
كتب مصطفى بونيف
تعودت قبل أي موعد انتخابي أن أجهز البطاقة الانتخابية ، فالانتخاب حسب ما نسمعه في الدعاية السياسية " حق وواجب لكل مواطن "....وعلى الرغم من أني أحمل إجازة في الحقوق ، ما زلت لم أفهم كيف يجتمع الواجب والحق معا ...يعني هل من الممكن أن يجتمع الليل مع النهار في وقت واحد ..؟.
ولعل أشهر المواعيد الإنتخابية ، هي إنتخابات " مجلس الشعب " ...بمعنى أن يتوجه كل مواطن شريف ليختار مواطن شريف مثله حتى يمثله في هذا المجلس ، وينقل هموم وأوجاع المواطن الكادح ، ولكي يساعد في تنمية منطقته ...هكذا كنت أفهم وظيفة النائب.
وأهم ما يعجبني في فترة الإنتخاب هو الحملة الإنتخابية ...أين يطلق كل مترشح وعوده وأكاذيبه على أبناء عمومته وبلدته ...فتعلق صور المترشحين كما تعلق صور المجرمين واللصوص المطلوبين في الشوراع والمقاهي ، كما تلاحظ نظافة المترشحين في تلك الأيام وربما هؤلاء لا يستحمون إلا في الفترة الإنتخابية ...فقبل ذلك ياما رأيتهم ينبطحون في المقاهي وفي الشوارع ...ويكتبون تحت الصور شعارات تجعل منك تتخيل أنك ستعيش " في ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر " ، فهذا يكتب مثلا "نحو حياة كريمة لكل مواطن " و الآخر يكتب " حتى يعيش الشباب سعادتهم " والآخر يكتب " نحو تحقيق العزة والكرامة " ،،، وغيرها من الشعارات التي تسيل اللعاب ، ناهيك عن الخطابات الجماهيرية التي يقيمها هؤلاء ، فهذا يوزع كؤوس المشروبات الغازية وقطعة كعك لكل مواطن يحضر التجمعات ، وذاك يوزع قطع القماش ، والآخر يوزع اللحم كل يوم جمعة عند باب الجامع ...كل هذا من أجل أن تدلي بصوتك للمترشح .
وقد تجد صورة المترشح فوق سرير غرفة النوم ، وفي الصالون وربما في التواليت ..
وعندما تفتح الجريدة تجد صورةسيادته وهي تذكرك بضرورة أن تدلي بصوتك لصالحه حتى تعيش في نعيم الحرية والعزة والكرامة.
وهنالك نوع آخر من المترشحين ، وهم لا يعتمدون الترغيب وإنما الترهيب ....وهؤلاء يكتفون بتعليق صورهم خالية من أي شعارات في الميادين العامة ...وعندما تنظر إلى صورهم كأنها تقول لك " نحن بك أو من غيرك سننجح ...فياويلك إذا لم تنتخبنا ، فاختصر الطريق "....وإذا أطلت النظر في الصورة كأنه سيقول لك " هيا ابتعد يا ابن الكلب .."
وتجد الشعب البسيط يجلس في نواصي الشوارع والمقاهي يتحدث عن نزاهة المترشح الفلاني وأنه من أبناء أحد أولئك الذين صنعوا الثورة ، وأنه ( فلان ) إنسان نزيه ولا يسرق ، وأنه إذا سرق يأكل ويطعم غيره ....وآخرون يتكلمون بلغة ننتخب فلان لأنه أخف ضررا من غيره...
ويأتي يوم الإنتخابات ، فتجد الشعب يتزاحم أمام الصناديق حتى يأخذ حقا له ويدفع بواجب عليه للحكومة ...وننتظر في الليل النتائج ...رغم علمنا المسبق بالنتيجة مع ذلك ننتظر حتى نفجر الدنيا بالفرحة ونقيم عرسا ديمقراطيا ......عفويا...
وأتذكر أنني ليلتها سرقني النوم وأنا أتحدث إلى أصدقائي ..وحلمت بحلم غريب ( اللهم إجعله خير )..حلمت بأني ترشحت للإنتخابات البرلمانية .....ليخرج أحدهم من قاعة فرز الأصوات " مبروك يا سي مصطفى ..مبروك مبروك " ، ثم حملني الناس على أكتافهم " بالروح بالدم نفديك يا بونيف ..بالروح بالدم نفديك يا بونيف " ، همست في أذن صاحبي " قل للناس أن يغيروا شعار بالروح بالدم ، فأنا أتشاءم منه كثيرا وهو في حقيقة الأمر شعار يستحق كل هذا التشاؤم ". ثم وقفت في أعلى مكان في المكان وقد كان كتف أحد المواطنين ورحت أقول خطابا حماسيا " أيها الشعب الحبيب ، بارك الله فيكم على كل هذه الثقة التي وضعتموها في شخصي ، وهذا إن دل على شيئ إنما يدل على المحبة الغامرة ، وأمة رسول الله لا تجتمع على باطل ، والحمد لله أنا لست باطلا " فراح الجميع يصفقون ويهتفون " عاش مصطفى نصير السنة " ، فهمست في أذن مرافقى " أسكت هؤلاء قبل أن أجد نفسي في معتقل حربي " ،،، فهتف صاحبي " عاش مصطفى نصير المظلومين " ، فأمسكته من أذنه " هل تريد أن تورطني ؟ " ،، فعاد ليهتف " عاش مصطفى نصير الديمقراطية " وأنا ارفع ذراعي محييا الجماهير العريضة على طريقة الزعيم الليبي ...
ثم واصلت خطابي " سوف أحارب البطالة بكل ما أوتيت من قوة ولن يكون هنالك شاب بطال في بلدتنا ..وسأحارب العنوسة لن أترك أي بنت عانس في بلدتنا " فهتف صاحبي " عاش مصطفى نصير البطالين والعوانس " ......ثم واصلت قائلا " سأحارب الرشوة والفساد الإداري وساقول للحكومة كل ما يجول بخواطركم وسأكون بوق البسطاء وطبل الفقراء " فهتف صاحبي بحسن نية " عاش مصطفى البوق والطبل "....ثم عدت مخاطبا الجماهير العريضة " أما عن قضية العولمة وصراع الشعوب.." فقاطعني صاحبا " يكفي .." .وراح الجميع يهتفون بحياتي ...
وبعد أيام انعقدت جلسة في البرلمان ...وقبل أن أدخل القاعة ، رحت أتأمل الحضور كانوا كلهم يلبسون بدلا جديدة...ووجوههم سمينة ..ويتكلمون عن كفاحهم أثناء الحملة الإنتخابية وفي يد كل واحد منهم سيجارا كوبيا مثل الذي يدخنه "فيدال كاسترو" .
دخلنا قاعة الجلسات والتي كانت فخمة ومكيفة ...وجلس بجانبي شيخ طاعن في السن ، وأعطاني ورقة وقال لي " من فضلك يا ولدي إقرأ لي ما جاء في هذه الورقة .." ، فقرأتها له وقلت له " هذا القانون الداخلي للبرلمان " فصرخ في وجهي قائلا " تكلم بالعربي يا رجل ...فهمني حبة حبة ". فقلت له " هذه الورقة عبارة عن دعوة للعشاء " فقال لي وليمة يعني " ترى من صاحب هذه الوليمة ؟ " ،، فقلت له " الرجل الكبير الذي يجلس هناك "....ولما بدأت أشغال المجلس نظرت من حولي حضرات النواب ، نصفهم نائم ، والنصف الثاني بين مخربش على الورق الذي أمامه وبين سارح بتفكيره في ملكوت الله وينتظر فقط الساعة التي يرفع فيها يده .
وكان الرجل الذي يجلس بجنبي نائما ثم استيقظ بعدما نشبت معركة بين نائبين ، استيقظ من نومه وقال " يووووه الواحد منـا يتعب من كثرة العمل في الفندق طيلة الليل ، فهذه وسادة صعبة لا تلين إلا بزجاجة ويسكي ، وهذه وسادة مستوردة لا تلين إلا بالدولار ، والله البارح كانت نفسي ستنقطع بين الوسادة المحلية والوسادة المستوردة " فقلت له ولماذا تتعب نفسك بوسائد الفندق لماذا لم تحضر وسادتك معك من البيت أريح لك " فقال لي" أعوذ بالله "، فقلت له " أنت نائم الآن في البرلمان من غير وسادة ". ثم تناول الكلمة أحد النواب ، فقال لي صاحبي – أبو وسادات -" هل ترى هذا النائب الذي يطلق ذقنه ويتكلم بلغة فصيحة ، البارح قدم لإبن أحد الوزراء شيك بمليون دينار بمناسبة زواجه"...فقلت بصوت مبهور " يا فرج الله مليون دينار " .ثم قال لي " هذا النائب كل وسادات الفندق تدشن على يديه ".
ثم همس نائب آخر ورائي " هل ستذهب إلى رحلة سويسرا يقال أن الأسواق هناك مناسبة لوضعنا كنواب ...نشتري سيارات سويسرية ، وساعات سويسرية ، ووسادات سويسرية أيضا ؟ " ،، فقلت له ولكن خلال هذا الأسبوع سنصوت على قانون المالية الجديد ..فقال لي باستهزاء " قانون المالية ونحن ما دخلنا في هذا القانون ،" فقلت له " افرض أنهم رفعوا الضرائب ، أليس من المفروض أن نصوت بالرفض ، هذا واجبنا تجاه الناس الذين انتخبونا حتى نحميهم من شرور الحكومة ". فضحك وقال لي " عن أي شعب تتحدث ، يا رجل إنسى الشعب ينساك ، على وزن إنسى الهم ينساك ، وهل تعتقد أن الشعب الآن يبالي بك ؟ ، يارجل دعك دعك وعيش حياتك "....ثم عاد وانغمس في النوم.
ثم انفجر نائب آخر " يا أستاذ مصطفى ، يا حضرة النائب ، الخير كما ترى قليل وشحيح ، فلكي ينعم به كل الشعب فهذا أمر مستحيل ، فعليك أن تنوب عنهم في التمتع بالخيرات ، أن تركب أحدث موديلات السيارات ، وتسكن في أفخم البيوت ، وتنام على وسادات مريحة ، وتلبس أشيك البدلات ، وتتجول في كل عواصم أوروبا ..ولو شئت حتى أن تدرس في كبرى الجامعات وتحصل على دكتوراه وأنت نائم في البرلمان هنا "...فقلت له " والله لم أكن أعرف أن هذا هو معنى النيابة في البرلمان "..فقال لي " ها قد عرفت الآن "
.
وحين بدأ النقاش حول قانون المالية الجديد شعرت بنعاس شديد ...ربما لأني ثقلت في الأكل ...بدأت جفوني تغمض ....وشعرت بوهن في أوصالي ..وتثاؤب شديد ثم أسندت رأسي على الكرسي ونمت...
وفجأة وجدت صاحبي يوقضني من النوم " انهض يا مصطفى لقد نمت على كتفي ، استيقظ ، لقد أعلنوا نتائج الإنتخابات ...ولقد فاز جارنا سي محفوظ البومباردي " ...قلت لصاحبي " ولكن محفوظ البومباردي أمي لا يعرف القراءة والكتابة ،، هذا فضلا على أنه قليل الأدب " فقال لي هيا قم للنائب وفه التبجيلا ...فقمت أهتف عاش محفوظ النائم ،، عاش محفوظ نصير الوسادات الخالية.
مصطفى بونيف
تعليق