شذى
مرّت بجانب الرّمس ..
لم مرّت بجانب الرّمس؟
من علّمها الحفر و نبش القبور؟
لم يكن لاهيا و لا ناسيا ،كان ميّتا.ألا يشفع الموت لصاحبه بالقليل من الغياب و الدّهشة؟ألا يحقّ له أن يفقد لبعض الوقت صوابه و يخون؟
قال لنفسه ذات خفقة وقت كان يتوهّج نبضا و قوّة يلتمس لها الأعذار:صغيرة..و لا تعي ما تقول..ستدرك يوما أنّي ابن عمّها و أنّي الأجدر بها.
لمّا كبرت و قبل أن يغفو الغفوة الأخيرة سألها من جديد:تتزوّجينني؟
قالت :ليتك تنسى.
قال يؤجّل الفقد دقيقة أخرى:حبيبتي..سنعمّر الدّنيا ..سأُحبّك حتّى أبلغ بك أقصى آماد السّعادة..
قال صمتها الغريب:آسفة..
أصرّ على معرفة الأسباب..كبُرت الكلمة في فمها فبلّغت عنها:عريس مُهذّب،جهّز بيتا،و خرج من الشّرنقة يطلب أُنثاه..حبيبي شاعر مجنون..الحُبّ مغامرة أو لا يكون.
أرسل إليها أن سأُشكّل لك من الشّعر أواني من خزف و كوخا من وئام و مرجان.
و لكنّها ألقت بلؤلئه في البحر أمام عينيه ساعتها.. بذّرته و أسرفت فيه..لم يتحمّل فسقط في المجهول ،اختنق و هلك.
و أيّ قوّة كان عليه أن يتحلّى بها كي يبقى على قيد السّلام و هو يشاهد أمصاله التي فيها شفاء لها – لو فقط أصغت إليه – تُراق جزافا أمام عينيه؟
فلم تراها عادت بعد كلّ ذاك الموات لتمرّ بجانب الرّمس؟
مرّت ،كأنّها لم تكفّ يوما عن المرور،حيّرت الطّين من تحته، خضّه وقع أقدامها العسليّة،تجرّ وراءها حلما لا يخشى التّلاشي و لا أوبة النّيام ،و عبيرا أخضر كمضيّ الرّغيف نحو الفساد.
عُد أرجوك ..أحتاجك..نهشني النّدم..
و بياضا ظالما مغرورا كفستان الفرح في عيون حبيب، لو لا بطاقة الدّعوة لما سمحوا له بحضور حفل زواله منها.و شذى لعوبا ،أسمر،تستحقّ صاحبته الصّفح ، يسحق و يرمّم دون عناء كريح البعث.ليجعل للطّعم رائحة،و للّحن رائحة ،و للتّجلّي رائحة،و للسّفر رائحة و للقبلة لونا و رائحة.. و يحوّل الخيانة إلى طقس عبادة..
هناك عطور تحوّل وجهة الحواس و تُفقدها عناوينها.
من أجلها صحا..بفضلها صحا..صحا ببساطة لأنّ حميم أنفاسها ،يُعمي و لا يترك للثّأر من مجال،..نفض عنه أدران الفوات..غفر لها قتله.. كوى جرحه ..غمر حفنة حبّ و الكثير من هوان الرّوح.و همّ بالقيام.تشقّق الرّمس و اهتزّ.بلمسة واحدة من شذاها تنكّر للأموات ،هتك سرّهم و أخبر عنهم:إذا جاءك من التّفاح طعم التّوت فألق به في الحال إنّ به لعنة.
فاض تجربة و نضجا.رتق مزقه . قشّر لها قلبه ليمونة.و تنبّأ بمعجزة تُبقيها ، طوفانا يؤويهما.
خشي قصاص الأموات فبنا الفلك.سيكون على متنه زوج واحد لا غير؛هي و بقاياه؛شتات رجل مُستهلك ،مضمّخ بثلاث أطفال و أخرى،رجل لم يعُد يملك نفسه..دعاها فاستجابت..آمنت ..صدّقت و لم تضحك ..ألآن؟ أكُتب على المخمور أن يموت مرّتين كي تصدّق الكرمة على الأقلّ بأنّه مريض؟
أخيرا أدركتِ أنّ الفلك تجري في الماء لكنّها تُبنى في العراء..يا كم هو سعيد.. تدافع السّيل من كلّ صوب..ركبت ..همّ بالصّعود فلم يجد نفسه ..ارتفعت ..حاول اللّحاق بها ..مدّت له يدها ..لم يجد يدا يمدّها..تمرّد..للفقد مرارة لا توصف إذا تكرّر..بحث عن نفسه مرّة أخرى،فلم يجدها..ما أحرّ المستحيل ..مع ذلك حاول مرّات و مرّات ..و كانت كلّما طفت السّفينة أكثر كلّما ازداد التصاقا بالقاع..وقف على أمشاط أقدامه مكذّبا أن يكون شذاها هو الذي شنّ عليه الخراب..إنّها حتما كذبة..لمّا غمره الماء فقط صدّق بأنّه السّفح من جديد؛الزّوال من جديد..
لم هناك دائما مصائر لا نعترف بها إلاّ إذا غمرنا الضّيم إلى الأذقان؟
و هو يغوص ،تناهى إلى سمعه صوتها كالمطارق و هي تناديه..الغرقى لا يجيبون.. فقط ألقى نظرة أخيرة على أسفل السّفينة ،نظرة لم يترك الرّعبُ لليأسِ فيها مقدار ذرّة.و حدّث نفسه يختنق ثانية و أخيرا بأنّها منذ الأزل مخطوفة و بأنّه منذ خُطفت كُتِب من الغابرين،و بأنّ عنيدا لم يُفلح في عجن الأقدار من قبل.
تعليق