{أحاديث الليل والنهار..!}

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • كاميليـا بهاء
    { أنستازيا }
    • 13-06-2010
    • 61

    {أحاديث الليل والنهار..!}




    "ما فائدةُ أنْ يتّسعَ العالَمُ وحِذائي ضيّقٌ"..
    لا أدري أينَ قرأتُ هذه الجملةَ، لكنّني قرأتُها مراتٍ ومراتٍ ومراتٍ..!

    ما فائدة أن يتّسعَ العالم وحذائي ضيق.. وضعتُ يدِي على حذائي، أحسستُ خَفْقَهُ، ضَغَطْتُ عليه فَعَضَّ أصابعي.. ضيّقٌ.. لا يَحْتَملُ أحزانَ الآخرين وشكواهم، فَيَتَشقّق..!

    قالت لي صديقتي: أُكتُبيني !
    قلت: كيف هذا؟

    قالت: أكتُبي حُزْنِي.. أُرسُمي مُنْحَنَيَاتِ وَجَعِي ولا تنسَيْ أن تُصَوّري أحلامي وهي تخبو وتَتَحوّل رماداً..!
    ها أنا أفتح قلبي على مصراعيه فى مَهَبِّ البَوح، هاتي قلمك وفُكّي الاشتباكَ بين وجعي وقلبي..!
    أنا يا صديقتي أحقِنُ أوجاعي بأمصالِ الصّبرِ في الصّباحِ لأكتشفَ فسادَها فى المساء، فأتكوّمَ في الرّكنِ أقُدُّ الأحلام مِنْ وَهْمٍ.. تُرى! هل تَتّسعُ أوراقُكِ لبائسةٍ مثلي؟

    أسندتُ ظهري إلى جدارِ الصّمتِ وعَلّقتُ عينيَّ فى سقفِ الغرفةِ ثم قُلتُ لها: أعتقدُ أنّكِ السّبب فى ثُقْبِ الأوزون؟
    قالت: لم أفهم !
    قُلت: أنتِ تمنحين كل الآلام المشَرَّدةِ حقّ اللّجوءِ والعيش فيكِ من دون تأشيرة ولا جريرة !

    كنّا فى شَقّتي الباردةِ إلا من مِدْفَأةٍ تُراوِدُ حَطَبَها عن دُخانِه، قامت وأمسكت المِشْجَبَ لتُقَلّبَ الحطبَ بعد أن أشعلت مِدفأةَ قلبي بدمعَتِها الوحيدةِ التي انحدرت على كَتِفِي وهي تَسْتَنِدُ إليّ، أوجَعْتِنِي يا صديقتي..!

    عادت وجلست إلى جواري وأسندت رأسها إلى كتفي، ثم قالت: أشعرُ بالجوع.
    قُلتُ: ارفعي عنّي هذه الجمجمةَ لأذهبَ وأعِدَّ شيئاً يأكُلُنا، فضحكت.
    استهلكنا كِسْراتٍ صغيرةً من الخبزِ وأطناناً من الدّموعِ، ثم غَفَوْنَا.

    لا أدري كم من الوقت مرَّ علينا ونحن مُتَكَوِّمَتَان في رُكنٍ قريبٍ من المدفأة على وسادةٍ واحدةٍ كبيرةٍ، ظلَلْتُ أتَأَمَّلُ وجهَ صديقتي وهي نائمة، كانت ملامِحُها مُشْتَبِكَةً، آهٍ.. كم أحبّكِ يا صديقتي وأشعرُ وكأنّكِ ابنتي رغم أنّك تكبُرينني بثلاثةِ أعوامٍ، ؛
    بعد لحظات استيقَظَتْ، نظرَتْ إليّ وقالت: هل حقاً الحزنُ مُتّفَقٌ عليه؟
    قلت: وفي أيّ سندٍ وَرَدَ هذا ؟
    قالت: في التّعيسين، وضحِكَتْ.

    قبّلتُ جبينَهَا ونهضْتُ لأعِدَّ فنجانين من القهوة، وما أن بدأ بُخارُ القهوةِ يُراقِصُ جوّ الغرفةِ حتى نهضَتْ هي مُتَثَاقِلَةً بالنوم، مَدّتْ يدَهَا إلى غِيثارتِهَا وبدأتْ تَعْزِفُ لحناً حزيناً كعادتها، وتُغَنِّي بصوتٍ شجِيٍّ:
    "تَايْبِينْ مَا نْمُرْ مَرَّةْ بْدَرَبْكُمْ
    وْحَالْفِينْ مَا نْرُدْ يُومْ عَلَى حُبْكُمْ
    غَلْطَةْ مَرَّةْ وِنْتَهَتْ وِشَمْعَةِ الْعِشْرَةْ انْطَفَتْ
    وِالذَّنَبْ هُوْ ذَنْبُكُمْ.. الذَّنَبْ هُوْ ذَنْبُكُمْ
    تَايْبِينْ وَمَا يِرَجَّعْنَا الحَنِينْ"

    وكُنتُ -أنا- هُناكَ على طاولةِ الرّسمِ أحاوِلُ أن أنتهيَ مِنْ مَشرُوعي الذي عليّ تقديمَهُ في الصّباحِ إلى لجنةِ التّقييمِ في الجامعةِ، لكنّني لم أستطعْ رَسْمَ خطٍّ واحدٍ، كنتُ أُمسِكُ بالأقلامِ والأدواتِ وأرقُبُ صديقتي عن بعد، أتأمّلُهَا وهي تحتضنُ غيثارتها، وتُسْنِدُ ذِقْنَها إليها وكأنها تُوَشْوِشُهَا، في حين لا تتوقّفُ أصابعُها عن الحديث مع الأوتار.

    كانت القهوةُ السّاخنةُ تمسحُ عنّي الإرهاقَ وتَسْكُبُ فى روحي خَدَرًا لذيذًا، تَذَكّرتُ اليومَ الأوّلَ الذي قابلتُ فيه صديقتي، كان أوّلَ يومٍ لي في الجامعة، أنهيتُ بعضَ الإجراءاتِ وتَسَلّمتُ قائمةً بمواعيدِ الفصولِ الدّراسيّةِ كي أختار منها ما يُناسِبُنِي، خرجتُ إلى ساحة الجامعة وجلستُ على مقعدٍ بعيدٍ في أقصى الجانب الشرقي من المبني، كان الطّقس بارداً، والسّماءُ تَدمَعُ، وبعدَ دقائقَ جاءت فتاةٌ بملامحَ شرقيّةٍ جداً، شعرٍ أسودَ، وبشرةٍ قمحيّةٍ، جلستْ إلى جِواري؛
    وقالت: يا لطيفْ، هَلَكْنا المطَرْ، بِيكَفِّي !
    فردَدَتُ عليها: لم تُمْطِرْ بعدُ، إنها فقط تتثاءب !

    نظرت نحوي وضحكت، ثم قالت: أنتِ عربية؟، فقلت لها: لا ، أنا بَشَرِيّةٌ، ضَحِكَتْ مرّةً أخرى وقالت: بالله عليكِ، فقلت: أتحدّث معك بالعربية، فمِن أينَ تَظُنّينني؟ من كُورْكينَاسِشْيَا؟ وضَحِكنا، ثم أكملنا تَعَارُفَنَا، وساعدتني كثيراً في اختيار مواعيدِ الدّراسةِ وكذلك في أشياء أخرى.
    تَوَطّدت صداقتُنا وأصبحنا نلتقي كثيراً، ثم اقتربنا أكثر من بعضنا فأصبحنا كأختين، لم نكن نفترق إلا في أوقاتِ الدّروسِ في الجامعة.
    نقضي الأمسيات نتحدث، نضحك، نلهو، ونلتزم الصّمت فى لياليَ الاستعدادِ لامتحانٍ..!

    كنت شاردةً منها فيها عندما نادتني قائلة: هيه، أينَ أنتِ الآن، في أيّ قطعة من هذا العالم الأحمق؟
    قلت: كنتُ معك فى عالمك، أتَذَكّر كيف التقينا على بساط القدر، وإلى أين نطير..
    قالت: نعم، ثم أردفَتْ: كم أتمنّى لو أراه! هل يتمنّى هو الآن أن يراني؟ أم أنّه تركني وراءه مثل مُخَلّفاتِ الحربِ؟
    قلت: بل مثل مُخَلّفاتِ الحبِّ، .
    قالت: كان أجملَ أحلامي على الإطلاق، .
    قلتُ: وأصبح أسوأ كوابيسِ حياتِك على الإطلاق أيضاً، أمَا آن لكِ أن تَطْوِيَ هذه الصّفحةَ أو تنزعيها حتى؟،
    تَنَهّدتْ وقالت: يَظُنُّني صدّقتُ نبوءةَ النّسيانِ التي تَنَبَّأ بها لي في آخِر مرّةٍ رأيتُهُ فيها؟ وما كانت إلا نبوءةَ لعنةٍ أعيشُ بها وبه حتى الآن، لم تستطع أوردتي تمريرَ ذبحةِ فِرَاقِهِ ولا صَدْمَةَ زَوَاجِهِ، كلُّ الفواجعِ تَتَجَمّعُ في دمي وتَتَدَفّقُ في شراييني، .
    قلتُ: أيُّ حبٍّ هذا الذي يَنْكَمِشُ ويَتَكَوّرُ ويَدُسُّ نفسَهُ غُصّةً عالقةً في الرّوحِ، كَفَاكِ..

    تَنَهَّدَتْ قائلةً: تَبًّا لي، ما زلتُ أحبّه، ثمّ أردفَتْ: ما بِكِ؟
    قلتُ: أنا؟ ليس بي شيءٌ، فقط قلبي يَتَرَنّحُ..
    قالت: هل تعلمين؟ لكِ قُدرةٌ خارقةٌ على الاستماعِ وفي صمتٍ أيضًا، هل تَذْكُرينَ ليلةَ أنْ قَصَصْتُ عليكِ القِصّةَ كاملةً وظَلَلْتِ تَسْتَمِعِينَ إليّ حتى السادسةَ صباحاً، بصبرٍ وصمتٍ؟ ما مِنْ أحدٍ فَعَلَهَا معي قَبْلَكِ..

    قلتُ: نعم.. أتَذَكّرُ جيّدًا، بعدَ ليلةِ الحريقِ تلك، خرجنا في الصّباحِ الباكرِ لنُكافِئَ أنفُسَنَا بقهوةٍ ومخبوزاتٍ فرنسيّةٍ، ثم عُدْنَا إلى هُنا ونِمْنا نومةَ أهلِ الكهفِ ليومٍ كاملٍ وليلتِهِ، صَحَوْنَا بعدَها فاقدتَي الذّاكرة وقتيلتَي الجوعِ،

    ضحِكَتْ، ثم قالت: هيّا، قلتُ: هيّا ماذا؟ ارحميني، هيّا ماذا؟
    قالت: أكتُبيني، هاكِ القلم والدّفتر، أرغبُ بشدّةٍ أن أقرأني على سُطورِكِ، أشعُرُ بالإرهاق وبرغبةٍ عارمةٍ في النّومِ، سأتركُكِ مع القلمِ والدّفترِ وأنامُ، وعندما أصحو أقرأ ما كتبتِ !
    قلتُ: الله عليكِ، كم أنتِ جميلةٌ وكريمةٌ، تنامينَ وأنا أخيطُ اللّيلَ بالنّهارِ لأكتُبَكِ، حَنُونَةٌ أنتِ، وبينما أحدّثُها، كانت قد اعتلَتْ صَهْوَةَ النّومِ وانطلقَتْ.

    جلستُ إلى مكتبي في ركنٍ من الغرفة وبدأتُ أمارسُ عاداتي السّيئةَ في الكتابةِ، فنجانٌ من القهوةِ المرّةِ، وضوءٌ خافتٌ، وموسيقى باكيةُ النّغم، وقلمٌ صغيرٌ يُؤلم أناملي، وكتبتُ: "ما فائدةُ أن يَتَّسعَ العالم وحذائي ضيّقٌ"..!

    ::

    اِبْك .. اِبْك خَفِيَّة لِئَلَّا يَجِيْئَك هُدْهُد حُزْنِك بِنَبَأ يَقِيْن..!

    ::
  • خلود الجبلي
    أديب وكاتب
    • 12-05-2008
    • 3830

    #2
    الفاضلة كامليا
    لولا من قوانين القسم الغاء التثبيت
    لكنت ثبت هذه اللوحه الرائعه

    قد يكون المناسب لها سيدتي قسم حواريات

    تحياتي واحترامي لقلمك
    لا إله الا الله
    محمد رسول الله

    تعليق

    • يسري راغب
      أديب وكاتب
      • 22-07-2008
      • 6247

      #3
      الاديبة الراقية
      الشاعرة كاميليا
      حوارية اختارت البلاغة مع الفصاحة ديوانها فاخذتنا الى احاديث متعمقة بحروف متمسكة باصول اللغة وحروفها
      كما عودتنا دائما مميزة
      دمت سالمة منعمة وغانمة مكرمة

      تعليق

      • كاميليـا بهاء
        { أنستازيا }
        • 13-06-2010
        • 61

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة خلود الجبلي مشاهدة المشاركة
        الفاضلة كامليا
        لولا من قوانين القسم الغاء التثبيت
        لكنت ثبت هذه اللوحه الرائعه

        قد يكون المناسب لها سيدتي قسم حواريات

        تحياتي واحترامي لقلمك

        رائعة الحضور خلود الجبلي

        أشكر لك الإطراء الجميل ، أسعدني جداً ..
        وكم أتمني أن تذهب حيث تنتمي سيدتي ..

        تحية تليق بك.

        ::

        اِبْك .. اِبْك خَفِيَّة لِئَلَّا يَجِيْئَك هُدْهُد حُزْنِك بِنَبَأ يَقِيْن..!

        ::

        تعليق

        • غسان إخلاصي
          أديب وكاتب
          • 01-07-2009
          • 3456

          #5
          أختي الكريمة كاميليا المحترمة
          مساء الخير
          نعم ، أحسنت ، يالروعة ما كتبت !!!!!!!! .
          إنها ليست أحاديث وحواريات فقط كما نوهت الأخت خلود .......
          بل إن ما كتبت أبجديات للفكر البشري ورؤى سامية في جسد العقل والشعور
          وكانت النهاية لطيفة عندما تطرقت لعاطفة الحب الذي ندر وجوده .
          وهكذا كانت إشراقة مشاعرك تمتزج مع أحلامك وتطلعاتك بكل شفافية .
          تحياتي وودي لك .
          (مِنْ أكبرِ مآسي الحياةِ أنْ يموتَ شيءٌ داخلَ الإنسانِِ وهو حَيّ )

          تعليق

          • مختار عوض
            شاعر وقاص
            • 12-05-2010
            • 2175

            #6
            الـ (كاميليا) الرائعة..
            القراءةُ لكِ مغامرة محفوفة بالمخاطر..
            كنتُ هنا معكِ.. قرأتكِ لحد النـزف..
            أيتها الرائعة.. أنتِ كائن جميل يختزل الوجع والحزن في قلبه ثم يروح يسكبهما على جدران مشاعرنا أحاسيس دافقة..
            سَلِمَ القلمُ والفكر والقلب..
            تقديري لهذا الإبداع الخلاب..
            قرنفلات لروحك الجميلة.

            تعليق

            • كاميليـا بهاء
              { أنستازيا }
              • 13-06-2010
              • 61

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة يسري راغب مشاهدة المشاركة
              الاديبة الراقية
              الشاعرة كاميليا
              حوارية اختارت البلاغة مع الفصاحة ديوانها فاخذتنا الى احاديث متعمقة بحروف متمسكة باصول اللغة وحروفها
              كما عودتنا دائما مميزة
              دمت سالمة منعمة وغانمة مكرمة

              الأديب المبدع / يسري راغب
              مرورٌ فاخر وشهادة أرفعها على جبيني ضوء ..
              شكراً كثيراً أستاذي.

              سلمت فاضلي.

              ::

              اِبْك .. اِبْك خَفِيَّة لِئَلَّا يَجِيْئَك هُدْهُد حُزْنِك بِنَبَأ يَقِيْن..!

              ::

              تعليق

              يعمل...
              X