من أعماقي إليّ
360 درجة تحت خط الحزن ...
عاما قبل أن أولد .. كان الفراغ يحاصرني برفق.. .. وكانت السكينة بدورها وسط الظلام تسيل .. والعتمة الحبلى بصمت العمر تؤنسني .. حيث غافيا أتقلب تحت السكون .. وأتحرك .. دون أن أعيَ بعد.. أنني "حيّ" ..
عاما قبل أن أولد .. لم تكن الأرض التي أنبذها اليوم قد بدأت أصلا بالدوران.. كما لم تنبت الأوراق بعد على غصن الشجر الذي من بعيد أرصده .. هذا القصر الذي أسكنه لم تبن أساساته بعد .. أما الطريق الذي يسلكني اليوم فلم تسدل الأضواء على ناصيته.. لكنني في ظلمته الحلوة مشيت.. دون أن أعيَ بعد.. أنني "حيّ" .. وأنني عاما قبل أن أولد .. لم تسقط الثلوج على قمم الجبال التي تحفّني .. ولم يمتليء قاع البسيطة الجرداء ببحرها الضخم الذي بعنفوان كلما بكيت أحضنه... كنت أتنفس وأنا أغوص دون أن أعيَ بعد .. أنني "حيّ" .. و أنه عاما قبل أن أولد.. لم يكن للناس الذين أعرفهم أسماء جديدة ستعرفني ولا قلوبا لذيذة أراهم بها فإذا هم هربوا عبرها أجسّهم .. لم يكن أيضا للذين سأحبهم بنادق شوق تعسّهم مني إذا جفوت ولا عساكر "فراق" تبعدهم عني ولا جنسيات توصلهم إليّ ولا حقائب تحملني إليهم لو أنا عنهم فجأة رحلت .. بلا ميعاد ولا جوازات سفر...
عاما قبل أن أولد, لم تكن الحياة مثلما أراها اليوم .. لم يكن المحيط مليئا بضجيج البوارج, ولا السماء ملبدة بصخب الطائرات, لم تكن حديقة بيتنا محاطة بسياج, ولم يكن لنا باب بقفل, ولم يكن على نوافذنا زجاج ... عاما قبل أن أولد, لم أكن اشعر مطلقا بالبرد, فالمطر يسقط ولا أبتل .. والرعد يزأر ولا اخاف.. وكانت أصابعي برهافة الفراش ولا تنكسر.. ومشاعري بنعومة الحرير ولا تنفطر .. عاما قبل أن أولد لم اكن أبرد البتة .. لم أكن احمل ظلا.. لم أكن مني أخاف ..
ذات ليل ..سقطت أمي من صلبها الشهي لينشطر الحضن شظايا .. ليصبح مهديَ الدافيء في قلبها كطيف سراب .. أمي لم تعد موجودة ولم يكتب أحد منهم حين وقعتُ ساعة الوفاة .. بل كتب الطبيب ساعة ميلادي اليتيم بعيدا عن ذاك الحصن.. تخبره الممرضة أنني لم أصرخ بعد ويجب أن أبكي على موتها لأنجو من الموت .. يضطر الطبيب لضربي ساعتين كي يسمع صوتي لكنني لا أزال تحت وقع الصدمة غائبا عن الوعي ولا أريد رؤية أحد ولا مقارعة صوت ولا سماع كلام ..
في داخلي طفل يبكي .. ولا أزال لا أعرفه.. ربما كنت أنا .. ذاك الذي خنقته عبرة أمه يوم توقفت الخلائق عن الكلام .. كثيرا ما أشعر أنني لا أكتب كثيرا إلا لأقهر ذلك الصمت المعشش في أزلي حيث فاض الحزن بصمتنا معا طوفانا .. كم أشعر دون أن يخبرني أحد أن أمي تموت لأحيا .. وأنـه لـم يـواسـيـهـا سـاعـة الـمـوت أحـد إلا أنــا .. هل يجب أن أفرح لأني ولدت حيا بفضلها.. أم أبكي لأنني سأعيش طويلا على بقايا ذكرى تلك الصدمة منتصبا كالصخرة البكماء على قارعة الأحزان الصريعة .. قدر رهيب أن ترتبط حياتي في دقائقها الأولى لحظاتِ بعد أن أولد بقصة موت .. وأكبر ولا أنسى .. أنني عاما قبل أن أولد لم أكن أتوقع مطلقا أن أبقى مرتبطا بمرارة تلك الحادثة إلى أن أموت وأنني كلما بحثت طويلا عن تاريخ رحيل الوالدة المؤجل بحياتي لا أجده .. وأكتشف بعد حنين أن الثاني عشر من كل شتاء .. يومٌ حزين .. وأن شباط المثلج أضفى اسودادا دامغا على بياض ميلادي ..
من المرارة ما حييت أن أتذكر أن تاريخ نزولي فوق الأرض تاريخ مشترك مع الرحيل المر .. وتذكار خالد يجعل مني عنوانا مضطربا بين الحياة والموت .. يؤول دائما إلى كوكب الحزن.. يقول كبير أصدقاء العائلة كلما ألقاه بعد غياب.. لم تتغير.. إنه لَأنت .. كم كبرت يا سليم .. لا أزال أذكر يوم تركتك الراحلة يرحمها الله رضيعا تألم .. وحزنها الطافي يكلل وجهك .. لا تزال تحمل على عينيك قلب أمك ودموعها .. تكتب عنها كل يوم ولا تتكلم .. لقد كبرت يا سليم ..
أجل كبرت .. كبرت جدا وما نسيت ... أنه عاما قبل أن أولد .. لم أكن أعرف أنها أمي من كانت تمنحني تلك السكينة .. وأنها التي سترافقني صمتا طوال العمر دون أن تترك أثرا يلُمس أو تتكلم .. وأنها اضطرت لترحل لوحدها قبل أن تعتذر على تركي وحيدا هنا دون أن تمنحني قبلة .. دون أن تضمني كذلك ودون أن تهز عليّ برفق سرير القلب .. أمي تملك القوة بعد كل هذا العمر كي لا تجعلني أنسى أنها عاما قبل أن أولد كانت معي .. تلفني بشوق الحنان المطبق وتحن إليّ كي تحملني طفلا ولا تستطيع .. القدر يتألم .. هل يجوز لأمي غدا أن تفخر بي .. كهلا ترهقه الحياة ولا ينسى أنها أمه .. ويخبرها على الورق كل يوم منذ مولده الحزين إلى العقد الرابع من الحزن الذي كل عام يتجدد .. أن الطفل الذي في داخلي يبكي لا يزال يحن إلى أمه .. إلى أمي .. وأحن كل حنين إلى صدرها الرحب .. وأنني برغم الضعف لا أزال أكابر حزنها في قلبي وحين أتعب أهرب إلى البحر العميق كعمقكِ ثم أهذي .. لماذا أنتِ ... لماذا رحلتِ ..؟
أمي
الليل آت يا أمي ..
حل الظلام وأنا هنا ...
وحدي هنا
على شط قاحل وحدي
أسامر يتمي .. والانتظار
....
....
عاما قبل أن أولد كنت أشعر بالدفء في حضن أمي..
ثلاثون عاما من بعد بتّ أشعر بالتجمد ..
360 درجة تحت خط الحزن ...
تعليق