حِزمة أرق
تحسستُ حقيبتي التي أحملها عادة فوق ظهري وتيقنتُ من وجود ملفي كاملا داخلها، رميتها فوق ظهري وخرجتُ، وقبل أن اغلق باب السور الكبير خلفي باغتني جاري العجوز الذي يدمن مباغتتي كل صباح وسألني.."امس الكورة طلعت كم"، تنفستُ بصوت عال، وقررتُ أن يشهد هذا الصباح الحلقة الأخيرة من سلسلة مباغتات جاري، عله يكف عن هذا السؤال الدائري، نبشتُ بأظافر دامية موضوعا سياسيا ساخنا، وجلستُ معه على مائدة شبه مستديرة وتعاركنا، وحين رفع المؤذن صوته معلنا عن أوان صلاة الظهر انتهى الحوار، وتبادلنا ما كنا نحمله، تأبطتُ سوسيوا يفرفر وحمل جاري بيضته ومضى...
لم يكن لدي الكثير من الوقت كي احتمل سخف المَرْكبات العامة، استأجرتُ عربة خاصة دون أن اتفق مع صاحبها على قيمة محددة، وصلتُ قبل الموعد بوقت كاف، لم تخف السكرتيرة دهشتها بوجود هذا الجسم الغريب الذي لا ينتمي لمثل هذه الأمكنة، بحلقتْ السكرتيرة في شاشة صغيرة موضوعة أمامها، ورفعتْ رأسها تجاهي، فأنبثق منه ضوء أخضر خافت، عرفتُ في سري وأنا أديرُ أكرة باب مديرها بأنها تخاطبه عبر النت، وقبل أن استمتع بهذه المفارقة الجديدة، وجدتُ وجهي ملتصقا بوجه مديرها الذي تقبع فوق طاولته الأنيقة شاشة مثل شاشتها تماما وكأنهما تؤأمان، استقبلني مديرها بدرهم ابتسامة، وعشرة أرطال من رائحة التبغ الكوبي، لم يتفرس في ملامحي، أشعل لفافة تبغ أخرى وأرسل دخانها عبر شاشته إلى سكرتيرته، مرّ مرورا سريعا على ملفي الباحث عن وظيفة منذ أن تخرجنا معا، هو الآن في مكتبه، وأنا الآن في مكتبه، رسم على محياه الناعم طيف ابتسامة عابر، ومسح عن أنفه تقرير البارحة، انسابت موسيقى رومانسية من هاتف لا أراه، ألصق في أذنه اليمنى سماعة الهاتف، وقبل أن يجيب حكى لي نكتة سمجة، وخرجتُ ولم اضحك...
لم اشعر بسخف المَرْكبةِ العامة التي امتطيها هذه المرة، فتحتُ زجاج النافذة وتنفستُ الصعداء، نظرتُ إلى الملف المستلقي داخل الحقيبة دون أن افتحها، وفجأة غيرت رأيي وفتحتُ الحقيبة واخرجتُ منها الملف، تجولتُ بين صفحاته صفحة صفحة ورميته عبر ثقب النافذة ليسقط في النفق دون أن اشعر بالذنب، وحينما خرجنا سويا أنا والمَرْكبة العامة من النفق سالمين، رأيتُ عبر ذات النافذة التي شهدتْ انتحار الملف ابن خالتي الذي يعمل خياطا للملابس النسايئة يفتح ابواب دكانه، فرقعتُ بأصابعي خمس فرقعات متتالية، وترجلتُ من المَرْكبة وأنا اخاطبُ نفسي بصوت مسموع..(لماذا لا اكون مثل ابن خالتي ناجحا، فأنا أفضل منه، على الأقل أحبُ ملابس النساء أكثر من النساء، لذا حتما سأنجح)...
أدرتُ مقبض الباب، ورفعتُ الستار الأحمر قليلا، ودخلتُ على ابن خالتي الخياط في دكانه، رأيتها تقف أمامه وهو جالسا خلف ماكينة الخياطة، لم ينتبها لوجودي، يمسكُ ابن خالتي بشريط طويل أصفر ومرقم بأرقام متفاوتة الأحجام، يسحب مقعده وهو جالسا فيه ويقترب من صدرها، يلفُ الشريط بحركة بارعة حول الصدر ويمرره في أعلى نقطة فيه، يخطف بسرعة قلما معلقا بين اطار الأذن وجانب من جلد الرأس، وينحني ويكتب في دفتر مستطيل، وهو يردد.." قياس دوران الصدر عندك يا يا، يا وداد واحد وعشرين سنتمتر.." تبتسم وداد وكأن الرقم يعني لها شيئا، ترفع ذراعها الطري وتلوي ضفيرتها بلطف وترمي ذيلها فوق صدرها، وبذات الذراع تنزل إلى أسفل قليلا، وتمشط خصرها وتشده وتقترب أكثر.." أها شوف لي قياس الضهر كم يا عاصم.." يعيد عاصم القلم إلى مكانه بين الإطار وجلد الرأس.."جدا يا وداد بس أديني ضهرك.." تدور وداد كما المروحة وتراني، تنتفض وتطلقُ صرخة هامسة.."بسم الله دا شنو دا.." يلوي عاصم عنقه من خلف ظهرها، ويفلح في إخفاء دهشته بقوله "شقة غريبة"، ويعود بعنقه خلف ظهرها ويتمتم.."دا ود خالتي منعم يا وداد..خش اقعد.." لم يفتح الله لي بكلمة، وظللتُ واقفا في مكاني، يمسكُ عاصم الشريط الأصفر مرة أخرى، يسحبه من عنقه، ويضغط طرفه الأول في مؤخرة عنقها، ويشده بصورة مستقيمة ويتجاوز به حدود الخصر بقليل ويعود ويعلقه حول عنقه، ويدون مرة أخرى في دفتره المستطيل.."طول الضهر عندك يا يا يا ودا..."
رفعتُ الستار، وخرجتُ دون أن يشعر بي أحد، قررتُ مرة أخرى في سري أن لا اكون خياطا، وأن تكتفى المدام بملابسها الجاهزة، وأن لا أقبع خلف أي ستار مدى حياتي مهما كلفني الأمر..
اقتربتُ من البيت، جاري مازال يراقب الشارع في جلساته اليومية، لم يسألني "الليلة في كورة ولا مافي.." زوجتي مازلت تحتل نصف السرير، لم اسألها عن العشاء ولم تسألني هي، نزعتُ ملابسي وقفزتُ فوقها، لم اقتسم معها المشاعر هذه المرة، أرهقتُ جسدي قدر ما استطعت حتى لم اعرف متى نمت، نمتُ في تلك الليلة كما لم أنم من قبل، وفي الصباح علمتُ من زوجتي أن الحُلم حاول أن يقلق منامي، ويقتسم معي وداد ولكنه وجد باب القفص مغلقا بالضبة والمفتاح
تعليق