البيت الكبير
في نفس المكان من عشر سنين تعوّدتْ أن تحمل سلة الملابس التي كانت تتركها سيدة البيت الكبير ملأى بثياب ابنتها التي تزيد عن حاجتها. لقد أدمنتْ مراقبة مكان السلة عند تغير الفصول و عند عودة الطلبة للمدارس و في الأعياد. و مع السنين صارت أكثر فضولا لمعرفة صاحبتها.
أمام المرآة كانت تطيل النظر لجمالها و قوامها و قد زادته الثياب إشعاعا و فتونا. لقد كان مرأى السلة في ذلك الركن حدثا سعيدا، شمعة توقَد في ظلام فقرها فمِن بين أفراد أسرتها كثيرة العدد كانت الوحيدة التي تناسبها الثياب و حين تذهب للمعهد ترفع رأسها أمام بنات صفـّها و كأنـّها تقول: "هذا البيت الذي نشأتُ فيه ليس مكاني و هذا الفقر لا يناسبني أرأيتم كيف أبدو في هذه الثياب؟ إنها الوحيدة القادرة على إظهار ما أنا جديرة به!".
و لكن لعبة الثياب لم تقف عند هذا الحد فقد صارت "سُهَى" مع الأيام متقمصة لشخصية أخرى مختلفة عنها، ذكية، متكبرة، تظن أنها تعرف ما يناسبها من الألوان و الموضة و لا تتكلم إلا مع الأثرياء من أبناء فصلها.
كانت في سِرّها تحاول أن تُشبه صاحبة الثياب الحقيقية و تتخيل أنها تذهب لمعاهد خاصة تختلف عن معهدها البائس و المُدرّسون يتهافتون على خدمتها و غيرها من الطلبة الذين يدفعون مبالغ ضخمة من أجل تعليمهم و رفاهتهم. كانت تراها في خيالها مفتخرة بتسريحات جديدة و عقود و أساور و أنها تجد كل ما تطلبه و أن لها صديقات غنيات و جميلات تشاركن الأكل و الشرب في الأماكن الفاخرة و أنها لا تطأ الأرض التي تطأها هي فمثلها لا يتنقل إلا بالسيارة و هكذا ابتعدت "سًُهى" شيئا فشيئا عن واقعها و لم تعد تفكّر إلا بدخول البيت الكبير و التعرف على أصحابه الذين يبدون كالأشباح فهي لا تراهم أبدا مهما حرصت على ذلك فكأنهم لا يخرجون منه أو كأنهم يخرجون منه فجرا ليعودوا ليلا.
و في أحد الأيام استجمعت شجاعتها و طرقتْ الباب، باب البيت الكبير فسألها الحارس: "من أنتِ و ماذا تريدين؟"
قالت بارتباك: "أنا.. أنا أريد مقابلة اُبنة صاحبة البيت"
قال: "و هل تعرفينها؟"
قالت: "نعم.. طبعا.. أنا أعرفها، إنها صديقتي بالمعهد و لمّا لم أرها اليوم أتيت أسأل عنها"
قال: "اذهبي، كفى كذبا، ابنة السيدة لا ترتاد أي معهد"
قالت: "إذن هل تعمل؟"
قال: "كُفـّي عن التدخل في ما لا يعنيك"
قالت و كأنها تفقد شيئا:"حسنا، حسنا، لكن أريد أن أراها، أن أتعرف عليها، أنا حقا لم أرها في حياتي لكن أريد أن أراها"
أغلق الباب بجفاف و تركها متجمّدة في أسئلتها. لا بُدّ أنّ لهما نفس العمر فكيف لا تزاول ابنة السيدة دراستها في المعهد؟
عادت إلى البيت مرتبكة و ظلت جالسة على العتبة فلا يوجد في بيتها الصغير شِبرٌ واحد تستطيع الاختلاء فيه بنفسها. لقد عاشرت اُبنة َ السيدة طيلة هذه السنوات رغم أنها لم ترها و لو مرّة واحدة، لقد عرفت ذوْقَها و أخصّ عاداتها من سلّة الثياب فهي تحب تدرّجات الرمادي و البُنـّي و الأزرق رغم شبابها و هي لا تلبس الثوب أكثر من ثلاث مرّات فكل ثيابها جديدة و كأنها اُشترتها للتّوّ و هي لا تُمانع في اُرتداء ثياب تكشف جُزءا من جسمها إلا أن ذوقها في العموم لا يُناسب عُمرها.
اِزدادت "سُهى" فُضولا لمعرفة اُبنة السيدة و اُزدادت التصاقا بمُحيط البيت الكبير بعد أن سيطرت عليها الفكرة سيطرة كـُلـّية. كانت تُراقب البيت في أحد الأيام و إذا بسيارة سوداء فخمة و كبيرة تزأر زئيرا و إذا بالباب الكبير ينفتح..عندها اُنطلقت كالسهم فيما كان الحارس مُكِبّا على السيارة ينقل الأخبار لصاحب البيت.
شعرتْ بالرعب و هي داخل البيت الكبير متخفية كلصّ و أحسّت ببرد قارس يلفّ أركان البيت، كم قاحل هذا البيت، كم هو مُريب و كئيب!
نسيت أنها "سُهى" الفقيرة و قررت الدخول إلى الفيلا بكل رباطة جأش. طرقت الباب ففتحت لها مُدبّرة المنزل..قالت دُفعة واحدة: "أريد أن أرى ابنة السيدة"
قالت: "و كيف اُستطعتِ الدخول؟"
قالت بكل ثقة "لقد سمح لي الحارس"
كان صاحب البيت مُنعزلا في مكتبه يراجع أوراق العمل و كانت الأم مُنكبّة على الحاسوب تُتمّ معاملات تجارية و مصرفية على الانترنت. فيما كانت اُبنة السيدة في غرفتها.
توسّلت "سُهى": "لن آخذ من وقتها أكثر من ربع ساعة"
"سأسأل صاحبة البيت" ردّت المعينة بجفاء.
قدمت المعينة "سُهى للسيدة، عرفت صاحبة البيت ثياب اُبنتها على جسد الفتاة لكنها تظاهرت بعدم الانتباه. قالت "سُهى" بكل تهذيب: "سيدتي لقد جئت لأشكر اُبنتكِ على هذه الثياب التي ارتديتُها لسنوات.
قالت السيدة: "لقد وصل الشكر و لا شكر على واجب، اِبنتي لا تُحبّ الغرباء و هي لم تُعطِكِ الثياب شخصيا و لهذا لا داعي للشكر"
قالت "سُهى": "و لكني أحب أن أتعرف عليها"
قالت الأم: "لماذا؟"
أجابت "سُهى": " لا أدري، هناك شغف لديّ لمعرفتها فاُرتدائي لثيابها طيلة هذه السنين جعلني أرتبط معها بشيء كالصداقة التي ربّما تكون من طرف واحد و لكنها حقيقية"
قالت الأم: "انتظري قليلا"
دخلت الأم على اُبنتها و طرحت عليها الأمر لكنها رفضت فالأمر لا يستدعي كل هذا الاهتمام و لما ألحّت "سُهى" و أظهرت اُمتنانها الشديد للثياب الجميلة و تعلقها بصاحبتها وافقت البنت.
طرقت "سُهى" الباب و دخلت فصُعقت: كانت ابنة السيدة تجلس على كرسي متحرك و تدير ظهرها للباب. قالت بصوت هادئ و رصين: "لمَ تشكرينني على الثياب أنا لم أعطِها لكِ بالذات؟"
قالت "سُهى" و الدهشة تعقد لسانها: "نعم.. لكن القدر هو الذي جعلني أنا دون غيري أحصل عليها و أرتديها. هل يمكن أن أراكِ؟"
-"أظن أن فضولك قد اُرتوى بما فيه الكفاية"
بكت "سُهى" و كأنها تتخفف من الضغط الذي عانته في المدة الأخيرة و هي تلهث وراء هذا اللقاء إضافة إلى المفاجأة التي لم تكن تنتظرها. قالت: "ما اُسمُك؟"
أجابت اُبنة السيدة: "ما همّك اسمي أو صورتي. أنت مُجرّدُ مُتسلّقة. أردتِ أن تتقربي مني لأنك تخيلت أنني أرتاد أفخم الأماكن و ألبس المجوهرات و أفعل ما أريد و بصداقتي تشاركينني كل ما أقوم به"
قالت "سُهى" و هي تمسح دموعها بعنف: "لقد كنتُ سجينة شخصيتك أو ما ظننت أنها شخصيتُكِ، لقد جعلت مني فتاة تعيسة بعيدة عن واقعها حتى أني تكبّرت على أبويّ و إخوتي و صديقات المعهد، كنت أحاول أن أشبهكِ في كل شيء و لكن ماذا أفعل الآن لقد فقدت شخصيتي الأصلية و ها أن الشخصية الجديدة التي تقمصتها تتكسر في داخلي، أنا ضائعة، أنا لا أفهم شيئا، لقد دمّرتِني"
ضحكت اُبنة السيدة لأول مرّة و هي ما تزال تُدير ظهرها: "أنتِ التي دمّرتِ نفسكِ، لقد تجاوزت حدودك و أردت معرفة ما لا يجب، كنتِ اُكتفيتِ باُرتداء الملابس دون البحث في شخصية صاحبتها فالنبش في خصوصيات الناس ليس ممتعا دائما"
تراجعت "سُهى" للوراء و لكنها اُستردّت توازنها، لن ترحل حتى تُشبع نهمها للنهاية.
اِنطلقت نحو اُبنة السيدة و هي تقول بغضب: "من أنتِ، من أنت؟" فإذا بها أمام شاب يرتدي ثياب فتاة و يصرخ بهستيريا : "أمي، أمي"
كوثر خليل
تعليق