قصيدة النثر.. وما أدراك ما هيه؟!الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيْـفي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    قصيدة النثر.. وما أدراك ما هيه؟!الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيْـفي

    قصيدة النثر.. وما أدراك ما هيه؟!


    بقلم: الأستاذ الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيْـفي

    في جدليّاتنا الأدبيّة ثمّة إشكاليّة مزمنة- إزمان قضيّة فلسطين، أو بالأحرى إزمان قضيّة تصريف مياه الأمطار في مدينة الرياض!- هي الخلط في وادٍ واحد بين طَرب الشِّعريّة وطَرب الشِّعر، بوصفه جنسًا أدبيًّا ذا هويّة. ولهذا كثيرًا ما تستدرجنا شِعريّات أخرى، تثقل كاهل الشِّعر، وليست منه. ولقد فَطِن القدماء من النقّاد إلى هذا المنزلق، فنَفوا أن يكون شَرَف المعنى معيارًا لجودة الشِّعر؛ فالمعاني مطروحة في الطريق، حسب (الجاحظ، -868م)(1)، في قوله المشهور: "وذهب الشَّيخُ إلى استحسانِ المعنى، والمعاني مطروحةٌ في الطريق، يعرفها العجميُّ والعربيُّ، والبدويُّ والقرَوي، والمدنيّ، وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن، وتخيُّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحَّة الطبع، وجَودَة السَّبك، فإنما الشعر صناعةٌ، وضَرْب من النَّسج، وجنسٌ من التَّصوير." وعقّب (عبدالقاهر الجرجاني، -1078/ 1081م)(2) على ذلك بقوله: "واعلم أنهم لم يَعيبوا تقديمَ الكلام بمعناه من حيث جَهلوا أن المعنى إذا كان أدبًا وحكمةً، وكان غريبًا نادرًا، فهو أشرف ممّا ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان مِن حُكم مَن قَضَى في جنس من الأجناس بفضلٍ أو نقصٍ، أن لا يَعتبر في قضيّته تلك إلاّ الأوصاف التي تخُصّ ذلك الجنس، وترجع إلى حقيقته، وأن لا ينظر فيها إلى جنسٍ آخر، وإن كان من الأوّل بسبيل، أو متّصلاً به اتّصال ما لا ينفكّ منه. ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفِضّة والذهب يصاغ منهما خاتمٌ أو سوار. فكما أن مُحالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفِضّة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة، كذلك مُحال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزيّة في الكلام أن تنظر في مجرّد معناه. وكما أنّا لو فضّلنا خاتمًا على خاتمٍ، بأن تكون فِضّة هذا أجود، أو فَصُّه أنفس، لم يكن ذلك تفضيلاً له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتًا على بيت من أجل معناه، أن لا يكون ذلك تفضيلاً له من حيث هو شِعرٌ وكلام. وهذا قاطعٌ فاعرفه."
    وفي هذا المروّج له من الشِّعر (اللا شِعر) في العصر الحديث، كتابة وتنظيرًا، استسهالٌ، لم يسبق له مثيل، للقيمة الشِّعريّة، وتبسيطٌ مطلق لعمليّتي الإنشاء والتلقّي، وخلطٌ بين مفهوم (الشِّعريّة) و(جنس الشِّعر)، بوصف الأخير نوعًا ذا خصائص، لا يمكن أن يكون مقبولاً الحُكم بتحقّقه هكذا استنادًا إلى محض الاستحسان والطَّرَب. والاستحسان والطَّرَب شعوران تتولّد منهما بشِعريّة النثر ألوان شتّى. وهما شعوران يتفاوت الناس فيهما، كما بيّن (بشّار بن بُرد) منذ القِدَم، في قِصّة أبياته لجارته ربابة، ذات البيض والدجاج، مقابل أبياته لأعرابي أو حضري.. لكنهما شعوران لا يكفيان بحال في الحُكم النقديّ. وهذا ما ألمح إليه (ابن حمدون، -1167م) في "التذكرة الحمدونيّة"، ناقدًا احتجاج بشّار. إن التلقّي عالمٌ لا يُرتكنُ إليه بإطلاق في تحديد المستويات الأدبيّة ناهيك عن تحديد الماهيّات الأدبيّة.
    وبذا فإن حركات التجديد والتجاوز وتوسيع تخوم فنّ من الفنون لا تعني بحال من الأحوال نسف قواعد ذلك الفنّ وأصوله. فلكلّ فنٍّ من ذلك ما يحفظ عليه هويّته، حتى في فنون اللَّعِب المحض، وإلاّ لم تَعُد لُعبةٌ ذاتَ استقلالٍ عن الأخرى أو تميّزٍ عنها. وعليه، فلئن صحّ القول إن الشِّعر نوعٌ من اللَّعِب بالكلمات، بمفهوم اللَّعِب لدى الفيلسوف الألماني (جَدامِرGadamer ، - 2002)، أي في إطار المعنى الفنّي والجماليّ، فإن لكلّ (لُعبة) أصولها، وإلاّ أصبحت (عَبَثًا)، لا (لَعِبًا)(3). وما خلْط الشِّعر بالنثر، إذن، والتخلّي عن قواعد القصيدة النوعيّة وأركان بنائها، من التجديد في شيء، بل هو العَبَث، والتلهِّي بالكلمات، في استخفاف بالشِّعر والمتلقِّي معًا.
    أن "يشهق الجميع: هذا شِعر؛ لأن قوّة الشِّعريّة فيه"- كما يصوّر محمود درويش في الذكرى الأربعين لرحيل محمّد الماغوط، المقامة احتفاليّتها في دار الأوبرا، دمشق، كما جاء في (صحيفة "الحياة"، 23/ 5/ 2006)- ذلك لا يعني أنه قد بات: شِعرًا، بمعنى الجنس الأدبيّ المخصوص. ولطالما يقع الخلط هنا بين قيام (الشِّعريّة) في النصّ، وبين كونه من ذلك الجنس الأدبيّ المصطلح عليه- منذ آدم إلى الآن- باسم "شِعر". قصارَى ما يعنيه أنه: نثرٌ شاعريّ، جميلٌ مثير، شهقوا لحضوره، كما شهق مَن قبلهم، وتواجد، وفَنِيَ؛ لقوّة الشِّعريّة الصارخة في إشراقات الصوفيّة أو غيرهم ممّن استعملوا اللغة على ذلك النحو. و"الشَّهقة" عمليّة نسبيّة، وهي بحسب الشاهق، وليست في النهاية بمعيار الشِّعر بالضرورة- بوصفه جنسًا أدبيًّا- إلاّ لدى شاعر تورّط في مقامٍ تأبينيّ!
    إن "الشَّهقة" قد تنشأ عن تلقّي النثر أحيانًا أكثر من الشِّعر. ولكنه احتقار النثر الأزليّ، الذي لا يرى النثر جديرًا حتى بشَهقة. أمّا المنطق المبتذل، الذاهب إلى: أنه ما دامت قصيدة الوزن تعاني الفوضى والركاكة وتشابه الرمال، فكلّ الفوضى والركاكة وتشابه الرمال مغتفرة لقصيدة النثر، بل إن هذا دليل على أن قصيدة النثر هي قصيدة شِعر-- وكأن الفوضى والركاكة وتشابه الرمال خصائص نثريّة، فإذا انتفت في نصّ، كنصوص الماغوط- بحسب زعم درويش- فقد استحقّ النصّ أن يسمّى شِعرًا-- أمّا منطقٌ فوضويٌّ كهذا، فخَلْطٌ، وتلاعب، وفهلوةٌ شِعريّة درويشيّة، تُطرب، لكنه لا يستقيم بها منطق فنّيّ. نعم "نحن القراء لا نبحث في القصيدة إلاّ عن الشِّعر"، ولكن قصيدة النثر ليست شِعرًا أصلاً، ولا تطويرًا للشِّعر، ولا تجديدًا فيه. وإنما هي نثر، واسمها (قصيدة نثر) لا (قصيدة شِعر). فكيف يُجَدَّد الشِّعرُ عبر النثر؟! إن غلاة المتعصبين لقصيدة النثر واقعون في ورطة المصطلح نفسه، الذي كان عليه مأخذٌ في ما مضى لأنه مصطلح أعرج، وعرجه يتعلّق بصدره، "قصيدة"، ثم هم اليوم لم يعودوا يعترفون بتلفيق المصطلح من مفردتين ذاتَي دلالتين متنافرتين، بل اشرأب مسعاهم الفوضويّ إلى إنكار عجزه: "نثر"، ليُسقطوا هذا المضاف إليه؛ كي يسمّوا هذا النوع من النصوص"قصيدة شِعر"، لا "قصيدة نثر"! وهذا تطوّر سافر الافتراء، اصطلاحيًّا ونوعيًّا معًا؛ من حيث هم لم يعودوا يحترمون الدلالة اللغويّة لكلمة "نثر"؛ بل يطمحون إلى غسل تلك الدلالة من العقول والذائقة، ليقولوا إن "النثر" لم يعد يعني "النثر"، بل صار يعني "الشِّعر"، ولا شيء غير الشِّعر. وهي هلوسة مصطلحيّة لغويّة، لم تَعُد تستهدف الجنس الأدبيّ بل تستهدف الدلالات اللغويّة. وهكذا لم يُكتف بالتضليل المصطلحيّ، ولا بالتزييف النظريّ، ولا بالهرطقة النقديّة، ولا بالاضطراب الذوقيّ، إنتاجًا وحُكمًا، وإنما وصلنا إلى درجة العَبَث اللغويّ لتمرير أيّ شيءٍ باسم شيءٍ آخر، عن طريق استخدام المفردات اللغويّة بنقائض معانيها!
    بل من يملك البرهنة العِلميّة التاريخيّة على أن قصيدة النثر- عند التمحيص- تطويرٌ للنثر العربيّ نفسه أو تجديد فيه، فضلاً عن أن يكون فيها أيّ ابتكار؟! ذلك أن نماذجها كانت موجودة منذ أكثر من ألف عام، أي منذ العصر العباسيّ! غير أن هناك من لا يقرأ التراث، ولا يعرف التراث، وذلك شأنه؛ فإذا هو يظنّ أن الأدب العربيّ لم يولد إلاّ على يديه الكريمتين ومن بنات كلماته! وليس العجب من هؤلاء، فهم من أهل الأعذار، لكن العجب كلّ العجب ممّن هو على اطّلاع على التراث النثريّ العربيّ ومع ذلك يزعم أن قصيدة النثر تجربةٌ جديدةٌ وُلدت في القرن العشرين! كأنه لم يقرأ مثلاً لدى المتصوّفة أو غيرهم ما كانوا يسمّونه: المواقف، أو المخاطبات، أو المناجيات، أو الخواطر، أو الإشراقات! وهي قِطَع من الكتابات أروع أدبيّةً، وأعمق رمزيّةً، وأشعر نسجًا، وأبلغ لغةً، بما لا يقاس من كتابات هؤلاء المتهوّكين الجُدد، التي تغلب عليها الركاكة والجهل بأبجديّات اللغة والتعبير العربيّ السليم. إن جديدهم لا يعدو إذن الجرأة على الادّعاء، ونزق التخليط في المصطلح، والاستخفاف الذهنيّ والفنّي معًا، زعمًا بأن النثر قد بات تجديدًا في الشِّعر!


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) (1965)، الحيوان، تح. عبد السلام محمّد هارون (مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 3: 131- 132.
    (2) (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه: أبو فهر محمود محمّد شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 254- 255.
    (3) يمكن في هذا الاطلاع على كتاب: سلطان، فارغا، (يونيو 2010)، الألعاب في النظريّة الأدبيّة، ترجمة: عثمان الجبالي، (الرياض: كتاب المجلّة العربيّة).


    aalfaify@yahoo.com


    .................................................. ..................................................

    * "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 13 جمادى الآخرة 1431هـ= 27 مايو 2010م، العدد312، ص10.
    http://www.mhammed-jabri.net/
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    #2
    [align=center]ما القصيدة ؟[/align]


    [align=center]بقلم: الأستاذ الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيْـفي [/align]
    [align=right]








    تَحْدث في جدليّات (قصيدة النثر) مغالطاتٌ تستهدف إلغاء معنى كلمة "نثر" من هذا المصطلح، للقول إن ما كان يُسمّى- سابقًا- "نثرًا" أصبح اليوم يعني في اللغة والأدب: "شِعرًا"! غير أن التساؤل لمن يقول بهذا هو عن القسم الآخر أيضًا من هذا المصطلح الأكذوبة، وهو كلمة "قصيدة".. أين "القصيدة" أصلاً في تلك النصوص؟
    هل فكّر هؤلاء في معنى كلمة "قصيدة" هاهنا؟
    لو فعلوا لأدركوا أن ما يُسمّى "قصيدة النثر" لا يمكن أن يُسمّى "قصيدة" أصلاً؛ لأن معنى "قصيدة" منتفٍ عنه لغويًّا، ناهيك عن انتفائه فنّيًّا.
    إن "القصيدة" لم تسمّ بهذا الاسم في اللغة العربيّة- ولغير العربيّة ما لها- إلاّ لأن النصّ "مقصّد"، أي منغّم، منظّم، مرتّل في وحدات موسيقيّة، وفي وزن مستقيم، أو ما أطلق عليه الخليلُ: بحر. ذلك لأن من معاني "القَصْد: استقامة الطريق... وطريقٌ قاصد: سهلٌ مستقيم... والقَصْدُ: العَدْل... وهو الوسط بين الطرفين... والقَصْدُ: الاعتمادُ، والأَمُّ... [روي أن الرسولَ، عليه السلام] كان أَبيضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا؛ [وقيل: معنى المقصَّد] أَنه كان رَبْعة بين الرجلين، وكلُّ بَيْن مستوٍ غيرِ مُشْرفٍ ولا ناقِص فهو قَصْد... وقال الليث: المقصَّد من الرجال الذي ليس بجسيم ولا قصير، وقد يُستعمل هذا النعت في غير الرجال أَيضًا... والقَصِيدُ من الشِّعْر: ما تمَّ شطر أَبياته، وفي التهذيب: شطرا بنيته، سُمّي بذلك لكماله وصحّة وزنه. وقال ابن جني: سُمّي قصيدًا لأَنه قُصِدَ، واعتُمِدَ، وإِن كان ما قَصُر منه واضطرب بناؤُه، نحو الرَّمَل والرَّجَز، شِعرًا مرادًا مقصودًا، وذلك أَن ما تمَّ من الشِّعْر وتوفّر آثَرُ عندهم، وأَشَدُّ تقدّمًا في أَنفسهم، ممّا قَصُر واختلَّ، فسَمَّوا ما طال ووَفَرَ قَصِيدًا، أَي مُرادًا مقصودًا، وإِن كان الرَّمَل والرَّجَز أَيضًا مرادَين مقصودَين. والجمع قصائد، وربما قالوا: قَصِيدة [كذا! والصواب: قَصِيْد.]... وقيل: سُمِّي قَصِيْدًا لأَن قائله احتفل له، فنقّحه باللفظ الجيِّد والمعنى المختار، وأَصله من القَصِيْد، وهو المُخُّ السمين، الذي يَتَقَصَّد، أَي يتكسّر لِسِمَنِه، وضِدّه: الرِّيرُ، والرَّارُ، وهو المُخُّ السائل الذائب، الذي يَمِيعُ كالماء ولا يتَقَصَّد، والعرب تستعير السَّمينَ في الكلام الفصيح، فتقول: هذا كلامٌ سمين، أي جيّد. وقالوا: شِعرٌ قُصِّدَ، إذا نُقِّحَ وجُوِّدَ وهُذِّبَ. وقيل: سُمّي الشِّعْرُ التامُّ قصيدًا لأَن قائله جعله من باله، فَقَصَدَ له قَصْدًا، ولم يَحْتَسِه حَسْيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل رَوَّى فيه خاطره، واجتهد في تجويده، ولم يقتَضِبْه اقتضابًا، فهو فعيل من القَصْد، وهو الأَمُّ... ابن بُزُرج: أَقصَدَ الشاعرُ، وأَرْملَ، وأَهْزَجَ، وأَرْجَزَ، من القصيد، والرَّمَل، والهَزَج، والرَّجَزِ... وقال أَبو الحسن الأَخفش: وممّا لا يكاد يوجد في الشِّعر البيتان المُوطَآن ليس بينهما بيت، والبيتان المُوطَآن [كذا!]، وليست القصيدة إِلا ثلاثة أَبيات. فجعل القصيدة ما كان على ثلاثة أَبيات. قال ابن جنّي: وفي هذا القول من الأَخفش جواز، وذلك لتسميته ما كان على ثلاثة أَبيات قصيدة. قال: والذي في العادة أَن يُسمّى ما كان على ثلاثة أَبيات أَو عشرة أَو خمسة عشر: قطعة، فأَمّا ما زاد على ذلك فإِنما تسمّيه العرب قصيدة. وقال الأَخفش: القصيد من الشِّعر هو: الطويل، والبسيط التامّ، والكامل التامّ، والمديد التامّ، والوافر التامّ، والرجز التامّ، والخفيف التامّ، وهو كلّ ما تغنّى به الركبان. قال: ولم نسمعهم يتغنّون بالخفيف؛ ومعنى قوله المديد التامُّ والوافر التامّ يريد أَتمّ ما جاء منها في الاستعمال، أَعني الضربين الأَوّلين منها، فأَما أَن يجيئا على أَصل وضعهما في دائرتيهما فذلك مرفوض مُطَّرَحٌ."(1) قلتُ: وواضح أن معنى قوله "التامّ" هاهنا ما يقابل "المجزوء" من كلّ بحر، كأنما المجزوء لا يُعَدّ قصيدًا.
    فعلى هذا فإن ما ليس فيه من الكلام وحدات نغميّة تتقصّد فليس بقصيدٍ البتّة، وعلى أرباب قصيدة النثر، إذن، أن يبحثوا عن لفظٍ آخر غير "قصيدة"، مثلما ألغوا من قبل كلمة "شِعر" واستعملوا "نثر". وهذا ما فعله النقد العربيّ القديم حين سمّى هذا الشكل من الكلام: "الأقاويل الشِّعريّة"؛ لأن "النثيرة" هي: "رِيرٌ" لغويّ، أو "رارٌ"، أي سائلة ذائبة مائعة كالماء، لا تتقصَّد. ولذا فإن دلالة "قصيدة نثر" تشير ببساطة إلى: "نصٍّ موزون.. غير موزون"، أو "قصيدة.. لا قصيدة". ولا معنى لهذا الهراء، لا عقلاً، ولا ذوقًا، ولا لغة، إلاّ كـ"نثر.. الذي يعني: شِعرًا، أو شِعر الذي يعني نثرًا"!
    إنه اسم متضارب، متناقض، مريض في ذاته، فضلاً عن طبيعة النصّ نفسه الذي سُمّي به. وهو صورة لاضطرابٍ ذهنيّ ومفاهيميّ وذوقيّ ولغويّ، ولاختلالٍ عقليّ ولوثةٍ معرفيّة، بدأت منذ تلك النصوص الفرنسيّة التخريبيّة لكلّ الأبنية، لغويّةً ونوعيّة. وقد كانت هذه "البكتيريا" النوعيّة بالأمس كامنةً في قطاعٍ هامشيّ من الأدب، ذي أبعاد فوضويّة تدميريّة، كما تحدثت (سوزان برنار) في كتابها "قصيدة النثر"، الذي تخلص- في آخر سطرٍ منه- إلى أن قصيدة النثر ليست بتجديد للشكل الشِّعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان ضدّ مصيره.(2) ثم تفشّت من بعد إلى جسد النقد الأدبيّ، فاكتسبت الشرعيّة، بل راحت تُقصي أيّ مقاومة أو ممانعة أو مناعة مكتسبة.
    وبناء عليه، فإن صفة "قصيدة" تنتفي عن قصيدة النثر، واستخدام هذه الكلمة فيها هو محض لغوٍ، لا يعني شيئًا. وأمّا الاتكاء على المجازات التعبيريّة والتهويمات الدلاليّة فمتروك لحالات الشِّعريّة، ولا موقع له من النقد. غير أن بلوانا أن قد أصبح النقّاد شعراء والشعراء نُقّادًا. وذاك عبثٌ يحول بين حلم النقد الأدبيّ أن يقترب من العِلم، وأن تكون له وظيفته، وذلك حين يتحوّل النقد بدوره إلى شِعر منثور، أو عاطفيّات، وتحزّبات، ينفر من منطق العقل، وقوانين اللغة، ومعايير العِلم؛ لأنها تَحْرِمه الأهواء، ونعمة المجاملات، وتحاصر أمزجته، وتحول دون عاطفيّاته.
    إنما الأفن الأكبر في هذا المخاض كلّه أن يُحصر الإبداع في قمقم جنسٍ أدبيٍّ عتيقٍ واحد، وأن تُحشر كلّ شِعريّة، وكلّ موهبةٍ خلاّبة، مثيرةٍ للشهقات، في قائمةٍ واحدة وحيدة، هي: (قائمة الشِّعر). هذا هو التصنيف القاتل للمواهب والإنجازات الإبداعيّة، الذي يتّهم به عشّاق قصيدة النثر من يُخرجها من الشِّعر، وهم الذين يمارسون التصنيف والتحديد والحجر على أنفسهم بأنفسهم وعلى أحبّتهم، بامتيازٍ لا تتمتّع به إلا أكثر العقول انغلاقًا، حين يسوقون تلك النصوص، ويسوقون أربابها، سوقًا إلى حضيرة الشِّعر وقطعان الشعراء. ذلك أن من حقّ قصيدة النثر- بقطع النظر عن دلالة المصطلح- أن تنماز عن الشِّعر، لا أن تنحبس فيه. ولكن ما العمل في عقلية القطيع؟ لن يطمئن كُتّاب قصيدة النثر إلاّ إذا انضمّوا إلى قطيع الشعراء، وانضووا تحت لوائهم القديم، ومُنحوا هويّتهم الفاتنة، ظانّين أن ذلك تحقّقهم، وما هو في الواقع إلاّ ضياع منجزهم واختطاف هويّته النوعيّة. وتلك هي فضيحة نقدنا، بعد فضيحة شِعرنا!
    نعم، قد أبدو في بعض ما أكتب في هذه المساقات مغرّدًا خارج السِّرب اليوم. ومن لا يغرّد خارج السِّرب فليس بطائرٍ غرّيد. وسِرب اليوم في معظمه سِرب جراد، على كلّ حال، لا غناء هناك ولا اخضرار. ولكن مهما يكن من شيء، فإن عزائي يأتي من قرّاء نوعيّين، يتفاعلون أو يختلفون بشرف. في حين يُصدم المرء في آخرين، كان يُجلّهم، فإذا هم لا يحتملون الرأي ولا النقد ولا الاختلاف، فينقلبون على أعقابهم كيوم ولدتهم قبائلهم، سُكارى بحميّاتهم ونوباتهم العصبيّة.
    ومن تلك التفاعلات الكريمة، التي أعتزّ بها، تلك الرسالة التي وردتني من الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي، حول أحد المساقات الشائكة:
    ....................................
    العزيز الدكتور ابن فيفاء الغنَّاء
    سلام الله عليك..
    اللغة الواضحة ضيّعتها الفضائيّات أوّلاً، وضيّعها المشتغلون فيها، وضيّعها من يكتب أو يعلّق في المواقع المتناقضة المختلفة، فلا لغة ولا نحو ولا تعبير؛ لأن ظلام التفكير، وافتقار الوضوح، وقلّة المخزون، تسيطر على كلّ هؤلاء. ومِن ثَمَّ فإن حربًا شعواء تقوم ضِدّ هذه اللغة، وضِدّ أهلها، في الإعلام بصنوفه المتناقضة والمتباينة.. فسلام عليك وعلى حرصك القويم على لغتنا الجميلة.
    أخوك: الدكتور قاسم السامرائي - هولندا


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) ابن منظور، لسان العرب المحيط، (قصد).
    (2) يُنظر: (1993)، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، مراجعة: علي جواد الطاهر (بغداد: دار المأمون)، 288. [/align]

    aalfaify@yahoo.com


    .................................................. .....
    http://www.mhammed-jabri.net/

    تعليق

    يعمل...
    X