عميقة . فهي صنو المنقذ " المنتظر " أو المخلص الذي حملت إسمه في رِّواية فرانسيس دينق "بذرة الخلاص"..


            ذلك المنتظر الذي يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً !!.. وهو ما يمثله " فارس " بطل هذه الرِّواية : " بذرة الخلاص " , بكل ملابسات تأريخ جدّه " رزق " الذي أسترق ولم يعد تأريخه , وتواصله مع أسلافه سوى حنين بعيد !..


            وبذرة الخلاص , لا تقل عن "طائر الشؤم" : رواية فرانسيس دينق الأولى , في إثارة الإهتمام بالقول الروائي الجنوبي الصاعد , منذ عقد ثمانينيات القرن الماضي ..


            مثلت هذه الرِّواية , حالة من الإلتباس . بين مستوى الحكاية ومستوى القول , ما أربك المتلقي في تحديد الجنس الذي تنتمي إليه هذه الحكاية. كما عبّر الكثيرون !.. وربما يأتي هذا الإلتباس , من هيمنة الرّاوي / الكاتب , على شخصياته , في كل دقائق العلائق التي تربط بينها , والقوانين التي تحكم وتصوغ أفعالها وردود أفعالها . بما أنسحب على التكنيك , وتقنيات السرد والشكل . فكان الزمن تعاقبيا , كزمن الرواية الكلاسيكية , والسرد حرا مباشرا , لقول يلتبس في الحكاية , وحكاية تلتبس في القول - إستنادا الى بعض المفاهيم المنهجية ليمنى العيد في بحثها القيم حول الراوي والشكل والذي كنا قد أشرنا له من قبل في أكثر من موضع - لكنه قول مميز . يتماهى في الحكاية , بحيث يشكلان معا حالة الإلتباس بين مستوى الحكاية ومستوى القول , وصعوبة التمييز بين الحكاية والقول ..


            و تعود هذه المشكلة في بنية الرِّواية الحديثة, وفي جانب هام منها , إلى تراجع الحكاية , أو إلى كونها حكاية لها طابع التبدد والتكسر !..


            وقبل البدء في الحديث عن "بذرة الخلاص" وإستراتيجياتها النّصية , كانت تلك هي محاولة الإجابة على السؤال المشروع : لماذا لم يقم دكتور دينق , بتوظيف الحقائق التاريخية المجرّدة , عبر الحيل الرِّوائية التي ترحل بها "الرِّواية" من حقل التاريخ السياسي , إلى جنس الرواية؟! .. إذ أن اللعبة الرِّوائية في الرِّواية الحديثة تركزعلى القول , من حيث أنه الصِّياغة للحكاية , أو إقامة بنيتها الروائية , وبالتالي من حيث هو مجال التقنية , وكيفية السرد أو شكله , ويتراجع الإهتمام بالحكاية , من حيث هي فعل لأشخاص تربط بينهم علاقات وتحركهم حوافز , تتحكم بنمو هذا الفعل , وتقوده إلى عقدة فيه , ومن ثم إلى حل لها (غالي شكري ) فالرِّواية تأخذ إسمها بمقدار ما تهتم بالشكل والتكنيك , كتجربة فريدة تسم النص .. تتوحد فيه وتشكلان معا , هذا الجنس القلق ..جنس الرواية .. ومن هنا ربما نغامر بالإستعانة ببعض المفاهيم المنهجية التى تنتمي لأدوات تحليل الرِّواية كما عند يمنى العيد وغالي شكرى.في محاولة لمقاربة منهجان مختلفان ..


            إستراتيجية القراءة :


            تنتمي بذرة الخلاص , ككتابة سردية, إلى جنس الرِّواية السياسية , التى تستلهم التارِّيخ في مادتها إن جاز لنا هذا التصنيف . والتي تحاول مقاربة الواقع كما يتصوره الشخوص , الذين هم في المحصلة النهائية , يمثلون تصورات فرانسيس دينق- كما أكد هو ذاته في التقديم - بحرمان تام من أى تصورات تخصهم , وحدهم . كشخصيات ذات سمات وملامح , وبناء نفسي معين!.. والتحليل الناهض . المتخيل في بذرة الخلاص .


            فبذرة الخلاص ربطت بين التارِّيخ وأثره في تشكيل الشخصيات , على النحو الذي بدوا عليه .. وهنا يشير أمبرتو إيكو - حول هذا الموضوع - إلى أنه عندما كتب روايته "اسم الوردة "كان قبلها قد لاحظ وجود ثلاث طرق لسرد الماضي : " الماضي الرومانسي " أى الحكاية الخيالية , وحكاية المغامرات العنيفة , والرواية التاريخية , التى لا تقتصر على الأسباب الماضية للأحداث , بل تتبع العملية التي مرًت بها هذه الأسباب , حتى بدأت ببطء في إحداث آثارها . وإذا كانت الرواية هي بحث هذا العالم " المتفسخ " " الممسوس " , خلال المسيرة المأساوية ل"رزق " الذي أسترقت أمه عندما كانت حاملا به , بدلا عن شقيقها , زعيم القبيلة الأسير. ثم عزل رزق عنها بعد ولادته. الأمر الذي أدى إلى أن تشكل ذكريات الإسترقاق , والعبودية مسيرة حياة رزق , ومن ثم حياة إبنته " إرادة " وحفيده فارس "شخصية فارس خيالية محضة , وكذا بقية أفراد أسرته , ولكن هذه الشخصيات جميعها , إنما هي تجسيد للتطورات , التي حدثت في مفهوم الهوِّية (44)" ومع أن هذا السرد , كما يقول دكتور فرانسيس دينق "بعض الفصول خيالية , وبعضها تركيبة بين الحقيقة والخيال (..) فبالرغم من ثبوت هذه الأحداث , المرتبطة ببعض الشخصيات في هذه القصة (..) تعبر عن حقيقة أساسية , ترتكز عليها العوالم المختلفة , التي يعيش فيها السودانيين عامة (45)" إلا أن هذا السرد يأخذ طبيعته الجدلية , من موقعه بين الطرفين , إذ أن هذه الرِّواية بقدر ما تستمد من الوحدة الجوهرية للبطل والعالم , وهي الوحدة المفترضة في كل الأشكال الملحمية . تستمد من ناحية أخرى من تمزقها القاهر..


            أن وحدة البطل ووحدة العالم , ليست هي التي لا ترتبط بمعايير الكاتب أو القاريء , وإنما تنتظم عالم الرِّواية , وهي تختلف من رِّواية لأخرى .. ففارس العربي / الأفريقي بطل هذه الرِّواية , يتحرك في إحداثيات النص , تبعا لقوانين التفسخ الذي يعترِّي العالم حوله , وما يتمظهر من ترَّدي الأوضاع السياسية!..


            وأيا كان الأمر , فإن لوكاتش يعتقد تماما: أن الرِّواية بقدر ما هى إبداع خيالي , لعالم متفسخ , فإن هذا التجاوز, لا يمكن أن يكون أكثر من تجاوز متفسخ ومجرد ومفهومي , لا يمكن أن نلمسه بوصفه حقيقة مجسدة .


            ومن هنا تكون الإستراتيجية النّصية , التي أراد دينق التعبير عنها , عبر هذه الكتابة السردية , هي ما أكد عليه في المقدمة "السؤال المهم عندي , هو هل تعطي هذه القصة , بإبرازها وجهتي النظر في قضية السودان , وتوضيحها الخرّافة التي بنى عليها كل فريق فهمه للهوية السودانية. هل تعطي فكرة عملية مغايرّة , أو نموذجا مختلفا يتقارب من خلاله الطرفان (46)".. هذه الإستراتيجية النصّية ليست ضرورية بالتأكيد عليها , كتصوّر منطقي في المقدمة , بقدر ما هي ضرورية في تأكيدها لذاتها فيما يبديه النص "بذرة الخلاص". على النحو الذي جاءت فيه. فالرِّواية تنهض في الخيال , لا الواقع , ولهذا السبب بالذات , تصعب موضعة مقولاتها, على مستوى الواقع , فذاك شأن التصورات المنطقية للفكر السياسي , والعلوم التطبيقية . ومن هنا توجهنا الإغواءات التى حملتها المقدمة . ورغب دكتور دينق أن يوجه بها طرائق تفكيرنا , في تلقي النص عبرها , لنراه من خلالها , لا من خلاله كنص !...


            إذن, سنحاول الإكتفاء بما يقوله النص , وهو ما قالته المقدمة التي عملت على مصادرة تأويل المتلقي للنص . وكما أسلفنا أن إندماج " شخصية الكاتب في الراوي" , أسهم في حالة الإلتباس , بين مستوى الحكاية , ومستوى القول . في بذرة الخلاص . فهي ككل رِّواية , تصّوغ حكاية فتبنيها قولا . لكن ينهض القول في بذرة الخلاص , متماهيا في الحكاية , بحيث يصبح الفصل بينهما تبديدا للإستراتيجية النصِّية , التي تأسست عليها الحكاية / القول . وبالتالي تبديدا للحكاية والقول معا !..


            أن صعوبة التمييز بين الحكاية والقول – نتيجة - لتماهي الخيالي في حقائق التاريخ القريب , بأسماء أماكنه وشخصياته , ومواقعهم في الأحداث البارزة , التى مر بها السودان منذ الفترة التركية حتى أبريل 1985, والشخصيات التى لعبت أدوارا مؤثرة في هذه الفترة , كأدوار راسخة في الأذهان.. كل ذلك مع عدم العناية بلغة الرِّواية , بما تشكله من حضور عال للحكاية/ القول : بذرة الخلاص!! ..


            فبذرة الخلاص تعالج ملابسات التاريخ براوي مهيمن , وسرد حر مباشر , وزمن تعاقبي . ما ترتب عليه أن أخذت بُعد الوثيقة التاريخية , السياسية ذات الطابع الفكري , على حساب عمقها الفني والجمالي والتكنيكي!! ..


            إذن إعتمدت هذه القراءة إستهلالا بالتوطئة , جدلية التاريخ والدلالة , كآليات تعمل في البنية الحكائية في بذرة الخلاص , في محاولة لإستنطاقها وسبر أغوارها . وكشف كنه آليات عمل هذه البنى خلال "العاطفي / الاجتماعي ".. فاللمشكلة العاطفية - بتعبير غالي شكري - مشكلة إجتماعية في جوهرها , وليست فردية على الإطلاق . كما أنها ليست شذوذا أو إستثناء . وإنما هي ظاهرة حقيقية في المجتمع .. هي مشكلة إجتماعية بالمعنى الواسع العميق , الذي يحتوي ويستوعب مختلف الطبقات وفئاتها المتنوعة , وهي مشكلة إجتماعية عن طريق إتصالها الوثيق ببقية المشكلات , التي يموج بها المجتمع " وقد أشرنا إلى ذلك عند قراءتنا قصص إستيلا قاتيانوا. فسواء كان ما تعيشه المرأة من نفي وجودي إجتماعي , أو ما يعيشه الجنوبي من هذا النفي , تظل المشكلة (النفي) عند كلاهما مشكلة إجتماعية .


            فالبنية الروائية التي تنهض أحداث الرِّواية فيها , تنهض من موقع إجتماعي في العاطفي , كمحظور بإكراهات الرِّق وإسقاطات نظام القيم في السودان , على خلفية النظام الدلالي العربي , الذي يفضل اللون الأبيض ,ويبغض اللون الأسود!!..


            وتتمظهر ملابسات هذا الموقع الإجتماعي, في المواقع التي تمثلها البنى الحكائية الأخرى .. إبتداء بملابسات زواج العبد " رزق " من حبيبته " آمنة " العربية . مرورا بزواج حفيدته "إرادة " والدة "فارس" المرفوضة من قبل واقع ثقافي مغاير .. إنتهاء بمسيرة حياة "فارس" الذي يحاول إحداث الإنسجام بين هذه المواقع الثقافية المختلفة . والنظم الإجتماعية المتباينة , في تكوينه النفسي والعاطفي والإجتماعي ..


            ومن هنا تتعاطى هذه المواقع في دلالاتها مع عنوان النص : " بذرة / الخلاص " .. كتعبير عن فعل التحرر : " الخلاص " - "الخصب " – "البزار " . وطرفي العنوان – كما نلاحظ - ينهضان في الإجتماعي الإنساني .. ويتحركان في النّص ويتسعان في مدِّياته , كآليات للدمج والتواصل والتماهي , الذي نوِّياته : " رزق " - " إرادة " - " فارس " : المحاصرين بفكرة الفتاة القربان , التي " خلصت " شعبها , حتى يتمكن من عبور النهر العظيم !..


            هذه الفتاة التي تتماهى في أم رزق , والتي قُدمت قربانا لأجل" خلاص شقيقها " من الأسر لأنه أمل شعبه .. أنها " ارادة " ذاتها !! .. التي تتمكن منها حكايا الأسلاف , وأفكار المخلص التي يتشكل بموجبها وعي فارس , وهكذا تنطلق استراتيجية العنوان لتعمل نوِّياته في متن النّص .. ولعل الأفكار الفنِّية الثلاثة : الحلم , الخيال , والمستحيل من أكثر الأدوات التعبيرية, قدرة على نسيج الأسطورة الرومانسية - على حد قول غالي شكري - فالحلم الرومانسي ليس تفسيرا للأحداث- كما أشرنا سابقا - أو تغييرا للمواقف , وإنما هو تجسيد مواز لها . أى أنه بمثابة المرآة الحاضرة , لكل ما يدور في العالم الرومانسي .


            أن الحلم هنا من عناصر الواقع الرومانسي , ومن هذا الرومانسي , العاطفي الذي ينهض فيه أبطال الرواية , تتشكل فكرة الزواج : الخصب - الخلاص , الخلاص بما هو ليس خلاصا من العربي المشحون بذاكرة الغزو والسلب والنهب ,بالأفريقي النبيل , بل في ذلك الهجين الذي يمزِّق الوعي الملتبس !! ويفك إلتباسات التاريخ , ويعيد الذّاكرة المنفية إلى موقعها في الذات المنتمية "أن واجب كل سوداني أن يسأل نفسه , من نحن كشعب . وأن يحدد في ذهنه العوامل البناءة, التي تقرب وتوحد بيننا جميعا (..) كثيرا ما نحاول أن نؤكد على عوامل جزئية في هوِّيتنا , لا تعطي الحقيقة كلها (..) إذن , لماذا نصر على نصف هوية لا يعترف بها العالم الخارجي ؟! وتقف مانعا لبناء وحدتنا في الداخل !! (47)"..


            بذرة الخلاص هي , قصة التوتر الفكري والقلق الميتافيزيقي , وأسئلة الهوية , ومعاناة الإنسان في إسترداد الذاكرة والذات . فرزق الذي تستهل به هذه الحكاية , ولد في الأسر . كانت أمه حبلى به عندما قرر قومها إستبدالها بشقيقها الأسير !! و بعد أن وضعت حملها " رزق " أنتزع منها وصار " منبتا " أعيد انتاجه في " وسط عربي " . وبتر رزق عن والدته , بكل ما ينطوي عليه البتر عن الجذور الثقافية والإجتماعية والنفسية ,من دلالة وبكل ما لمحتوى هذه الدلالة من آلآم و تعسف وقسر وقهر وعنف .


            هذا الإحساس بالبتر , هو ما جعل رزق يتفوق, ويحاول بناء شيء يوازي عالمه المفقود أو يتقاطع معه !! فيتزوج من آمنة , التي تشكلت من موقع إجتماعي مشابه لموقعه : "لون بشرتي كما ترى , يختلف تماما عن ألوان بقية أفراد أسرتي , لدرجة يتعذر معها الحكم أني من جنسهم (48)" ..


            فآمنة تعاني من كراهية أسرتها للونها الأسود - والدها تحديدا , أو هي تعتقد ذلك - وهو ما يدفعها للهرب , بعد إكتشاف والدها لعلاقتها برزق , وإثر مجابهة رزق له . يتزوجان رغم أنف والدها, الذي يتطلع لزواجها من عربي أبيض اللون!! ..


            وهكذا يجد رزق نفسه ممزقا بين موقفين إجتماعيين , فالعرب ينظرون إليه كعبد أفريقي أسود. بينما الأفارقة ينظرون إليه كعربي لا يمكن الوثوث به , فهو محض " مندكور " تمت إعادة إنتاجه وأنبت عن جذوره "سأل رزق نفسه : لماذا يعتقدون أنني عربي . فأنا دينكاوي أما وأبا , ولا أقل سوادا أو طولا من أى واحد منهم . فهل يعقل أن يكون لون بشرتي , أو تقاطيع وجهي هي السبب !!(49)" ..


            ويتعرف رزق على تاريخه الشخصي , عندما تشاء المصادفة أن يلتقي والدته , التي تخبره وتحتضر مباشرة . فيحمل معه حكايتها , وأسطورة الجد المؤسس , وروح الأسلاف , منذ عبور النهر العظيم , وتقديم القرابين لروح الفتأة الخالدة , التي تتماهى فيما حدث لوالدة رزق , كمخلصة لشعبها .وتُحدث هذه الحكاية أثرها في نفسية رزق , لتشكل بعد سنوات طويلة حياة إبنته إرادة . كخلاصة للتجربة الإنسانية والبيولوجية , لفارس الذي يجسد سؤال الهوية في السودان , وهو يقف بين مفترقي طريق .. ففارس الخليط من الدينكا والنوبيين والفور والعرب , والذي تنسجم فيه كل هذه العناصر بمؤثراتها الجينية والثقافية والإجتماعية وقدراتها الخلاقة . يمثل خلاصة القول الذي تأسست الحكاية بذرة الخلاص عليه , وتماهت فيه (4)"...
            التعديل الأخير تم بواسطة أحمد ضحية; الساعة 22-06-2010, 18:19.
            [mark=#FFFFCC]
            الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
            كي يسمى في القواميس بكاء ..
            الصادق الرضي
            [/mark]

            تعليق

            • أحمد ضحية
              أديب وكاتب
              • 10-05-2010
              • 121

              #7
              الاستهلال ومورفولوجيا الزمن .. وحركة السرد في رواية: الغنيمة والإياب , لمرو

              (5)الإستهلال ومورفولوجيا الزّمن .. وحركة السرد في رواية:
              الغنيِّمة والإياب
              لمروان حامد الرَشيد..
              هذه الرِّواية:
              ينطلق عنوان هذه الرِّواية - إستراتيجيا - من إسترداد الذات كغنِّيمة بحد ذاتها , فهو ينهض في العودة "الإياب" من الماضي , كي تستمر الحياة رغم المرّارات والجرّاحات والفقد . فهؤلاء الشخوص المعذبين - أبطال الرِّواية - إنطلقوا في رحلة البحث عن ذاتهم . سواء كان بالإنتماء لتنظيم سياسي , أو لحبيبة , أو عائلة أو بالبحث عن الجذور السلالية !.. ليحصدوا قبض الرِّيح ...
              تعج هذه الرِّواية بالهجين والغرباء : الذين من بلدان أخرى ( مصر , كينيا , إنجلترة ..) لتؤول في النهاية إلى التعبير, عن لحظة واحدة فقط .. لحظة كونِّية .. هي لحظة الإنسان المنتمي لذاته , والذي من خلال هذا الإنتماء , يحاول صنع حياته بعيدا عن مخلفات الماضي وجرائره .. "الغنِّيمة والإياب": عنوان جذّاب , لرِّواية لا تخلو من الإلتباس .. كما وتنطوي على غوّاية فاتنة , إذ تأخذنا إلى فضاء شاسع شسوع ذكرياتها, وملتاع إلتياع الحنين إلى الحنين! ..
              وهي رِّواية لا تخلو من الإستيهامى الساحر, بطقوسه الوثنية والصّوفية .. كطلسّم يعبر عن ميتافيزيقيانا الشّخصية , في الحب ,والبحث عنا نحن في عالم يتهاوى! .. وتتهاوى معه الذات الإنسانية , بإغترابها وشجنها الشجي, وبحثها الدؤوب عن الذات إزاء الآخر !.. الذات التي لم يكتمل بناء إدراكها لكنه هذا الآخر! ..
              عددا ليس بقليل من الروايات السودانية, تناولت العلاقات التي تحكم عمل القوى السياسية , وصراعات الأعضاء داخل تنظيماتهم المختلفة. حيث كشفت هذه الأعمال : روايات : الزِّندِّيَة - الطريق إلى المدن المستحيلةالطواحين ..أو مارتجلو.. ذاكرة الحراز, على سبيل المثال لا الحصر .. كشفت هذه الروايات الإستشرافية ,عن التهروءات التي إعترت الأبنية السياسية, والفكرِّية .. والتشظيات التي لحقت بالتنظيم , وصراعات الشخوص المنتمون إليه, بأحلامهم وتطلعاتهم وإنكساراتهم الوجدانية والنفسية .. وأساهم , وأسئلتهم الوجودية المحيرّة حول : الذات والهُوِّيَّة! ..
              الفضاء العام للرِّواية:
              هذا هو الفضاء العام, الذي تجري فيه أحداث هذه الرِّواية, الممتعة, لدكتور مروان حامد الرشيد , ففي هذا السياق يركز دكتور مروان, على منطقة محددة, من الصراع والتهروء السياسي : هي منطقة الحياة الطلابية .. حيث ولدت هذه الرِّواية : من رّحم القمع العنيف للإنسان, الذي لايملك إزاء مواجهة هذا القمع, سوى براءته الوجدانية ومشاعره المعذَّبة , التي تمثل زاده, في التمرد على النسق الشمولي المغلّق ..
              فهي رِّواية تسلط الضوء على منطقة غامضة, في التاريخ السياسي لليسار السوداني .. هي اللحظة التى سبقت وعاصرت إنقلاب مايو 1969, وتعدّته لترسم أخاديدا عميقة ,في مستقبل البلاد الكبيرة . منذ تسعينيات القرن الماضي .. وموضوع القمع الذي مارسته القوى الإستبدادية , يمثل تيمّة مركزّية لكثير من الرِّوايات العرَّبية فقد " تشكلت رمزِّية" العسكري الأسود" ليوسف إدريس ووطأة" تلك الرائحة" لصنع الله ابراهيم . كما تشكلت إليجوريات جمال الغيطاني في "الزِّيني بركات" و "وقائع حارة الزَّعفراني" . والطاهر وطار في "الحوات والقصر" و"عُرس بغل" . ورضوى عاشور في" غرناطة" . وبهاء طاهر في" الحب في المنفى" (..) فالقمع حولنا في كل مكان تتعدد أسبابه وتتنوع تجلياته وأشكاله, وتتكاثر أساليبه كالعنف الذي يسري في"مدن الملح" (..) أن زمن الرِّواية يولد حين يغدو التمرّد, على الأنساق المغلقة ,بداية إنهيار هذه الأنساق , وحين يواجه الوّعي الإبداعي, ما يعوِّق تقدمه , وحين تولد رغبة التحرّر العارِّمة (50)..
              الزّمن الواقعي لهذه الرِّواية هو الفترة, التى سبقت وتلت إنقلاب مايو 1969الى الإنقلاب الإسلاموي العسكري في 1989 وما تلاه - وهي فترة طويلة جدا, لأحداث رِّواية.. حيث مضت فيها هذه الرِّواية, تراقب وتحلل وتشرّح : التحولات التي إعترت السلطة والنّاس , والآثار العميقة التي تركها هذان الإنقلابان على الإنسان بعامة ,والوطن بخاصة , واليسار السوداني كمتكأ تاريخي لقضايا الجماهير العريضة !..
              وتدور أحداث هذه الرِّواية , في الفترة من خروج الرَّاوي لزيارة صديقه الشاعر في المستشفى ,وحتى الفترة التي تلّت وفاة هذا الصديق .. وبينما يستعين دكتور مروان بالتسجيلي والحرَّفية نهض - مع ذلك - الخيال والماورائي ,كاشفا عن مدى جماليات هذا النص العميق بموقفه من قضايا الإنسان .. الإنسان فحسب .. الإنسان الأكثر ذاتية , والأشد جماعية في الآن نفسه! خلال إنهيار عالم بأكمله .. بعلاقاته الوجدانية والإجتماعية والسياسية والفكرية , إلخ ..
              إذن تنهض هذه الرواية, في أطلال وركام هذا الإنهيار , لتقول شيئا ما . وتنجح في القول .. تتحرك شخصيات - الغنّيمة والإياب- في هذا السياق المحتشِّد ,بزّخم الذّكريات اليانعة , بكل ما تحمله من فشل وإحباطات ومرارات وهزائم وجراحات, أورثت القلب أعباء لم يستطع التخلص منها, رغم مضي سنوات طوال . فظل الشخوص حبيسين لهذه الذِّكريات , التي تعود إلى أيام صباهم في مرحلة حياتهم الطلابية! ..
              كل ذلك من خلالهم - هم الشخوص الغرباء ,والذين تم تغرِّيبهم - بإثنياتهم المختلفة, التي تمت إعادة إنتاجها في وسط عرّبي , أو بهوياتهم الهجين :" لماذا تتحدثين معي بالإنجليزية ؟(..) - لا تنس أنها لغة أمي .. العربية لغة أبي (..) مثل الشاعر (51)..
              العنصر الأساسي المركزِّي , الذي يحكم العمل الفني ,في هذه الرِّواية يتمثل في: علاقة الطاهر (الشاعر) بهُوِّيته النّوبية , وعلاقة خالد (السوداني - التركي) بهُوِّيته الغامضة من جهة , وعلاقته بصفية بنت البلد" السودانية الأصيلة" . وعلاقة حسين( الرَّاوية), الذي يتنازع بين إنتماءه لجدِّه لأمه "قدّح اللّبن" : الشيخ الولي الصالح, وجدِّه لأبيه فضل السيد : "الفرِّخ=العبد", الذي لم تتحدد هويته أو مآله , فيمضي في رِّحلة, شبيهة برِّحلة ألكس هِلِّي . للتعرّف على حقيقة جذوره .. تاريخه الشخصي " الراجح أن فضل السيد ونفراً ما من أهله أو قبيلته , كانوا مسترّقين في مكان ما في الشمال (52).. وعلاقة كل هؤلاء بجراحات هوِّياتهم وإنكساراتهم الرّوحية ب(عبدو) عم (صفية ) - أحد القيادات الإنتهازية في التنظيم :" يفضح عدم إنتماء عبده للتنظيم (..) التنظيم نفسه أصبح في مفترق طرق , بعد أن إهتزت مصداقيته السياسية, وأصيب نفوذّه الأدبي والأخلاقي إصابة بالغة(53).. الأسطورة الأصولية , هي الأسطورة ذات الأصل الواقعي , يأخذها الكاتب من الواقع الإنساني المحيط به. تدور دائما حول شيء أو حدث جزئي , يتوقع وجوده أو حدوثه , إلا أن الكاتب يسلط عليه من الأضواء ,ما يساعد على تفخيمه , وجعله مختلفا عن الواقع .مع أنه قريب منه(54) , وأبرز مثال لذلك (فضل السيد) والد حسين الرّاوي , والكيفية التي جاءت بالشاعر إلى هذه الحياة .. إلى جانب إستخدام الكاتب للأسطورة الكونِّية , بمعنى إستفادته من الغيبيات , التي سمع عنها وسمع بدورها الذي تؤديه في الحياة(55) .. كما في تصعيده لشخصية (قدّح اللبن ) و( مومبْي) الكينية ..
              ويمثل سؤال الهوية لدى شخوص الرِّواية سؤالا مركزياً تقابله (الذات) التي يبحثون عنها "أغرِّبَةْ العرَب (..) سحيم , خفاف , نسيب بن رّباح , سُليك إبن السِّلكة وعنترَّة بن شدّاد (..) شعرّهم تناول موضوعين متصلين إتصالا وثيقاً ببعضهما البعض , وهما العبودية والسّواد (..) كانوا ينحدرون من آباء عرب أحرار وسادة في قومهم , وأمهات من أصل أفريقي..في الغالب الأعم كنّ حبشيات (56) " جازاك الله يا تركِي . لقد حسمت إلى الأبد قضية الإنتماء ومسألة الهوِّية . كرِّهنا العيش في هذا البلد من كثرة الحديث وإعادة الحديث (..) عرب أم أفارقة , أفارقة أم عرب ؟ عرب بالأفريقية وأفريقيون بالعربية ؟" مولاي أنت غراب عرب !أنت حفيد أغرِّبَةِ العرَب..(...) أن صفات الخليط "الهجين" من النّادر أن تثير الإعجاب, لكن التزّاوج بين العرَب والأهالي (الزِّنْجْ) أنجب سلالة منحطة ..سلالة أشد مكراً من الزُّنوج لأنها أكثر ذكاءً . فكرَ : من هم " العرَب" هنا ؟ هل هم عرَب الجزِّيرة العربية. المهاجرون الأوائل ؟ أم عرب البلاد الكبيرة, أيام حرب النهر بعد أن إختلطت دماؤهم بدماء السلالات الزنجية ؟(..) ومن إنحط بمن ؟ (57) ..
              ويلعب الوّعي الأسطوري كذلك - كما أشرنا - دوراً مركزياً من خلال عالم الطاهر "الشاعر" منذ ما يسبق ميلاده " في فلكلور آل داؤود أن الطفل ظل مبتسما أسبوعا كاملاً , كان معجباً أكثر من غيرِّه بالكيفيّة التي هبط بها إلى العالم(..) في اليوم السادس لميلاد الطفل نام خاله عبد القادر حاج طاهر على الخيرّة , فجاءه أبوه حاج طاهر العالِم في المنام (..) همس في أُذُنِهِ : ولادة حفيدي طاهر معجزة (..) وقَبِل عثمان داؤود إسم طاهر على مضض ,وهو الذي ظّل ينتظر الولد بنتا إثر بنت حتى كاد ييأس (..) فالطاهر النوّبي الذي يعاني مشكلات اللغة,مثل كل النّاس الذين لديهم لغة( أُم) , يحاول التغلُّب على مشكلاته مع اللغة العربية " مرة دفعه الغضب إلى الذِّهاب إلى المدرسة , لمقابلة ذلك الناظر . وحسبما رواه الطاهر الذي حضر المقابلة , فأن والده لم يتورّع عن إثارة نفس شكوكه ,حول أهمية اللغة العربية ونفعها الحقيقي .. وقال للناظر أن الإنجليز لا يتكلمون العربية ,ومع ذلك هزموا الألمان, ويحكمون العالم ,وهم سادة العالم (58) " ..
              والأسئلة الحارقة المتعلقة بالذات, تطال كل شخصيات الرِّواية , خاصة التركي " سُئلت وأُستفسر عني : من أنا ؟ هل لي أخوة أكبر مني ؟ أصغر مني ؟ هل أنا من أهل العاصمة أصلا , أو أن أهلي نزحوا إليها من مكان آخر ؟ ومن أين جاءوا ؟ وماهو التركي : لقب أم إسم ؟ ولماذا التركي وأنا لا أشبه الأتراك من قريب أو بعيد ؟ وهل صحيح أن والدي قتل في أحداث التمرد الشهير ؟ ثم السؤال الذي وجهه ثلاثة أو أربعة من أكثر الزملاء فضولا : هل أمي جنوبية ؟ ومن أى قبيلة؟؟!! (59) ..
              ومن قلب أسئلة الذات تنهض أسئلة التغيِّير لهذا الواقع الرث بقوة السلاح, لتكون النتيجة أن محاولات مقابلة العنف بالعنف , تجابه بمزيد من العنف المضاد " عبد الحميد ! أتذكره بدِّقة (..) بعد سنوات , يوم ملأوا جسده بالرّصاص في أعقاب الإنقلاب العسكري المعروف ب "المؤامرة العنصِّرية المسلحة " والذي أتهم عبد الحميد, بالمشاركة في التخطيط له وتنفيذه .وأنه كان لبعض يوم أحد سفاحيه (60)..
              وفي تمزق الوعي البريء , تنشأ مفاهيم التحرّر الطامحة لإنسانية الإنسان ,عبر المثالي والحالم. الذي يليق بالشعراء " أعرف , ما عندك بطل واحد . أبطالك من المنظِّرين مثلك , الطوباويين الحالمين : سبارتاكوس والحلاج وتروتسكي . أبطالك شهداء التاريخ من الحسين بن علي إلى تشي غيفارا (61) " ..إنقطعت عن جلسات الأستاذ عبده عندما انقطع الشاعر العدواني (..) هل سمعت ما قاله لصفية ؟ لا أحد يستطيع أن يشتريني بالعواطف والكونياك "هل هذا كلام شاعر ؟ كل الذي قالته له أن عمها يريده في نقاش هاديء في بيته (62) .. فالشاعر الذي إمتلك مبكرا قدرة الكشف عن تهرؤات السياسي, يرفض التعامل مع عبده الإنتهازي . وفي غضون ذلك تنشب الأزمة في علاقة تركي بصفية , حيث تسفر إنتهازية ووضاعة عبده ,عن وجهها بوضوح بإجهاضه لهذه العلاقة وأشياء أخرى: " قال لي الشاعر أن أطرف تعليق أعجب سارة , صدر من جدتها الأُسكتلندية (..) لا أستطيع أن أفهم أهل بلدكم هذا أبدا . تزوجت أمك رجلا من بلد آخر وقارة أخرى .. رجلا لونه مختلف عن لونها ودينه مختلفٌ عن دينها ,ولم يتعد رد الفعل الرافض لزواجها من بعض الأهل والجيران, سوى مصمصة الشفاه .. وتريد فتأة هنا أن تتزوج من فتىًّ من نفس المدينة فتكاد تنشب أزمة دستورية ؟!(63).. وتنهار علاقة تركي بصفية , رغم الطقس الأفريقي الناهض في الدّم . الذي أجرته لهما مومبيْ الكينية , حتى يلتقيان مهما باعد بينهما الزّمن والمسافات " صورة مومبيْ بعينيها الباكيتين, عشية سفري إلى بريطانيا , وهي تحاول أن تنتزع مني وعدا صادقا , أن أحمل معي قميصي المصبوغ بدم صفية (..) أى نوع من الأفريقيين أنتم ؟كيف لا يعني الدم لكم شيئاً. أم أنكم نسيتم كل معنى بفضل قطرات الدّم العربي التائهة في عروقكم ؟ (64)..
              ومن بين كل هذا الرِّكام, في إنهيار الإنساني, يتبدى حسين عن إصرار كبير في معرِّفة جذوره السلالية بكل ما يحيطها من غموض " لا أقدر أجزم . أنا ما كسرت أسنان اللبن وهو صبي أول ما رأيته (..) قبل داك بسنة أو سنتين أو أكثر (..) قال بعضهم جاء من جهة أم درمان (..) هل ولد فضل السيد بالشمال ؟ (..) بعدما اختفى فضل الفنجري كترت الأقتاويل والحكاوي (..) راودتني فكرة أن يكون إسم فضل السيد من إختيار قدّح اللّبن (65)..
              حركة السرد ومورفولوجيا الزّمن والإستهلال:
              تحدد حركة السرد كل العلاقات التي أشرنا إليها , بوقائع حياة أبطالها, وما وقع لهم من أحداث.. حيث تتداخل المذكرات التي كتبها حسين الرَّاوية, عن فترة حياتهم الطلابية . مع الوقائع والأحداث التي تجري, أثناء قراءة خالد التركي لهذه المذكرات , في زياراته المتكررة للطاهر الشاعر, الذي يلازم المستشفى على فراش الإحتضار .
              ومن لحظات الموت.. يبدآن معا في محاولة إسترداد, أو إستعادة الماضي, كمحاولة لطرد شبح الموت - عنهم جميعا - الذي يحاصر فراش الطاهر, أحد الشخصيات المركزِّية في هذا النّص المتميز .." أخبرني الطاهر أنك تقرأ له من وقت لآخر, مذكرات كتبها أحد أصدقاءكما أيام الجامعة (66)" .. كنت أريد أن أعرف ما صححه الشاعر من معلومات (..) قبل شهور كما ذكر لك الشاعر أعطاني الرَّاويَّة مذكراته (..) أقرأ فيها هذه الأيام تسجيلا, لأحداث تلك السنوات (67).. ووسط هذا التاريخ - المذكرات - تتضائل الصراعات السياسية, إلى محض تشظي للذات الإنسانية, ممثلة في شخصية حسين. وإنسلاخ الوعي الذي يعانيه, بإنتقاله من الرِّيف إلى المدينة .
              وخالد بهزيمته في حبه لصفية, والشاعر بقلقه وتوتره الفكري, وجُرح الهوِّية الناهض في كل هذا الرِّكام, من الأسى واللوعات ..
              الرَّوِايَّة في رحلة البحث عن هُوِّية لها داخل مجتمع ينقسم على نفسه , فيتمزق حاضره بين تقاليد ماضيه وآفاق مستقبله , بالقدر الذي تتمزق به هُوِّية هذا المجتمع . بين تراثه الذي يشدّه إلى حلم مثالي , عن عهد ذهبي للماضي , وحضارة الآخر الأجنبي, الذي يشدّه إلى حلم مثالي مناقض في وعد المستقبل . هذا البحث عن الهُوِّيَّة هو الذي جعل الرَّواية تنطلق من مفارقة التغير, التى تفصل الماضي عن الحاضر (68)..
              تبدأ الرِّواية بضمير المتكلم الفرد , وبواسطة الفعل المضارع تجري, أحداثها ووقائعها المثيرة.. حيث يتكرر فعل الرؤية والسمع المضارعين, بكثرة في الإستهلال , للتأكيد على أهمية هذه الرؤية المستمرة في الحاضر : " أرى طفلاً (..) أراه بوضوح (..) (..) أراه يتنبه (..) أراه يمشي (..) وأنا أرقبه (..) لكني أرقبه. أراه يمشي (..) أراه يضع يديه (..) أراه يلتفت مزعورا (..) ثم أسمع صوتا آخر. أُصغي (..)أرى لهبا أزرق (..) أُصغي فأسمع (..) أُصغي لكن الصوت لا يكتمل (69)..
              تعود مشكلة الزّمن في القصة, إلى الفرق بين زّمن الحكاية, وزمن القول . فبينما يسير زمن القول في خط طولي, في معظم الأحيان . نجد أن زّمن الحكاية متعدد الأبعاد . إذ يمكن في الحكاية, أن تجري حوادث مختلفة, في الوقت نفسه , لكن القول القصصي, ينبغي أن يضعها واحدة إثر الأخرى, بالضرورة , وبهذه الطريقة يعرض شكلا معقدا في خط مستقيم (70).. وهكذا يُلاحظ منذ الإستهلال , إستخدام الروائي لفعل القص المضارع . بمعنى إستمرارية الأحداث , الماضية التي يحكي عنها ..
              مع تطور الرواية الحديثة إزدادت أهمية الحاضر بالنسبة للروائي , وأدى البحث عن تجسيده, إلى تطور واضح في طريقة معالجة الزّمن في الرِّواية , وإلى محاولات إبتكار أساليب, وتقنيات جديدة للتعبير عنه, وتثبيت هذا الحاضر ومدّه (71), والحاضر المستمر يجعل الإستعانة بالماضي والذاكرة أمرا مستحيلا : الحاضر- الماضي- المستقبل : خط الزّمن حاضر/ ماضي /مستقبل.. حاضر/ ماضي /مستقبل.. حاضر ....من خلال المخطط ألذي يمكن للقاريء رسمه في خياله لتتضح له أبعاد مورفولوجيا الزّمن, في رِّواية دكتور مروان حامد الرشيد "الغنيمة والإياب" التي تبدأ بلحظة إسترجاعية حلمية . فالرّاوي ضمير المتكلم الفرد, كشخصية رؤية خارجية. لا يعرف الأحداث. مثل أى شخصية من شخصياته , بل أقل منها معرِّفة . فيكتفي بوصف ما يمكن رؤيته أو سماعه, دون أن يدخل إلى وعي, أو يتعمق في ضمير . مستفيدا من بعض الحيل التقنية السينمائية, في المشاهد الذكية الغنِّية, عن التعليق والتأويل , وعمل مونتاج محايد لها (72).
              لكن نلاحظ أنه رغم أن تقنية( الرَّوي هذه ) - رؤية الشخصية - إلا أن الرِّواية تقوم بصورة أساسية, على هيكل ذهنِّي , يستحيل فيه الزّمن إلى تيار وعي, بحيث يصعب تتبع العناصر المكوِّنة له, بمعزل عن بعضها . فالرِّاوي/ ضمير المتكلم /الفرد .. ينطلق من لحظة الإسترجاع الحلمية , وسط عالم ضبابي, وكل حواسه مشرّعة في هذا العالم, الذي يحاول تحسسه " طفل يمشي مترنحا داخل البناء الطينِّى (..) ويتحسس بأذنيه الأصوات المنبعثة من وراء الظلام (..) ثم اسمع صوتا آخر (73)ويتحسس بقدميه الطريق, خلف هذا الطفل " أمشي خلفه في إتجاه الصّوت المتوسل الباكي (74)..
              وفي حوّاس السّمع واللّمس والبصّر, ينهض إستهلال الرِّواية , ليكشف عن أبعاد هذا العالم الحُلُّمِّي موحيا - الرَّاوي - بالتعبير عن عالم الآيديولوجيا المثالي (الحُلُمَّي ) في لحظة من تاريخ السودان .. هي اللحظة التي حاول فيها اليسار الإستيلاء على السلطة, عبر الإنقلاب العسكري . وتقترِّح هذه الرِّواية ,هنا. حواراً مع عالم الصديق والروائي المهجس و الممسّوس عبد العزيز برّكة ساكن في روايته مثار الأسئلة والظنون :"الطواحين" - لتقاطع الفضاءين الزّمنيين, والحرّكة المشابهة للشخوص : يستفيق الرّاوي من هذا العالم الحلمي الى الحاضر الحقيقي .. تجحظ عيناي فأجدني سابحا في عرقي محدقا بلا بصر في ظلام الغرفة (75) ومن ثم ينهض الرّاوي المتكلم الفرد ليلحق بمواعيد زيارته, لصديقه الشاعر في المستشفى , مستخدما تقنية الإستشراف " لا أحتمل التأخير عن الثامنة, وهو يعتبر وصولي عندها شيئا مفروغا منه (76) ..
              للإستهلال وظيفة كبيرة بهذه الرِّواية, فهو لا يفسر سير القص فحسب . بل يعمل على إدخالنا في عالم مجهول , عالم الرِّواية التخيِّيِّلي بكل أبعاده .بإعطائه الخلفية العامة, لهذا العالم. والخلفية الخاصة لكل شخصية, ليستطيع ربط الخيوط والأحداث, التي ستنسج فيما بعد ..
              يعتمد الإستهلال هنا على مستويين زمنيين أساسيين : الحاضر والماضي .. وتعدد الأصوات "البلفونية" في هذا الماضي . وهكذا منذ هذه اللحظة الحاضرة, يبدأ الرّاوي بالغوص بعيدا, عبر آلية الإسترجاع في الحكي عن هذه الأصوات, مبتدءً بهذا الصديق - الطاهر , الشاعر - الذي سيزّوره . فنبدأ في التعرّف على شخصيات الرِّواية " لكنني الوحيد الذي يزّوره بإنتظام كل مساء . حتى علّوية تجبرها الظروف القاهرة للتخلّف عن الزِّيارة من وقت لآخر . حتى الرَّاوية الذي كان يكتب إليه , عن طريقي إنقطع عن الكتابة . لعله أحس بأن الشاعر لا يقرأ كتاباته , وإن أحس بالفعل , فان إحساسه صادق تماما!!! (الشاعر والرّاوية وصفية وأنا ) (77) .. فيتركز إستهلال هذه الرِّواية, في الخروج من الحلم الحاضر, إلى عرض الماضي ثم العودة إلى الحاضر, وهكذا دواليك .. مستعرضا خلال الحوار في الحاضر, والاسترجاع في الماضي: المقولات الأساسية, التي تنطلق منها الرِّواية , فنلمح الغياب الفاجع للمثقف من خلال غياب رجل الشارع وتغيِّيِّبه , حتى لكأنه لم يعد موجوداً " من هو رجل الشارع ؟ شخص حقيقي ؟ مخلوق أُسطوري ؟ أين هو الآن ؟ (78) بسبب حالة الوطن كنموذج مأزوم " تركنا الكلام في حضارة الكلام (79) لتبدأ بعد ذلك شخصية الشاعر, في التصعيد فنلمح في مرضه, تجربة العديد من الشعراء - والمناضلون السودانيون - الذين إنتهوا إلى الأمراض المزمنة والمنقرضة تاريخياً, والفقروآثار التعذيب الجسدي والنفسي !!" سمعته يخوض في لجج الذاكرة . رأيته يسبح في بحور الباطن , فكان يغضب, ويرضى. ويبكي. ويضحك. ويصالح .ويخاصم أحيانا . أسمعه يتحدث عن أشياء لم تحدث أبداً , مثلما حدث قبل أيام حين زعم أن أحداً قتل حسينا . وأن الحكم قد صدر لمصلحة صفية , لكن حسينا حي يرزق والمحكمة لم تنعقد أصلا (80).. وهكذا يسقط الرّاوي على شخصية الشاعر, مأساوية حياة سيدنا الحسين و بدر شاكر السياب , في مفارقة مهولة !معتمدا على تقنية الإيحاء " الليل يطبق مرة أخرى فتشرّبه المدينة . صوت الشاعر العراقي يأتيني عبر عقود من الزّمن . والمقبرة هنا مثل مقبرته . صارت جزء من المدينة (81)"عمياء هي المدينة والليل زاد لها عمّاها . عند زاوية المرّبع الذي يقع فيه المنزل , اتذكر رائحة الحيوان الميت (82)..
              ونلاحظ أن الرِّواية هنا أخذت من تيار الوعي تقنيته في توظيف الزّمن . فالإستهلال جزء لا يتجزأ من متن النص . وهو هنا ليس إستهلالا بالمعنّى الذي نجده في الرِّواية الواقعية . فماضي الرّاوي هنا لا يتجزأ عن حاضره , ولا ينفصل عنه . فهو منسوج في ذاكرته , ومخزون فيها . تستدعيه اللحظة الحاضرة أولا بأول , على غير نظام أو ترتيب . ولذلك لا تكتمل أحداث(الغنيمة والإياب) في تسلسلها الزّماني , سوى في نهايتها - الرِّواية - , حيث يعاد ترتيبها في مخيلتنا , فلا تظهر الأحداث الماضية, مركزة في كتلة نصّية متكاملة , لها خصائصها الفنية. ولكن نراها إنتشرت ونثّرت على النّص كله, وأصبحت مهمة تجميعها في صورة متكاملة , هي مهمتنا كقراء(83) .. وهو ما يفسر لنا إختلاط الأحداث, التي تدور في ذاكرة الرّاوي , بالأحداث التي يكتبها في الرِّواية : مذكرات الرِّاوية .. تستهلك الإفتتاحية فصلا كاملاً (ضمير المتكلم الفرد ), حيث الرًّاوي المتكلم بضمير الأنا ( أحد شخصيات الرِّواية = خالد التركي ) يلي ذلك فصل :( من أوراق الرِّواية= مذكرات حسين الرَّاوية ) ثم عودة مرة أخرى إلى ذاكرة المتكلم . ليبدأ الفصل الرابع في عرض تفاصيل كل شخصية- إشتملت عليها ذاكرة المتكلم (الرّاوي) ومذكرات صديقه حسين - إلى أن تنتهي فصول الرِّواية . ومنذ الفصل الرابع, نبدأ في التعرُّف على مسيرة حياة الطاهر الشاعر( الشخصية المركزية) في النص .. وكذلك الشخصيات المركزِّية الأخرى , فهو نص يتميز بتعدد الأصوات السردية(البلوفونية) .. ليعيدنا بين آن وآخر - الرَّاوي - إلى ذاكرته . ليحدد لنا شخصيته ليس كسارد للأحداث فحسب , وإنما كأحد ابطالها الأساسيين حيث يحاول الرّاوي - خالد التركي - إستعادة الماضي , فيكتشف أن ذلك غير ممكن " لا أحد يستعيد الماضي . هذا واضح بالنسبة لي الآن . أعرف أكثر من أى وقت مضى, أن هذه هي الحقيقة . الماضي ليس نقطة بعينها, أو لحظات محددة (84) .. وينعتق الرّاوي من ماضيه, المثقل بالمرارات وحبه الأسطوري ( لصفية ) بعلاقته بسارة التي يرّى فيها وجه حبيبته ( صفية) , كأنه آت من بعيد "تفلت منها ضحكة تطرق الأذن المتنبهة , لكأنها إستجابة من زمان ومكان غابرين . كأنها نداء أقدم بقرون طويلة , من صاحبته الحالية. لكن صاحبة الضحكة تستجمع شتات ذاتها ,في أعقاب النداء البدائي .ثم تقرِّب يديها من وجهها حتى تحجبه عني ,خلا الجبهة والعينين (85) " إن صديقتكما خلطت قليلا من دمك ,بقليل من دمها. ثم أجرت طقوسا تعويذية على الخليط, ثم نقطته في قميص لك وثوب لها ,وأخذتما العهد وكلما شرع أحدكما في .. قصدي إذا أتيح لأحدكما أن يفكر في خيانة العهد , تذكرّه رائحة دّم الآخر (86)" قالوا أنك حطمت قلبها . تنكرت للعهد وتزوجت خواجية . قالوا أن إحدى بنات أهلك - بنت أحد أعمامك - أرسلت لها صورة الخواجية بالبريد , وأخبرتها في الرِّسالة أنها زوجتك , وطلبت منها أن تتركك وشأنك . سمعت من بعض زميلاتي أنك فعلت ذلك - قصدي الزّواج من إمرأة إنجليزية - لتبطل العهد , عهد الدّم, وأنك بالفعل طلقت الإنجليزية بعد مدّة قصيرة . بعد ما أدت الغرض . لا أدري كيف ..؟ (87)...
              وتقيم هذه الرِّواية هنا حوارا مع رواية سحر خليفة " عباد الشمس" , من حيث موقع الرّاوي .. إذ تتميز هي الأخرى بتعدد الأصوات .ولا ينفرد فيها شخص واحد بالبطولة . وهو ما تطلق عليه يمنى العيد " ديموقراطية التعبير الفني "..
              ورواية الغنيمة والإياب , بمثابة قصة عن الحب, أكثر من كونها قصة حب - , تذكرنا باسطوريته- الحب - في الزّمن الذي مضى. أنها بقايا من الحزن والوجع القديم , علِّقت بقلب خالد التركي, فأحالت حياته الضجرة إلى نظرة رانية للغد .تشتاق مواصلة الحياة, رغم كل شيء ..
              الغنيمة والإياب تتخطى مائة عام من الكوليرا بأنها ليست فحسب رواية عن الحب, أحالت عالم هؤلاء الأصدقاء القدامى إلى عالم مستمر كأنه البارحة , وكأن تلك السنوات لم تمض ابدا .. بل لأنها أستصحبت كل ما يؤرقنا وطنيا وإقليميا ودوليا ..
              [mark=#FFFFCC]
              الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
              كي يسمى في القواميس بكاء ..
              الصادق الرضي
              [/mark]

              تعليق

              • أحمد ضحية
                أديب وكاتب
                • 10-05-2010
                • 121

                #8
                (1) كتابات سودانية . " كتاب غيردوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد الثاني والعشرون . ديسمبر 2002 . ص :82
                (2) كلود ليفي شيتراوس . الأسطورة والمعنّى . ترجمة صبحي حديدي . دار الحوار طبعة أولى 1985. ص:18
                (3) إبراهيم إسحق . وبال في كلمندو(رواية) .مركز الدراسات السودانية 2001.
                (4) إبراهيم إسحق . مهرجان المدرسة القديمة .إدارة النشر الثقافي .طبعة أولى1976 . (5)إأبراهيم اسحق . أخبار البنت مياكايا. مركز الدراسات السودانية . 2001.
                (6) السابق . ص 17
                (7) السابق ص :5
                (8) نفسه ص : 6
                (9) كتابات سودانية . مرجع سابق . ص :73
                (10) إبراهيم إسحق ." مرجع سابق " . ص 9
                (11) كتابات سودانية مرجع سابق . ص :95
                (12) ابراهيم اسحق .مرجع سابق .. ص : 63
                (13) مجلة ابداع . العدد العاشر اكتوبر 1997. ص 54
                (14)ابراهيم اسحق مرجع سابق .. ص 13
                (15) محمود محمد مدني . جابر الطوربيد المسار . الشارقة الطبعة الاولى 1984.
                (16) غالي شكري . معنى المأساة في الرواية العربية . الافاق الجديدة بيروت .ص :17. (17) سعيد علوش . الرواية والايديولوجيا في المغرب العربي .الكلمة بيروت ص : 10
                (18) نفسه . (19) غالي شكري " مرجع سابق " . ص : 111. (20)نفسه . ص : 118 (21) محمود محمد مدني . مرجع سابق . ص : 10 .
                (23) غالي شكري . مرجع سابق . ص : 154.
                (24) محمود محمد مدني . مرجع سابق . ص : 28 .
                (25) السابق . ص : 28.
                (26) نفسه . ص : 3 .
                (27) نفسه . ص : 77
                (28) غالي شكري " مرجع سابق " ص . 153.
                (29) السابق . ص 111
                (30) هبرماس . القول الفلسفي للحداثة . ترجمة فاطمة الجيوشي. دمشق 1995 ص : 110 . (31)غالي شكري " مرجع سابق " . ص : 111.
                (32) محمود محمد مدني " مرجع سابق " ص : 7 . (33) السابق . ص : 7
                (34) محمود محمد مدني . رواية الدم في نخاع الوردة . النادي الادبي السوداني بابوظبي . 2000
                (35) السابق . ص : 34.
                (36) نفسه ص : 61.
                (37) مختار عجوبة . عندما يهتز جبل البركل. " مجموعة قصصية " . مركز الدراسات السودانية .2002.
                (38) مختار عجوبة . القصة الحديثة في السودان . مركز الدراسات السودانية . طبعة ثانية 2002.
                (39) معاوية البلال . الشكل والمأساة . الشركة العالمية للطباعة والنشر .
                (40) د . صلاح فضل . البنائية في النقد الادبي . ص : 312
                (41) كتابات سودانية .العدد الثاني والعشرون . ديسمبر 2002 ص : 83
                (42) مختار عجوبة . عندما يهتز جبل البركل . ص : 16
                (43 ) مختار عجوبة . صالح الجبل . " رواية ". مركز الدراسات السودانية . 2002 ص : 52
                (44) د . عبد الرزاق عيد . محمد جمال باروت . الرواية والتاريخ . " دراسة في مدارات الشرق " دار الحوار طبعة اولى 1991. ص : 71
                (45) فرانسيس دينق . رواية بذرة الخلاص . مركز الدراسات السودانية . ص : 8 .
                (46) السابق . ص : 8 .
                (47) نفسه ص : 7
                (48) نفسه ص : 183
                (26) نفسه . ص : 35
                (27) نفسه ص : 47
                (49) دكتور جابر عصفور . زمن الرواية .مهرجان القراءة 2000 ص : 17.
                (50) دكتور مروان حامد الرشيد . رواية الغنيمة والاياب . دار قضايا فكرية للنشر والتوزيع . الطبعة الاولى 1995. ص :242
                (51) السابق ص : 290 .
                (52) نفسه ص : 220.
                (53)كتابات سودانية " كتاب غير دوري" مركز الدراسات السودانية. العدد 22 _ ديسمبر2002 ص : 75
                (54) السابق . ص : 78
                (55)د . مروان حامد الرشيد " مرجع سابق " ص : 41
                (56)نفسه ص : 48 - 49 – 210
                (57) نفسه ص : 85 - 86 – 89
                (58) نفسه ص : 104
                (59) نفسه 107
                (60) نفسه ص : 120
                (61) نفسه ص : 123
                (62) نفسه ص : 235
                (63) نفسه . ص : 244.
                (64) 287 - 290
                (65) نفسه . ص : 236.
                (66) نفسه ص : 238.
                (67) دكتور جابر عصفور " السابق " ص : 37.
                (68) مروان حامد الرشيد " مرجع سابق " ص : 9.
                (69) د صلاح فضل . نظرية البنائية في النقد الادبي .مهرجان القراءة 2003. ص : 282. (70) دكتورة . سيزا قاسم .بناء الرواية " دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ" مهرجان القراءة 2004. ص : 40.
                (71) د ز صلاح فضل " مرجع سابق" ص: 292 (72) مروان حامد الرشيد " مرجع سابق" . ص : 9
                (73) نفسه . ص : 10
                (74) نفسه . ص : 10 .
                (75) نفسه ص : 11.
                (76) نفسه ص : 11.
                (77) نفسه . ص : 20
                (78) نفسه ص : 21.
                (79) نفسه . ص : 22.
                (80) نفسه . ص : 33.
                (81) نفسه ص : 34.
                (82) دز سيزا قاسم " مرجع سابق " ص : 46.
                (83) مروان حامد الرشيد " مرجع سابق" . ص : 251. (84) نفسه . ص : 243.
                (85) نفسه . ص : 246.
                (86) نفسه ص : 249.
                (87) حسين عيد . جارسيا ماركيز وأفول الديكتاتورية ." دراسة في خريف البطريرك" . الهيئة المصرية العامة 1988. ص : 23
                (88) السابق .)
                [mark=#FFFFCC]
                الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                كي يسمى في القواميس بكاء ..
                الصادق الرضي
                [/mark]

                تعليق

                • صادق حمزة منذر
                  الأخطل الأخير
                  مدير لجنة التنظيم والإدارة
                  • 12-11-2009
                  • 2944

                  #9
                  [align=center]
                  حياك الله أخي أحمد

                  بوركت وعوفيت .. بحث مبدع ومقاربة نقدية متألقة جديرة بالمتابعة والقراءة
                  تلقي الضوء على المزيد من الأعمال والكتاب السودانيين ..
                  وكان لنا الفائدة والمتعة في متابعتك خلال هذا البحث المهم والمفيد .. وأتمنى أن يستفيد منه أكبر عدد ممكن من الأخوات والأخوة الأعضاء ..
                  أحييك ثانية وأنتظر منك المزيد من البحوث والرؤى النقدية المميزة ..

                  وأثبت الموضوع

                  تقديري واحترامي لك


                  [/align]




                  تعليق

                  • أحمد ضحية
                    أديب وكاتب
                    • 10-05-2010
                    • 121

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة صادق حمزة منذر مشاهدة المشاركة
                    [align=center]
                    حياك الله أخي أحمد

                    بوركت وعوفيت .. بحث مبدع ومقاربة نقدية متألقة جديرة بالمتابعة والقراءة
                    تلقي الضوء على المزيد من الأعمال والكتاب السودانيين ..
                    وكان لنا الفائدة والمتعة في متابعتك خلال هذا البحث المهم والمفيد .. وأتمنى أن يستفيد منه أكبر عدد ممكن من الأخوات والأخوة الأعضاء ..
                    أحييك ثانية وأنتظر منك المزيد من البحوث والرؤى النقدية المميزة ..

                    وأثبت الموضوع
                    تقديري واحترامي لك
                    [/align]
                    تحياتي استاذي وأخي وصديقي صادق ...
                    فقد أنفقت اكثر من ثلاثة ساعات لأعبر لك عن جميل معارفك المندمج فيما تخللته كتاباتك وتقريظاتك للآخرين - لكأنني أرى صنوي - ولكن للأسف لسبب لا أعلمه ذهب ما كتبته ادراج الرياح كأن شيئا لم يكن ..
                    أشكرك كثيرا ..
                    لك كل الحب
                    كل الود
                    كل التقديرإلى أن نلتقي قريبا جدا ..
                    أحمد
                    [mark=#FFFFCC]
                    الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                    كي يسمى في القواميس بكاء ..
                    الصادق الرضي
                    [/mark]

                    تعليق

                    يعمل...
                    X