يصعد التلة الصغيرة مختالا، مطمئنا، يزحف ببطء كقطار يدنو من محطة ،يرفع رأسه قليلا يعلن حضوره ،يراها ملتحفة أسمالها ،مستكينة في ظل الجدار الواطئ بين نافذة وشجرة مشمش مثقلة،يواصل زحفه غير مبال ،لم يكن ضالا ولا تائها،إنه يعرف وجهته تماما.. يعرف مداخلها ومنافذها،يتوقف مرة أخرى يمدّ لسانه متراقصا في الفضاء ،يتعرّف روائح المحيط ، ترتعش فرائصها وهويفعل..وهو يقترب،ثمّ يستدير قليلا نحو اليمين ،يواصل زحفه متسلقا الجدار ،يلقي برأسه في ثقب النافذة.. يمضي مقتحما يدخل ..يدخل ،هي بهلع ترقبه ،يدخل رويدا رويدا ..لثوان طويلة،يدخل إلى أن يختفى ذيله تماما..أحست بهلع ورعب يهزان أحشاءها ،اشتعل الخوف في داخلها، علا وجهها شحوب الموت..هبّت فاطنة تريد الفرار من دائرة الخطر؟؟ ...قوة السؤال أقعدتها أرضا :إلى أين تذهبين؟ إلى بيتك.؟؟...أم بيته؟،ألا زلت تملكين شيئا في هذا البيت تمدين له يدا واثقة؟؟؟؟لا شيء مطلقا ..
هنا طوت أجمل أوراقها على الإطلاق...المهم ليس البيت بحيزه المكاني الضيق بل هو الفضاء كله .. بساتين أغصان مدلاة ..طيور جذلانة تشدو...خرير ناعم ودائم...وطيف راحلة فراشة تحوم حول ألوان ولوحات...
صعب عليها أن ترحل عن هذا المكان حتى لو كان المطارد ثعبان يحمل حتفها بين أنيابه؟أكيد أن هذا الحنش الذي داهم سكونها كان يعرف المكان معرفة دقيقة..أخذ طريقه باطمئنان وثقة نحو النافذة غير مبال بها، ربما لأنه عايشها في مملكتها دون أن تحس به ،لم تعد تثيره أو يحسها غريبة...رائحتها غير بعيدة تماما عن أنفه...
ربما منذ أن أوقدت أول نار لها بعد غياب راحلة بشهور لتعدّ كأسا من مرارة ودموع ....آوت إليه في ظرف عصيب ..
لكن ما رأته هذا اليوم زلزل تما سكها ،بدت عاجزة عن الوقوف، والشمس تنحدر نحو المغيب لتخلف ظلالا ممتدة من حيرة وخوف...
أما الآن فالمواجهة تختلف ، غير معلنة، مستمرة في الزمان والمكان..
قد يأخذها العدوّ غيلة في عز نومها؟؟
تجرأت على الوقوف، نسمات المساء لفحت تجاعيد وجهها ،التفتت نحوالنافذة، وجمت: نفس الرأس السوداء تطل ،ثم ينزلق الثعبان مع نفس الطريق مسرعا ،رمقته حتى اختفى وراء التل الصغير...هدأت أعصابها فجأة تساءلت بحدة :لولا خوفها على ثمار شجرة المشمش من أطفال القرية ،يجتاحون في الهجير بساتين القرية ،ينتهزون فرصة استغراق الكبار في قيلولتهم ،يعبثون بالأشجار بحثا عن ثمار وربما أعشاش ، ثمّ يلقون بأجسادهم الغضة في برودة السواقي ..ويعودون الى البيوت منتعشين..لولا هؤلاء ما كانت لتجلس في ظل الجدارلتحرس الشجرة ولا تمكنت من رؤية الثعبان المحتل...تحركت ببطء نحو باب البيت ،دخلته كما فعلت أول مرة ،وجلة... خائفة ،
وحين جلست لطهو حساءها على النار ، تأملت ألسنة اللهب تتبارى علوا نحو القدر،استدعت ذاكرتها على عجل ،استحضرت قصص الأفاعي والناس،
قصص مليئة بالترقب والانتظار حتى الموت..
مسحت الجوار بنظرات سريعة ثم عادت إلى فراشها ، أطفأت المصباح ثانية وتظاهرت بالنوم...
العربي الثابت
وليكن.. لا بديل لها عن هذا البيت!.. فهي أصلا لا تملكه ،سكنته بلا إيجار،يوم دكّ الموت ابنتها راحلة ..دكّا سريعا دون خجل من ربيعها العشرين...لتغادرهي مسكن زوج ابنتها ...تتركه رحبا لعروس بديلة ..
لا بديل عنه..تراه قصرا مهيبا ،
شرفاته تطل على تليد ذكرياتها ،تنسى العالم... تذوب في خدر عذب، هنا في هذا الموقع بالذات:
سفح جبل،بساتين وسواقي ،وظلال من أمن وذكريات..
تكاد تجزم في داخلها أنها رأت وجه راحلة معكوسا على صفحة الماء حين كانت تغسل وجهها ذات صباح في الساقية..
كان وجها مشرقا باسما يتوهج شوقا..وقضت يومها سعيدة..
تيقنت أنه قاسمها البيت منذ زمن طويل...
أبدا،ما فكرت يوما أنها ستشهد مصرع ابنتها أو تعيش بعدها حينا من دهر.. فتك بها السل،كان يسيرا أن تنفلت منه لو توفر لها بعض عناية ....بسهولة باغتها الموت وأخذها بعيدا عمّن أحبوها...
تلجم فاطنة أشواقها بصرامة ..تستعيد بعض ثباتها ، تردد بحنق: كل من عليها فان..
تقضي يومها تطارد سرابا من طيف راحلة بين أغصان البساتين ،تسمع بحة صوتها تتماوج مع خريرالسواقي والغدران .. تدندن بأشهى الألحان.
حيرة سببها ثقة الثعبان في نفسه وهو يقتحم بيتها بصورة توحي بكونه من أهل البيت الشرعيين..
وخوف ليس من ثعبان، فقد قاتلت العشرات في مواجهات عدة على مشارف الغابة..
تعرف الأفاعي ..تعرف ألوانها وأصواتها ...واجهتها مرارا
وانتصرت عليها لأنها كانت تنازل عدوا وجها لوجه،
أعدّت له ما استطاعت من قوة وسلاح ونالت منه.
قد يأخذها العدوّ غيلة في عز نومها؟؟
تجرأت على الوقوف، نسمات المساء لفحت تجاعيد وجهها ،التفتت نحوالنافذة، وجمت: نفس الرأس السوداء تطل ،ثم ينزلق الثعبان مع نفس الطريق مسرعا ،رمقته حتى اختفى وراء التل الصغير...هدأت أعصابها فجأة تساءلت بحدة :لولا خوفها على ثمار شجرة المشمش من أطفال القرية ،يجتاحون في الهجير بساتين القرية ،ينتهزون فرصة استغراق الكبار في قيلولتهم ،يعبثون بالأشجار بحثا عن ثمار وربما أعشاش ، ثمّ يلقون بأجسادهم الغضة في برودة السواقي ..ويعودون الى البيوت منتعشين..لولا هؤلاء ما كانت لتجلس في ظل الجدارلتحرس الشجرة ولا تمكنت من رؤية الثعبان المحتل...تحركت ببطء نحو باب البيت ،دخلته كما فعلت أول مرة ،وجلة... خائفة ،
بيد مرتجفة أشعلت المصباح تفحصت أرضية الغرفة وزواياها،باحثة عن أي أثر ...اقتربت بخوف شديد من النافذة ..أحكمت إغلاقها.
قصص مليئة بالترقب والانتظار حتى الموت..
هيأت مرقدها بيد من خوف وحذر ،أحاطت فراشها بأكياس بلا ستيكية فارغة ،قد تحدث خشخشة ، إذا ما دنا منها زاحف فتستيقظ قبل أن ينال منها ....
بين قدم في النوم وأخرى في اليقظة سمعت صوتا مريبا ،أفاقت مذعورة، أضاءت ما حولها..قلبها ينطّ بين أضلعها،ألقت نظرتها على مصدره فإذا هي خنفساء تسعى...تعلقت بكيس فارغ ،فلم تجد منه فكاكا...أزالتها وبضربة من نعلها ألصقتها بالأرض ثم سحبت بقاياها بعيدا ،مسحت الجوار بنظرات سريعة ثم عادت إلى فراشها ، أطفأت المصباح ثانية وتظاهرت بالنوم...
في جوف الليل تهاوت مقاومتها..عربد الخوف بوجدانها...أيقنت أنّ العيش مع عدو لايرى أمر مستحيل..
في صباح اليوم الموالي شوهد رتل من حمير بأذان ذابلة،وسيقان معوجّة يعبر الوادي نحو الضفة الأخرى مثقلا بحاجيات فاطنة وأسمالها وأشياءها البسيطة..يغادر نحو وجهة مجهولة... العربي الثابت
تعليق