في داخلي طفل يبكي ..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سليم مكي سليم
    عضو الملتقى
    • 22-05-2009
    • 77

    في داخلي طفل يبكي ..

    من أعماقي إليّ
    360 درجة تحت خط الحزن ...






    عاما قبل أن أولد .. كان الفراغ يحاصرني برفق.. .. وكانت السكينة بدورها وسط الظلام تسيل .. والعتمة الحبلى بصمت العمر تؤنسني .. حيث غافيا أتقلب تحت السكون .. وأتحرك .. دون أن أعيَ بعد.. أنني "حيّ" ..

    عاما قبل أن أولد .. لم تكن الأرض التي أنبذها اليوم قد بدأت أصلا بالدوران.. كما لم تنبت الأوراق بعد على غصن الشجر الذي من بعيد أرصده .. هذا القصر الذي أسكنه لم تبن أساساته بعد .. أما الطريق الذي يسلكني اليوم فلم تسدل الأضواء على ناصيته.. لكنني في ظلمته الحلوة مشيت.. دون أن أعيَ بعد.. أنني "حيّ" .. وأنني عاما قبل أن أولد .. لم تسقط الثلوج على قمم الجبال التي تحفّني .. ولم يمتليء قاع البسيطة الجرداء ببحرها الضخم الذي بعنفوان كلما بكيت أحضنه... كنت أتنفس وأنا أغوص دون أن أعيَ بعد .. أنني "حيّ" .. و أنه عاما قبل أن أولد.. لم يكن للناس الذين أعرفهم أسماء جديدة ستعرفني ولا قلوبا لذيذة أراهم بها فإذا هم هربوا عبرها أجسّهم .. لم يكن أيضا للذين سأحبهم بنادق شوق تعسّهم مني إذا جفوت ولا عساكر "فراق" تبعدهم عني ولا جنسيات توصلهم إليّ ولا حقائب تحملني إليهم لو أنا عنهم فجأة رحلت .. بلا ميعاد ولا جوازات سفر...

    عاما قبل أن أولد, لم تكن الحياة مثلما أراها اليوم .. لم يكن المحيط مليئا بضجيج البوارج, ولا السماء ملبدة بصخب الطائرات, لم تكن حديقة بيتنا محاطة بسياج, ولم يكن لنا باب بقفل, ولم يكن على نوافذنا زجاج ... عاما قبل أن أولد, لم أكن اشعر مطلقا بالبرد, فالمطر يسقط ولا أبتل .. والرعد يزأر ولا اخاف.. وكانت أصابعي برهافة الفراش ولا تنكسر.. ومشاعري بنعومة الحرير ولا تنفطر .. عاما قبل أن أولد لم اكن أبرد البتة .. لم أكن احمل ظلا.. لم أكن مني أخاف ..

    ذات ليل ..سقطت أمي من صلبها الشهي لينشطر الحضن شظايا .. ليصبح مهديَ الدافيء في قلبها كطيف سراب .. أمي لم تعد موجودة ولم يكتب أحد منهم حين وقعتُ ساعة الوفاة .. بل كتب الطبيب ساعة ميلادي اليتيم بعيدا عن ذاك الحصن.. تخبره الممرضة أنني لم أصرخ بعد ويجب أن أبكي على موتها لأنجو من الموت .. يضطر الطبيب لضربي ساعتين كي يسمع صوتي لكنني لا أزال تحت وقع الصدمة غائبا عن الوعي ولا أريد رؤية أحد ولا مقارعة صوت ولا سماع كلام ..

    في داخلي طفل يبكي .. ولا أزال لا أعرفه.. ربما كنت أنا .. ذاك الذي خنقته عبرة أمه يوم توقفت الخلائق عن الكلام .. كثيرا ما أشعر أنني لا أكتب كثيرا إلا لأقهر ذلك الصمت المعشش في أزلي حيث فاض الحزن بصمتنا معا طوفانا .. كم أشعر دون أن يخبرني أحد أن أمي تموت لأحيا .. وأنـه لـم يـواسـيـهـا سـاعـة الـمـوت أحـد إلا أنــا .. هل يجب أن أفرح لأني ولدت حيا بفضلها.. أم أبكي لأنني سأعيش طويلا على بقايا ذكرى تلك الصدمة منتصبا كالصخرة البكماء على قارعة الأحزان الصريعة .. قدر رهيب أن ترتبط حياتي في دقائقها الأولى لحظاتِ بعد أن أولد بقصة موت .. وأكبر ولا أنسى .. أنني عاما قبل أن أولد لم أكن أتوقع مطلقا أن أبقى مرتبطا بمرارة تلك الحادثة إلى أن أموت وأنني كلما بحثت طويلا عن تاريخ رحيل الوالدة المؤجل بحياتي لا أجده .. وأكتشف بعد حنين أن الثاني عشر من كل شتاء .. يومٌ حزين .. وأن شباط المثلج أضفى اسودادا دامغا على بياض ميلادي ..

    من المرارة ما حييت أن أتذكر أن تاريخ نزولي فوق الأرض تاريخ مشترك مع الرحيل المر .. وتذكار خالد يجعل مني عنوانا مضطربا بين الحياة والموت .. يؤول دائما إلى كوكب الحزن.. يقول كبير أصدقاء العائلة كلما ألقاه بعد غياب.. لم تتغير.. إنه لَأنت .. كم كبرت يا سليم .. لا أزال أذكر يوم تركتك الراحلة يرحمها الله رضيعا تألم .. وحزنها الطافي يكلل وجهك .. لا تزال تحمل على عينيك قلب أمك ودموعها .. تكتب عنها كل يوم ولا تتكلم .. لقد كبرت يا سليم ..
    أجل كبرت .. كبرت جدا وما نسيت ... أنه عاما قبل أن أولد .. لم أكن أعرف أنها أمي من كانت تمنحني تلك السكينة .. وأنها التي سترافقني صمتا طوال العمر دون أن تترك أثرا يلُمس أو تتكلم .. وأنها اضطرت لترحل لوحدها قبل أن تعتذر على تركي وحيدا هنا دون أن تمنحني قبلة .. دون أن تضمني كذلك ودون أن تهز عليّ برفق سرير القلب .. أمي تملك القوة بعد كل هذا العمر كي لا تجعلني أنسى أنها عاما قبل أن أولد كانت معي .. تلفني بشوق الحنان المطبق وتحن إليّ كي تحملني طفلا ولا تستطيع .. القدر يتألم .. هل يجوز لأمي غدا أن تفخر بي .. كهلا ترهقه الحياة ولا ينسى أنها أمه .. ويخبرها على الورق كل يوم منذ مولده الحزين إلى العقد الرابع من الحزن الذي كل عام يتجدد .. أن الطفل الذي في داخلي يبكي لا يزال يحن إلى أمه .. إلى أمي .. وأحن كل حنين إلى صدرها الرحب .. وأنني برغم الضعف لا أزال أكابر حزنها في قلبي وحين أتعب أهرب إلى البحر العميق كعمقكِ ثم أهذي .. لماذا أنتِ ... لماذا رحلتِ ..؟

    أمي
    الليل آت يا أمي ..
    حل الظلام وأنا هنا ...
    وحدي هنا
    على شط قاحل وحدي
    أسامر يتمي .. والانتظار
    ....
    ....

    عاما قبل أن أولد كنت أشعر بالدفء في حضن أمي..
    ثلاثون عاما من بعد بتّ أشعر بالتجمد ..
    360 درجة تحت خط الحزن ...
    [CENTER][URL="http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=47435"][SIZE=4][COLOR=indigo]مراكب سكرية للحب : فراغــاتكِ بقلبـي ...[/COLOR][/SIZE][/URL][SIZE=4][COLOR=indigo] ‏[/COLOR][/SIZE][/CENTER]
    [align=center][SIZE=3][COLOR=navy][B]إذا أردت أن تبقى حيا بعد أن تموت .. فاكتب شيا يستحق أن يـُـقرأ .. أو افعل شيئا يستحق أن يـُـكتـَـب عليه.[/B][/COLOR][/SIZE][/align]
  • سليم مكي سليم
    عضو الملتقى
    • 22-05-2009
    • 77

    #2
    هذه السطور تعبر عني بصدق ...

    حاولت مرارا أن أتمرد على حدود الحقيقة وعتبات الوعي .. الوعي بأنني ملزم بتقبل كل شيء كما أراده الله لي أن يكون .. والحقيقة بأن كل ما أراده الله لي لحد الساعة لا يشعرني فِعليا بالسعادة والأمل .. أعترف بحزني الكبير والحمد لله ..
    أعترف أيضا أنني وبرغم هذا الإنكسار لا أنكر بأن أحزان الكون كلها لا تستطيع أن تحطمني وأنني أتعايش معها كلما تعبت كما تتعايش السمكة التي توشك أن تغادر الماء .. هي تنتفض .. وأنا لا أستسلم .. أنا كذلك أنتفض ..


    أنا أنكسر.. وأضطر -كلما انكسرت- للاعتراف لنفسي بالفشل في قهر كل شيء , مضطر جدا للاعتراف لكم بأنني لا أكتب هنا إلا لأثبت لنفسي بأن قلبي المنكسر لا يزال يكافح كي يخرج ولو لمرة واحدة منتصرا هذا الشعور الفاتر.. منتصرا على خيباتي ..

    إن الخيبات في نظر الآخرين تختلف كثيرا عن الخيبات في نظري .. وقد يرى أحدكم أن ما أحياه في هذا الظرف او تلك الجائحة لا يستحق كل هذا الجهد من اجترار الوجع والمآسي .. صحيح أن نفس الأشياء المؤلمة تصيبنا جميعا بنفس الطريقة .. الموت .. المرض .. الفراق .. أسربة الحلم .. وحتى الفرح المرّ .. لكنها لا تمر علينا جميعا بنفس القدر من الإحتقان والتلاشي.. قد يلزمك ساعتين لتنسى ألم السقوط من فاجعة في حين يلزمني سنتين لأنسى سقوط الفاجعة عليّ .. سقوطك من الشجرة لا يعادل سقوط الشجرة عليك .. وبعض النوازل على بعض القلوب قاصمة .. أما القلب الذي يكابر أكثر فيتألم أكثر ..

    تعلمت من الأيام أنه ليس مفيدا تَنَكُرُك للحزن بالمرة وليس جميلا بالمرة أن تنحنيَ له .. مقاومتك للمرارة يستحيل أن تتساوى مع مقاومة الصخور لموج البحر .. عليك أن تشربْ .. وملح الأحزان خلقه الله ليتبّل أيامنا .. الصخور لا تملك مسامات تُمرر الشعور بالظلم والصخب .. وأرواحنا لا تحميها رهافة الجسد.. حتى أن بشرة جلدنا من تبر و لحم وهي لا تملك من خصائص الصخر شيئا يذكر, لذا لا تمنع عنا حتى نسيم الصبح .. إن أرواحنا لا يحميها شيء.. لذا لا نستطيع أن نقاوم ضربة الحزن كما تقاوم صفعة الموج لألف عام وجنة صخرة.. هكذا تعلمت كلما عصفت بي صفعة من وجع ما .. من حزن ما .. أنا يا أصدقائي كائن ضعيف ولا أملك إلا أن أحزن ... وأكذب عليكم لو قلت أنني أملك القوة الكافية لأقاوم ..

    هذه السطور تعبر عني بصدق .. أنا الكاسر الرهيف الذي يسكنه الحزن .. وهذا الانسان الذي يكتب يختلف عن ذاك الانسان الذي يتكلم ..
    في شارعي أنا رجل بشوش .. لا أطيق البكاء أمام الملأ .. أسقي الأحزان ان غلبتني الدموع بالابتسام .. وأحضن الذين أحبهم بكثافة كي لا يلمحون عيوني حين تغرورق وأربت على أكتافهم بدفء كي يصمتون طويلا ولا يسألون .. و أمشي بسرعة كي لا يلمح أحد كآبتي .. فعلى خطواتي تعبر الدنيا بتاريخها المر ..
    لا أحبذ الآن أن أتدثر في مرارات عمري .. يكفيني أن أهرب اليوم من ذكرى رحيل أمي التي لم تنعم بضمي لربع يوم .. يكفيني أن أتذكر في هذه اللحظة مقتل هابيل كي أهجر البكاء لأجل نفسي إلى الأبد.. يكفيني أن أتذكر رحيل "آمنة" أم -محمد- .. ووفاة الرسول .. كما يكفيني أن أستحضر مجزرة كربلاء بحرقة.. وحبر بيت الحكمة الذي اصطبغ بالجماجم والدماء .. وأن أتذكر تيهنا بين الأمم وسقوط الأندلس ثم انتحار بغداد وحطام القدس وأسيجة غزة وصمتنا.. يكفيني أن لا أتذكر شيئا لأدرك أنه لا يوجد شيء سعيد يستحق فعلا في صومعة الحزن أن يذكر
    لا توجد معالم فرح كثيرة أسترشد بها كما لا أحتاج للبوصلة حين أمشي .. فالأحزان تقودني إلى حيث أرتاح كلما مشيت .. يحدث هذا لأنني أتعايش والحزن .. ولا أقاوم .. أما الكآبة فتعتلي وجنتي كلما إلى السماء نظرت.. وعلى جبيني ترفرف الحروف الشجينة التي تقرأني الآن .. وهذه السطور تعبر عني بصدق وتفضحني كلما سرت لوحدي أو كتبت.. فتذكرت كل شيء ..

    ليس من المفارقات أبدا أن يكون كل شيء أتذكره في حياتي حزينا .. لذلك أنأى بنفسي عن كل الذين أحبهم بقوة .. فقط كي لا أنقل لهم كل هذا الحزن .. كل هذا الشعور بالاكتئاب .. بالقصور وبالفشل .. هذه السطور تعبر عني بصدق .. لأنني حينما أكتبها أقترب من أعماقي المهزوزة أكثر وأكتشف إلى أي مدى يحتلني الحزن .. الحزن الشريف .. ذلك الذي لا يعنيني لوحدي بل يعني كل الذين أحبهم .. أهلي .. أحبتي .. قومي .. أمتي .. خلاني .. ان أنا شاركتهم فيه ... هذه السطور تعبر عني بصدق .. وأنا ان استطعت الكذب بجوارحي على الذين ألقاهم فوق ناصية الطريق لا أستطيع الكذب على الذين يقرأون لي الآن .. لا أستطيع أن أعتذر لهم عما قد تسببه لهم كآبتي من ألم .. هم كمثل روحي اليتيمة جدا فوق الورق .. يقاسمونني الاحترافية في البوح والكبرياء في الجرح .. ويشاركونني فيه ..

    إن هذه السطور تعبر عني بصدق .. والحزن على أسطري كرة كبيرة .. على منحدر الموت تتدحرج ..
    أقصى التعاسات التي يمكنها أن تصيبنا هي أن يموت الذين نحبهم واحدا تلو الآخر ..


    أبشع التعاسات التي نرفضها للذين نحبهم .. هي أن نموت ونتركهم دون عزاء ..
    عن نفسي أستطيع أن اتحمل آلام القلوب كلها .. لكنني لا أطيق أن أتسبب في ألم بسيط لقلب ما .. بسببي لا أطيق ..
    أيها الذين تقرأون بعيون القلب هذه الحروف تعبر عني بصدق.. وهذا الانسان كائن رهيف .. يتعبني حقا .. ولا أخجل منه ولا يخجل بي .. والحزن في حقيبتي كثيف وهو عندي كما السرور "آية" .. وأظن الله خلقه فينا لنبحث عن دفئه أكثر .. فقد قلّ الباحثون أيها الناس عن حنان الله وهم فرحى ..
    .
    .
    .
    لقد مات أخي دون أن أودعه...

    يتبع
    [CENTER][URL="http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=47435"][SIZE=4][COLOR=indigo]مراكب سكرية للحب : فراغــاتكِ بقلبـي ...[/COLOR][/SIZE][/URL][SIZE=4][COLOR=indigo] ‏[/COLOR][/SIZE][/CENTER]
    [align=center][SIZE=3][COLOR=navy][B]إذا أردت أن تبقى حيا بعد أن تموت .. فاكتب شيا يستحق أن يـُـقرأ .. أو افعل شيئا يستحق أن يـُـكتـَـب عليه.[/B][/COLOR][/SIZE][/align]

    تعليق

    • عبد العزيز عيد
      أديب وكاتب
      • 07-05-2010
      • 1005

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة سليم مكي سليم مشاهدة المشاركة
      من أعماقي إليّ

      360 درجة تحت خط الحزن ...






      أمي
      الليل آت يا أمي ..
      حل الظلام وأنا هنا ...
      وحدي هنا
      على شط قاحل وحدي
      أسامر يتمي .. والانتظار
      ....
      ....
      ...
      كم أغبطك سيدي ،
      فقد جاءت بك امك إلى الحياة لتمت هي ، أما أنا فقد جئت بأمي إلى الموت لأحيا أنا . وشتان بين مجيئك ومجيئ ، وبين موت أمك وموت أمي ، فقد جادت أمك بنفسها لتحيا أنت ، أما أنا فجدت بأمي لأحيا أنا .
      كم سهرت ، وكم عانت ، وكم مرضت ، ثم ماتت ، في الوقت الذي أحبو فيه أنا ثم أ كبر ثم أتقدم ثم تتعمق الأنا في ذاتي . ثم أحيا

      مقالتك الأدبية جميلة سيدي ومعبرة وان كنت لا أعرف كثيرا في الأدب ، ولكنها مست أوتار قلبي ، واتكأت جرحا كنت أحسبه قد اندمل
      الأحرار يبكون حريتهم ، والعبيد يبكون جلاديهم

      تعليق

      • سليم مكي سليم
        عضو الملتقى
        • 22-05-2009
        • 77

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة عبد العزيز عيد مشاهدة المشاركة
        كم أغبطك سيدي ،
        فقد جاءت بك امك إلى الحياة لتمت هي ، أما أنا فقد جئت بأمي إلى الموت لأحيا أنا .
        وأنا أغبطك أكثر
        فقد رأتك وضمتك إليها ورأيتها .. وضممتها إليك وقبّلتك .. كم أغبطك .. هنيئا لك ذكراها العزيزة .. دعواها لك .. صورها الغزيرة .. الغزيرة جدا في قلبك يا عبد العزيز

        .
        .
        .
        مراكب سكرية للحب :

        الـبـــرواز .. المــهـــجـــــــــور




        أدخلني غرفته ... جلستُ وطلب مني الإنتظار .... كانت غرفة جميلة جدا .. وأجمل ما فيها لوحات زيتية للبحر, كتب وكثير من باقات الزهور التي كانت منسقة عبر أركانها بامتياز, وكم عجبت للنظافة والنظام رغم أنه يسكن بالبيت وحيدا, وحيدا منذ زمن.. امتدت في ذلك الركن, طاولة معقوفة الأرجل مليحة الشكل واللون ... وزع عليها بضع من البراويز الجميلة ... فيها صور لطفولته الباسمة.. بريئة كانت .. وحائرة نظراتها جدا.. أما هناك وعلى رف مميز جدا, تربع برواز مذهب أنيق تظلله مزهرية كبيرة من ورد مخملي أحمر ... كان البرواز فارغا الا من خلفية سوداء ... حفرت عليه أخاديد القدم, فبان لافتا للنظر أكثر بحجمه المهذب وصمته المكين .........



        دخل صديقي ... وكان أول سؤال مني له : لمن هذا البرواز الفارغ ؟.

        التفتَ إليه ثم مشى غير مبال لسؤالي : هل نخرج الآن , لقد انتهيت .

        - لكنني لم أنته من سؤالي, لم البرواز فارغ ... أين الصورة ؟؟؟.

        اختطف كتابا ووقف يتصفحه قرب النافذة : ... إنه لأمي .

        صمتت وقد خجلت من نفسي : رحمها الله . لكن لماذا أفرغ من الصورة ؟

        - لأنها ماتت ...

        وصمت منكسرا حتى حسبت نفسي اغتلت حروفه كلها, أحببته أن يجيب بأي شيء, لذا رجوته:

        - أرجوك تكلم , لا تشعرني بأنني أخطأت, لا تحسسني بأني غريب .

        لكن صمته ظل ماضيا أطول من كل شيء والكتاب ماثلا بين عينيه فلا ينظر إليه, يقلب صفحاته في غفلة من يديه ثم كلما استفاق لحركتهما تصلب الورق بين الأصابع... شعرت بالألم, قمت إليه وضغطت على ساعده بحنو ثم هممت بالاقتراب من الباب منصرفا دون أن أستأذنه, حين حركت مقبض الباب نطق.. وأخيرا نطق: أرجوك لا تذهب ... كان يخاطبني وعيونه عالقة خلف غمام النافذة

        - أنا ما عندي صورة, أنا لم أرها في حياتي قط ...

        - المعذرة , فتحت جراحك ...

        - لا أبدا , أنت مثل أخي ..

        - أولا تعرف عنها شيئا ؟؟.

        - ليس أكثر مما روته خالتي دوجة

        - من تقصد؟ مربيتك.

        - أجل

        - ماذا قالت لك عنها ؟؟

        التفت الي بنظرة باهتة , تفرس فيّ : - ماذا بك .. عم تفتش ؟؟؟ ...

        - عفوا لا أقصد ازعاجك ؟

        رمى الكتاب من يده صوب السرير ثم انحنى الى النافذة , وابتسم صوب الأفق البعيد وهو يقول :

        قالوا لي كانت بيضاء

        مشرقة اشراقة الشمس والبدور

        ناعمة نعومة القطن ..

        شعرها الليلي طويل طويل طويل

        قدها مربوع جميل ..

        عيناها كبيرتان .. براقتان كهالة الشمع لا الفانوس.

        تغرق فيهما لو انت نظرت

        دمعها تشتاق اليه ... وألمها لا حس له

        كلامها كهمس الورد ... لا شوك فيها ...لسانها دوما صبور ....

        ثم سكت لبضع دقائق حسبته غرق في سحب السماء ... لكنه سرعان ما ارتمى على ظهره فوق السرير,

        وضع يديه تحت رأسه فوق المخدة وراح يتأمل السقف بعينين اغرورقتا خفية دون أن أشعر,

        قال بصوت متحشرج مغموم وقد احتل الغضب بعض نبراته والألم :

        كانت اذا ضربوها لاتشتكي واذا طردوها لا تقاوم ولا تثور ..

        عذبوها الى ان مرضت

        سمموها ... فقدت عقلها مرتين ثم ماتت على سرير المستشفى قبل أن يصل الدكتور.

        قلت منقبضا: من فعل هذا؟. قال دون أن يلتفت الي : طليقة أبي .. ثم صمت ..

        أحرقوا كل شيء كان لها ... كل ذكراها

        أما أنا .. فقد نفيت الى ما وراء البحور .. حيث لا أزال أبحث عن طيف أمي, هل تفهم الآن لم البرواز مهجور؟؟؟

        لم تترك شيئا وراءها ... حتى الصورة لم يبق منها الا هذا الإطار المكسور..

        أخذت كل شيء معها .. ولم تترك لي الا الجراح بقلبي وبعض الدفء والكثير من الكسور .

        ثم قام منتفضا الى النافذة من جديد يرمق الأفق البحري في شرود : فقط تركت قلبها ..

        تخجل دموعه من عيوني, حين رفع رأسه عاليا شفط العبرة تحت جفنيه وما رآني, تعمق بناظره في وجه السماء ثم ابتسم: لا أشعر بأنها انتهت, أشعر بقربها مني, صدقني إنها لا تزال هنا .. بعد ثلاثين سنة

        أورثتني الجمال كل الجمال في قلبها... أورثتني حبها .. به أرى النور وبه أحيا كل شيء وأميز كل الأمور ..

        صورتـُها مرارا بحروفي ..تمنيت لوكنت اعرف رساما يجسد طيفها في لوحة دون السطور

        لكن هيهات .. هيهات ان يستطيع

        اذ لا يمكن لشيء ان يكون كمثلها .. بجمالها

        الا هذا البحر .. وتلك الزهور .......

        هذه التي سأظل أهديها إياها كل يوم, لتؤنس وحدة قلبي قرب بروازها المهجور.







        انتهى ...
        سليم مكي سليم
        .
        .
        .
        التعديل الأخير تم بواسطة سليم مكي سليم; الساعة 25-06-2010, 00:27.
        [CENTER][URL="http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=47435"][SIZE=4][COLOR=indigo]مراكب سكرية للحب : فراغــاتكِ بقلبـي ...[/COLOR][/SIZE][/URL][SIZE=4][COLOR=indigo] ‏[/COLOR][/SIZE][/CENTER]
        [align=center][SIZE=3][COLOR=navy][B]إذا أردت أن تبقى حيا بعد أن تموت .. فاكتب شيا يستحق أن يـُـقرأ .. أو افعل شيئا يستحق أن يـُـكتـَـب عليه.[/B][/COLOR][/SIZE][/align]

        تعليق

        • رحاب فارس بريك
          عضو الملتقى
          • 29-08-2008
          • 5188

          #5
          سمعت بكاء طفل صغير ، هذا الصباح .
          فتراكضت اناملي نحو مفتاح باب كلماته
          وتطفل إحساس الأمومة الذي يسكنني
          باحثا عن سبب بكاء هذا الطفل الذي سكن خلف مسارات الوريد
          وكان أن تراكضت بسرعة خلف السطور .
          كلمات أبحرت من خلالها في عمق ذاتك ، في رغبة لمعرفة ما سبب هذا الحزن !!
          فشدتني الكلمات من حيث جمال السرد المتميز بعدم استخدامك للكلمات السطحية .
          وجدت هنا ما يجعلني أقرر العودة ..
          أستاذ سليم مكي سليم .
          الساعة عندنا 0611 عادة أستيقظ باكرا لان النوم جافاني ، فأقوم بجولة سريعة
          في المنتدى ولا أعلق فمازال النوم متربعا فوق جفني ، ولكني عندما اجد ما يعجبني لدرجة أني أجد بانه واجب علي التعليق عليه ، خوفا من ضياع النص بين هذا الكم الهائل من المشاركات .
          ادون إعجابي وانا نصف نائمة ونصف صاحية ، إحساسا مني بأنه من واجبي رد التحية فمن حق نصوص كهذه ان نترك فوق جمالها بصمة تقدير وشكر لكاتبها .
          تجولت في الزمن الماضي ، تحت الصفر فعشت سنة حياتك ما قبل الولادة .
          ووقفت وقفة حزن امام صورة فارغة سوداء ، حتى باتت ملامح صاحبتها واضحة المعالم ، حين خطتها مشاعر يتيم رسم لامه ملامح لم يفلح الزمان بمسح ملامحها .
          عشت يتمه للحظة .
          وعشت بإحساس طفلك الباكي للحظات .
          بين شظايا قلبك المكسور ، تفتحت جراح كسرت بالأمس القريب ، كسور تخصني .
          فكان إحساسي بشظايا قلبك المتناثرة ، يوازي إحساسي بشظاياي .
          لك مني كل التقدير وصباحك خير .
          ..................عندما أمسك قلمي ، لا أفكر ماذا سأكتب إنما ، أكتب ما أحس ..

          تعليق

          • سليم مكي سليم
            عضو الملتقى
            • 22-05-2009
            • 77

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة رحاب فارس بريك مشاهدة المشاركة
            بين شظايا قلبك المكسور ، تفتحت جراح كسرت بالأمس القريب ، كسور تخصني .
            فكان إحساسي بشظايا قلبك المتناثرة ، يوازي إحساسي بشظاياي .
            لك مني كل التقدير وصباحك خير .
            والخير صباحك أخت رحاب
            لا شك أننا نتقاسم الجرح بنفس الوجع فالأمهات جميعهن امهاتنا ..
            نتقاسم الصدمات بغيابهن والمواجع والذكريات كما نتقاسم بحبهن الحرف الاسود وبياض الورق
            القلب واحد والألم واحد والخالق واحد.. لأجل هذا لا يجب أن نستغرب كيف نشعر ببعض بكل هذا العمق ..
            نحن نشترك في الكثير من التفاصيل ونتلاقى في العديد من المحطات .. فلا عجب أن يتشابه حزننا أو أن يتقاطع ..

            هذا المرور دافيء .. خفف الكثير من برودة النص
            [CENTER][URL="http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=47435"][SIZE=4][COLOR=indigo]مراكب سكرية للحب : فراغــاتكِ بقلبـي ...[/COLOR][/SIZE][/URL][SIZE=4][COLOR=indigo] ‏[/COLOR][/SIZE][/CENTER]
            [align=center][SIZE=3][COLOR=navy][B]إذا أردت أن تبقى حيا بعد أن تموت .. فاكتب شيا يستحق أن يـُـقرأ .. أو افعل شيئا يستحق أن يـُـكتـَـب عليه.[/B][/COLOR][/SIZE][/align]

            تعليق

            • أماني الفارس
              عضو الملتقى
              • 18-05-2010
              • 82

              #7
              الفقد ...
              لا يعني أن تفقد شخصاً... كان محتوياً ذاتك....
              أو الجزء الأكبر من روحك....

              الفقد هو...
              افتقاد الرمق المروي من قِبل ذاك الشخص...
              والذي تفرّد بسقاية دواخلك... شخصك... احتدامات ضفافك...



              اليك سليم.. ولروحك المترعة بالفقد...
              أهديك...


              http://www.youtube.com/watch?v=Y8CQVZUI8YY

              :
              :
              [ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-color:black;"][CELL="filter:;"][I][FONT=Traditional Arabic][SIZE=4][COLOR=plum][B][COLOR=darkorchid][SIZE=5][FONT=Diwani Letter]
              [/FONT][/SIZE][/COLOR][/B][/COLOR][/SIZE][/FONT][/I][ALIGN=center][RIGHT][FONT=Diwani Letter][SIZE=5][COLOR=sienna][COLOR=darkorchid][B][I][FONT=Times New Roman][RIGHT][SIZE=4][COLOR=Plum]... كُنْ لي وَطَن لا تـُدرِكَهُ الظـُنون ....[/COLOR][/SIZE]
              [/RIGHT]
              [/FONT][/I][/B][/COLOR][/COLOR][/SIZE][/FONT][/RIGHT]
              [FONT=Diwani Letter][SIZE=5][COLOR=sienna][COLOR=darkorchid][LEFT][CENTER][I][FONT=Traditional Arabic][SIZE=4][COLOR=plum][B]... أكونَ لَك أرض تـُنكرُ الحَيْرَة .....[/B][/COLOR][/SIZE][/FONT][/I]
              [/CENTER]
              [I][B][FONT=Traditional Arabic][SIZE=4][COLOR=plum]... أماني الفارس ...[/COLOR][/SIZE][/FONT][/B][/I][/LEFT]
              [/COLOR][/COLOR][/SIZE][/FONT][/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]

              تعليق

              • سليم مكي سليم
                عضو الملتقى
                • 22-05-2009
                • 77

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة أماني الفارس مشاهدة المشاركة
                الفقد هو...
                افتقاد الرمق المروي من قِبل ذاك الشخص...
                والذي تفرّد بسقاية دواخلك... شخصك... احتدامات ضفافك...


                اليك سليم.. ولروحك المترعة بالفقد...
                :


                :
                مترعة بحق أختي أماني.. هذه الروح تغرق في الفقد
                وعمر بشير كان متفوقا جدا حين أجاد اغتراف الصمت من بئري العميق ..
                إلى أمي .. حنّيت يا عمر
                وعلى لحنكَ هذيت ...

                أمّــي
                وحـدي أنـا
                أغـوص في لجج البحـر
                وفي يتمـي
                أفكّـر فــيك أيا أمـي
                وأنساق مع التيّـار، مع الدوار
                أرحل فيه ، أفتش عنك أيا أمّي
                أغوص في سحب الظـلام وفي الأمواج
                وأفكـر فيك أيا أمّـي

                يا أمّـي ، إنـي هنــا
                على سطح البحر
                أنتظـر طلوعك ، خيالك
                أرقـب مــيلادا فـي حضـن المـاء
                من بطـن النجـم
                في رحم السمـاء
                في حرف الألف أو الميـم
                أو حرف اليــاء

                يا أمّــي
                أنت هنـا ، وأنا أيضـا
                تحسيـن بي
                لـكن ظــهورك ، لا
                أنت ترينـي يا أمــي
                أمـّا أنـا فــلا ...

                أمـّا أنـا فــلا ...
                [CENTER][URL="http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=47435"][SIZE=4][COLOR=indigo]مراكب سكرية للحب : فراغــاتكِ بقلبـي ...[/COLOR][/SIZE][/URL][SIZE=4][COLOR=indigo] ‏[/COLOR][/SIZE][/CENTER]
                [align=center][SIZE=3][COLOR=navy][B]إذا أردت أن تبقى حيا بعد أن تموت .. فاكتب شيا يستحق أن يـُـقرأ .. أو افعل شيئا يستحق أن يـُـكتـَـب عليه.[/B][/COLOR][/SIZE][/align]

                تعليق

                يعمل...
                X