ثرثرة لابد منها و شهقة ريح ..قراءة في
ديوان الشاعر / سلطان الزيادنة
يقول صلاح عبدالصبور : - شغلت فى السنوات الأخيرة بفكرة التشكيل فى القصيدة ، حتى لقد بت أؤمن أن القصيدة التي تفتقد التشكيل تفتقد الكثير من مبررات وجودها ، ولعل فكرة التشكيل وإدراكى لها لم ينبع من قراءاتي للشعر بقدر ما نبع من محاولاتي لت>وق فن التصوير ، ولعل فكرة التشكيل تنبع من الإقرار بأن القصيدة ليست مجرد مجموعة من الخواطر أو الصور أو المعلومات ، ولكنها بناء متدامج الأجزاء، منظم تنظيما صارما ، مما يحدث تناقضا بين العقل وبين الروح .." 1 " حياتى فى الشعر ص25 بتصرف
فهل نجح الشاعر سلطان الزيادنة فى ديوانه ( شهقة ريح ) " 2 " أن يتغلب على هذا التناقض فى التشكيل بين ما يقره العقل وما تصبغه الروح ؟ ، نحاول معه اكتشاف رؤيته وتشكيلاته الفنية وقدراته فى المواءمة بين الروح والعقل فى نسج كل تلك الرؤى والتشكيلات ...
فقط هى شهقة ريح لا غير تحدث تغييرات عدة فى عالم يؤمن تماما بالتغير ، ذلك العالم الذى يرسمه الشاعر سلطان الزيادنة يناجى من خلال تلك الشهقة حبيبته ، التى يستطيب لضربها ضلوع الذبيح، حبيبته ( شهقة ريح ) هى ذاتها تلك الشهقة التى يناجيها وتناجيه
حبيبتى
يا شهقة ريح
تضرب الحنايا
وتستطيبُ لضربِِها ضلوعُ
الذبيحْ
ثم يطالبها أن تنفخ جنونها العذب فى صدر أشرعته ، تلك الصورة الرائعة التى يريدها الشاعر أن تتم وتحدث أى جنون هذا إنه الجنون العذب ، وهل فى الجنون ما يستعذب ، ولأنه شاعر يمتلك خيالا جامحا...صار الجنون عذبا ، ولما لا وهو يتأهب للسفر، هى البشارة التى يبحث عنها ، يبحث عن الفعل والمشاركة ولعل اللغة والقدرة على استخدام مفرداتها لدليل على قدرة الشاعر ووعيه بماهية ما يكتب ، ( ولنشعل ) فعل يدل على المشاركة والتوحد فى آن ، كيف ذلك وما الآلية اللازمة لتحقيق هذا الفعل ... كان ذلك بـ ( لهيب حضور )
انفخى
جنُونَكِِ
العَذْبَ
في صَدر أشرعتي
بشارةَ سَفَرْ ......
ولنُشعلَ بُحورَ الجمر
لهيبَ حُضورْ .....
ثم ينطلق الشاعر من صورة أفقية تسير فى تعددية النداء .. لكنها بالفعل تعتبر صورة ملحة فى البناء الشعرى ، لأنه ينطلق منها لتحقيق أمنية ، فيها يتوحد مع الزمن ، الماضى والحاضر ، مفردات تلك الصورة ( النجمة البكر - القمر – عانقيني – لأصالح – يومي – أمسي - أشتهي – القدر ) .
حَبيبَتي
يا بَسْمةَ النجمةِ البكرِ
حين يغازلُها القَمَرْ
عانقيني
لأصالحَ يَومي
أمسي
وأرسُمٌ كما اشتهي
الَقَدَرْ
ثم نجد الولع بتولد الصورة فى تتابعية متصلة للصورة القديمة ، لأنه يربط صوره باستعراض السبب ، فيقول :
فمن زمَانِ
ومراكبُ الوصْلِ
قابعةٌ
على شَواطِئِ الصُبّارِ
كَعرائسِِ العُنوسةِ
تَنتظرْ
من زمان
ومراكبُ الوصْلِ
ترتلُ آياتً التشَهَي
وتَصْطلي
سَقَرْ
تلك الصورة الدالة تماما على الشوق والولع بالمحبوبة أيا كانت تلك المحبوبة ودلالاتها ، هى المحبوبة المطلقة التى لا تحدها حدود ، ولا يمكن حصرها أو تقييدها فى إطار ..
من تلك المساحة يعبر الشاعر عن رغبته ويجد الفرصة متاحة لذلك ، لملميني قيثارتي ، وكأنه شهقة مبعثرة هنا وهناك ، ومن ماذا تلملمه ، ( من رفات النهاوند ) وكأن النهاوند أصبح قديما لم يصلح للحياة والغناء ، ويضع البياتي فى تلك الكفة أيضا ، لأنه يستبدلهما ، أو يريد أن يستبدلهما بدور أندلسي طروب ، ليس فى أي وقت بل حدد الشاعر الزمن لذلك التغيير ( ساعة سهر )
لمْلِميني قيثََارتي
من رُفاتِ
النَهاونْدِ
ونَثَارِِ البَيَاتي
وأعزفيني
قيثارتي
دوراً أندلُسياَ
طَروباً
سَاعةَ ..... سَهرْ
ومن تلك الحالة تنبع الحكمة التى تؤكد طبيعة الحياة وحتمية الزمن ، لتبقى القصيدة ذات الشبق وذات النار
وأمضي
وتمضي فيَََّ حِكمَةُ التِكرارِْ:
-ليلٌ في ظَهرِ نَهارْ
وتَبْقى القَصيدة.....
ذاتَ الشَبَقْ
ذاتَ النَارْ
ثم ينطلق بنا الشاعر فى قصيدة أخرى هى أقرب للعلائيات ( أبى العلاء المعري ) ذلك الشاعر الفيلسوف ، والذى غلبت على نظرته السوداوية فى جل شعرة وفلسفته ، يحمل منطقه ، ولعل ما ساقه الزيادنة فى تلك القصيدة من تركيز على اللون والتعبير عن الحالة باللون لدليل على براعة التناول ، وصدّر القصيدة بمصادرة حيث لا لون إلا الداكن ، بل هو عنوان القصيدة :
يوم وهبتها سراجي
استهوتها غواية الليل
هنا ينطلق الشاعر من لحظة زمنية محددة المعالم ، يوم وهبتها سراجى ، حدثت نقطة الانطلاق بل المحرك الرئيس لبناء النص ، استهوتها غواية الليل ، هل لأنها أحبت ذلك السراج الذى يبدد تلك العتمة ، أم أن الأمر يتعلق بمساحة نفسية أخرى ، يترك الشاعر لنا مساحات التخييل ، الأمر لا يستمر كثيرا ، لأن صوتها الأسود القبيح ينشدها ، وهنا أتوقف عند تلك الصورة كثيرا ، من يستطيع أن يصبغ الصوت باللون ، غير الشاعر ، هذا ما فعله شاعرنا الزيادنة بقدرة عالية لأنه فى الأساس ينطلق من تلك الحالة النفسية المهيمنة على الشاعر ، ثم تبزغ الصفة ( القبيح ) ثم كلمة أخرى ( ينشدها ) وهنا تبدو حالة من التضارب جملة شعرية غاية فى الدلالة تعبر عن تلك التوأمة بين الحالة النفسية والقدرة التعبيرية الموازنة لتلك الحالة ، حيث لا يستطيع الكثير من الشعراء خلق هذا التوازن بين المساحة الشعورية والقدرة التعبيرية .
صوته الأسود القبيح ينشدها:
وتستمر حالة المصادرة على باقى الألوان حيث يهيمن اللون الداكن على النفس كمكان مرادفا موضوعيا للمكان المادى الذى يتحرك النص خلاله .
-لا لون إلا الداكن
موؤدة باقي الألوان
تغزو الظلمة كل المكان
وتستحيل الدروب
أشباح دروب......
خطاي لا تجدني.....
من يدركني بقبس من نور؟
من نار؟....
-خرافة هي الأقمار.!
يستنجد الشاعر بمن ، هو تائه لا يدري بمن يستنجد ، من يدركه بقبس من نور ، من نار ، حتى يصل لحالة من الكفر بالأقمار ووجودها ، لأنها لم تحقق الحد الأدنى من رعايته حين استنجد بها ... خرافة هي الأقمار . ويستمر الشاعر فى تبيين معالم هذا العالم من خلال حالة اللاوعى ، يصبح فيها العمى ملاذا خاصة فى هذا العالم الذى صم الأذن ، والعمى صار نعمة ، لأنه ببساطة فى الظلمة تتساوى كل الجهات ، ويأسف الشاعر لضياع كل محاولاته لإنقاذ نفسه والعالم ، دون جدوى مؤكدا بصور حركية متدفقة حالته مواكبة فى ذلك حركة الزمن ، وفعل المتلقى لتلك النداءات ، وفى النهاية يلقى الشاعر بقنبلته الموقوتة فى وجه المتلقى قائلا :
كنت ادري أني اذوي
محض نبض أخير.....
مرة في العمر لم يعِ
حكمة المصير:
-الصمت
أسرع من الصوت
بذاره ارتعاشات المحزون
وقطافه موت.....
لعل الإدراك التام يجعلنا نبصر أو ندرك معه أن "الشعر وسيلة ممكنة لقهر الاختلال " " 3 "
ها زياد!
وحدك تدرك حنين سفيني
لرملِ الشاطئِ المخمورِ
أم تراني زياد
اشتهي الدفءَ
من نارٍ جِدُّ مخاتلة؟!
استخدم الشاعر هنا إحدى الحيل الفنية لقهر الاختلال الذى تسرب إلى كل أوردة الحياة ( الاستفهام ) وهو هنا استفهام استنكارى لا ريب ..
وسوف أتواصل مع نصوص الديوان دونما وضع محددات للعنونة ولنقرأ معا هذا المقطع من قصيدة ( ) فيقول : -
فليسدل الغيابُ
الحجابْ
ولنشرب زياد نخب العبابْ
نخب نساءِ الصفيحِ
نساءِ السرابْ ....
وليتهاوى الرأسُ
في الكأس،
غّنِ معي زياد:
غرباء نمضي
نشربُ نخبَ
من تركناهم خلفنا للريحْ
مثقلين نمضي
لسنا بحاجة
لموتٍ آخرَ كي نستريحْ.
يستخدم الشاعر لام الأمر ويصر على تكرارها ويقر بحقيقة وجودهما كغرباء مثقلين بالهموم ، هو يستخدم لام الأمر مؤكدا عليها ومستجيرا بها فى ندائه لأنه جعل لوجودها مبررا حين قال : لسنا بحاجة لموت آخر كي نستريح .
لأنه ببساطة ..
مُذ
صَدِئَتْ بِأغْمادِها
السُّيوف
ماعُدْنا نُغَنّي
فَهذا زَمانُ البُومِةِ
حِيَنما تُحاكي
بِصَوتِها لونَ
المَقْبَرَة
لا مُغَرِدَة في العُش
ولا حتى قََش
فأيُّ شدوٍ
وحَناجِرُنا........
كأحلامِنا
على وَهَم المَسرّاتِ
قَضَت
منَْحورة؟
يسير الديوان منتهجا هذا الاقتناص وهذا التوبيخ للذات ، والظروف والحياة .. رغم محاولات الشاعر الإفلات من شرك الوقوع فى المباشرة غلا أنه سرعان ما ينسى أو يتناسى أن الفن كلما ابتعد عن المباشرة كلما زادت قيمته ، وهو فى هذه القصيدة " ابو رغال " بالذات قد وقع فى شرك المباشرة مستعينا بمفردات التراث الشعبى على سبيل المثال " جاءت الحزينة تفرح .. ما لقتشى لها مطرح ) .
إن هذا الديوان لا يقدم رصدا مباشرا على الإطلاق للواقع بقدر ما يقدم رصدا اجتماعيا نفسيا وهنا تكمن قيمة الشعر والفن عموما .. وقد نناقش فى هذا الديوان فكرة المقاومة ، فالبناء والتشكيل فيه يبنى على هذه الفكرة رغم ما يعتريها فى بعض الأحيان من بزوغ نجم الاستسلام ، لكن الاستسلام فى مواجهة ماذا ؟ هذا هو السؤال .. ولعل الاستسلام هنا يعد نوعا من العبث .. ولن أقف طويلا عند محاولات الشاعر التعرض للذين يبيعون أوطانهم مقابل دراهم معدودات حين يقول :
ويَبْقى وَحْدَهُ أبو رغال
حاضِراً
َتْمتَطيهِ شُرُوره
يَبيعُنا لِقَياصِرةِ المَوتِ
بِدِراهِمَ مَعْدودِة
أشْباحَ أُمَّةٍ مَذعورَة
تَلوكُ أحْلامَها بِبَلادَة
ويبقى دوما ابو رغال
صاحِبُ الصّولجَانِ والسّيَادَة
وأرْواحُنا
تنْسِجُ ِمنْ أجْسادِنا
لنِعْلِه سِجَّادَة
لنُجَلِل إذَنْ حاناتِ الكَلامِ
بستائرِِ الصّمْتِ
صمتُنا واللهِ..
اليَومَ......عِبادَة
ويستخدم الشاعر بعد ذلك حيلة فنية أخرى .. حيلة الاسترجاع ( الفلاش باك ) ليعمق فكرة المقاومة فيقول :
أتَذكَرون؟!
المَسْكونِ بشَهوةِ التراب
والمَذبوحِ لإقليما…
قُربانْ
ها قَدْ حطَّ الرِحالْ...
على رَمْلِ الشَاطِئِ الغَربِيِ
واسْتَكانْ...
قَلْبُهُ الأخضَرُ زيَتونٌ
ونَزْفُهُ الدّامي........بُرتُقالْ
ولعل قصيدة براءة لدليل على المنهج والرؤية التى يمكن الحكم من خلالها على توجه الشاعر وأفكاره ، خاصة حيال المقاومة والدفاع ، لكن ما حاول الشاعر أبدا أن يضع نفسه موضع الهجوم إلا قليلا عبر صفحات هذا الديوان المتماسك ، رغم تحفظى على بعض القصائد التى تبتعد برؤية الديوان الكلية وتأخذه منا نحو التوجه الوجدانى الذى يطفو لبرهة ثم يختفى ، والشاعر أدرى منّا بتحديد تلك القصائد ، ولتكن العودة لتلك القصيدة براءة ولنضعها في دراستنا للديوان حيث من خلالها يتضح للقارئ العديد من التشكيلات الفنية وتتضح أيضا معالم الرؤية فيقول :
ريحٌ
أليفة الصوت
تعزف دمعتي
لأغدو اسماً جديداً.....للموت
أطالعها
فأطالعني
والفرح
كقطرة ندىً خجلى
تشتهي
تقبيل عشبها الأخضر
كلما دنت
تجمدت شفاهها
فتناءت أكثر
أطالعها.... شعرًا
فتقرأني
أوجاع محزونين
خضّبت كفَّ الوقت
بلونِ
وجه هندي أحمر
اقتلعوه من أرض آبائه الأولين
جرمه الأكبر
أنه ما أتقن التنطع يوماً
بأكاذيب التحضر
ولا تقبيل أرجل الداعرين
خابوا
خيبةَ الصفيحِ
في مباهاة الذهب الدفين
قل هل يستوي
ريح السذّاب
بطيب العنبر!.
ونشر الياسمين!
قسماً .....
بحسرات الطفارى
وانكفاءات
ملايين المساكين
إني براءٌ منكم
براءةَ السعدِ من دنيتي
وبراءةَ السلسبيل
من نجسِ ....الطين .
ويختتم الشاعر ديوانه بمجموعة من القصائد القصيرة التي جمعها تحت عنوان " أوراق مبعثرة في أروقة الريح " .. مكثفة ومركزة ولعل قصيدة " المرايا " لدليل قاطع على تطور معالم الرؤية عند التشكيل ومحاولة فلسفة الأشياء
فيقول :
وسيما ًكقزحٍ
يتنزه جيئة وذهاباً
في مفاتن الضوء
قديساً يقطر البهاء
في مسامات العتمة
ما كان لعينيها
أن تطيلان
إلى محياه النظر
فالمرآة المتسخة
ترتعد من نقاء الصور.
تحية لشاعر جميل تعرفت عليه من خلال ديوانه ، ولم يكن بيننا سابق معرفة ، لعل الأيام تشهد لقاء بيننا لأقدم له تقديرى لإبداعه الذى جذبنى للكتابة ، فقلما أجد نصا يستثيرنى للكتابة ، أتمنى للشاعر مزيدا من الإبداع الراقى الذى يثري مكتبتنا العربية .
المراجع والهوامش
1. حياتي فى الشعر – صلاح عبدالصبور – مكتبة الأسرة – 2003
2. شهقة ريح – سلطان الزيادنة – ديوان مخطوط قبل الطبع
3. الثقافة والمجتمع – رايموند وليامز – ت . وجيه سمعان.مراجعة.محمد فتحي مكتبةالأسرة 2001
4. الحفاظ على التراث الثقافى – د . م / جمال عليان – عالم العرفة
ديوان الشاعر / سلطان الزيادنة
يقول صلاح عبدالصبور : - شغلت فى السنوات الأخيرة بفكرة التشكيل فى القصيدة ، حتى لقد بت أؤمن أن القصيدة التي تفتقد التشكيل تفتقد الكثير من مبررات وجودها ، ولعل فكرة التشكيل وإدراكى لها لم ينبع من قراءاتي للشعر بقدر ما نبع من محاولاتي لت>وق فن التصوير ، ولعل فكرة التشكيل تنبع من الإقرار بأن القصيدة ليست مجرد مجموعة من الخواطر أو الصور أو المعلومات ، ولكنها بناء متدامج الأجزاء، منظم تنظيما صارما ، مما يحدث تناقضا بين العقل وبين الروح .." 1 " حياتى فى الشعر ص25 بتصرف
فهل نجح الشاعر سلطان الزيادنة فى ديوانه ( شهقة ريح ) " 2 " أن يتغلب على هذا التناقض فى التشكيل بين ما يقره العقل وما تصبغه الروح ؟ ، نحاول معه اكتشاف رؤيته وتشكيلاته الفنية وقدراته فى المواءمة بين الروح والعقل فى نسج كل تلك الرؤى والتشكيلات ...
فقط هى شهقة ريح لا غير تحدث تغييرات عدة فى عالم يؤمن تماما بالتغير ، ذلك العالم الذى يرسمه الشاعر سلطان الزيادنة يناجى من خلال تلك الشهقة حبيبته ، التى يستطيب لضربها ضلوع الذبيح، حبيبته ( شهقة ريح ) هى ذاتها تلك الشهقة التى يناجيها وتناجيه
حبيبتى
يا شهقة ريح
تضرب الحنايا
وتستطيبُ لضربِِها ضلوعُ
الذبيحْ
ثم يطالبها أن تنفخ جنونها العذب فى صدر أشرعته ، تلك الصورة الرائعة التى يريدها الشاعر أن تتم وتحدث أى جنون هذا إنه الجنون العذب ، وهل فى الجنون ما يستعذب ، ولأنه شاعر يمتلك خيالا جامحا...صار الجنون عذبا ، ولما لا وهو يتأهب للسفر، هى البشارة التى يبحث عنها ، يبحث عن الفعل والمشاركة ولعل اللغة والقدرة على استخدام مفرداتها لدليل على قدرة الشاعر ووعيه بماهية ما يكتب ، ( ولنشعل ) فعل يدل على المشاركة والتوحد فى آن ، كيف ذلك وما الآلية اللازمة لتحقيق هذا الفعل ... كان ذلك بـ ( لهيب حضور )
انفخى
جنُونَكِِ
العَذْبَ
في صَدر أشرعتي
بشارةَ سَفَرْ ......
ولنُشعلَ بُحورَ الجمر
لهيبَ حُضورْ .....
ثم ينطلق الشاعر من صورة أفقية تسير فى تعددية النداء .. لكنها بالفعل تعتبر صورة ملحة فى البناء الشعرى ، لأنه ينطلق منها لتحقيق أمنية ، فيها يتوحد مع الزمن ، الماضى والحاضر ، مفردات تلك الصورة ( النجمة البكر - القمر – عانقيني – لأصالح – يومي – أمسي - أشتهي – القدر ) .
حَبيبَتي
يا بَسْمةَ النجمةِ البكرِ
حين يغازلُها القَمَرْ
عانقيني
لأصالحَ يَومي
أمسي
وأرسُمٌ كما اشتهي
الَقَدَرْ
ثم نجد الولع بتولد الصورة فى تتابعية متصلة للصورة القديمة ، لأنه يربط صوره باستعراض السبب ، فيقول :
فمن زمَانِ
ومراكبُ الوصْلِ
قابعةٌ
على شَواطِئِ الصُبّارِ
كَعرائسِِ العُنوسةِ
تَنتظرْ
من زمان
ومراكبُ الوصْلِ
ترتلُ آياتً التشَهَي
وتَصْطلي
سَقَرْ
تلك الصورة الدالة تماما على الشوق والولع بالمحبوبة أيا كانت تلك المحبوبة ودلالاتها ، هى المحبوبة المطلقة التى لا تحدها حدود ، ولا يمكن حصرها أو تقييدها فى إطار ..
من تلك المساحة يعبر الشاعر عن رغبته ويجد الفرصة متاحة لذلك ، لملميني قيثارتي ، وكأنه شهقة مبعثرة هنا وهناك ، ومن ماذا تلملمه ، ( من رفات النهاوند ) وكأن النهاوند أصبح قديما لم يصلح للحياة والغناء ، ويضع البياتي فى تلك الكفة أيضا ، لأنه يستبدلهما ، أو يريد أن يستبدلهما بدور أندلسي طروب ، ليس فى أي وقت بل حدد الشاعر الزمن لذلك التغيير ( ساعة سهر )
لمْلِميني قيثََارتي
من رُفاتِ
النَهاونْدِ
ونَثَارِِ البَيَاتي
وأعزفيني
قيثارتي
دوراً أندلُسياَ
طَروباً
سَاعةَ ..... سَهرْ
ومن تلك الحالة تنبع الحكمة التى تؤكد طبيعة الحياة وحتمية الزمن ، لتبقى القصيدة ذات الشبق وذات النار
وأمضي
وتمضي فيَََّ حِكمَةُ التِكرارِْ:
-ليلٌ في ظَهرِ نَهارْ
وتَبْقى القَصيدة.....
ذاتَ الشَبَقْ
ذاتَ النَارْ
ثم ينطلق بنا الشاعر فى قصيدة أخرى هى أقرب للعلائيات ( أبى العلاء المعري ) ذلك الشاعر الفيلسوف ، والذى غلبت على نظرته السوداوية فى جل شعرة وفلسفته ، يحمل منطقه ، ولعل ما ساقه الزيادنة فى تلك القصيدة من تركيز على اللون والتعبير عن الحالة باللون لدليل على براعة التناول ، وصدّر القصيدة بمصادرة حيث لا لون إلا الداكن ، بل هو عنوان القصيدة :
يوم وهبتها سراجي
استهوتها غواية الليل
هنا ينطلق الشاعر من لحظة زمنية محددة المعالم ، يوم وهبتها سراجى ، حدثت نقطة الانطلاق بل المحرك الرئيس لبناء النص ، استهوتها غواية الليل ، هل لأنها أحبت ذلك السراج الذى يبدد تلك العتمة ، أم أن الأمر يتعلق بمساحة نفسية أخرى ، يترك الشاعر لنا مساحات التخييل ، الأمر لا يستمر كثيرا ، لأن صوتها الأسود القبيح ينشدها ، وهنا أتوقف عند تلك الصورة كثيرا ، من يستطيع أن يصبغ الصوت باللون ، غير الشاعر ، هذا ما فعله شاعرنا الزيادنة بقدرة عالية لأنه فى الأساس ينطلق من تلك الحالة النفسية المهيمنة على الشاعر ، ثم تبزغ الصفة ( القبيح ) ثم كلمة أخرى ( ينشدها ) وهنا تبدو حالة من التضارب جملة شعرية غاية فى الدلالة تعبر عن تلك التوأمة بين الحالة النفسية والقدرة التعبيرية الموازنة لتلك الحالة ، حيث لا يستطيع الكثير من الشعراء خلق هذا التوازن بين المساحة الشعورية والقدرة التعبيرية .
صوته الأسود القبيح ينشدها:
وتستمر حالة المصادرة على باقى الألوان حيث يهيمن اللون الداكن على النفس كمكان مرادفا موضوعيا للمكان المادى الذى يتحرك النص خلاله .
-لا لون إلا الداكن
موؤدة باقي الألوان
تغزو الظلمة كل المكان
وتستحيل الدروب
أشباح دروب......
خطاي لا تجدني.....
من يدركني بقبس من نور؟
من نار؟....
-خرافة هي الأقمار.!
يستنجد الشاعر بمن ، هو تائه لا يدري بمن يستنجد ، من يدركه بقبس من نور ، من نار ، حتى يصل لحالة من الكفر بالأقمار ووجودها ، لأنها لم تحقق الحد الأدنى من رعايته حين استنجد بها ... خرافة هي الأقمار . ويستمر الشاعر فى تبيين معالم هذا العالم من خلال حالة اللاوعى ، يصبح فيها العمى ملاذا خاصة فى هذا العالم الذى صم الأذن ، والعمى صار نعمة ، لأنه ببساطة فى الظلمة تتساوى كل الجهات ، ويأسف الشاعر لضياع كل محاولاته لإنقاذ نفسه والعالم ، دون جدوى مؤكدا بصور حركية متدفقة حالته مواكبة فى ذلك حركة الزمن ، وفعل المتلقى لتلك النداءات ، وفى النهاية يلقى الشاعر بقنبلته الموقوتة فى وجه المتلقى قائلا :
كنت ادري أني اذوي
محض نبض أخير.....
مرة في العمر لم يعِ
حكمة المصير:
-الصمت
أسرع من الصوت
بذاره ارتعاشات المحزون
وقطافه موت.....
لعل الإدراك التام يجعلنا نبصر أو ندرك معه أن "الشعر وسيلة ممكنة لقهر الاختلال " " 3 "
ها زياد!
وحدك تدرك حنين سفيني
لرملِ الشاطئِ المخمورِ
أم تراني زياد
اشتهي الدفءَ
من نارٍ جِدُّ مخاتلة؟!
استخدم الشاعر هنا إحدى الحيل الفنية لقهر الاختلال الذى تسرب إلى كل أوردة الحياة ( الاستفهام ) وهو هنا استفهام استنكارى لا ريب ..
وسوف أتواصل مع نصوص الديوان دونما وضع محددات للعنونة ولنقرأ معا هذا المقطع من قصيدة ( ) فيقول : -
فليسدل الغيابُ
الحجابْ
ولنشرب زياد نخب العبابْ
نخب نساءِ الصفيحِ
نساءِ السرابْ ....
وليتهاوى الرأسُ
في الكأس،
غّنِ معي زياد:
غرباء نمضي
نشربُ نخبَ
من تركناهم خلفنا للريحْ
مثقلين نمضي
لسنا بحاجة
لموتٍ آخرَ كي نستريحْ.
يستخدم الشاعر لام الأمر ويصر على تكرارها ويقر بحقيقة وجودهما كغرباء مثقلين بالهموم ، هو يستخدم لام الأمر مؤكدا عليها ومستجيرا بها فى ندائه لأنه جعل لوجودها مبررا حين قال : لسنا بحاجة لموت آخر كي نستريح .
لأنه ببساطة ..
مُذ
صَدِئَتْ بِأغْمادِها
السُّيوف
ماعُدْنا نُغَنّي
فَهذا زَمانُ البُومِةِ
حِيَنما تُحاكي
بِصَوتِها لونَ
المَقْبَرَة
لا مُغَرِدَة في العُش
ولا حتى قََش
فأيُّ شدوٍ
وحَناجِرُنا........
كأحلامِنا
على وَهَم المَسرّاتِ
قَضَت
منَْحورة؟
يسير الديوان منتهجا هذا الاقتناص وهذا التوبيخ للذات ، والظروف والحياة .. رغم محاولات الشاعر الإفلات من شرك الوقوع فى المباشرة غلا أنه سرعان ما ينسى أو يتناسى أن الفن كلما ابتعد عن المباشرة كلما زادت قيمته ، وهو فى هذه القصيدة " ابو رغال " بالذات قد وقع فى شرك المباشرة مستعينا بمفردات التراث الشعبى على سبيل المثال " جاءت الحزينة تفرح .. ما لقتشى لها مطرح ) .
إن هذا الديوان لا يقدم رصدا مباشرا على الإطلاق للواقع بقدر ما يقدم رصدا اجتماعيا نفسيا وهنا تكمن قيمة الشعر والفن عموما .. وقد نناقش فى هذا الديوان فكرة المقاومة ، فالبناء والتشكيل فيه يبنى على هذه الفكرة رغم ما يعتريها فى بعض الأحيان من بزوغ نجم الاستسلام ، لكن الاستسلام فى مواجهة ماذا ؟ هذا هو السؤال .. ولعل الاستسلام هنا يعد نوعا من العبث .. ولن أقف طويلا عند محاولات الشاعر التعرض للذين يبيعون أوطانهم مقابل دراهم معدودات حين يقول :
ويَبْقى وَحْدَهُ أبو رغال
حاضِراً
َتْمتَطيهِ شُرُوره
يَبيعُنا لِقَياصِرةِ المَوتِ
بِدِراهِمَ مَعْدودِة
أشْباحَ أُمَّةٍ مَذعورَة
تَلوكُ أحْلامَها بِبَلادَة
ويبقى دوما ابو رغال
صاحِبُ الصّولجَانِ والسّيَادَة
وأرْواحُنا
تنْسِجُ ِمنْ أجْسادِنا
لنِعْلِه سِجَّادَة
لنُجَلِل إذَنْ حاناتِ الكَلامِ
بستائرِِ الصّمْتِ
صمتُنا واللهِ..
اليَومَ......عِبادَة
ويستخدم الشاعر بعد ذلك حيلة فنية أخرى .. حيلة الاسترجاع ( الفلاش باك ) ليعمق فكرة المقاومة فيقول :
أتَذكَرون؟!
المَسْكونِ بشَهوةِ التراب
والمَذبوحِ لإقليما…
قُربانْ
ها قَدْ حطَّ الرِحالْ...
على رَمْلِ الشَاطِئِ الغَربِيِ
واسْتَكانْ...
قَلْبُهُ الأخضَرُ زيَتونٌ
ونَزْفُهُ الدّامي........بُرتُقالْ
ولعل قصيدة براءة لدليل على المنهج والرؤية التى يمكن الحكم من خلالها على توجه الشاعر وأفكاره ، خاصة حيال المقاومة والدفاع ، لكن ما حاول الشاعر أبدا أن يضع نفسه موضع الهجوم إلا قليلا عبر صفحات هذا الديوان المتماسك ، رغم تحفظى على بعض القصائد التى تبتعد برؤية الديوان الكلية وتأخذه منا نحو التوجه الوجدانى الذى يطفو لبرهة ثم يختفى ، والشاعر أدرى منّا بتحديد تلك القصائد ، ولتكن العودة لتلك القصيدة براءة ولنضعها في دراستنا للديوان حيث من خلالها يتضح للقارئ العديد من التشكيلات الفنية وتتضح أيضا معالم الرؤية فيقول :
ريحٌ
أليفة الصوت
تعزف دمعتي
لأغدو اسماً جديداً.....للموت
أطالعها
فأطالعني
والفرح
كقطرة ندىً خجلى
تشتهي
تقبيل عشبها الأخضر
كلما دنت
تجمدت شفاهها
فتناءت أكثر
أطالعها.... شعرًا
فتقرأني
أوجاع محزونين
خضّبت كفَّ الوقت
بلونِ
وجه هندي أحمر
اقتلعوه من أرض آبائه الأولين
جرمه الأكبر
أنه ما أتقن التنطع يوماً
بأكاذيب التحضر
ولا تقبيل أرجل الداعرين
خابوا
خيبةَ الصفيحِ
في مباهاة الذهب الدفين
قل هل يستوي
ريح السذّاب
بطيب العنبر!.
ونشر الياسمين!
قسماً .....
بحسرات الطفارى
وانكفاءات
ملايين المساكين
إني براءٌ منكم
براءةَ السعدِ من دنيتي
وبراءةَ السلسبيل
من نجسِ ....الطين .
ويختتم الشاعر ديوانه بمجموعة من القصائد القصيرة التي جمعها تحت عنوان " أوراق مبعثرة في أروقة الريح " .. مكثفة ومركزة ولعل قصيدة " المرايا " لدليل قاطع على تطور معالم الرؤية عند التشكيل ومحاولة فلسفة الأشياء
فيقول :
وسيما ًكقزحٍ
يتنزه جيئة وذهاباً
في مفاتن الضوء
قديساً يقطر البهاء
في مسامات العتمة
ما كان لعينيها
أن تطيلان
إلى محياه النظر
فالمرآة المتسخة
ترتعد من نقاء الصور.
تحية لشاعر جميل تعرفت عليه من خلال ديوانه ، ولم يكن بيننا سابق معرفة ، لعل الأيام تشهد لقاء بيننا لأقدم له تقديرى لإبداعه الذى جذبنى للكتابة ، فقلما أجد نصا يستثيرنى للكتابة ، أتمنى للشاعر مزيدا من الإبداع الراقى الذى يثري مكتبتنا العربية .
المراجع والهوامش
1. حياتي فى الشعر – صلاح عبدالصبور – مكتبة الأسرة – 2003
2. شهقة ريح – سلطان الزيادنة – ديوان مخطوط قبل الطبع
3. الثقافة والمجتمع – رايموند وليامز – ت . وجيه سمعان.مراجعة.محمد فتحي مكتبةالأسرة 2001
4. الحفاظ على التراث الثقافى – د . م / جمال عليان – عالم العرفة
تعليق