لم يستطع الشبان التحرك في العواصف الشديدة، والمطر الغزير المفاجيء الذي بدأ مع الغروب، ظنوا أنها مطرة غسيل الزيتون جاءت مبكرة، وأنها خلال ساعة أو ساعتين ستنجلي، لكنها استمرت تعب من الوقت حتى أذان الفجر، في هذه الأثناء.. وبعد العشاء مباشرة، لم يصبر العشريني حمدان وقرر الذهاب بالعربة وحده، من أجل أن ياخذ قسطا من النوم، ليستيقظ قبل الشمس للبدء بالقطاف..
كان حمدان الترس الأهم والأسرع في محرك العمل في المزرعة، شاب مغتر بشبابه وقوته، تضطرم في داخله براكين عنيفة متفجرة.. تحركه بعنفوان وتغلق على عقله فتحات التفكير السليم..
كم حاول حامد ثنيه عن عزمه المضي في العاصفة بلا فائدة! يا حمدان! الظلام دامس.. والطريق موحل.. والسيول من كل جانب.. لن تصل بسلام
إجلس أنت كالنساء ودعني.. سأذهب لمصلحتك أنت
كيف ؟
أليس عرسك مرهون بانتهاء القطاف؟
نعم.. ولكن ليس على حساب حياتك
لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. قالها وانطلق بين أنياب المطر وبراثن الطريق ومخالب العاصفة.. انطلق لا يلوي على شيء في فم الظلام..
مع تململ النهار وتجهزه للاستيقاظ، كان حامد وحماد على الحصان متجهان نحو المزرعة خارج القرية، وقد صفت السماء وطردت غيومها، وابتعلت الأرض معظم الماء.. إلا من أوحال خجلة هنا وهناك.. نسيم الصباح يداعب الوجوه الندية بلطف، ينقل للأنوف رائحة الزيتون المغسول الشهية، فتمتليء الصدور بحب التراب والشجر..
لم ترهما الشمس وقد مضى على مسيرهما أكثر من نصف ساعة.. على الطريق آثار متعرجة متموجة لعربة.. لا بد أن هذا التعرج في المسير بسبب المطر والعاصفة .. قالها حامد وفي نفسه يخشى الأسوأ..
كانت هناك.. ممدة بعرض الطريق.. أكلت النار معظم جسدها.. غطتها الحروق حتى لم تعد تعرف.. لكنها معروفة من عظم جسدها وطولها.. آثار العجلات تنتهي عندها ثم تتجه يمينا نحو الوادي.. كانت مقسومة نصفين؛ نصف ممدد بعرض الطريق والنصف الآخر استلقى على بعد أمتار من جانب الطريق.. ألقيا نظرة وداع أخيرة عليها.. أزاحاها إلى جانب الطريق.. ومضيا يتبعان آثار العجلات نحو الوادي، الذي يسير بمحاذاة الطريق على مسافة بريئة.. وقلباهما يكادان يقفزان من مكانيهما.. خاصة عندما رأيا العربة مفككة محطمة بلا بغلة!! تناثرت أجزاؤها في المحيط.. كأنما تفجر بها لغم..
لبسهما الحزن وغطتهما سحب الكآبة السوداء.. فرت دمعات من عيني حماد بينما اختنقت العبرات وغص حلق حامد.. وقفا برهة مشدوهان يجولان بنظرات حائرة في المكان.. خلف أشجار المزارع القريبة.. لا أثر.. لا حركة غير بعض الكلاب الضالة، تنهش تتقاتل فيما بينها على ما نفق من مواش، وجيف قد طريت بفعل المطر.. تلبستهما الأفكار السوداء فصارا يركضان خلف الكلاب، يطردانها كي يروا ماذا تأكل.. وفي كل مرة يريان غير ما يتوقعان، يغزو قلبيهما بعض أمل ويقولان: الحمد لله.. وبينما هما يتراكضان يمنة ويسرة على كتف الوادي، سمعا صوتا مخنوقا لا يكاد يبين: حامد.. حماد.. أنا هنا
الصوت قادم من التلة فوق السنديانة المحروقة.. يقول حماد وهو يشير بيده مستفهما راكضا نحوه على أقدام اللهفة
يسير حامد خلفه موجها إياه: اتجه نحو الكهف.. إنه هناك يشير بيده..
ها .. حمدا لله على سلامتك.. ماذا حصل؟؟ وأين الدابة؟
قال حمدان بصوت مليء بالألم وهو يتأوه: كلما ابتعدتُ عن البلدة ازداد عنف العاصفة و قوة المطر كذلك.. بصعوبة كنت أسيطر عليها.. إلى أن اقتربتُ من السنديانة..اه.. اه
على مهلك .. لا تستعجل قال حامد وهو يحاول تبين موقع الألم في جسده
سقط عليها برق قسمها نصفين .. وقع أحدهما أمام الدابة، فنفرت وهربت بجنون ذات اليمين.. باتجاه الوادي الذي كان عامرا بالماء الهادر.. اه.. في نفس اللحظة التي كنت أنوي فيها مغادرة العربة، اتجهتْ بحركة فجائية يسارا أدتْ إلى انقلابنا جميعا.. وتدحرجنا عدة مرات كانت كافية لانفلات الدابة وهروبها.. وتحطم العربة فوقي.. ويبدو أني وقعت على صخور شجت رأسي وأصابتني بكدمات.. بالإضافة إلى تحطم العربة.. اه.. فوقي.. زحفت حتى الشجرة المشتعلة.. استدفأت قليلا ثم اختبأت هنا في هذا الكهف الصغير.. الحمد لله
الحمد لله.. الحمد لله على سلامتك قالها الإثنان ثم تابع حامد: سنحملك الآن على الحصان ونكمل السير إلى المزرعة لنرى ماذا فعل والدانا في هذه الليلة الليلاء
بقية الاجزاء هنا
الغروف في مدينة القمر 1\مصطفى الصالح
كان حمدان الترس الأهم والأسرع في محرك العمل في المزرعة، شاب مغتر بشبابه وقوته، تضطرم في داخله براكين عنيفة متفجرة.. تحركه بعنفوان وتغلق على عقله فتحات التفكير السليم..
كم حاول حامد ثنيه عن عزمه المضي في العاصفة بلا فائدة! يا حمدان! الظلام دامس.. والطريق موحل.. والسيول من كل جانب.. لن تصل بسلام
إجلس أنت كالنساء ودعني.. سأذهب لمصلحتك أنت
كيف ؟
أليس عرسك مرهون بانتهاء القطاف؟
نعم.. ولكن ليس على حساب حياتك
لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. قالها وانطلق بين أنياب المطر وبراثن الطريق ومخالب العاصفة.. انطلق لا يلوي على شيء في فم الظلام..
مع تململ النهار وتجهزه للاستيقاظ، كان حامد وحماد على الحصان متجهان نحو المزرعة خارج القرية، وقد صفت السماء وطردت غيومها، وابتعلت الأرض معظم الماء.. إلا من أوحال خجلة هنا وهناك.. نسيم الصباح يداعب الوجوه الندية بلطف، ينقل للأنوف رائحة الزيتون المغسول الشهية، فتمتليء الصدور بحب التراب والشجر..
لم ترهما الشمس وقد مضى على مسيرهما أكثر من نصف ساعة.. على الطريق آثار متعرجة متموجة لعربة.. لا بد أن هذا التعرج في المسير بسبب المطر والعاصفة .. قالها حامد وفي نفسه يخشى الأسوأ..
كانت هناك.. ممدة بعرض الطريق.. أكلت النار معظم جسدها.. غطتها الحروق حتى لم تعد تعرف.. لكنها معروفة من عظم جسدها وطولها.. آثار العجلات تنتهي عندها ثم تتجه يمينا نحو الوادي.. كانت مقسومة نصفين؛ نصف ممدد بعرض الطريق والنصف الآخر استلقى على بعد أمتار من جانب الطريق.. ألقيا نظرة وداع أخيرة عليها.. أزاحاها إلى جانب الطريق.. ومضيا يتبعان آثار العجلات نحو الوادي، الذي يسير بمحاذاة الطريق على مسافة بريئة.. وقلباهما يكادان يقفزان من مكانيهما.. خاصة عندما رأيا العربة مفككة محطمة بلا بغلة!! تناثرت أجزاؤها في المحيط.. كأنما تفجر بها لغم..
لبسهما الحزن وغطتهما سحب الكآبة السوداء.. فرت دمعات من عيني حماد بينما اختنقت العبرات وغص حلق حامد.. وقفا برهة مشدوهان يجولان بنظرات حائرة في المكان.. خلف أشجار المزارع القريبة.. لا أثر.. لا حركة غير بعض الكلاب الضالة، تنهش تتقاتل فيما بينها على ما نفق من مواش، وجيف قد طريت بفعل المطر.. تلبستهما الأفكار السوداء فصارا يركضان خلف الكلاب، يطردانها كي يروا ماذا تأكل.. وفي كل مرة يريان غير ما يتوقعان، يغزو قلبيهما بعض أمل ويقولان: الحمد لله.. وبينما هما يتراكضان يمنة ويسرة على كتف الوادي، سمعا صوتا مخنوقا لا يكاد يبين: حامد.. حماد.. أنا هنا
الصوت قادم من التلة فوق السنديانة المحروقة.. يقول حماد وهو يشير بيده مستفهما راكضا نحوه على أقدام اللهفة
يسير حامد خلفه موجها إياه: اتجه نحو الكهف.. إنه هناك يشير بيده..
ها .. حمدا لله على سلامتك.. ماذا حصل؟؟ وأين الدابة؟
قال حمدان بصوت مليء بالألم وهو يتأوه: كلما ابتعدتُ عن البلدة ازداد عنف العاصفة و قوة المطر كذلك.. بصعوبة كنت أسيطر عليها.. إلى أن اقتربتُ من السنديانة..اه.. اه
على مهلك .. لا تستعجل قال حامد وهو يحاول تبين موقع الألم في جسده
سقط عليها برق قسمها نصفين .. وقع أحدهما أمام الدابة، فنفرت وهربت بجنون ذات اليمين.. باتجاه الوادي الذي كان عامرا بالماء الهادر.. اه.. في نفس اللحظة التي كنت أنوي فيها مغادرة العربة، اتجهتْ بحركة فجائية يسارا أدتْ إلى انقلابنا جميعا.. وتدحرجنا عدة مرات كانت كافية لانفلات الدابة وهروبها.. وتحطم العربة فوقي.. ويبدو أني وقعت على صخور شجت رأسي وأصابتني بكدمات.. بالإضافة إلى تحطم العربة.. اه.. فوقي.. زحفت حتى الشجرة المشتعلة.. استدفأت قليلا ثم اختبأت هنا في هذا الكهف الصغير.. الحمد لله
الحمد لله.. الحمد لله على سلامتك قالها الإثنان ثم تابع حامد: سنحملك الآن على الحصان ونكمل السير إلى المزرعة لنرى ماذا فعل والدانا في هذه الليلة الليلاء
بقية الاجزاء هنا
الغروف في مدينة القمر 1\مصطفى الصالح
تعليق