بقلم : د . نزار بوش
لقاء تحت شجرة التين
يمسك سامر جواله و يتصل بأمه
سامر : أمي مرحبا ، أنا سامر ابنك ، نعم ابنك
الام : أهلا يا فؤادي ، يا مهجتي ، يا كبدي ، لقد اشتقت لك ، اشتقت لأضمك إلى صدري ، أين هذه الغيبة يا ولدي ، عد إلى بلدك لتعيش بين أهلك و أقربائك ، عد يا ولدي فشجرة الليمون اصبحت شاحبة لغيابك، و الاشجار ما عادت تثمر كما كانت ، عد يا ولدي لوطنك ، فالحجارة تبكي لفراقك ، عد يا ولدي فقد شاب قلبي لغيابك .
سامر : لك يا أمي ألف قبلة و قبلة ، و أنا أيضا مشتاق لصدرك ، لحنانك ، لحبك الأبدي ، لقسمات وجهك النبيل و لمسات يديك الدافئة .
الأم : يا ابني ليش طولت الغيبة ؟ و الله الغربة صعبة .
سامر : نعم يا أمي و الله صعبة ، لكن شو بدي أسوي ، { و قد أحس سامر أن دموع أمه تغسل وجنتيها من خلال صوتها الذي بدأ يأكل الكلمات } ، انشاء الله سأعود .
الأم : متى ستعود ؟ عد يا ولدي لاراك قبل الرحيل ، فلم يبق من العمر إلا أيام معدودات !!!!
سامر : انشاء الله يا أمي ، الآن أنا مشغول بأعمالي هنا ، فلربما أنتهي من أشغالي بعد شهر و نصف و سأزورك ، و نجلس سوية تحت شجرة التين في أرض الديار و نقطف من طيب ثمارها ، ونستأنس بين شجيرات الزيتون .
الأم : أفهم من كلامك أنك ستزورنا في موسم العنب و التين ؟
سامر : {يسمع سامر خفقات قلب أمه } انشاء الله ، انشاء الله .
الأم : كيف زوجتك سفيتا و بنتك الأمورة ناستيا ، ما شاء الله شو حلوين الله يخليهم و يحميهم ، صورهم حلوة كتير !!!!!!!!!!
سامر : بسلموا عليك و ببسوا خدك .
الأم : و الله يا ابني قلبي يذوب شوقا إليك ، بدي أشوفك و أشوف أولادك !! كم أصبح عمر بنتك ؟ و هل تتكلم العربية ؟
سامر : صار عمرها ستة سنوات ، ناستيا تعرف بعض الكلمات بالعربية .
الأم : إذا لم تستطيع أن تأتي إلينا أنت أرسل بنتك و زوجتك هذا الصيف لعندنا ، علني أشم رائحتك من خلالهن .
سامر : انشاء الله بعد يومين سوف أشتري بطاقة طائرة ليسافرن إليك .
الأم : يا اهلا ، يا أهلا و سهلا بالغوالي نحن ننتظرهن على أحر من الجمر .
سامر : و أنا يا أمي سأسافر إليك بعد شهر و نصف لأر وجهك الحبيب ، و أجلس معك تحت شجرة التين بجانب شجرة الجوز و نتنقل في أرض الديار مع ظل الشجر و أستمتع بصوت نافورة الماء و رذاذها الذي يبلل وجه الورد الجوري و شجيرات الريحان .
الأم : الله يوفقك يا سامر يا حبيبي و يجيبك بالسلامة ، و الله يا ابني اشتقنا لك ، و العمر ينتهي و الشغل لا ينتهي !!!{ و هنا يخيم الصمت على الطرف الثاني و في البلد الثاني لسامر و يلتهم صوته !!! } و تسأل الأم هل تسمعني يا ابني يا سامر ؟ سامر هل تسمعني ؟ سامر سامر سامر ..... وينك يا سامر ، و تتمتم الأم بصوت منكسر ، يمكن أن الخط انقطع أو فلوسه خلصت ،، الله معك يا سامر ، و الله يوفقك ، نحن بانتظارك.
و في اليوم التالي و بينما الأم تنكش في أرض الديار حول شتلات الورد الجوري و النرجس و الريحان ، كما لو أنها تهيء كل شتلة كعروس للزفاف فرحا بقدوم ابنها الموعود به بعد شهر و نصف ، و هي تتنقل مع الظل حيث تنقله الشمس مع الوقت من مكان إلى آخر ، و تسقي شجرة الليمون و شجيرات الزيتون و تنظر إلى شجرة التين و تحاكيها بلطف ، قائلة : اححفظي ثمارك و لا تدعيها تتساقط قبل النضوج و الاوان ، لأن سامر سوف يعود و يقطف من طيب ما تحملين و يتذوق حلاوتك علها تكون السبب في اغرائه فيبقى في الوطن و لا يغادره أبدا بعدها ،، حتى قرع جرس البيت و دخل حفيدها رامي و قال : و بصوت يختنق في حلقه بين المسموع و اللامسموع ، جدتي لقد جاء عمي سامر .
الجدة { الأم } : ماذا ؟ لم اسمع جيدا .
رامي : جدتي لقد جاءك عمو سامر .
الجدة { الأم } : { زغردت بكل ما استطاعت من قوة و عزم } و قالت مخاطبة شجرة التين : ألم أقل لك أن سامر سيعود و يأكل من طيب ثمارك ، الحمد لله يا ربي ها هو عاد لحضني بعد ثلاثين عاما في الغربة !!! و تابعت الجدة مخاطبة حفيدها وينو !! وينو !!و الله قلبي من الشوق مثل النار ،، بدي أضمه لصدري .
رامي : و بصوت خافت ينسل من بين شفتين مرتجفتين يجيب : هو في السيارة على باب الدار .
خرجت الجدة { الأم } إلى باب الدار حيث تعرش الياسمينة و يتساقط زهرها الأبيض فوق العابرين من تحتها، و هي تهلل فرحا بعودة ابنها الذي طال غيابه ، و ما ان فتحت باب الدار على مصراعيه ترحيبا و ابتهاجا بمجيء الغالي حتى رأت سيارة اسعاف و تابوتا في داخلها ، حينها سقطت الجدة { الأم } على حجرة مربعة الشكل كان قد أحضرها لها ابنها قبل مغادرة الوطن من براري الضيعة الجميلة ، حيث كانت الأم تجلس عليها تنتظر ابنها عندما كان يعود من تأدية الخدمة الالزامية في إحدى القطع العسكرية في وطنه .
اقترب الطبيب المرافق لسيارة الاسعاف من الجدة { الأم } و مسك معصمها ، و من ثم أخرج ابرة و جرعة من الدواء ليحقنها ،لكن كان الوقت متأخرا .
تجمع الأهل و الأقارب و الجيران و الأصدقاء و مارسوا الطقوس المتبعة في تغسيل المتوفاة و تكفينها و وضعوها في تابوت ملاصق لتابوت ابنها سامر تحت شجرة التين و بالقرب من شجيرات الزيتون و الليمون و في أحضان ظل شجرة الجوز ، ليكون اللقاء الموعود بعد أكثر من ثلاثين عاما من الغربة .
فارض الديار هو مكان اللقاء الذي اتفقا عليه .
و بينما كان الأقرباء و الأصحاب يودعون من التقيا تحت شجرة التين ،على صوت رذاذ النافورة الذي كان يروي شجيرات الريحان و الورد الجوري و لا ينسى أن يرطب التابوتان بما استطاع ، سقطت ثمرة تين من أعلى غصن في الشجرة على صدر سامر ، حيث كان التابوت مفتوحا للوداع ، لتكون أول حبة تين نضجت في هذا الموسم
تعليق