هبّ من بين القبور وحيدا كما المارد،عيناه تقذفان رعبا وسخطا،سار جنب السور الطويل يضرب الأرض بعنف،عبر الجسر نحو الضفة الأخرى،توقف جنب أكوام القمامة،تأمّلها لم يلتقط شيئا ثم مضى مهرولا نحو بداية الشارع الكبير..لا أحد التفت إليه أو كلمه ،كان على وشك الانفجار لو مسّه أحد..لا يحفل بإشارات المرور ولا عبور السيارات،
مقذوفا في فضاء المدينة كرصاصة مسدّدة نحو هدف معيّن...
يهرول ..يمد يده بين حين و آخر ،إلى جيبه ،يتفقد المدية التي شحذ،يواصل سيره..
أذنه لازالت تضج بما كان يسمعه ويراه لليال ثلاث قضاها لاجئا بين الموتى في مقبرة المدينة،معلقا بين عالمي الغيب والشهادة...
بات يسمع ويرى...
سمع في جوف الليل آيات كريمة تتلى شجية رقيقة .. عذبة تصل إليه من ركن بعيد ... أزعجه البوم وهو على أغصان الشجر يزرع الرعب و القنوط بصوته الموحش ...
رأى الكثير من سكان المقبرة الأحياء،يأتونها جماعات وفرادى..تلفظهم المدينة النزقة كل مساء نحو حواشيها، يكاد يعرف بعضهم،يظلون تائهين بين البنايات والشوارع..ليعودوا في المساء منهوكين يبحثون عن متسع لتمدّد عظامهم ..
يأتي السكارى في أعقاب الليل يجرّ بعضهم بعضا كأشباه جمل زائدة،تعوج سيقانهم بين الأجداث ، يدوسونها..يبحثون في العتمة عن مسلك نحو زاوية يعرفونها وتعرفهم ،يحتسون جرعات أخيرة ،يتنازعون حول لقمة أخيرة ..وسيجارة أخيرة،يشتعل الخصام .. يتساقطون بخدر النوم واحدا تلوى الآخر...
كل ليلة يعيشون نفس الإيقاع، يقاسمون الموتى وجبة الصمت الأبدي...
في الليلة الماضية تسكّع في شوارع المدينة أكثر من اللازم،ولماّأراد العودة كان الظلام قد أخذ يحاصر الرؤية...سار على الضفة ثمّ عبر الجسر ومشى جنب السور العتيق ..حين دلف إلى داخل المقبرة لا حظ أن المكان قد تغير بالكامل ،قبور مصفوفة بشكل لائق،وممرات واسعة تنتشر على جنبيها أزهار ورياحين، ظن أن مسؤولا ليس من الأحياء حتما، زار المقبرة امتعض وأمر باللازم...قهقه في داخله ساخرا ،يد لطيفة توضع برفق على كتفه التفت،رجل في لباس الحراس تعلو محياه ابتسامة لطيفة ... يسأل:
- إلى أين سيدي؟؟
- ..أريد المقبرة؟
اتسعت ابتسامة الحارس وأضاف:
- مقبرة أموات المسلمين تقصد؟..
لحظتها انتبه للصلبان التي تعلو القبور..اعتذر واستدار قافلا ،أكمل طريقه نحو الجهة التي استبد بها الظلام تماما...فكر في مقابرهم..مقابرنا. .قارن..قهقه في صمت على فوضاه..
ليلتها قرر أن يختصر المسافات،أن يعلن انتماءه للريح...للموت...
هدأ ليل المقبرة، نشر الصمت الرهيب ظلاله ..ونام...
لكنه ثار قبل الفجر كبركان...
نفير سيارة مارقة يحدث رجّة في داخله ..أوشكت أن تعجّل بأمره لولا فسحة من عمر، انتبه لنفسه ليجدها مقابل مبنى المحافظة...صبّ على غضبه بحورا باردة،تماسك..استعاد توازنه بالكامل ،ألقى نظرة على نفسه من تحت إلى أعلى ، نفس البذلة الأنيقة.. بذلة المهمات الصعبة..
عبر الشارع في اطمئنان زائد، صار داخل حديقة المحافظة،أخذ نفسا عميقا،لم يمد يتفقد جيبه الأيسر، ثابت الخطو كان وهو يقصد مكتب الإرشادات،عبّر للموظف عن رغبته في مقابلة السيد المحافظ لأمر يتعلق بأمر سكناه،أشار عليه أن ينتظر الرد في قاعة الانتظار...كانت غاصة بالجمهور الذي يكره : البذلات الزرقاء وربطات العنق والأحذية اللامعة،والإبتسامات المستعارة... ثارت حساسيته ..اختار مقعدا شاغرا في الصدارة وجلس، بغتة اشتعل الغضب في صدره...ترجّل عن مقعده وصاح فيهم:
- أريد قبرا....قبرا أريد.
اشطبوني من عار سجلاتكم وحقارتها...
أنا ميت أبحث عن قبر...أنا ل ل ن...
ضجت القاعة:
-مجنون هذا؟
- أخرجوه
- أوقفوه..
- تفوووو....
قبل أن يتلمّس جيبه باغتته من الخلف خطوات أحذية ثقيلة،
أيادي غليظة وضعت يديه في الأصفاد.. واقتادوه بعيدا نحو مقبرة أخرى....
العربي الثابت
مقذوفا في فضاء المدينة كرصاصة مسدّدة نحو هدف معيّن...
يهرول ..يمد يده بين حين و آخر ،إلى جيبه ،يتفقد المدية التي شحذ،يواصل سيره..
أذنه لازالت تضج بما كان يسمعه ويراه لليال ثلاث قضاها لاجئا بين الموتى في مقبرة المدينة،معلقا بين عالمي الغيب والشهادة...
بات يسمع ويرى...
سمع في جوف الليل آيات كريمة تتلى شجية رقيقة .. عذبة تصل إليه من ركن بعيد ... أزعجه البوم وهو على أغصان الشجر يزرع الرعب و القنوط بصوته الموحش ...
رأى الكثير من سكان المقبرة الأحياء،يأتونها جماعات وفرادى..تلفظهم المدينة النزقة كل مساء نحو حواشيها، يكاد يعرف بعضهم،يظلون تائهين بين البنايات والشوارع..ليعودوا في المساء منهوكين يبحثون عن متسع لتمدّد عظامهم ..
يأتي السكارى في أعقاب الليل يجرّ بعضهم بعضا كأشباه جمل زائدة،تعوج سيقانهم بين الأجداث ، يدوسونها..يبحثون في العتمة عن مسلك نحو زاوية يعرفونها وتعرفهم ،يحتسون جرعات أخيرة ،يتنازعون حول لقمة أخيرة ..وسيجارة أخيرة،يشتعل الخصام .. يتساقطون بخدر النوم واحدا تلوى الآخر...
كل ليلة يعيشون نفس الإيقاع، يقاسمون الموتى وجبة الصمت الأبدي...
في الليلة الماضية تسكّع في شوارع المدينة أكثر من اللازم،ولماّأراد العودة كان الظلام قد أخذ يحاصر الرؤية...سار على الضفة ثمّ عبر الجسر ومشى جنب السور العتيق ..حين دلف إلى داخل المقبرة لا حظ أن المكان قد تغير بالكامل ،قبور مصفوفة بشكل لائق،وممرات واسعة تنتشر على جنبيها أزهار ورياحين، ظن أن مسؤولا ليس من الأحياء حتما، زار المقبرة امتعض وأمر باللازم...قهقه في داخله ساخرا ،يد لطيفة توضع برفق على كتفه التفت،رجل في لباس الحراس تعلو محياه ابتسامة لطيفة ... يسأل:
- إلى أين سيدي؟؟
- ..أريد المقبرة؟
اتسعت ابتسامة الحارس وأضاف:
- مقبرة أموات المسلمين تقصد؟..
لحظتها انتبه للصلبان التي تعلو القبور..اعتذر واستدار قافلا ،أكمل طريقه نحو الجهة التي استبد بها الظلام تماما...فكر في مقابرهم..مقابرنا. .قارن..قهقه في صمت على فوضاه..
ليلتها قرر أن يختصر المسافات،أن يعلن انتماءه للريح...للموت...
هدأ ليل المقبرة، نشر الصمت الرهيب ظلاله ..ونام...
لكنه ثار قبل الفجر كبركان...
نفير سيارة مارقة يحدث رجّة في داخله ..أوشكت أن تعجّل بأمره لولا فسحة من عمر، انتبه لنفسه ليجدها مقابل مبنى المحافظة...صبّ على غضبه بحورا باردة،تماسك..استعاد توازنه بالكامل ،ألقى نظرة على نفسه من تحت إلى أعلى ، نفس البذلة الأنيقة.. بذلة المهمات الصعبة..
عبر الشارع في اطمئنان زائد، صار داخل حديقة المحافظة،أخذ نفسا عميقا،لم يمد يتفقد جيبه الأيسر، ثابت الخطو كان وهو يقصد مكتب الإرشادات،عبّر للموظف عن رغبته في مقابلة السيد المحافظ لأمر يتعلق بأمر سكناه،أشار عليه أن ينتظر الرد في قاعة الانتظار...كانت غاصة بالجمهور الذي يكره : البذلات الزرقاء وربطات العنق والأحذية اللامعة،والإبتسامات المستعارة... ثارت حساسيته ..اختار مقعدا شاغرا في الصدارة وجلس، بغتة اشتعل الغضب في صدره...ترجّل عن مقعده وصاح فيهم:
- أريد قبرا....قبرا أريد.
اشطبوني من عار سجلاتكم وحقارتها...
أنا ميت أبحث عن قبر...أنا ل ل ن...
ضجت القاعة:
-مجنون هذا؟
- أخرجوه
- أوقفوه..
- تفوووو....
قبل أن يتلمّس جيبه باغتته من الخلف خطوات أحذية ثقيلة،
أيادي غليظة وضعت يديه في الأصفاد.. واقتادوه بعيدا نحو مقبرة أخرى....
العربي الثابت
تعليق