ثورة القرنفل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سهيلة عزوني
    أديب وكاتب
    • 16-12-2008
    • 74

    ثورة القرنفل

    ثورة القرنفل
    عندما استيقظت ماما من نومِها كنتُ قد عدتُ من رحلة التسوق محملة بأكياس الحاجيات اللازمة ِو كان طعامُ الغداء على النَّار و الأعمال البيتية اليومية كلها قد دخلت حيِّز التنفيذ..
    أتوجهُ إلى مكان جلستها الصباحية المفضلة أيَّام الصيفِ..
    تسألني ماما عن امتقاع لوني..أجيبُها و أنا أقفُ أمامَها بعينين ذابلتين من أثرِ السَّهر، متصنعة الابتهاجَ و المرحَ في محاولةٍ لتطمينها..
    ـ لا شيء..ربما تعب مشوار السوق، فقط.
    تمرِّر يديها الحانيتين على وجهي و كأنها تحاول أن تزيح عنه بعض العتم و تنفضُ عنه أتربة الزَّمن التي تحجبُ نضارته كستارةٍ داكنةٍ حتى كادت أن تخفي معالمَه..تحرقـُني لمستُها، تمامًا و كأنَّ يدَها ذرَّت ملحًا على جرحي الذي ما يزال مفتوحًا..
    - لكني بدأت أتعافى .
    أقول ذلك لنفسي..
    أتخلـَّصُ من سجن ذراعيها و من تبعاتِ الموقفِ بالتوجه إلى المطبخ لإحضار صينية القهوة.
    *******
    كلـَّما وقفتُ في هذا المكان تجلدُني الذكرى بألف سوطٍ..
    كنتُ تعيسة بعددِ المرَّات التي أطلقَ فيها كتائبَ اعتذاراتِه و وعودِه الكاذبةِ بأنـَّها المرَّة الأخيرة..
    كلَّ مرَّةٍ كنت أحتفظ بالفجائع في أدراج روحي و أبرز على الواجهةِ صورة السعادة الزَّوجيةِ المطلقةِ..
    كنَّا زوجًا يثيرُ الكثير من الغيرة في أوساط العائلة و المعارف..لما كنا نمثِّله من صورةٍ مثاليةٍ للحياة العائلية الهانئة المستقرَّة..
    في مركز الصُّورة طفلٌ جميلٌ بملامحَ ملائكية ..يزرعُ بشعره المنثور على كتفيهِ شمسًا تصنعُ مواسمَ الصَّيفِ من حوله و يستنبتُ حقول سنابلٍ تُحقـِّقُ حُلمَ الوفرةِ الباذخة في قلبِ من يقربُه..إلى يمينه امرأةٌ طويلة نحيفة ذات رأس صغيرةٍ تغطـِّيها خصلُ شعرٍ شقراء قصيرة تجعلها تبدو كزهرة قرنفلٍ هندي و عيون خضراء تسرَّبُ الكثير من الحيوية و إلى اليسار رجلٌ ذو جسدٍ رياضي و أناقةٍ تجعلـُها المبالغة تبدو و كأنَّها مستقدمة فورًا من على صفحاتِ الموضةِ..
    وحدي كنت أعرفُ أنَّ الصُّورة كاذبة ٌ و مزيفة ٌ.. و أنا حياة الاثنين عندي لم تعد في عيني بقدر أهمية فيلم ممتع ٍ أو كتابٍ مفيدٍ ..لم تعد ترقى حتى لمستوى متعة حمام دافئٍ..
    *******
    اكتشافي أفقدني القدرة على النَّومَ..
    أتقلـَّبُ في فراشي من جنبٍ إلى جنبٍ..أتــناومُ.. إحساسٌ بعدم الارتياح يراودني فتأبى عيناي غير السَّهر..
    عند الطرف الآخر من السَّرير، يتمدَّدُ زوجي هانئ البال مستسلماً لنومة ٍهانئةٍ بعد سهرةٍ خارج البيت..غير شاعرٍ بي .
    لَم أعرف كيفَ مضت ليلَتي ، لكنَّني أفقتُ صباحًا بعينين محمرَّتين و صداع في الرأس من قلـَّة النَّوم ..و في الحشا نبتت هواجسٌ بدأت تزحفُ كجيش احتلال فتسيطر على كل تفكيري..
    و لأنه لا يمكن لاثنين متورطين في حياةِ بعضِهما البعض لدرجةٍ الزواج أن يعيشا معًا دون أن تتوالى اكتشافاتـُهما فالمفاجآت لم تتأخر في المجيء..
    لكني قرَّرتُ رغم ذلك أن أقاومَ هذا الوباءَ الطارئ َالمعدي الذي انتقلَ إلى بيتي قبلَ أن يستشري في كل محاصيل حياتي من الأيَّام..اجتهدتُ في محاصرة بؤر التوتر تلك منذ البداية..حاولتُ استئصالها قبل أن يستفحل أمرُها فتودي بزواجي ..
    كنّا نتحدَّثُ كثيرًا..أحصلُ منه على الكثير من الوعودِ..
    لكنَّي كنت تمامًا مثل من يخط ُّ شيئـًا على الزجاج بعد أن ينفخَ عليه في صبيحةٍ باردةٍ.. ثم لا تلبث الشمس أن تدفئ الجو قليلا فتذوب المعاني قبل الكلمات..
    مساحة ُ الخلافِ ما لبثت تنتشرُ على رقعةِ يومياتي..
    *******
    انتبهتُ من غفوتي على صوتِ طفلي وهو يخبرُني بدهشتهِ الطـُّفوليةِ أنـَّه اكتشفَ شيئـًا جديدًا ..رفعتُ رأسي بكل عفوية استجابة لقدومه الرَّاكض نحوي..
    الذي رأيتـُه أخرجَني مِن بين دفـتـَي دفاتري وخرسٌ مثل البلهِ يستبدُّ بي.. شعرتُ بتنميل في رأسي و رعشة تتلبَّـسني كارتداد صعق الكهرباء ..
    في لحظةٍ، غادرتني كلُّ أمالي في الإصلاح.. كحمائم عجلى تسرَّبت من ثقوب القلب التي أحدثتها طعنات خيبتي..
    استعدتُ إدراكي للموقف..اتـَّجهتُ لطفلي المذهول لردَّةِ فعلي..شحوبُ وجههِ كان ببياض محتوى الكيس بين يديه النَّقيتين..نظرتُ لعينيه الصَّافيتين المشرقتين دمعًا.. شُـبِّـهَ لي و كأنَّ بابًا فيهما انفتحَ في عزِّ الربيع فدخلَ الخريفُ دفعة ً واحدة ً..أخذتُ منه اللفافة القاتلة..
    أمواجُ الارتداد تعيد لي السؤال ..تقذفـُه في وجهي..
    ـ هل الأمرُ يتعلَّقُ فقط بحفاظِك على صورتك أنت وحدك أم هو يخصُّ مصير أقرب من يرتبطُ بك ؟
    يحاولُ السؤالُ اقتيادي قسرًا إلى متاهاتٍ بعيدةٍ عن جدوى مقاومة ما هو حتمي.. لكنَّ الإجابة هذه المرَّة لم تتأخـَّرُ في المجيء..
    ابتسمت بمرارةٍ حينما واجهتني الحقيقة بوجه قردٍ أكل ليمونة ..
    اعترفتُ بيني و بين نفسي أنَّ كلُّ الفرص أهدرت و لم يعد هناك من أمل ..الفراقُ وشيكٌ بيننا..نحن الآن شخصان غريبان تمامًا تحاصرهما جدرانٌ و سقف..
    *******
    أدركُ تمامًا أنَّ تمزُّق بعض الرّوابطِ الاجتماعيّةِ يفقدُنا الكثير من قدرتنا على التـَّفكير المَرِنٍ بمواجهةِ الحياةِ و الآخرين..أتقبَّلُ ذلك بمواجهة نفسي بأخطائِها ..أحمِّلها كاملَ المسؤولية عن ما يحدثُ و تبعاته..
    ينتابُني ندمٌ و أسىً بطعم الدموع و رائحة البارود..مشاعرٌ شبيهة بما اعترى صاحبَ الديناميتِ ذات اختراع ٍ..أفكِّرُ في أنـَّه يلزمُني استحداث نوبلَ أخرى حتى أشفى من تبعات هذا الشعور..
    أحاولُ جهدي أن أقهرَ بوادر ضعفٍ لاحت في الحنايا.. ألملمُ نفسي من الزَّوايا و الأركان ..أصدرُ لها أمرًا صارمًا أ لا تجهش بالبكاء..
    انتشــلُ نفسي من قبضة اللحظةِ المترددة.. تتمسَّكُ قـدماي بأرض قراري..ترفض أن تخطو خطوة ً واحــدة ً نحو التنازل..
    كلُّ تفكيري صار ينحصرُ في ابني وكيف أجعلُ لهذا الاختفاءِ المفاجئِ لوجهِ الأبِ من يومياته جرحًا أقل إيلامًا لقلبه الغضِّ..
    أقفُ مُثْقَلَة بِحَمْل قراري.. أتمثـَّلُ درسَ كل من مررن من ذاتِ الموقفِ قبلي تمثلا ً جيِّدًا.. مرَّت لحظات ثقيلة ٌ على القلبِ عصيَّة ٌعلى الفهم.. تتعبُني اللـَّحظاتُ حينما يصير لا أصعب من الصمت، ولا أصعب من الكلام..
    لكنـِّي أحرصُ على ألا أعكر صفاء رؤيتي بميوعة نقاشات أثبتت طويلا لا جدواها..
    أصدرُ قراري بإعدام أي أيَّام قادمةٍ لنا معًا..جاء ردِّي أكبرَ بكثير ممَّا كان يتوقـَّعُه.. لكنّ كبرياءه المتكئ على ضعفي لم يستسلم للتـَّصديق..
    كل هذا المشوار الذي قضيناه معًا و ما زال لا يعرفني.. يظنـُّني أقلَّ من أن أتجشـَّم عناء مخاطر المغامرة بعيدًا عن فلكه..
    أدرتُ ظهري له.. أُجلت الْنَّظَر حَوْلِي..أدركتُ بارتياح ٍ كبير ٍ أنه لَم يَعُد فِي الْبَيْت مَا يَشدُّنّي فعلا لِلْبَقَاءِ ..
    اكتفى بنظرةٍ فارغةٍ شيَّعت انصرافي..
  • إيمان الدرع
    نائب ملتقى القصة
    • 09-02-2010
    • 3576

    #2
    الأستاذة الفاضلة: سهيلة عزوني..
    قرأت لك نصّاً شجيّاً..غاية في الجمال والروعة..
    ما أجمل القرار عندما يكون حاسماً..
    على قسوته..ورغم صعوبته...
    يكون شافياً...
    ينبت أجنحتنا من جديد على درب أجمل..
    النصّ كان شفّافاً..واقعياً..
    عالجته بحكمة وهدوء واتّزان..
    وكان مشوّقاً لدخول قلب المرأة ومعرفة خبايا حزنها الدفين..
    فكانت المفاجأة على يد طفلها ..وكان القرار..
    خرجت بانطباعٍ جميلٍ..عن هذه القصّة..
    سلمت يداك..
    دُمتِ بسعادةٍ....تحيّاتي أختي الغالية..

    تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

    تعليق

    يعمل...
    X