.......
الشهر الهجري منتصفاً ,والهلال الأخضر كشرخة البطيخ , يدور في سماء القرية و البلدان المجاورة بحرية مطلقة , من الحدود العليا للساحل حتى نهاية الدائرة , لطالما ساندته الحكومة وقدمت له الدعم اللازم , فلابد أن يكتسح , اختارت مرشحها بامتياز ولا مجال لإخفاق الهلال .
بالذوق والأدب سينجح الهلال , بضرب النار ورفع المطاوي سينجح الهلال , كلها شعارات وهتافات معادة ومسموعة كل دورة , تملأ الشوارع وتجوب الحارات , صحيح أنهم لا يفقهون شيئاً عن دستورية القوانين ومشروعيتها , بل لا يميزون بين الوطني والمستقل , لكنهم صناع النصر وأبطال النجاح , لولاهم ما سطع الهلال ولا سقطت السمكة , بأيديهم إدخال هذا المجلس وإخراج ذاك من تحت قبة البرلمان , هكذا كانوا يعتقدون ويتخيلون أنفسهم , وللأسف غالبيتهم لا يمتلكون حق التصويت , أو لا يذهبون للتصويت من أساسه ويتولى الأمر عنهم عساكر المركز , فلا بطاقة انتخاب ولا جرأة وصلابة قلب أمام ضباط المركز المكلفين بإدارة اللجان بيد من نار منذ لحظة خروج الصناديق من النقطة حتى التقفيل بعد العشاء !
الشوارع تعج باللافتات والميكروفونات الشبيهة بميكروفون المدرسة في نبرة الصوت والخرفشة , معلقة فوق سيارات الأجرة وعربات الكارو , وحشود متكتلة على المقاهي وجسر البلد في وقدة النهار, عمال وفلاحون وصيادون رجعوا من البحيرة لمساندة الهلال , النخلة و السمكة وعنقود العنب أبرز لاعبي الدورة , وخليط من البشر يتوقعون الفائز وأحيانا يباركون له مقدماً إن مر عليهم أثناء توتره كلما اقتربت ساعة الصفر , الأعصاب مشدودة غير مرخية .
خرج الأطفال من مدارسهم معبئين جيوبهم بالطباشير , رسموا الهلال والجمل على الحيطان و الجدران , ونددوا بالسمكة وعنقود العنب , غير مكترثين بجوع , سمعتهم أم سعد .. تركت العجين وخرجت تتفحصهم على مصطبة الدار .. بيدها أبريقاً تسقي عيلاً عرقه يشق أنفه وذقنه , صانعاً جداولاً وخيوطاً متربة على رقبته , سألته عن سعد , سحب آخر قطرة ماء من الأبريق مع آخر شهقة ثم أجابها متلاهثا :
ـ لا والله يا خالة ولا لعب معي انهاردة .
ـ سعد أخوك يا حمامة , العبوا مع بعض وابعدوا عن الترعة , في عفاريت هناك تشدكم .
ـ لا لا لا . ما في عفاريت بالنهار , وسمعت أمي بتقول لأختي الكبيرة بلاش تغني في الحمام بالليل العفريت يلبسك .
ـ لكن الترعة مسكونة بالعفاريت ليل ونهار , بسرعة روح دور على سعد وأنا أديلك كراك .. بسرعة يا حمامة بسرعة .
فرد حمامة جناحيه وطار يبحث عن سعد , طمعاً في "الكراك" !!
لكن يا ترى ماهو هو كراكك يا أم سعد ؟ هريسة أم صحن مهلبية ؟ يارب يطلع فلوس .. يارب !
دخلت خضرة تجرب اختمار العجين , وعقلها وفكرها كله طائرا مع حمامة وسعد , و وعيها وأذنيها على الباب , حاضرة بنصف وجدانها مع فاطمة , ترد عليها مرة وتسهو مرات , قالت لها فاطمة مستغربة :
ـ عيانة انهاردة يا خضرة ؟ عنيكي دبلانين ومش هنا خالص .
ـ الولد مرجعش من المدرسة , خايفه يكون يم المصارف أو حد ضحك عليه وراح معاه هنا أو هنا .
ـ انتي عارفه انه بيرجع على دارنا . من امتى وهو بيحبكم ؟ عدمتوه العافية حرام عليكم .
ـ بيخاف من أبوه عشان بياخده البحيرة , ولما بيسمع سيرتها بيركبه ميت عفريت .
ـ هخلص معاكي وبعدين أروح دارنا أرصص القش وأجيبه معايا لو لاقيته .
ـ لا روحي دلوقت وارجعي بسرعة , يلة قومي زمان أبوه جاي .. الانتخابات انهاردة وزمانه في السكة .
قامت فاطمة تنفض عن خصرها دقيق الذرة العالق بالجلابية وتعيد تنظيم ملابسها اللاصقة على جسمها من حر الظهيرة , تضبط عصبة الطرحة وتخفي ضفائرها المفرودة على ظهرها من طي العجين و لتـّه .
صحيح لم تتم فاطمة تعليمها وأقعدوها من المدرسة في الصف الثاني الابتدائي بعد زواج خضرة , لم تكن تتجاوز الثامنة .. كانت نبيهة ترسم الحروف وتقلدها كالمطبعة , لكن ضيق اليد ومحدودية المصاريف الضائعة على الزيت والسكر والدقيق لا بد لها من تضحيات , كانت فاطمة أقرب هذه التضحيات , وفي أيامها كان يكفيها الجلوس في الدار والتفرغ لجدتها القعيدة ولا داعي للذهاب للامتحانات كي يتم الفصل النهائي بعد كذا سنة من الانقطاع , كحال سائر البنات في تلك الآونة " بلا وجع راس .. يعني هتطلعي دكتور يا فطومة , كفاية عليكي تفكي الخط وتعرفي الألف من كوز الدرة " .
قيظ النهار هدأ قليلاً , واقترب آذان العصر , ولم يظهر سعد بين الأولاد في عصابات الحارات ومناصرة الهلال , لا خبر عن حمامة ليسكت وسواس خضرة , ومن المفروض أن يرجع والده اليوم من البحيرة ليصوت للسمكة , لكن احتدم يأسه , خمس دورات متتالية ينتخب المهندس أحمد عبد السلام ليجلس تحت قبة المجلس ويحقق لهم أحلامهم المستحيلة لكن لم ينجح مرة .. جمعية الصيادين تحتاج لتطوير وإعادة نظر , مياه الشرب المتصلة بمواسير الصرف , الترع التي تبتلع طفلاً أو طفلة شهرياً , ولا يسعفهما إلا عزرائيل قبل وصولهما للمستشفى التي طفح الملح في جدران غرفها من الداخل , فتشعر بانقباض يأكل صدرك حين تسمع ما ينعق فوق نخلة في حديقتها القديمة , أو يتردد صداك في آخر عنابرها إن بحثت عن موظفيها ولم تجد , قديماً كانت المستشفى الوحيدة في المركز التي يتوفر بها مصل الكلب والفئران , أو عقار لدغ العقرب والحرباء , تأتيها الأعراب من آخر حدود الساحل استنجاداً بتلك الأمصال , لكن اليوم لا نسمع عن هذه العقاقير , انعدمت رغم توالد الكلاب وغزو الفئران و الزواحف , وإن عضتك كلبة مسعورة في فخذك أو قرصك عقرب أصفر فعليك أن تذهب إلى صيدلية المركز وتشتري الحقنة بأغلى الأسعار قبل أن يظهر نباحك أو تموت مسموماً .
تقبب العجين , وغابت فاطمة , تفاقمت وساوس خضرة , وصورة سعد تتهيأ لها كل لحظة بألف هيئة , والمصيبة الكبرى ألا تجده بعد ذلك في دار جدتها , لبست جلابيتها السوداء واستعدت للبحث عنه بنفسها قبل أن يرجع أبوه .. فجأة زلزلتها طرقات باب الدار العنيفة فكادت أن تفسخه .. !
بالذوق والأدب سينجح الهلال , بضرب النار ورفع المطاوي سينجح الهلال , كلها شعارات وهتافات معادة ومسموعة كل دورة , تملأ الشوارع وتجوب الحارات , صحيح أنهم لا يفقهون شيئاً عن دستورية القوانين ومشروعيتها , بل لا يميزون بين الوطني والمستقل , لكنهم صناع النصر وأبطال النجاح , لولاهم ما سطع الهلال ولا سقطت السمكة , بأيديهم إدخال هذا المجلس وإخراج ذاك من تحت قبة البرلمان , هكذا كانوا يعتقدون ويتخيلون أنفسهم , وللأسف غالبيتهم لا يمتلكون حق التصويت , أو لا يذهبون للتصويت من أساسه ويتولى الأمر عنهم عساكر المركز , فلا بطاقة انتخاب ولا جرأة وصلابة قلب أمام ضباط المركز المكلفين بإدارة اللجان بيد من نار منذ لحظة خروج الصناديق من النقطة حتى التقفيل بعد العشاء !
الشوارع تعج باللافتات والميكروفونات الشبيهة بميكروفون المدرسة في نبرة الصوت والخرفشة , معلقة فوق سيارات الأجرة وعربات الكارو , وحشود متكتلة على المقاهي وجسر البلد في وقدة النهار, عمال وفلاحون وصيادون رجعوا من البحيرة لمساندة الهلال , النخلة و السمكة وعنقود العنب أبرز لاعبي الدورة , وخليط من البشر يتوقعون الفائز وأحيانا يباركون له مقدماً إن مر عليهم أثناء توتره كلما اقتربت ساعة الصفر , الأعصاب مشدودة غير مرخية .
خرج الأطفال من مدارسهم معبئين جيوبهم بالطباشير , رسموا الهلال والجمل على الحيطان و الجدران , ونددوا بالسمكة وعنقود العنب , غير مكترثين بجوع , سمعتهم أم سعد .. تركت العجين وخرجت تتفحصهم على مصطبة الدار .. بيدها أبريقاً تسقي عيلاً عرقه يشق أنفه وذقنه , صانعاً جداولاً وخيوطاً متربة على رقبته , سألته عن سعد , سحب آخر قطرة ماء من الأبريق مع آخر شهقة ثم أجابها متلاهثا :
ـ لا والله يا خالة ولا لعب معي انهاردة .
ـ سعد أخوك يا حمامة , العبوا مع بعض وابعدوا عن الترعة , في عفاريت هناك تشدكم .
ـ لا لا لا . ما في عفاريت بالنهار , وسمعت أمي بتقول لأختي الكبيرة بلاش تغني في الحمام بالليل العفريت يلبسك .
ـ لكن الترعة مسكونة بالعفاريت ليل ونهار , بسرعة روح دور على سعد وأنا أديلك كراك .. بسرعة يا حمامة بسرعة .
فرد حمامة جناحيه وطار يبحث عن سعد , طمعاً في "الكراك" !!
لكن يا ترى ماهو هو كراكك يا أم سعد ؟ هريسة أم صحن مهلبية ؟ يارب يطلع فلوس .. يارب !
دخلت خضرة تجرب اختمار العجين , وعقلها وفكرها كله طائرا مع حمامة وسعد , و وعيها وأذنيها على الباب , حاضرة بنصف وجدانها مع فاطمة , ترد عليها مرة وتسهو مرات , قالت لها فاطمة مستغربة :
ـ عيانة انهاردة يا خضرة ؟ عنيكي دبلانين ومش هنا خالص .
ـ الولد مرجعش من المدرسة , خايفه يكون يم المصارف أو حد ضحك عليه وراح معاه هنا أو هنا .
ـ انتي عارفه انه بيرجع على دارنا . من امتى وهو بيحبكم ؟ عدمتوه العافية حرام عليكم .
ـ بيخاف من أبوه عشان بياخده البحيرة , ولما بيسمع سيرتها بيركبه ميت عفريت .
ـ هخلص معاكي وبعدين أروح دارنا أرصص القش وأجيبه معايا لو لاقيته .
ـ لا روحي دلوقت وارجعي بسرعة , يلة قومي زمان أبوه جاي .. الانتخابات انهاردة وزمانه في السكة .
قامت فاطمة تنفض عن خصرها دقيق الذرة العالق بالجلابية وتعيد تنظيم ملابسها اللاصقة على جسمها من حر الظهيرة , تضبط عصبة الطرحة وتخفي ضفائرها المفرودة على ظهرها من طي العجين و لتـّه .
صحيح لم تتم فاطمة تعليمها وأقعدوها من المدرسة في الصف الثاني الابتدائي بعد زواج خضرة , لم تكن تتجاوز الثامنة .. كانت نبيهة ترسم الحروف وتقلدها كالمطبعة , لكن ضيق اليد ومحدودية المصاريف الضائعة على الزيت والسكر والدقيق لا بد لها من تضحيات , كانت فاطمة أقرب هذه التضحيات , وفي أيامها كان يكفيها الجلوس في الدار والتفرغ لجدتها القعيدة ولا داعي للذهاب للامتحانات كي يتم الفصل النهائي بعد كذا سنة من الانقطاع , كحال سائر البنات في تلك الآونة " بلا وجع راس .. يعني هتطلعي دكتور يا فطومة , كفاية عليكي تفكي الخط وتعرفي الألف من كوز الدرة " .
قيظ النهار هدأ قليلاً , واقترب آذان العصر , ولم يظهر سعد بين الأولاد في عصابات الحارات ومناصرة الهلال , لا خبر عن حمامة ليسكت وسواس خضرة , ومن المفروض أن يرجع والده اليوم من البحيرة ليصوت للسمكة , لكن احتدم يأسه , خمس دورات متتالية ينتخب المهندس أحمد عبد السلام ليجلس تحت قبة المجلس ويحقق لهم أحلامهم المستحيلة لكن لم ينجح مرة .. جمعية الصيادين تحتاج لتطوير وإعادة نظر , مياه الشرب المتصلة بمواسير الصرف , الترع التي تبتلع طفلاً أو طفلة شهرياً , ولا يسعفهما إلا عزرائيل قبل وصولهما للمستشفى التي طفح الملح في جدران غرفها من الداخل , فتشعر بانقباض يأكل صدرك حين تسمع ما ينعق فوق نخلة في حديقتها القديمة , أو يتردد صداك في آخر عنابرها إن بحثت عن موظفيها ولم تجد , قديماً كانت المستشفى الوحيدة في المركز التي يتوفر بها مصل الكلب والفئران , أو عقار لدغ العقرب والحرباء , تأتيها الأعراب من آخر حدود الساحل استنجاداً بتلك الأمصال , لكن اليوم لا نسمع عن هذه العقاقير , انعدمت رغم توالد الكلاب وغزو الفئران و الزواحف , وإن عضتك كلبة مسعورة في فخذك أو قرصك عقرب أصفر فعليك أن تذهب إلى صيدلية المركز وتشتري الحقنة بأغلى الأسعار قبل أن يظهر نباحك أو تموت مسموماً .
تقبب العجين , وغابت فاطمة , تفاقمت وساوس خضرة , وصورة سعد تتهيأ لها كل لحظة بألف هيئة , والمصيبة الكبرى ألا تجده بعد ذلك في دار جدتها , لبست جلابيتها السوداء واستعدت للبحث عنه بنفسها قبل أن يرجع أبوه .. فجأة زلزلتها طرقات باب الدار العنيفة فكادت أن تفسخه .. !
تعليق