خطوات
هذا الرّجُل يتأثـّرني حيثما ذهبت ، إنه يُشعرني كما لو كنتُ كائنًا صغيرًا ، سُلّط عليه ضوءٌ على شريحة شفافة لدراسة سلوكا ته.
معطفه الأسود الطويل ، وملامحُه التي جمعتْ كلّ المتناقضات ، تلفّه بهالة من الرّهبة لا يمكن اختراقها،
دقّاتُ قلبي تستجيب لوقع أقدامِه ، في تناغم يُفقدني الإحساسَ بكلّ ما هو حولي ، تتلاشى الأصوات ، تتباطأ حركة النّاس والأشياء ، لتنتهيَ بي إلى سكونٍ رهيب ،
لا صوتَ يعلو هذه الأيام على صوت " أمن الوطن" و" هيبة الدولة " ولا أحدَ يملك حقَّ الاعتراض، ولعلّه من باب الاعتراض ، أنْ أشعِر صاحبَ هذا الظل الثقيل أنّه بات مكشوفًا لدي.
أنا لا أحبّ السياسة ولا أكره رجالاتِها ، لقد حرصتُ دومًا أن أبقى على الحياد الودّي ، وخطُّ سيري واضح محدّد ـ من البيت إلى المدرسة ـ وما طرقي لأبواب هذه المصالح الحكومية الكثيرة اليومَ ، والتنقل بين أروقتها إلاّ أمرٌ استثنائيٌ ، حملتني عليه ضرورةُ استكمالِ ملفِّ تقاعدي ، لكنّني لم أكن أعلم أن أمرًا كهذا ، يحتاج إلى كلّ هذا العناء ..
كنت أحسبني أبعَد الناس عن الاشتباه ، فقد كانت أمّي تقول لي ناصحة " من خاف سلم " ولا زالت تعيدها على مسامعي حتى غدَتْ عقيدةً راسخة ، وهأنذا خائف ، وأطعت أمّي ، غير أنّ هذا الرجلَ لن يطيعها ويمنحني السّلم ، لأنها ليست أمّه ، إنّه يطيع آخرين لا أعرفهم أنا ، لكنّهم يعرفونني ..
إنّه لا يزال يستبيح خطواتي ويجعلني في مرمى نظراته ، وهاهو ذا يدخل خلفي مسرعا يسبق معطفَه الأسود .. يتوقف لحظة ، يمسح بعينيه المكان ، يتقدم خطوتين نحوي ، يعود إلى كرسي الانتظار، يجلس ، يفتح ملفًا أحمر، يخرج ورقة .. يا ويلتي إنه يكتب ..
آه .. أكيد أنت المقصود أيها المربي الفاضل .. فهذه خامس مصلحة أراه فيها خلفي .
لكن ماذا فعلت أنا ؟
ـ ليس شرطا أن تكون فعلت . فكم سمعنا عن أناس لم يفعلوا شيئا انتهوا إلى ما لا يحبّون ..
أنسيت جارك الذي قضّى خمسَ سنوات في المعتقل ، ثم خرج بلا تهمة ،
مهدي ..
جارك ..
مهدي الذي زرتَه يومَ خروجه من المعتقل ، وطفقت تحتضنه ثم انفرد بك من دون الحاضرين.. أكان يجب أن تحضنه بكل تلك الحميمية ، ألم تكن تكفي مصافحته .
ـ لست أنا الذي احتضنه ، إنه هو الذي سحبني إليه وجعل يضمني ..
ـ وما أدراك ، لعلّ الإفراج عنه كان طعما لمعرفة عناصر التنظيم .
ـ عناصر التنظيم! ! أي تنظيم؟
ـ المعادي للرئيس..
ـ الرئيس !؟ لكنني لست ضد أحد .
ـ هل صار الرئيس أحدا ؟
ثم بماذا تريدهم أن يفسروا رفضَك شراءَ صورة الرئيس من ذلك البائع المتجول .. هل تظن نفسك وحدك ..
ـ أنا لم أرفض شراءها لأنها صورة الرئيس ، إن حجمها كان كبيرا جدا ،ولم أكن لأجد لها مكانا في البيت .. ثم إنّني لم أكن حينها أمتلك ثمنها .
ـ عندما يقتادك هذا الرجل إلى التحقيق ، قل له هذا الكلام ، فأنت محترف كلام ، ولك أسلوبك في الإقناع ، وبخاصة وأنت في أوج حماستك تكلم طلبتك عن الحضارة الإسلامية..
ـ وهل هذه تهمة ؟
ـ التحريض على قلب نظام الحكم أخطر التّهم على الإطلاق .
ـ إنه يتجه إلى الموظف الذي أجرى لي المعاملة يسأله عني ..
شعرت وأنا أحدث نفسي ، بوهن شديد في كل جسدي ودوارٍ غريبٍ ،ورغبةٍ مُلحّة في الاستفراغ ، أنا الآن متّهم بالتخطيط لقلب نظام الحكم ..
وكأنّي بزملائي في العمل وقد وصلهم نبأ اعتقالي يتساءلون..
حمزة : أيُعقل أن يكون هذا صحيحا ،لم يكن يبدو عليه أي نشاط معادٍ للنّظام .
الطيب : (بحماسته المعتادة)
لقد كانت كل تصرّفاته غريبة ، وكان يحب العزلة ، وهو قليل الكلام ، وهكذا هم النشطون ، حذرون جدًا ، أنا كنت أشك في أمره ..
عادل : (يهمس)
لقد سمعت أنه هو رئيس التنظيم في المنطقة الشرقية كلها ..
الطيب: (بصوت مرتفع)
لا بد أن نصدر بيانا ، نعلن فيه استنكارنا و براءتنا منه ومن تصرفاته .
المدير : لم يعد ضمن الأسرة التربوية ، فهو الآن في حكم المقاعد ، ولم تعد المؤسسة مسؤولة عنه .
حمزة : حمدًا لله أنّه فارق المدرسة .
معطفه الأسود الطويل ، وملامحُه التي جمعتْ كلّ المتناقضات ، تلفّه بهالة من الرّهبة لا يمكن اختراقها،
دقّاتُ قلبي تستجيب لوقع أقدامِه ، في تناغم يُفقدني الإحساسَ بكلّ ما هو حولي ، تتلاشى الأصوات ، تتباطأ حركة النّاس والأشياء ، لتنتهيَ بي إلى سكونٍ رهيب ،
لا صوتَ يعلو هذه الأيام على صوت " أمن الوطن" و" هيبة الدولة " ولا أحدَ يملك حقَّ الاعتراض، ولعلّه من باب الاعتراض ، أنْ أشعِر صاحبَ هذا الظل الثقيل أنّه بات مكشوفًا لدي.
أنا لا أحبّ السياسة ولا أكره رجالاتِها ، لقد حرصتُ دومًا أن أبقى على الحياد الودّي ، وخطُّ سيري واضح محدّد ـ من البيت إلى المدرسة ـ وما طرقي لأبواب هذه المصالح الحكومية الكثيرة اليومَ ، والتنقل بين أروقتها إلاّ أمرٌ استثنائيٌ ، حملتني عليه ضرورةُ استكمالِ ملفِّ تقاعدي ، لكنّني لم أكن أعلم أن أمرًا كهذا ، يحتاج إلى كلّ هذا العناء ..
كنت أحسبني أبعَد الناس عن الاشتباه ، فقد كانت أمّي تقول لي ناصحة " من خاف سلم " ولا زالت تعيدها على مسامعي حتى غدَتْ عقيدةً راسخة ، وهأنذا خائف ، وأطعت أمّي ، غير أنّ هذا الرجلَ لن يطيعها ويمنحني السّلم ، لأنها ليست أمّه ، إنّه يطيع آخرين لا أعرفهم أنا ، لكنّهم يعرفونني ..
إنّه لا يزال يستبيح خطواتي ويجعلني في مرمى نظراته ، وهاهو ذا يدخل خلفي مسرعا يسبق معطفَه الأسود .. يتوقف لحظة ، يمسح بعينيه المكان ، يتقدم خطوتين نحوي ، يعود إلى كرسي الانتظار، يجلس ، يفتح ملفًا أحمر، يخرج ورقة .. يا ويلتي إنه يكتب ..
آه .. أكيد أنت المقصود أيها المربي الفاضل .. فهذه خامس مصلحة أراه فيها خلفي .
لكن ماذا فعلت أنا ؟
ـ ليس شرطا أن تكون فعلت . فكم سمعنا عن أناس لم يفعلوا شيئا انتهوا إلى ما لا يحبّون ..
أنسيت جارك الذي قضّى خمسَ سنوات في المعتقل ، ثم خرج بلا تهمة ،
مهدي ..
جارك ..
مهدي الذي زرتَه يومَ خروجه من المعتقل ، وطفقت تحتضنه ثم انفرد بك من دون الحاضرين.. أكان يجب أن تحضنه بكل تلك الحميمية ، ألم تكن تكفي مصافحته .
ـ لست أنا الذي احتضنه ، إنه هو الذي سحبني إليه وجعل يضمني ..
ـ وما أدراك ، لعلّ الإفراج عنه كان طعما لمعرفة عناصر التنظيم .
ـ عناصر التنظيم! ! أي تنظيم؟
ـ المعادي للرئيس..
ـ الرئيس !؟ لكنني لست ضد أحد .
ـ هل صار الرئيس أحدا ؟
ثم بماذا تريدهم أن يفسروا رفضَك شراءَ صورة الرئيس من ذلك البائع المتجول .. هل تظن نفسك وحدك ..
ـ أنا لم أرفض شراءها لأنها صورة الرئيس ، إن حجمها كان كبيرا جدا ،ولم أكن لأجد لها مكانا في البيت .. ثم إنّني لم أكن حينها أمتلك ثمنها .
ـ عندما يقتادك هذا الرجل إلى التحقيق ، قل له هذا الكلام ، فأنت محترف كلام ، ولك أسلوبك في الإقناع ، وبخاصة وأنت في أوج حماستك تكلم طلبتك عن الحضارة الإسلامية..
ـ وهل هذه تهمة ؟
ـ التحريض على قلب نظام الحكم أخطر التّهم على الإطلاق .
ـ إنه يتجه إلى الموظف الذي أجرى لي المعاملة يسأله عني ..
شعرت وأنا أحدث نفسي ، بوهن شديد في كل جسدي ودوارٍ غريبٍ ،ورغبةٍ مُلحّة في الاستفراغ ، أنا الآن متّهم بالتخطيط لقلب نظام الحكم ..
وكأنّي بزملائي في العمل وقد وصلهم نبأ اعتقالي يتساءلون..
حمزة : أيُعقل أن يكون هذا صحيحا ،لم يكن يبدو عليه أي نشاط معادٍ للنّظام .
الطيب : (بحماسته المعتادة)
لقد كانت كل تصرّفاته غريبة ، وكان يحب العزلة ، وهو قليل الكلام ، وهكذا هم النشطون ، حذرون جدًا ، أنا كنت أشك في أمره ..
عادل : (يهمس)
لقد سمعت أنه هو رئيس التنظيم في المنطقة الشرقية كلها ..
الطيب: (بصوت مرتفع)
لا بد أن نصدر بيانا ، نعلن فيه استنكارنا و براءتنا منه ومن تصرفاته .
المدير : لم يعد ضمن الأسرة التربوية ، فهو الآن في حكم المقاعد ، ولم تعد المؤسسة مسؤولة عنه .
حمزة : حمدًا لله أنّه فارق المدرسة .
حتى أنت يا حمزة ..
بدأت أدخل في حالة غيبوبة ، لم يحُل بيني وبينها إلا صوتُ ملف أحمرَ يطير في الهواء ، وصوتٌ يرتفع بكل أنواع السِّباب ،لم يسلم منه رئيس أو مرؤوس ،جعل صاحبُه يشق ثوبه وهو يقول : ....هذي رابع مرة ترفض ملف تقاعدي يا حقير... أفنينا أعمارنا نربي أبناءكم وعندما نقف بين أيديكم تتلذّذون بتعذيبنا ، أتظنون أنكم دولة ، تعودتم على الرشوة يا كلاب ...يا كلاب ..
لم تمض دقيقة على ما فعل وقال ، حتى دخل ثلاثة يلبسون معاطفَ سوداءَ ، اقتادوه إلى خارج المصلحة التي خيم عليها صمت رهيب .
بدأت أدخل في حالة غيبوبة ، لم يحُل بيني وبينها إلا صوتُ ملف أحمرَ يطير في الهواء ، وصوتٌ يرتفع بكل أنواع السِّباب ،لم يسلم منه رئيس أو مرؤوس ،جعل صاحبُه يشق ثوبه وهو يقول : ....هذي رابع مرة ترفض ملف تقاعدي يا حقير... أفنينا أعمارنا نربي أبناءكم وعندما نقف بين أيديكم تتلذّذون بتعذيبنا ، أتظنون أنكم دولة ، تعودتم على الرشوة يا كلاب ...يا كلاب ..
لم تمض دقيقة على ما فعل وقال ، حتى دخل ثلاثة يلبسون معاطفَ سوداءَ ، اقتادوه إلى خارج المصلحة التي خيم عليها صمت رهيب .
تعليق