ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة ؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نبيل عودة
    كاتب وناقد واعلامي
    • 03-12-2008
    • 543

    ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة ؟

    ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة ؟



    قصة : نبيـــل عـــودة



    بدون سابق انذار تغير الطقس . كان صباحا باردا جدا وماطرا ، الأمر الذي uhr أعاق وصول بعض الطلاب في الوقت المحدد لبدء الدراسة. شعر المتعوقون ببعض الرهبة ، بان يكون المحاضر قد سبقهم ، دون ان يؤثر اختلاف الطقس على توقيتاته المبالغ فيها ، وما سببه اختلاف الطقس المفاجئ من ازدحام الشوارع بالمركبات وبطء غير عادي في حركة السير .



    كان المحاضر لا يتهاون في مواعيد محاضراته ويصر على التزام الطلاب الكامل بالدقيقة لمواعيد دروسه، ويرفض دخول اي طالب بعد ان يكون قد دخل الصف واتخذ مكانه المعتاد بادئا درسه .وله في ذلك نظرية متكاملة ترى بالوقت ملكية اجتماعية عامة غير قابلة للتصرف حسب الأهواء الشخصية . ولكنه اول يوم ماطر وفوضى سير ، واكتظاظ في الحركة المرورية ، وربما يكون قد تعوق هو نفسه لنفس الأسباب.كما تمنى الطلاب وهم يهرولون ركضا لقاعة المحاضرات.


    كان من عادة المحاضر ان يدخل متأخرا دقيقتين تماما ، فاتحا المجال للطلاب للوصول الى مقاعدهم والاستعداد العقلي لدرس الفلسفة .

    المستهجن ان ذلك الصباح الماطر والبارد ، تأخر المحاضر عشر دقائق كاملة قبل الدخول الى الصف ، رغم ان البعض شاهده يدخل حرم الجامعة ، قبل الوقت بعشر دقائق. مما انقذ الكثير من الطلاب من ابقائهم خارج القاعة. ولكن تبين كما قال احد الطلاب ان "اليوم عسل" بسبب الخير الدافق من السماء .

    صحيح انه يمكن نقل تفاصيل المحاضرة عن كراريس الزملاء .. غير ان فقدان ساعة تسبب لهم مشاكل مع العلامات التي يسجلها المحاضر على أعمالهم ، ويلزمهم بتعويضها بمواعيد أخرى ، الأمر الذي يسبب لهم ضغوطات دراسية وضيق في الوقت ، وعلامات أقل مما يعتقدون انهم أهل لها. لذا يمكن القول ان مواعيد دروسه كانت من الدقة لدرجة يمكن ضبط أفخر الساعات السويسرية على ثوانيها. وقد انتشر في محيط الجامعة اصطلاح يقول " توقيت محاضر الفلسفة" ويعني الألتزام بالثانية ، واعتبار الوقت موضوعا حاسما في البناء العقلي للإنسان ، وفي تقييم رقي المجموعات البشرية . وكان يردد قولا يقول ان الفرق بين مجتمع حضاري متقدم ومجتمع بدائي متخلف ، يتعلق بشكل قاطع بفهم قيمة الوقت ، وانه ليس ملكا خاصا يتصرف به البشر على أهوائهم.

    وكثرا ما كرر المحاضر امامهم نظريته التي تقول انه لا قيمة للفلسفة والتفكير الفلسفي الا بتحديد اطار للوقت يلتزم فيه العقل بدقة المواعيد ، ودقة وقت الحديث ، بحيث لا يتحول الى ثرثرة وفوضى ، لأن ذلك يقود الى فوضى في المخ البشري ، والاستهانة بالفكر ، الذي لولاه لظل الانسان بعيدا قرونا عديدة عن الواقع المتطور الذي وصله اليوم . وأن ضبط الوقت يضبط تصرفات الانسان ، وينظم حياته ، بحيث لا يمر الزمن سدى ، والوقت هو القيمة العليا لكل مجتمع يخطط للرقي والتقدم وتطوير ملكاته العقلية والعلمية والبشرية. وكان يردد دائما :" بان مجتمعا يعيش غارقا بماضيه ، لا مستقبل له ". ويفسر قوله : " الماضي زمن لا يمكن استعادته ، او تكراره بنفس الاطار ، مهما كان عظيما، عظمته هي في وقته الذي لم نعد نعيشه ، وما تبقى منه مجرد تاريخ ونوسطالجيا ، لا قيمة له خارج الفكر التاريخي . ويقول : من المستحيل ان نعيد الزمن الى الوراء الا بقصص الخيال العلمي ، وفي الواقع التمسك بالماضي هو تمسك بحلم ، وعندما يفتح الحالم عينيه ، سيرى انه خسر حاضره أيضا ، وعلى الأغلب مستقبله أيضا . يجب ان نعيش الواقع وليس الحلم . ما سيأتي ، او ينشا ، سيكون الجديد فقط ، كان الماضي جديدا في زمنه ، واليوم لم يعد ينفع الا لمتاحف التاريخ . رفض الجديد هو وأد للوقت . وعندما يصحو العقل ، سيكون كل شيء متأخرا من ناحية الوقت . والوقت لا يرحم . لا نملك الوقت ، بل الوقت يملكنا بمفهوم ما ، اذا لم نندمج مع حركته ، الصاعدة دائما الى أعلى ، ستصير المسافة بيننا وبين الزمن أكثر اتساعا لدرجة يستحيل تجاوزها. وربما نفقد انتمائنا لنفس الانسان السائر مع الزمن ، وسيجدون لنا انتماءا لنوع جديد مختلف عن ذاك الذي نلهث اليوم وراء منتوجات حضارته . هذا حدث في تاريخ تطور الانسان عبر عصور التاريخ ، ولا يوجد قانون يقول ان البشرية اليوم ستبقى من جنس واحد متساو ، الا في الشكل .ان من يفقد ساعتان كل يوم من أجل طقوسه ، هذا يعني ان مجتمعه يفقد 50 ساعة انتاج شهريا ، واذا حددنا عد المنتجين ب نصف مليون منتج ، يعني ذلك ان المجتمع يخسر كل شهر 25 مليون ساعة انتاج .
    وما هي النتيجة ؟
    المزيد من التأخر في مستوى الحياة ، في الخدمات ، في مستوى التعليم بكل مراحله ، في تطور العقل ، وفي دخول تاريخ الحضارة.
    لا اتحدث عن خيال، بل عن واقع ملموس ، احسبوا الآن ضياع ساعات انتاج لخمسة ملايين منتج ؟ النتيجة مرعبة . ضياع 250 مليون ساعة انتاج شهريا. في السنة 3 مليار ساعة. ما يضيع أضخم من ذلك . لو قلنا ان ساعة الإنتاج تنتج مردودها 10 دولارات بالمعدل ، وهو حد أدنى في المفاهيم الاقتصادية الدولية ، والمقياس الدولي يتراوح بين 50– 150 دولار انتاج في الساعة وأحيانا في الصناعات التكنلوجية المتقدمة أكثر من 300 دولار انتاج في الساعة ، اذن تخيلوا الخسائر الرهيبة للمجتمع والانسان ، بسبب الاستهتار بالوقت ، والظن ان الوقت لا قيمة اقتصادية له . .
    والآن ، طلابي الأعزاء المغرورين ، كما يتوجه لطلابه دائما.. باستطاعتكم ان تفهموا لماذا المجتمعات المحافظة والمنغلقة متخلفة ، ولا تملك آفاقا تبشر بالتغيير .. او اللحاق بالتطور العاصف في عالمنا .

    كان المحاضر ، الى جانب دقة الوقت ، يلزم طلاب الفلسفة بدقة التعابير ، ومساحة الدقيقتين المقررتين للإجابة على أسئلة يطرحها المحاضر ليفحص ان طلابه متواجدين ، ليس باجسامهم فقط داخل القاعة ،انما بعقولهم أيضا . وكانت نظريته تقول ان الذي يستوعب موضوعه ، يستطيع تلخيصه بدقيقتين ، وبأقل من دقيقتين .. وأن صحة الجواب او خطأه ، ومدى استيعاب الطالب ، او أي انسان ، للموضوع الذي يتحدث عنه ، تظهر من الجملة الأولى. لذا "الثرثرة اتركوها لجداتكم" ، كما يقول ببسمة ساخرة .

    كان الطلاب يحبون دروس استاذهم ، رغم صعوبة توقيتاته وتعصبه للوقت ، ونهجه غير المهادن ، والرافض لكل الحجج والمبررات الا حجة الموت .. "وهذه نعرفها من اعلانات النعي ، ونقبلها ، ولا نريدها لكم " . والحقيقة الثابتة انهم تعودوا حقا على الالتزام بالوقت حتى فيما بينهم. وصار كل تجاوز في موعد ، يثير امتعاضهم القوي . مثلا يلتزم الطالب ان يتواجد يوميا في قاعة المكتبة من الثالثة حتى الرابعة والربع .. وفي الرابعة والدقيقة السادسة عشر يكون خارج القاعة ...

    ورغم شخصية المحاضر الصعبة ، الا ان محاضراته هي متعة عقلية غير عادية. ينقلهم فيها المحاضر الى عالم سحري من الأفكار الفلسفية ، التي قلبت عالمنا ، وشكلت مضمونه الذي نحياه ، عبر الطريق التي اجتازتها الشعوب ، او الأصح القول الطريق الذي اجتازه الفكر الانساني ، الى ما هو عليه اليوم من تقدم أو تخلف ومن سمو أو حضيض ، يبرز في المجتمعات البشرية بحالات مختلفة أشد الأختلاف. وان المسالة لا تتعلق بشعوب عبقرية وشعوب غبية ،كما أكد المحاضر مرارا ، انما بتخطيط تربوي وتعليمي ، وتبني المجتمع للعلوم كقاعدة للتقدم في جميع المجالات . واعتبار شل العقل بتلقين وترويج القصص الخرافية ، وأنصاف الحقائق ، والحكايات غير العلمية ، جريمة ضد البشرية.

    بعض ما كان يبدو لهم طلاسما ، مرهقة ومملة وعصية عن الفهم ، أضحت بعد شروحات المحاضر حقائقا ملموسة ، أدخلتهم الى أجواء لم يتوقعوها من الاندماج الروحي والفكري مع ذاتهم وعالمهم ، الأمر الذي يعزز شعورهم بأن ما اكتسبوه حتى اليوم ، يعتبر ثروة فكرية تجعلهم حقا مميزون عن أترابهم الذين اختاروا مواضيع أخرى او ذهبوا الى سوق العمل. بل وتجعلهم على نقيض مع عائلاتهم ومع مجتمعهم ومع واقعهم بكل قناعاته وأفكاره وعاداته وعلاقاته وعقليته ، لدرجة ان بعض الآباء يظنون ان ابنائهم ، يفقدون عقولهم ويصابون بالاستعلاء والعقوق ، بدل ان يزدادوا حكمة وتمسكا بموروثات الآباء والأجداد ، من خلال دراساتهم الجامعية.
    عندما كان يسرد طلابه الإشكاليات التي يصطدمون بها مع عائلاتهم ومجتمعهم ، بسبب ميلهم الى تطبيق ما اعتادوه من دروس الفلسفة ، كان يغرق بالضحك وكأنه يشاهد مسرحية كوميدية. ثم يعقب:"انا الآن سعيد بكم .. جهدي لم يذهب سدى "!

    كان المحاضر يحلل أصعب الأفكار الفلسفية بقدرته على صياغة جمل نصية واضحة وكاملة المعنى ، ويضيف لها النماذج الملموسة من الحياة نفسها او من الأساطير التي ترمز الى معاني معينة. ومع ذلك ، كانت البداية معه مرهقة جدا ، حتى استطاعوا التأقلم مع مفاهيمه التي كانت تبدو ، قبل أقل من شهر واحد فقط ، نوعا من التعسف والإذلال الذي لا مبرر له.


    ******


    دخل المحاضر الصف بابتسامته الواسعة ، والتي تخفي شخصيته " الألمانية " كما يقول الطلاب مستعيرين هذه الصفة للإشارة الى دقته وقسوته ، والتزامه بانضاط مبالغ فيه في رأيهم ، في كل علاقاته ، حتى في المواعيد مع طالب للإستفسار عن مسألة معينة، يحدد وقتا دقيقا. مثلا من الثانية وخمس دقائق وحتى الثانية والثلث. لن يستقبل الطالب قبل ان يدق "توقيت الفلسفة " الثانية وخمس دقائق. ولن يعطي الطالب ثانية واحدة بعد الوقت المقرر. كان الطالب ينتظر على باب مكتب المحاضر، ونظراته تراقب عقرب الساعة ، او كلمة أدخل حين يحين الوقت .واذا صدف وتعوق ، لن يلقاه مرة أخرى لفترة شهر كامل.
    وكثيرا ما تساءل الطلاب عن علاقة ذلك بالفلسفة؟ وحين تجرأت سعاد وسألته هذا السؤال ، تمنت ان تنشق الأرض وتبلعها لجوابه "النشاز والوقح " كما اشتكت لصديقاتها . قال : " الوقت ليس علاقة غرامية بالسرير ، هناك وقت مفتوح بلا حساب من العقل ، كفي ضحكا..( صرخ بعبوس على انطلاق ضحكات من مقاعد الطلاب) في الحياة نفسها من يضيع دقيقة يضيع ملايين الدقائق من حيوات ملايين البشر ، الوقت ليس ملكا شخصيا لأحد ، بمثل عقليتك يا سعاد لن يتقدم العالم ، وربما كنا ما زلنا حتى اليوم في العصر الحجري ومشاعية النساء ، مجتمعكم متخلف لأنه لا يقدر قيمة الوقت مثل المجتمعات المتقدمة ، يجب ان تكونوا جهازا فعالا لوضع حد لفوضى الوقت .. والا لا قيمة لكل دراستكم للفلسفة اذا واصلتم حياة التهريج والفوضى وعدم الانضباط والمسؤولية بانجاز العمل في وقته ، وليس حسب التساهيل والنفسية والطقس والرغبات الشخصية ... لذلك انتم في الفلسفة ، انتم امام اكتشاف لقيمة الزمن وارتباطه الوثيق بتقدم البشر والمجتمعات البشرية ، والسباق نحو الفوز بالأولوية في الاكتشافات والتقدم المعرفي والتكنلوجي والعلمي ، وليس السقوط بعادات لا تحترم الوقت وتحرقة بالخرافات والتنبلة والأوهام !!"

    على غير عاداته هذا اليوم الماطر، جلس يضاحك الطلاب ، ويبدو ان المطر نقله الى نشوة لا يعرفونها به . ورغم مضي عشر دقائق على دخوله لقاعة المحاضرات متأخرا عشر دقائق أخرى ، الا ان بعض الطلاب لم ينجحوا بالوصول بعد ، والذين يصلون يقفون حائرين قرب الباب مترددين في الدخول ، وحتى كلمة " ادخلوا " التي صدرت عنه لم تقنعهم انهم المعنيون بها. دخلوا رجلا للأمام وأخرى للخلف ، ولم يطمأنوا الا بعد ان جلسوا على مقاعدهم . بعد مضي عشر دقائق أخرى قال :
    - المطر خير .. ولكن له فعل سلبي على درسنا اليوم وعلى قدسية الوقت . منذ الغد لن أقبل أي تعويق ، نعود الى منهجنا . واضح ؟ حتى لو تراكمت الثلوج الى علو متر كامل . خذوا احتياطكم .. لا يهمني ان تباتوا هنا.
    وتابع :
    - حسنا ، اليوم خمر .. نسمح لجميع الطلاب بالدخول ، وغدا أمر.. نعود لمسؤوليتنا ونظامنا والتزامنا بالوقت ، باعتبارنا رجال فكر وليس رواد مقاهي الأرجيلة !
    وسأل :
    - ماذا كان درسنا الأخير؟
    وجه نظراته للطلاب، فارتفع أكثر من صوت :
    - تحدثنا عن البوذية ..
    - أجل . الشتاء لم يؤثر على ذاكرتكم .. البوذية ، كما قلنا هي أكبر دين في العالم . وظهرت في الهند في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد ، والمستهجن ان ستة الاف سنة وأكثر مرت منذ ظهور اول دين سماوي ( اليهودية ) يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة ، الا ان البوذية ما تزال تعتبر من أكبر الديانات انتشارا على وجه الأرض ، كيف لم ينجح أحد من كل انواع الغزاة من دعاة الديانات التوحيدية ، الى تقليص او زحزحة هذا الدين غير السماوي ؟
    ينسب تأسيس البوذية الى الأمير الهندي سيدهارتها غوتاما ، وكان يلقب ببوذا وتعني "المتنور" ، ويعود سر نجاحها الى المساواة الدينية الروحية ومكافحتها تفرقة الناس الطائفية. من هنا قوتها وصلاحية استمراريتها . وانتشرت البوذية عدا الهند ، في الصين واليابان وكوريا والعديد من بلدان جنوب شرق أسيا. حدثت تطورات على البوذية ، قربتها من الفكر الإلهي ، او التوسل لإرضاء الآلهة ، ولكنها ظاهرة هامشية لدى بعض التيارات البوذية فقط .. وما زالت البوذية في جوهرها اقرب للتربية الشخصية والاخلاقية . أي ليست بجوهرها دينا سماويا .
    الكشف الفلسفي عن البوذية يعود فضله الى الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر أرتور شوبنهاورالذي تأثر بالفلسفة البوذية ، ومن الجدير القول ان شوبنهاور كان نقيضا للفيلسوف الألماني هيغل .. كان ملحدا ، ربما هذا ما قربه من البوذية كفكر غير الهي ، ويمكن القول ان وجوهر فلسفة شوبنهاور كان بتأثيرها.

    يقول شوبنهاور: " نحن نحس بالألم اذا أصابنا ، ولا نحس نهاية الألم ". تمييز جدير بالدراسة.. هذه ضمن روحانيات البوذية الفلسفية . وتطرح البوذية رؤية تقول ان السعادة ليست سلبية ، ولكن السلبي هو الانسان الذي لا يحس بها". ومن هنا كان شوبنهاور ، تماما مثل البوذية ، يعتقد ان الحياة مجرد معاناة ، نضال واحباط . وان طريقة الهرب الوحيدة ، او الخلاص من هذا الواقع ،هو الاستسلام . كبت الأشواق ، وقمع الارادة للحياة . أي نوع من التصوف.. ولكنه تصوف بوذي شديد القسوة على الذات الانسانية. وتبرير ذلك عند شوبنهاور والبوذية ، ان التنازل ، بمفهوم الاستسلام أيضا ، يقود الى الرحمة ، او الشفقة على كل المخلوقات الحية وتقديسها ، أي أشبه بصفعة لجعل النفس نقية . بينما هيغل رأى ان الشقاء طريق للسعادة في النهاية .


    في عالمنا اليوم يبدو هذا الوضع غير قابل للتنفيذ .. ولكن الحقيقة ان ملايين البوذيين يمارسون هذه الشعائر.. أكثر من شعائر أي دين توحيدي آخر .


    قاطعه صوت طالب:


    هناك جمعيات الرفق بالحيوان .. هل لها جذور بوذية.-



    - لا علاقة شرطية ، انما رؤية انسانية عامة .ربما نحتاج الى جمعيات الرفق بالبشر أيضا في هذا العالم الذي صار العنف والقتل من مميزاته.


    وتابع :


    - البوذية وشوبنهاور سوية ، رأوا ان الحياة دائرة متواصلة من الاحباط والملل . عندما لا نحصل على ما نريد ، نصاب بالملل . وأن أكبر إحباط يحل على الانسان عندما يظن ان الفرج بات قاب قوسين أو أدنى من قبضة يده ، وانها خطوة ليحصل على أمنية طال انتظاره لها.وفجأة يتبين ان أمانية أضحت أكثر بعدا رغم انها كانت شديدة القرب للحصول عليها.



    هناك اسطورة تفسر هذه الفلسفة: وتتعلق بفلسفة شوبنهاور المتأثرة بالبوذية وتعرف باسم "فلسفة السعادة والشقاء" .. وهي تفسر مفهوم السعادة والشقاء البوذي وهو لا يتناقض مع مفاهيم كل المجتمعات البشرية وبغض النظر عن قناعاتها :


    كان أميرا جميلا ، قامت ساحرة شريرة بحرمانة من الكلام ، الا كلمة واحدة كل سنة.واذا تجاوز المحظور ، فسوف يصاب بالعمى والطرش أيضا. فالتزم المسكين بما كتب له من الساحرة الشريرة. ولكن الساحرة سمحت له بتوفير الكلام ، بمعنى : اذا لم يستعمل الكلمة في سنة معينة ، يستطيع في السنة التي تليها ان يستعمل كلمتين.. وهكذا دواليك .. ما يوفره من كلمات ، يستطيع استعمالها في سنوات تالية .



    التقى في حديقة القصر ، بأميرة رائعة الجمال ، جاءت مع والدها في زيارة ملوكية ، فاعجب بها وعشقها بكل روحه ،اراد ان يقول لها : " أميرتي الجميلة "، ولكنه لم يكن يملك في السنة الأولى الا كلمة واحدة لا تفي بالغرض . فصمت مضطرا سنة كاملة. رد الزيارة بعد سنة ، وقبل ان ينطق بالكلمتين ، فكر وقال لنفسه ولكني أحبها واريد ان أقول لها ، أميرتي الجميلة ، أنا أحبك " وهكذا ينقصة سنتين أخريين ، فصمت ، بعد سنتين قال في نفسه انه يريدها زوجه له ، ويريد ان يقول لها : اميرتي الجميلة انا أحبك ، هل تقبليني زوجا لك ؟" ولكلمات " هل تقبليني زوجا لك" يحتاج الى اربعة سنوات أخرى. فصمت. وهكذا مرت ثماني سنوات ، وبحماس سافر اليها ليقول لها كلماته التي وفرها لمدة ثماني سنوات : " أميرتي الجميلة ، أنا أحبك . هل تقبليني زوجا لك ؟ "



    سار مع الأميرة في حديقة القصر ، بين الزهور والعصافير المغردة والجو الشاعري اللطيف ، شاعرا بنبض قلبها في ذراعه الذي تتأبطه الأميرة.. متحينا الفرصة ليقول ما وفره من كلمات خلال الثماني سنوات .وتحت شجرة وارفة الظلال ، توقفا يتأملان مجرى النهر أمامهما .. وقرر انها الفرصة المناسبة التي يستعد لها منذ ثماني سنوات ، وبدون سابق انذار قال لها :


    أميرتي الجميلة ، انا احبك ، هل تقبليني زوجا لك ؟-


    تفاجأت الأمير بسماعها صوت الأمير ،فالتفت اليه متسائلة :


    بردون ، ماذا قلت ..؟ لم انتبه لكلماتك . -



    ورغم شعور الطلاب بالألم على الأمير .. الا ان ضحكهم كان قويا ، قاطعته الطالبة مروّة :


    - مأساة حقا بعد ان كاد يحصل على ما يريد ، لا بأس عليه ، سينتظر ثماني سنوات أخرى.. ولكن البوذية شهدت في القرنين السادس والسابع الميلادي ، تطوير نوع جديد من البوذية، بادعاء ان الفلسفات والعقائد الأخرى مجرد اوهام وتضليل ، وابتعاد عن النورانية التي تحل على الانسان من قوى عليا ، بممارسة رياضات معينة للتأمل مثل "النيرفانا " ، ولفهم نهجهم الجديد ، يطرحون سؤال فلسفي لم أجد له جوابا:


    - ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة فقط ؟


    - هل وجدت الجواب يا مروة ؟ سألها المحاضر.


    - اظن سأغير ديني الى البوذية وامارس النيرفانا ،لأجد الجواب..


    اذن سننتظر الجواب من مروة .. معنا اربع سنوات !!-



    نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة


    nabiloudeh@gmail.com
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    أستاذي النّاقد و الأديب الكبير نبيل عودة/
    تحيّة مودّة و تقدير .
    أعتبر دائما أنّنا أغنياء بما نكتب ،لا بما يُكتب عنّا.و هذا ما يجعلني أعبّر عن رأيي بكلّ صراحة كقارىء جاء يبحث عن الفنّ و الإثارة و الجمال و الفائدة طبعا،غير مضطرّ لتصنيف قراءاته و تبويبها سلفا قبل الشّروع في خوضها.تماما كالنّهم الأكول الذي لا يعنيه البتّة ماهو صحّي بقدر ما يعنيه ما هو لذيذ..
    أنا الآن أمام قصّة قصيرة،حُجب عنّي اسم كاتبها و طُلب منّي ابداء رأيي فيها،ماذا أقول؟:
    أقول أنّ الكاتب نقل لنا محاضرات مادّة الفلسفة لسنة جامعيّة بأسرها بكلّ تفاصيلها المتناهية في الصّغر و نظرة المحاضر للحياة ،تمهيدا لقصّة ذات صفحتين ،جميلة ،بل غاية في الجمال و الطّرافة و التّحريض على البحث،لا أجد ما يربطها بما أطنب في شرحه كاتبها من دروس في الإنتاجيّة و ما يرافقها عادة من جداول إحصاء اقتصاديّة و إعادة لذات الأفكار بصيغ مختلفة في كلّ مرّة.
    فهل استحقّت القصّة فعلا كلّ هذا التّقديم؟
    ثمّ ...ألهذا الحدّ كانت القصّة مواربة مشاكسة حتّى تُجبر صاحبها على أن يمسّك معها مقطعا لا بأس به من كرّاس أحد الطّلبة في مادّة الفلسفة ،إضافة إلى ما دوّنه خارج الدّرس أيضا و ما جهر و همس به إلى زملائه طيلة تلك المدّة؟

    الأستاذ القدير نبيل عودة..
    لا أجد من هو أقدر منك على التّعبير عمّا يريد ،كما يريد..و هذا أقوله دون مجاملة .

    أحيّيك مرّة أخرى أديبنا الكبير و أنتظر منك أن تغمرني بسماحة و سعة صدر الأستاذ لتلميذه.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • نبيل عودة
      كاتب وناقد واعلامي
      • 03-12-2008
      • 543

      #3
      الأستاذ محمد فطومي
      شكرا على ملاحظاتك القيمة جدا وعلى قراءتك الواعية للنص.
      اسمح لي بتوضيح طال عهد امتناعي عنه ، ترددا من توقيته الصحيح ، ولكني اليوم وانا أنشر آخر انتاج قصصي يتشكل من مجموعة قصص ربما تبلغ الثمانين قصة ، هي نتاج الأشهر الثلاثة الأولى من بداية السنة الحالية .. بعضها يتضمن قصصا فكرية فلسفية أتعبتني في صياغتها ومفرداتها واعادة كتابتها ، وفحص فسي من جديد فلسفيا وفكريا ، والتردد في نشرها ، ان اكاشف قرائي بما حركني لكتابة هذه النصوص .
      عدا المديح الذي يشعرني بالإرتباك ، اجد نفسي الآن مدفوعا لقول ما كنت خلال الأشهر الماضية اتجاهل خوضه مباشرة ، خاصة امام قول بعض قراء أعمالي الأخيرة عن بعض قصصي الفلسفية انها أقرب للمقال الفكري من فن القصة . لم أشأ ان اطلب تفسيرهم لفن السرد ومدى قدرة الكاتب ( انا في هذه الحالة ) جعل السرد مشوقا كما في أي نص قصصي ناجح ، والتساؤل ،هل طرح قضايا الانسان الفكرية والفلسفية الجوهرية ، الأمر الذي يقتضي من القارئ ذهنا مفتوحا ويقظة فكرية كاملة ، وليس قارئ نصف نائم ، كما تعودنا على قراءة القصص الممتعة المسلية ، او مشاهدة التمثيليات الممتعة ، يخرج النص من صفت القصصية ؟..
      هذا اللون القصصي يقتضي قارئ من نوع جديد، قارئ بمستوى ثقافي ومعرفي ما فوق المتوسط على الأقل ، يقرأ القصة بذهن يقظ كما يقرأ موضوعا بحثيا ، والسؤال الذي يشغلني بدون اجابة كاملة حتى اليوم : هل يختزل ذلك فن القص ؟
      ان فهمي للقصة تجاوز منذ فترة طويلة مفهوم النص السردي الخفيف المعبر ، والكاتب لم يعد مجرد راو ، يروى الحكايات في السهرات والمقاهي لتسلية الناس .
      اعتقد ان هذا الفن يجب ان يتحول أكثر وأكثر الى مادة فكرية فلسفية تربوية سياسية اجتماعية ولغوية ثقافية ، تميزه روح سردية ممتعة .. اشكالية غير سهلة ، اذ تشمل فن الرواية التقليدي وطرح قضايا فكر وفلسفة من المستوى الأول ... ودفع القارئ الى أجواء جديدة في فن القص ... ولكنها مشكلة المبدع .
      انا شخصيا ارى ان فن القص هو مسالة مهنية صرف.. أي ان وعي الكاتب هو الحاسم ، وكل الحديث عن لحظة الابداع ، وشيطان الابداع ، ودخول الكاتب بجو خاص ، ومعاناة الخلق ... هو ثرثرة فارغة من المضمون . وقد قرأت مجموعة مقالات في المنتديات والمواقع المختلفة تتحدث عن فن كتابة القصة ، أضحكتني لتفاهة طرحها وعدم فهم كتابها لمضمون هذا "العلم القصصي " ، أجل هو علم .. يقتضي الموهبة كما في علم الرياضيات مثلا ، ولكنه علم يتعلق أكثر بحياة الانسان بكل تفاصيلها واسقاطاتها ومؤثراتها ، والأهم بالقدرة على اختراق عقل الانسان ودفعه للإندماج بالنص ، لغة وفكرا.. بما يتجاوز مساحة متعة القراءة فقط ،لأن متعة الفكر والفلسفة أرقى وأكثر تنوعا واختراقا لنفس الانسان من مجرد نص الحدوثة.
      واضح ان القصة لن تكون بحثا . انما طرح معلومات ومواقف بسرد يختلف عن السرد العلمي ... وهنا ، كما ارى هو المجال الذي لا بد ان يخطو اليه فن السرد القصصي ، ليخرج من الحواديث والجو الحكائي البسيط الى المعاضل الأساسية التي تقف امام الانسان العربي اساسا ، والانسان العالمي عموما .
      هذا الاتجاه بات بارزا في العديد من الأعمال الروائية والقصصية العربية ، ولم يقلل من روعتها السردية ، انما عمق الى أبعد الحدود التصاقها بقضايا الانسان والفكر الانساني .
      وهذا النهج يجب تعميقه .



      تعليق

      • آسيا رحاحليه
        أديب وكاتب
        • 08-09-2009
        • 7182

        #4
        أعترف أني أقف طويلا عند بعض نصوصك .
        و قصّتك ' كنت معها ' لا تزال عالقة بذهني.
        و هذا الصباح وجدتني استمتع بالقراءة هنا .
        شخصيا أعشق الفلسفة و أحب النصوص التي تدفعني إلى إمعان الفكر و تلك التي تشاغب عقلي و تفتح أمامي آفاقا فكرية جديدة تغني مخزوني اللغوي و الثقافي معا .
        أتّفق معك أستاذ نبيل عودة بخصوص ضرورة أن يخرج القص من دائرة الحكي السردي المباشر البسيط ..و تلك فعلا مشكلة المبدع .
        لا أدري إذا أستطيع اعتبار القص علما بالمفهوم الدقيق للعلم و لكني معك أنه مزيج بين الموهبة و الصناعة و الإشتغال
        ..و هو متعة أيضا
        .
        تحيّتي و احترامي لك .
        يظن الناس بي خيرا و إنّي
        لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

        تعليق

        • نبيل عودة
          كاتب وناقد واعلامي
          • 03-12-2008
          • 543

          #5
          آسيا رحاحلية تحية
          كان قصدي من تعبير "علم " هو وضع فن القص بمستوى فكري وفلسفي ارقى من الانطباع السائد عن فن القص.. انه مجرد حكايا تشد القارىء ، حتى وهو نصف نائم .. او اذا انتقل من البداية الى وسط النص لن يخسر شيئا من المضمون. سيعرف التفاصيل من الخاتمة.او ما تعودنا عليه من المسلسلات العربية والأجنبية أيضا ، اذا فاتتنا حلقة او حلقات كثيرة ، لن يغير شيئا من معرفتنا للتفاصيل .
          الأدب بما في ذلك الفن القصصي ، او الثقافة بالتعبير الشامل، ترتبط بظهور الانسان وتدل على امتلاك الانسان لناصية قوى الطبيعة. وهي نشاط هادف يقود الى خلق شيء جديد . وهي أيضا شكل من أشكال الوعي الاجتماعي ... من هنا رأيت استعمال مصطلح " علم "!!
          شكرا على كلماتك المعبرة .

          تعليق

          • محمد فطومي
            رئيس ملتقى فرعي
            • 05-06-2010
            • 2433

            #6
            شرف كبير أن أحظى منك بهذا التّوضيح أستاذي العزيز،
            و أتمنّى أن تنال أعمالي هي الأخرى حظّ اطّلاعك عليها و نقدها.
            النّقد الذي يكشف زلاّتي و يوجّهني نحو الأرقى ،بمنأى عن الـ"المديح" كما تفضّلت.
            النّقد الذي جئت أطلبه بانضمامي لمنتدى الكبار هذا..
            شكرا مرّة أخرى أستاذ نبيل.
            مدوّنة

            فلكُ القصّة القصيرة

            تعليق

            • علي ابريك
              كاتب وباحث سياسي
              • 08-07-2010
              • 42

              #7
              النرفانا..
              أليس السعادة في كتم الشهوة ..؟
              فكيف يلاحقها الأبكم ..؟
              سؤال أربكني ..
              دمت بود
              [gdwl]العرب أمّة ستعرّب العالم بقرآنها ...كل العالم ..[/gdwl]

              تعليق

              • نبيل عودة
                كاتب وناقد واعلامي
                • 03-12-2008
                • 543

                #8
                الاستاذ علي بريك
                تحياتي
                النيرفانا حسب البوذية هي الوصول الى حالة السلام التام للروح عبر التأمل وممارسة رياضة معينة تتعلق بالقدرة على اتخاذ وضع يساعد العقل على التركيز وتنقية الروح والعقل من الشوائب اليومية التي تحيط بالانسان ، وهي الحالة التي يصل فيها الانسان لوضع يكون فيه خاليا من التلهف، وخاليا من الغضب ومن أي معاناة أخرى.
                التعديل الأخير تم بواسطة نبيل عودة; الساعة 17-07-2010, 03:25.

                تعليق

                • مصطفى خيري
                  أديب وكاتب
                  • 10-01-2009
                  • 353

                  #9
                  قصة فيها من الحكمة والفلسفة الكثير
                  ما ينقص الانسان العربي
                  الاحساس باهمية الوقت
                  الابحار في العلم
                  الرفق في الاختلاف
                  النظام والترتيب
                  احترام الطريق
                  فلسفة روائي ومفكر
                  تستحق ان تكون لها ندوات
                  تقديري استاذ نبيل الكبير

                  تعليق

                  • نبيل عودة
                    كاتب وناقد واعلامي
                    • 03-12-2008
                    • 543

                    #10
                    المشكلة ليست في الانسان العربي . انما في تحويله الى عبد للنصوص ، والى اداة لخدمة المتنفذين في المجتمع .
                    الانسان في الغرب انطلق بعد الرينيسانس مع التحول الكبير في موقف المجتمع من المواطن ، بتحرير المواطن من العبودية للمجتمع ، وتحويل المجتمع الى خدمة الانسان وليس العكس.
                    وآمل ان لا يطول الفجر...

                    تعليق

                    يعمل...
                    X