هذا ما كان من أمر محروس
وكيف خرج مولودا من قسم البوليس
(((((((())))))))))
كان يعى تماما ما يحاولون ، فما لمحهم من بعيد يندسون ، ويدورون فى المنطقة ، وقد كشفتهم ألآعيبهم المبالغ فيها ، حتى انهال على زوجته ركلا وزغدا ، وبصوت حرص أن يخرج همسا راح يستحثها ، وبقبضته يلملم أطراف الجوال ، ثم بدوبارة مجدولة يحكم رباطها ، من بعد ينضغط رافعا الجوال ، ويعدّله على ظهر الحمار المستفز .. بينما كانت عينه السليمة بمكر تنوب عنه ، وتوحي لابن أخيه بضرورة فك أربطة البهائم ، و اللحاق به فورا ، ولولا خطورة السكة الجديدة لتركهم ، وولى هاربا .
كما هو شأنه دائما حين يتأخر به الوقت ، ينخز حماره الأعشى بقسوة غير معهودة ، وساقاه تطحنان بطن الحمار ، الذى أرغمته الجاموسة من الخلف على الاعتدال ، وعدم مجاراة صاحبه فى انفعالاته ، ومحروس يتقدم الركب ، ساحبا جاموسته العنود .. لكنهم أغلقوا عليه الطريق ، وفى لمح البصر أحاط به رجال أربع ، ولم يعد يرى قرص الشمس المتهالك فى بحر المساء القادم !
تماسك كعود جاف ، وبطيبته المعهودة ، كان يهمهم دافعا الحمار على التقدم ، فنط الأخير محاولا اختراق الحصار ، وكاد يفلح فى قلقلة الجدار البشرى .
ترجل كبيرهم كإله ، عابرا حاجز الرجال بسهولة و يسر ، مسلطا نحوه عينين تطفحان شرا و جريمة . هاله المشهد المهيب ، و اصابه رعب وذعر أتيا على أربطة مصرانه ، الذى زعق كحوت مسعور . إنه فى مثل عمر أصغر أولاده ، فلم يخاف منه على هذا النحو ؟ حتى أصبح ميسورا لأبعد عابر سبيل كشف حجم الفزع الذى يدب فى أوصاله .
ابتدره كبيرهم : " أنت تعرف إبراهيم وهدان ياولد ؟!".
صعق ، وبغيظ ردد :" قطيعة ". وهو يطوح رأسه شاعرا بمدى الإهانة ، ولم يخطر على باله للحظة ، أن يكون رد فعله فظيعا ، وبمثل هذه الدرجة ؛ فقد انقلبت سحنة الضابط ، وتأرجح الكاب على رأسه الشامخ ، وحين رفرف النسر بجناحيه طربا على الجبهة العالية ، كانت بطن محروس ترتعد هلعا ، و إحساس غامض يغزو قلبه ، وفورا أمره بالترجل عن حماره ، ودفعه بقبضته :" طيب اركب .. يللا ". وكم كلفته " يللا " هذه ، فقد كانت بمثابة زلزال قلب محروسا أرضا من فوق ظهر حماره .
كان قد أحيط علما بما يتردد ، حول مقتل " إبراهيم وهدان " وسط الغيطان ، منذ ثلاثة أيام ، رغم عدم علم البوليس إلا اليوم ، و ليومين سابقين كان يستطيع التقاط رائحة دم القتيل ، فى الدخان الرائق ، المنبعث من الحرائق المباغتة ، التى أشعلها الفلاحون فى العشش ، القائمة على رؤوس غيطانهم منذ عشرات السنين ، بل كان يراها تتموج ، وترسم هياكل كانت أكثر شبها بالقتيل !
اليوم .. الحكومة تجد ما وسعها للايقاع بقاتله ، قطعوا الزمام طولا و عرضا ، أحاطوا بالصغار و الكبار على حد سواء ، لكنهم ما أخذوا أحدا منهم ، مثلما فعلوا معه .
أحس العم " محروس " أى مصيبة أوقع نفسه فيها ، قدح زناد فكره الخرب ، فألهب الموقف سوءا ، استرحمهم مشيرا تجاه الزوجة و الولد الصغير و البهائم ، والطريق الخطرة : يابيه أعديهم بس ، وأنا تحت أمرك ، اللي أنتم عايزينه يمشى على رقبتي ".
و على حين غرة جاءته لكمة قوية ، أخلت بتوازنه ، ودفعته إلى داخل العربة ، ظلت تئز فى أذنيه ومخه طول الليل ، ولسنين قادمة ، بينما الولد و الزوجة و البهائم فى عجب من أمرهم ، يندفعون صوب المدينة بخوف دام !
عاد بعين زائغة يستميلهم :" أعدي العيال من الطريق ياسعت الباشا ".
أشار له بالسكوت ، وحاجباه و أنفه المعقوف ، وعينه الواسعة كصقر إفريقي تعطي أمرا للمخبر المتحفز خلفه ، بالتهام هذه الفريسة ، فالتهمها فورا ، وطرح العم محروس بلطمة أخرى على صاج العربة مكتويا ، وشفتاه تتوجعان بلفظة ظلت حبيسة :" ياولاد الكلب .. آه ياولاد الكلب ".
انسحبت العربة ، و انسحب الألم على امتداد جسده ، ولسانه لا يفتأ يردد ياولاد الكلب ، أنا اللي أستاهل .. أنا اللي أستاهل ". يؤنب نفسه ، ويلومها على غشمها ، يضحك على قلة عقله ، التى سوف تودي به قريبا وراء الشمس .. لقد داهموا الصغار ، على الجسور و القنوات ، فرددوا ببلاغة : لا نعرفه " وهكذا أفلتوا ، رغم علم الجميع ، صغارا وكبارا ، أنهم كاذبون ، فعلى مدى ثلاثة أيام ، وطرق السروح تتغير ، وتتبدل ، وعلى مدى ثلاثة أيام و مزارعو الزمام القريبون من المقابر لا يسرحون . لكنه وقع ، أوقعه سوء تقديره .
يتحسس قفاه المتوهج كجمرة ، واللطمات ماتزال تدوي ، وتصفر فى أذنيه ، مطأطئا يضع وجهه بين راحتيه بمسكنة ، وصوته يثقثق ، ورأسه تتطوح بغيظ ، سرعان ما امتلآت العربة ، و أصبح لا يجد هواء كافيا للشهيق !!
لم يكن غيره ، كلهم كانوا يلبسون البناطيل و القمصان ، هو الفلاح الوحيد الذى خرج من الدنيا حمارا ، وما علمته الأيام و لا السنون ، أصبح أبا لرجال يدبون على الأرض ومع ذلك !
كان قاسيا فى لوم نفسه ، قاسيا .. وكانت العربة خانقة ، العرق ينبجس من كل جسده ، وتنفذ رائحة عرقهم عبر بدنه ، فيتراخى ، سرعان ما يندفع تحت الأقدام لالتقاط بعض من هواء رطب ، المخبرون يشكلون حاجزا من الحديد ، والبنادق الميرى مسددة إلى صدور المشبوهين .. أخيرا صرخت فرامل العربة ، اندفع الجميع مسوقين تحت لطم الجنود ، والآليات ، إلى داخل المبنى المهيب !
كان فى واد ، وهذه الكتل البشرية فى الوادى الآخر . كفاه منها نظرة واحدة ، سلطها على الجميع ، سرعان ما انكمش إلى الجدار ، وقد دفن وجهه بين راحتيه ، وألم قاس ينتشر فى جسده . رأى وجوها عرفها خارج المبنى ، وسمع عنها حروبا ، وحوادث سرقة وقتل ، ووجوها كانت قريبة جدا ، كانت إلى جانبه .
كان صابر ، هذا الرجل الطيب ، الذى ما سمع عنه إلا كل خير ، نعم هو جزار ، وهو حزين .. حزين وحده منذ اغتيل أخوه فى مقهى البيلى ، ومنذ ثمانى سنوات ، وهو وحيد .
يتذكر هذا الوجه البعيد ، يغوص فى الزمن، سرعان ما يلهبه قلبه فزعا على البهائم و الحمار و الأولاد ، الذين خلفهم ، وأرغموه على تركهم فريسة للسيارات ، لا يدري هل وصلوا بسلامة أم لا .
قدم له أحدهم كوبا من الشاى ، رفض .. أول كوب شاى يرفضها فى عمره ، رغم حاجته إلى بل ريقه الجاف . يطالع الوجوه مرة أخرى .
:" أليس عجيبا ياشملول .. فى حياتي الطويلة ما دخلت هذا المكان ، كنت أطالعه من بعيد .. بعيد فأجرى ، ومع رفاقي نروح نشتم العسكرى ، ونجرى .. أقرف من النظر فى مبناه.. ليس كرها ، بل خوفا .. ومن بعد كرهته ، حتى إذا ما دعتني الضرورة ألجأ بمن ينهى الأمر ، و أنا بعيد ".
أنا من البيت للغيط .. ما قلت إلا كلمة واحدة و لم أكن لأقصدها ، خرجت هكذا .. انفلتت من لساني ". يعطيه أحدهم سيجارة . ينتبه ، يتداخل فى بعضه مرتعشا . يبش فى وجهه معتذرا بعدم التدخين .
اتكأ بذراعه ، فاصطدم بشيء كان يملأ جيب الصديري . تذكر الشنطة التى ضحك بها ابنه على عقله حين عاد من العراق ، و التى يستعملها كحافظة ، على الفور تغير لون وجهه كلية ، استشاط رعبا ، اعتدل واقفا .. كيف يتخلص منها - هذه الحافظة التى تحوى إلى جانب المسلة و الدوبار أربعة قطع من فئة الخمسة قروش .. وخنسر - !!
:" آه .. ضعت يا محروس .. ضعت و لا أحد سمى عليك .. آن أن تتصرف بحكمة ، وكيف تواتيني الحكمة ؟ إنها كارثة .. كارثة ".
جذب الرعب المرتسم على وجهه نظرات الجمع المحشود ، فى هذه الحجرة الداخلية ، التى دائما ما يقال أنها تبكى طول الليل على من خرجوا منها فاقدى البصر أو العقل ، ومن فقدوا رجولتهم ، حتى أنك لترى نهارا آثار هذه الدموع على الجدران ساخنة لم تزل !!
:" خنسر له مقبض من العظم .. خنسر يامحروس ، و الذبيحة يأتى عليها خنسر ، ويشفيها خنسر .. قد يسألونك و أين الساطور يامحروس ؟ ستنكر بلا شك أين الساطور ؛ لأنك لم تمسك ساطورا إلى اليوم ، لكنهم لن يملوا ، لن يتعبوا معك ، ولن يصدقوك .. حاول أن تلقي به من الشباك أو تحت الأرجل.. آه لو شافوك ثبتت عليك التهمة .. خنسر ياويلك .. لعبة جميلة يامحروس ، فحين أزاغ عقلك ، وقررت سرقته من الجزار .. كنت فى العيد الكبير ، ولما فشلت من سرقته ، أعطاه لك الجزار عن طيب خاطر .. كان جميلا ، وكنت فى حاجة إليه لقتل أعواد السريس و الجلاوين و الخس ، وتقليم أظافرك .. وماذا أيضا يامنحوس ؟!".
يهيم فى فزعه ، يتدبر أمر الخنسر . كان القتيل بلا رأس ، بلا ذراعين ، بقدم واحدة ، وقد شفى كذبيحة ، و هذه أداة الجريمة :" خنسر يامحروس .. ألكي تقطع حبلا أو شحاطا تحمل خنسرا .. آتاك قضاؤك .. آه ".
يبكى العم محروس ابن الخامسة و الخمسين ، يبكي وسط أولاد صغار ، وفتيان قساة ، ومشبوهين عتاة .. يبكى ويروح يخبط رأسه فى الجدار خائفا حانقا .
دنا منه صابر على حذر :" عيب ياعم محروس ، دول كلمتين ياخدوهم منك ، وتروح على طول .. أنت راجل طيب ".
مصمص شفتيه خالعا طاقتيه الصوفية ، ثم أخرج منديله المعبأ بالسخام ، مرره على وجهه :" ماذا أفعل .. كنت تعرف أنك حمار ، لم لم تهرب من أمامهم ، وليذهب الجميع إلى داهية ، خائف على البهائم ، ابسط ياعم ، سوف تنسى اسمك و بهائمك ، و أرضك ، ويتفرج عليك الخلق واحدا واحدا .. خنسر يامحروس . كانت الترعة أمامك ، وزوجتك .. كانت العربة ، كنت تستطيع التخلص منه ، لكنك أحمق .. ماذا ستفعل ألآن ؟ و إذا ما رآك أحد و أنت تلقي به .. آه .. انتهى الأمر ، أصبحت قاتلا .. أيعقل أن يكون صابر هو القاتل .. لا .. لو أراد لفعل من زمن ، مر وقت طويل ، نعم فات وقت ، إنه يفتح بيتين الآن .. بيت أخيه و بيته ، فكيف يفعل ؟ لا .. إنه أحد اللصوص الذين يقتسمون معه أو قد تكون أنت !! ".
ضبط يده على الحقيبة ، فجذبها بعيدا . هاهى ذي الأنظار تتجه إليه . يتحدث إلى أحدهم ، يكرر ما يقول حتى مله ، فيصرخ فى وجهه ، يتجه إلى آخر ، يتحدث إليه ، يعطيه أذانا صاغية - أول الأمر - يعود يكرر ما قاله ، فيمله ، يصرخ فى وجهه . فى نهاية الأمر ترابط محتميا بصابر ، فيهدئ من روعه . يكاد يسقط بلسانه ، فيبوح بما ينغص عليه ، يلطمه صوت أبيه الفاني ، يتمثل أمامه بشحمه و لحمه ، مكشرا فى وجهه :" خليك رجل ياولد .. إلى متى .. اكبر ياخرع ".
كان بوجهه المقطب ، و أنفه العظيم ، وشعره الأبيض ، صوته الأجش كموتور خرب .
أخيرا جاءوا ، وجاء المغص .. جاءوا خلف بعضهم ، وما أفلت أحد من قبضتهم .. لا يعرف ما الذى أحسه حين حدق فى وجه صابر لحظتها ، مما دفعه إلى معاودة النظر إليه . كان أقرب شبها بالضابط ، نفس الملامح ، نفس النظرات القوية . كانوا يدفعون شبابا إلى الحجرة الأخرى ، القريبة .. هناك ، يعلق المشبوه ، يدلى من السقف كذبيحة ، ويضرب ضربا مبرحا ، أحس بهزة قوية ، تسرى فى جسده ، على الفور اصطكت أسنانه :" يارب .. أنا رجل كبير .. هل ؟ يارب كن إلى جانبي .. ياحسين .. ياسيدة ياطاهرة .. يا أم العواجز .. يابه ".
اللطمات لا تنقطع ، قوية كالرعد تدوي ، ترجف بدنه الهزيل ، تدوي فتحط عليه هو .. وحان دوره ، حان دوره أخيرا ، سحب فأطاع طيبا كطفل وديع ، واجهه السيد ضابط المباحث ، سأله مناورا . رد عليه محاولا قدر إمكانه الحرص . لم يكن بليغا . هاج سيادته ، هجم عليه لاطما . مهانا لوى عنقه ، ودون تفكير :" أنت يادوب قد ولد من عيالي ".
لم تعجبه هذه اللهجة ، ثار ثانية ومنتفشا كطاووس كان يسدد لكمة متقنة إلى وجه محروس ، الذى تهالك إلى الخلف ، مصطدما بحوائط الرجال ، فأعادوه إلى قبضته !
حدق بسعادة ، ارتخى على كرسيه . محروس يرغي و يزبد بكلام كالبكاء ، وبطيبته المعهودة ، كان يكرر ما سبق قوله ، فأطاحوا به ، وما تركوه حتى أشبعوه ضربا ، رغم كل ما ناله منهم إلا أنه كان راضيا ، فلم تمكنهم هذه الوسائل من كشف المصيبة التى يحملها . كان يردد :" الحمد لله ". لكنه حدس عودتهم إليه ثانية . ما أفلت أحد من قبضتهم حتى الآن ، وما مرروه على الغرفة الثانية بعد :" الحمد لله .. الحمد لله .. يابه .. الدار تختنق بمن فيها ، و ماأتى أحد ليرى حالي ، ينقذني من هذه المصيبة ، سوف أعلق من عرقوبي ، يضربني فيل من هذه الفيلة ، التى لا تعرف رحمة أو مروءة .. ياربي .. أنا لا أترك فرضا من فرائضك ، و لا أعتدي على أحد ، حتى أولادي ، أتسامح معهم فى حقوقي .. أسرح إلى الغيط من النجمة ، و لا أرى الدار إلا ليلا .. ماذا أفعل ؟ ".
الزبد يتكور على جاني فمه ، يترنح بلا عقل ، ولا يرى إلا أشباحا وخيالات باهتة .
حط غاضبا موهن العظم . ناداه صوت أبيه :" لا تبك ياولد .. كن رجلا و إلا أكلوك ".
قطع بكاءه مشدوها ، راح يتابع الشيخ الفاني :" إنهم اكتفوا .. اكتفوا بهذا .. انتظر ".
كان يرتعد كلما شعر بجيب صديريه ، يصرخ بأعلى صوت كمؤامرة :" أنا الخنسر هنا فى جيب محروس .. ياحضرة الضابط أنا الخنسر هنا فى جيب محروس ".
يدور حول نفسه كمجنون ، يتكوم ، ينحنى ، يحاول كتم أنفاس الخنس الجبان ، يود لو سخط خنفساء ، لها حرية الخروج من هذا المكان ، و الأصوات من حوله تتعالى فى فراغ الحجرة .. صرخات و لطمات ترن ، وبكاء وركلات تمزق وجهه ، تسلخه سلخا رتيبا .
كان أولاده و أولاد أخيه يحومون حول المبنى ، يسمعون صدى الضربات ، تئن ، وترتجف لها الجدران ، وفى الظلام كانت خيوط فضية تنز على خدودها .
كانت جموع غفيرة تتحرك بقلق ووجد ، تفترش الطوار ، تحتضن الأسلاك الشائكة ، والبعض هناك فى الخلف ، حيث تصلهم اللطمات ، كما يصلهم الصراخ و العويل .
التجأ أولاد محروس بالمحامين ، فما حركوا ساكنا ، كانوا على علم بالجريمة ، و أمر المشتبه فيهم ، و التقليد المتبع فى مثل هذه الظروف :" سوف يتركونه ، لكن بعد ضربه كالعادة ".
شغل أصغر أبنائه نفسه باحصاء عدد مكاتب المحامين المحيطة بالقسم ، و أيضا مقر الأحزاب ، عدد الجرائد ، النواب ، لكنه فشل فى لعبته ، فتركها فورا .
ظلوا يحومون بخيبة أمل ، تعلموا ووظفوا ، شغلوا الوظائف ، وخابوا عند الوصول إلى عمهم .. إلى أخيهم .. إلى أبيهم .. كان شعورا فظيعا ، شعورهم بعدم جدوى المحاولات المنهكة ، إنها ليست مدينتهم تلك التى يتحركون فيها ، أبدا ليست مدينتهم .. وصلوا إلى شقيق المارد السيد ، إلى قاض طيب آخر الأمر .. أقسم على التصرف ، وكانوا أكثر حرجا و قلقا .
كان هو فى الداخل يري بعينه و لا يصدق ، يرى و لا يفهم . عاش بفأسه و قضيبه ، فى الأرض و الدار ، ينبت الزرع و يبذر الذرية ، و الخنسر فى جيبه إلى الآن .. الخنسر و المشنقة .. المشنقة لا تلتف إلا حول رقاب الخائبين أمثاله .
فجأة ناداه الصقر ، تهالك ، امتقع وجهه ، تقدم برغمه ؛ فالأكف فى عطش إلى اللطم . زحف :" أنا هاسيبك يامحروس تروح ، لكن أنا هاديك علقة ، عشان إما حد يسألك عن حاجة ، تقول معرفشي !!".
وكيف خرج مولودا من قسم البوليس
(((((((())))))))))
كان يعى تماما ما يحاولون ، فما لمحهم من بعيد يندسون ، ويدورون فى المنطقة ، وقد كشفتهم ألآعيبهم المبالغ فيها ، حتى انهال على زوجته ركلا وزغدا ، وبصوت حرص أن يخرج همسا راح يستحثها ، وبقبضته يلملم أطراف الجوال ، ثم بدوبارة مجدولة يحكم رباطها ، من بعد ينضغط رافعا الجوال ، ويعدّله على ظهر الحمار المستفز .. بينما كانت عينه السليمة بمكر تنوب عنه ، وتوحي لابن أخيه بضرورة فك أربطة البهائم ، و اللحاق به فورا ، ولولا خطورة السكة الجديدة لتركهم ، وولى هاربا .
كما هو شأنه دائما حين يتأخر به الوقت ، ينخز حماره الأعشى بقسوة غير معهودة ، وساقاه تطحنان بطن الحمار ، الذى أرغمته الجاموسة من الخلف على الاعتدال ، وعدم مجاراة صاحبه فى انفعالاته ، ومحروس يتقدم الركب ، ساحبا جاموسته العنود .. لكنهم أغلقوا عليه الطريق ، وفى لمح البصر أحاط به رجال أربع ، ولم يعد يرى قرص الشمس المتهالك فى بحر المساء القادم !
تماسك كعود جاف ، وبطيبته المعهودة ، كان يهمهم دافعا الحمار على التقدم ، فنط الأخير محاولا اختراق الحصار ، وكاد يفلح فى قلقلة الجدار البشرى .
ترجل كبيرهم كإله ، عابرا حاجز الرجال بسهولة و يسر ، مسلطا نحوه عينين تطفحان شرا و جريمة . هاله المشهد المهيب ، و اصابه رعب وذعر أتيا على أربطة مصرانه ، الذى زعق كحوت مسعور . إنه فى مثل عمر أصغر أولاده ، فلم يخاف منه على هذا النحو ؟ حتى أصبح ميسورا لأبعد عابر سبيل كشف حجم الفزع الذى يدب فى أوصاله .
ابتدره كبيرهم : " أنت تعرف إبراهيم وهدان ياولد ؟!".
صعق ، وبغيظ ردد :" قطيعة ". وهو يطوح رأسه شاعرا بمدى الإهانة ، ولم يخطر على باله للحظة ، أن يكون رد فعله فظيعا ، وبمثل هذه الدرجة ؛ فقد انقلبت سحنة الضابط ، وتأرجح الكاب على رأسه الشامخ ، وحين رفرف النسر بجناحيه طربا على الجبهة العالية ، كانت بطن محروس ترتعد هلعا ، و إحساس غامض يغزو قلبه ، وفورا أمره بالترجل عن حماره ، ودفعه بقبضته :" طيب اركب .. يللا ". وكم كلفته " يللا " هذه ، فقد كانت بمثابة زلزال قلب محروسا أرضا من فوق ظهر حماره .
كان قد أحيط علما بما يتردد ، حول مقتل " إبراهيم وهدان " وسط الغيطان ، منذ ثلاثة أيام ، رغم عدم علم البوليس إلا اليوم ، و ليومين سابقين كان يستطيع التقاط رائحة دم القتيل ، فى الدخان الرائق ، المنبعث من الحرائق المباغتة ، التى أشعلها الفلاحون فى العشش ، القائمة على رؤوس غيطانهم منذ عشرات السنين ، بل كان يراها تتموج ، وترسم هياكل كانت أكثر شبها بالقتيل !
اليوم .. الحكومة تجد ما وسعها للايقاع بقاتله ، قطعوا الزمام طولا و عرضا ، أحاطوا بالصغار و الكبار على حد سواء ، لكنهم ما أخذوا أحدا منهم ، مثلما فعلوا معه .
أحس العم " محروس " أى مصيبة أوقع نفسه فيها ، قدح زناد فكره الخرب ، فألهب الموقف سوءا ، استرحمهم مشيرا تجاه الزوجة و الولد الصغير و البهائم ، والطريق الخطرة : يابيه أعديهم بس ، وأنا تحت أمرك ، اللي أنتم عايزينه يمشى على رقبتي ".
و على حين غرة جاءته لكمة قوية ، أخلت بتوازنه ، ودفعته إلى داخل العربة ، ظلت تئز فى أذنيه ومخه طول الليل ، ولسنين قادمة ، بينما الولد و الزوجة و البهائم فى عجب من أمرهم ، يندفعون صوب المدينة بخوف دام !
عاد بعين زائغة يستميلهم :" أعدي العيال من الطريق ياسعت الباشا ".
أشار له بالسكوت ، وحاجباه و أنفه المعقوف ، وعينه الواسعة كصقر إفريقي تعطي أمرا للمخبر المتحفز خلفه ، بالتهام هذه الفريسة ، فالتهمها فورا ، وطرح العم محروس بلطمة أخرى على صاج العربة مكتويا ، وشفتاه تتوجعان بلفظة ظلت حبيسة :" ياولاد الكلب .. آه ياولاد الكلب ".
انسحبت العربة ، و انسحب الألم على امتداد جسده ، ولسانه لا يفتأ يردد ياولاد الكلب ، أنا اللي أستاهل .. أنا اللي أستاهل ". يؤنب نفسه ، ويلومها على غشمها ، يضحك على قلة عقله ، التى سوف تودي به قريبا وراء الشمس .. لقد داهموا الصغار ، على الجسور و القنوات ، فرددوا ببلاغة : لا نعرفه " وهكذا أفلتوا ، رغم علم الجميع ، صغارا وكبارا ، أنهم كاذبون ، فعلى مدى ثلاثة أيام ، وطرق السروح تتغير ، وتتبدل ، وعلى مدى ثلاثة أيام و مزارعو الزمام القريبون من المقابر لا يسرحون . لكنه وقع ، أوقعه سوء تقديره .
يتحسس قفاه المتوهج كجمرة ، واللطمات ماتزال تدوي ، وتصفر فى أذنيه ، مطأطئا يضع وجهه بين راحتيه بمسكنة ، وصوته يثقثق ، ورأسه تتطوح بغيظ ، سرعان ما امتلآت العربة ، و أصبح لا يجد هواء كافيا للشهيق !!
لم يكن غيره ، كلهم كانوا يلبسون البناطيل و القمصان ، هو الفلاح الوحيد الذى خرج من الدنيا حمارا ، وما علمته الأيام و لا السنون ، أصبح أبا لرجال يدبون على الأرض ومع ذلك !
كان قاسيا فى لوم نفسه ، قاسيا .. وكانت العربة خانقة ، العرق ينبجس من كل جسده ، وتنفذ رائحة عرقهم عبر بدنه ، فيتراخى ، سرعان ما يندفع تحت الأقدام لالتقاط بعض من هواء رطب ، المخبرون يشكلون حاجزا من الحديد ، والبنادق الميرى مسددة إلى صدور المشبوهين .. أخيرا صرخت فرامل العربة ، اندفع الجميع مسوقين تحت لطم الجنود ، والآليات ، إلى داخل المبنى المهيب !
كان فى واد ، وهذه الكتل البشرية فى الوادى الآخر . كفاه منها نظرة واحدة ، سلطها على الجميع ، سرعان ما انكمش إلى الجدار ، وقد دفن وجهه بين راحتيه ، وألم قاس ينتشر فى جسده . رأى وجوها عرفها خارج المبنى ، وسمع عنها حروبا ، وحوادث سرقة وقتل ، ووجوها كانت قريبة جدا ، كانت إلى جانبه .
كان صابر ، هذا الرجل الطيب ، الذى ما سمع عنه إلا كل خير ، نعم هو جزار ، وهو حزين .. حزين وحده منذ اغتيل أخوه فى مقهى البيلى ، ومنذ ثمانى سنوات ، وهو وحيد .
يتذكر هذا الوجه البعيد ، يغوص فى الزمن، سرعان ما يلهبه قلبه فزعا على البهائم و الحمار و الأولاد ، الذين خلفهم ، وأرغموه على تركهم فريسة للسيارات ، لا يدري هل وصلوا بسلامة أم لا .
قدم له أحدهم كوبا من الشاى ، رفض .. أول كوب شاى يرفضها فى عمره ، رغم حاجته إلى بل ريقه الجاف . يطالع الوجوه مرة أخرى .
:" أليس عجيبا ياشملول .. فى حياتي الطويلة ما دخلت هذا المكان ، كنت أطالعه من بعيد .. بعيد فأجرى ، ومع رفاقي نروح نشتم العسكرى ، ونجرى .. أقرف من النظر فى مبناه.. ليس كرها ، بل خوفا .. ومن بعد كرهته ، حتى إذا ما دعتني الضرورة ألجأ بمن ينهى الأمر ، و أنا بعيد ".
أنا من البيت للغيط .. ما قلت إلا كلمة واحدة و لم أكن لأقصدها ، خرجت هكذا .. انفلتت من لساني ". يعطيه أحدهم سيجارة . ينتبه ، يتداخل فى بعضه مرتعشا . يبش فى وجهه معتذرا بعدم التدخين .
اتكأ بذراعه ، فاصطدم بشيء كان يملأ جيب الصديري . تذكر الشنطة التى ضحك بها ابنه على عقله حين عاد من العراق ، و التى يستعملها كحافظة ، على الفور تغير لون وجهه كلية ، استشاط رعبا ، اعتدل واقفا .. كيف يتخلص منها - هذه الحافظة التى تحوى إلى جانب المسلة و الدوبار أربعة قطع من فئة الخمسة قروش .. وخنسر - !!
:" آه .. ضعت يا محروس .. ضعت و لا أحد سمى عليك .. آن أن تتصرف بحكمة ، وكيف تواتيني الحكمة ؟ إنها كارثة .. كارثة ".
جذب الرعب المرتسم على وجهه نظرات الجمع المحشود ، فى هذه الحجرة الداخلية ، التى دائما ما يقال أنها تبكى طول الليل على من خرجوا منها فاقدى البصر أو العقل ، ومن فقدوا رجولتهم ، حتى أنك لترى نهارا آثار هذه الدموع على الجدران ساخنة لم تزل !!
:" خنسر له مقبض من العظم .. خنسر يامحروس ، و الذبيحة يأتى عليها خنسر ، ويشفيها خنسر .. قد يسألونك و أين الساطور يامحروس ؟ ستنكر بلا شك أين الساطور ؛ لأنك لم تمسك ساطورا إلى اليوم ، لكنهم لن يملوا ، لن يتعبوا معك ، ولن يصدقوك .. حاول أن تلقي به من الشباك أو تحت الأرجل.. آه لو شافوك ثبتت عليك التهمة .. خنسر ياويلك .. لعبة جميلة يامحروس ، فحين أزاغ عقلك ، وقررت سرقته من الجزار .. كنت فى العيد الكبير ، ولما فشلت من سرقته ، أعطاه لك الجزار عن طيب خاطر .. كان جميلا ، وكنت فى حاجة إليه لقتل أعواد السريس و الجلاوين و الخس ، وتقليم أظافرك .. وماذا أيضا يامنحوس ؟!".
يهيم فى فزعه ، يتدبر أمر الخنسر . كان القتيل بلا رأس ، بلا ذراعين ، بقدم واحدة ، وقد شفى كذبيحة ، و هذه أداة الجريمة :" خنسر يامحروس .. ألكي تقطع حبلا أو شحاطا تحمل خنسرا .. آتاك قضاؤك .. آه ".
يبكى العم محروس ابن الخامسة و الخمسين ، يبكي وسط أولاد صغار ، وفتيان قساة ، ومشبوهين عتاة .. يبكى ويروح يخبط رأسه فى الجدار خائفا حانقا .
دنا منه صابر على حذر :" عيب ياعم محروس ، دول كلمتين ياخدوهم منك ، وتروح على طول .. أنت راجل طيب ".
مصمص شفتيه خالعا طاقتيه الصوفية ، ثم أخرج منديله المعبأ بالسخام ، مرره على وجهه :" ماذا أفعل .. كنت تعرف أنك حمار ، لم لم تهرب من أمامهم ، وليذهب الجميع إلى داهية ، خائف على البهائم ، ابسط ياعم ، سوف تنسى اسمك و بهائمك ، و أرضك ، ويتفرج عليك الخلق واحدا واحدا .. خنسر يامحروس . كانت الترعة أمامك ، وزوجتك .. كانت العربة ، كنت تستطيع التخلص منه ، لكنك أحمق .. ماذا ستفعل ألآن ؟ و إذا ما رآك أحد و أنت تلقي به .. آه .. انتهى الأمر ، أصبحت قاتلا .. أيعقل أن يكون صابر هو القاتل .. لا .. لو أراد لفعل من زمن ، مر وقت طويل ، نعم فات وقت ، إنه يفتح بيتين الآن .. بيت أخيه و بيته ، فكيف يفعل ؟ لا .. إنه أحد اللصوص الذين يقتسمون معه أو قد تكون أنت !! ".
ضبط يده على الحقيبة ، فجذبها بعيدا . هاهى ذي الأنظار تتجه إليه . يتحدث إلى أحدهم ، يكرر ما يقول حتى مله ، فيصرخ فى وجهه ، يتجه إلى آخر ، يتحدث إليه ، يعطيه أذانا صاغية - أول الأمر - يعود يكرر ما قاله ، فيمله ، يصرخ فى وجهه . فى نهاية الأمر ترابط محتميا بصابر ، فيهدئ من روعه . يكاد يسقط بلسانه ، فيبوح بما ينغص عليه ، يلطمه صوت أبيه الفاني ، يتمثل أمامه بشحمه و لحمه ، مكشرا فى وجهه :" خليك رجل ياولد .. إلى متى .. اكبر ياخرع ".
كان بوجهه المقطب ، و أنفه العظيم ، وشعره الأبيض ، صوته الأجش كموتور خرب .
أخيرا جاءوا ، وجاء المغص .. جاءوا خلف بعضهم ، وما أفلت أحد من قبضتهم .. لا يعرف ما الذى أحسه حين حدق فى وجه صابر لحظتها ، مما دفعه إلى معاودة النظر إليه . كان أقرب شبها بالضابط ، نفس الملامح ، نفس النظرات القوية . كانوا يدفعون شبابا إلى الحجرة الأخرى ، القريبة .. هناك ، يعلق المشبوه ، يدلى من السقف كذبيحة ، ويضرب ضربا مبرحا ، أحس بهزة قوية ، تسرى فى جسده ، على الفور اصطكت أسنانه :" يارب .. أنا رجل كبير .. هل ؟ يارب كن إلى جانبي .. ياحسين .. ياسيدة ياطاهرة .. يا أم العواجز .. يابه ".
اللطمات لا تنقطع ، قوية كالرعد تدوي ، ترجف بدنه الهزيل ، تدوي فتحط عليه هو .. وحان دوره ، حان دوره أخيرا ، سحب فأطاع طيبا كطفل وديع ، واجهه السيد ضابط المباحث ، سأله مناورا . رد عليه محاولا قدر إمكانه الحرص . لم يكن بليغا . هاج سيادته ، هجم عليه لاطما . مهانا لوى عنقه ، ودون تفكير :" أنت يادوب قد ولد من عيالي ".
لم تعجبه هذه اللهجة ، ثار ثانية ومنتفشا كطاووس كان يسدد لكمة متقنة إلى وجه محروس ، الذى تهالك إلى الخلف ، مصطدما بحوائط الرجال ، فأعادوه إلى قبضته !
حدق بسعادة ، ارتخى على كرسيه . محروس يرغي و يزبد بكلام كالبكاء ، وبطيبته المعهودة ، كان يكرر ما سبق قوله ، فأطاحوا به ، وما تركوه حتى أشبعوه ضربا ، رغم كل ما ناله منهم إلا أنه كان راضيا ، فلم تمكنهم هذه الوسائل من كشف المصيبة التى يحملها . كان يردد :" الحمد لله ". لكنه حدس عودتهم إليه ثانية . ما أفلت أحد من قبضتهم حتى الآن ، وما مرروه على الغرفة الثانية بعد :" الحمد لله .. الحمد لله .. يابه .. الدار تختنق بمن فيها ، و ماأتى أحد ليرى حالي ، ينقذني من هذه المصيبة ، سوف أعلق من عرقوبي ، يضربني فيل من هذه الفيلة ، التى لا تعرف رحمة أو مروءة .. ياربي .. أنا لا أترك فرضا من فرائضك ، و لا أعتدي على أحد ، حتى أولادي ، أتسامح معهم فى حقوقي .. أسرح إلى الغيط من النجمة ، و لا أرى الدار إلا ليلا .. ماذا أفعل ؟ ".
الزبد يتكور على جاني فمه ، يترنح بلا عقل ، ولا يرى إلا أشباحا وخيالات باهتة .
حط غاضبا موهن العظم . ناداه صوت أبيه :" لا تبك ياولد .. كن رجلا و إلا أكلوك ".
قطع بكاءه مشدوها ، راح يتابع الشيخ الفاني :" إنهم اكتفوا .. اكتفوا بهذا .. انتظر ".
كان يرتعد كلما شعر بجيب صديريه ، يصرخ بأعلى صوت كمؤامرة :" أنا الخنسر هنا فى جيب محروس .. ياحضرة الضابط أنا الخنسر هنا فى جيب محروس ".
يدور حول نفسه كمجنون ، يتكوم ، ينحنى ، يحاول كتم أنفاس الخنس الجبان ، يود لو سخط خنفساء ، لها حرية الخروج من هذا المكان ، و الأصوات من حوله تتعالى فى فراغ الحجرة .. صرخات و لطمات ترن ، وبكاء وركلات تمزق وجهه ، تسلخه سلخا رتيبا .
كان أولاده و أولاد أخيه يحومون حول المبنى ، يسمعون صدى الضربات ، تئن ، وترتجف لها الجدران ، وفى الظلام كانت خيوط فضية تنز على خدودها .
كانت جموع غفيرة تتحرك بقلق ووجد ، تفترش الطوار ، تحتضن الأسلاك الشائكة ، والبعض هناك فى الخلف ، حيث تصلهم اللطمات ، كما يصلهم الصراخ و العويل .
التجأ أولاد محروس بالمحامين ، فما حركوا ساكنا ، كانوا على علم بالجريمة ، و أمر المشتبه فيهم ، و التقليد المتبع فى مثل هذه الظروف :" سوف يتركونه ، لكن بعد ضربه كالعادة ".
شغل أصغر أبنائه نفسه باحصاء عدد مكاتب المحامين المحيطة بالقسم ، و أيضا مقر الأحزاب ، عدد الجرائد ، النواب ، لكنه فشل فى لعبته ، فتركها فورا .
ظلوا يحومون بخيبة أمل ، تعلموا ووظفوا ، شغلوا الوظائف ، وخابوا عند الوصول إلى عمهم .. إلى أخيهم .. إلى أبيهم .. كان شعورا فظيعا ، شعورهم بعدم جدوى المحاولات المنهكة ، إنها ليست مدينتهم تلك التى يتحركون فيها ، أبدا ليست مدينتهم .. وصلوا إلى شقيق المارد السيد ، إلى قاض طيب آخر الأمر .. أقسم على التصرف ، وكانوا أكثر حرجا و قلقا .
كان هو فى الداخل يري بعينه و لا يصدق ، يرى و لا يفهم . عاش بفأسه و قضيبه ، فى الأرض و الدار ، ينبت الزرع و يبذر الذرية ، و الخنسر فى جيبه إلى الآن .. الخنسر و المشنقة .. المشنقة لا تلتف إلا حول رقاب الخائبين أمثاله .
فجأة ناداه الصقر ، تهالك ، امتقع وجهه ، تقدم برغمه ؛ فالأكف فى عطش إلى اللطم . زحف :" أنا هاسيبك يامحروس تروح ، لكن أنا هاديك علقة ، عشان إما حد يسألك عن حاجة ، تقول معرفشي !!".
تعليق