حارة شرقية و حارة غربية
سافر الحاج عبد الغفور، إلى العاصمة، محملاً بالسمن العربي، و الجبن، والفريكة ، والبيض البلدي، والعسل، و أشياء أخرى تغيب عن بالي الآن، وعندما رجع بعد يومين، أعلن على رؤوس الأشهاد أننا سنكسر رؤوس أهالي الحارة الشرقية، وأنهم لن يتجرؤوا بعد اليوم على النظر في وجه واحد من حارتنا؛ الغربية، حتى لو كان كريمو العبد، أو حمدو قصير الذيل، لأن وزير الدولة، لشؤون الله أعلم، سيكون في زيارة حارتنا بعد ثلاثة أيام..
أقول حارتنا لأن قريتنا مقسومة إلى حارتين، بزاروب ضيق، فشلت كل محاولات الوسطاء لجعل المسير فيه آمناً، وعندما سمع أهل قريتنا، من نشرات الأخبار، أن بيروت مسحت خطها الأحمر وتوحدت، وأن الألمان هدموا سور برلين، استهجنوا.... و أصروا على بقاء الضيعة " حارة شرقية و حارة غربية ".
قريتنا محرومة من زيارة المسؤولين الكبار ليس لأنها مهملة كغيرها من القرى البعيدة عن مركز المحافظة فحسب، وإنما لبعدها أيضاً عن الطرق الإسفلتية التي تربط المدن الكبيرة بعضها ببعض..
أهالي مركز الناحية، وكلما حاولنا أن نرفع صوتنا، يخرسوننا بقولهم: اسكتوا أنتم فلاحون متخلفون لم تروا مسؤولاً في حياتكم.. ويدعون أنهم شاهدوا أغلب مسؤولي البلد، حتى جمال عبد الناصر، وتيتو، حملاهما على الأكتاف، في يوم من أيام الوحدة، بين مصر و سورية، عندما زارا الإقليم الشمالي، نزلا للاستراحة ببلدتهم، وهم يغنون ويرقصون ويهتفون ويهزجون بأصوات خارجة من أعماق قلوبهم تمجد القائدين:" عاش الماريشال تيتو، ربي يعيشو ولا يميتو.. وعبد الناصر يا جمال يا مقدام عروبتنا.." بعد أن أطل عليهم زعيمهم الأسمر من شرفة مكتب رئيس البلدية في الطابق الثاني محاطاً بأم خالد والزعيم تيتو وزجته، ليلقي فيهم خطاباً من ساعات كعادته، رحمه الله..
نفتح أفواهنا كالبلهاء، ونحن نستمع إلى حكاياتهم الخرافية، و نلعن حظنا، و نقول:" لو أن الطرق العام الذي يربط الشام بعاصمة الشمال حلب مر بقريتنا، و لم يمر ببلدتهم، لو..".
حضرنا لقدوم الوزير أيما تحضير.. لم نهدأ في الأيام الثلاثة.. نظفنا الطريق الذي سيعبره الموكب، وسويناه لمسافة خمسة كيلومترات من القرية، وأخذنا نرش عليه الماء كلما توقعنا أن ساعة وصول الموكب قد اقتربت، كيلا يطمر الغبار السيارات.. طلت نساؤنا البيوت بالحوار الأبيض.. نظفنا الزواريب والأزقة، لاحتمال قيام سعادته بجولة ميدانية في القرية.. ربطنا حيواناتنا السائبة من كدش وبغال وحمير بجذوع الأشجار بعيداً على أطراف الضيعة.. حبسنا كلابنا الشرسة في البيوت خوفاً ن أن تهاجم لموكب، لحساسيتها من السيارات.. اشترينا ثياباً جديدة ومن لا يملك استدان على الموسم.. بنينا على أرض البيدر بيت شعر " مثومن " كنا استعرناه من أبي عناد، شيخ عشيرة المساليخ، التي تقطن على أطراف حقول الضيعة من جهة الشرق، بعد أن وعد الشيخ بحضور الحفل، ووفى بالوعد.. جعنا ثمانين خروفاً لنحرها عند وصول الموكب.. نزعنا مكبرات الصوت من فوق قبة المسجد، وثبتناها على الأعمدة الأمامية لبيت الشعر.. المشكلة الوحيدة واجهتنا كانت تكمن بالإجابة عن سؤال كهذا: من أين سنجلب القصائد الحماسية التي سنلقيها عند وصول الوزير.. أيامها لم يكن عدد الذين حصلوا على الشهادة الثانوية قد تجاوز الثلاثة من شباب الضيعة.. استعنا لهذا الغرض بكتاب الأدب العائد للصف الثالث الثانوي، و أخذنا بعض القصائد..
في صباح اليوم الموعود اجتمعت أمة لا إله إلا الله على أرض البيدر.. جماعتنا؛ أهالي الحارة الغربية، حضروا عن بكرة أبيهم" الكبير و الصغير و المقمط في السرير " وحضر أيضاً المتعاطفون معنا من أهالي القرى المجاورة.. أما جماعة الحارة الشرقية، فقد همدوا.. أغلقوا أبواب بيوتهم على أنفسهم، أو أخذوا يراقبون تجمعنا المهيب خلسة، من وراء الأبواب المواربة، أو من فوق أسطح منازلهم وهم منبطحون..
قبل أذان العصر بقليل، وبعد أن كدنا نقطع الأمل من حضوره، وصل موكبه المؤلف من خمس سيارات، فانطلقت زخات الرصاص، و هتافات الرجال، و زغاريد النساء، و صيحات: الله أكبر.. عبد الرحيم، آنئذ، زعق من وراء الميكرفون بأبيات من الشعر من قصيدة لإبراهيم اليازجي، كتبها يوم كان بني عثمان في البلاد، قبل زيارة الوزير لحارتنا بنحو مائة و عشر سنوات، يقول مطلعها :
تنبهوا و استفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
صافح الضيف ومرافقوه كبار مستقبليهم من وجهاء الحارة، وتوجهوا صوب بيت الشعر، كانت الدبكات خارج بيت الشعر قد نصبت، و الخراف قد نحرت، و النار تحت الدسوت قد أشعلت..
بدا حضرته مأخوذاً بما يجري أمام بيت الشعر، و بعد أن دارت القهوة المرة على الضيوف، واستراحة قصيرة، قام بعض مرافقيه ليشاركوا الناس أفراحهم.. شاركوا أول الأمر مصفقين.. لكن الناس سرعان ما أخذوهم من أيديهم ليشاركوا بالدبكة .. داروا مع الدبيكة دورة واحدة، أو دورتين و بدؤوا بالانسحاب.. إيقاع أرجلهم لم يوافق إيقاع أرجل الآخرين، فتركوا الدبكة لأصحابها.. أخذوا ينسحبون الواحد، بعد الآخر، ليعودوا إلى أماكنهم في صدر بيت الشعر..
عاد عبد الرحيم إلى الميكروفون، وبدأ بقراءة قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي كتبها يوم قصف المحتلون الفرنسيون دمشق، مطلعها :
سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق
بدأ الضيف يسأل الوجهاء عن أحوال الضيعة.. المواسم.. الماء.. الأرض.. ناقشهم في مطالبهم ووعد.. وفي أوج الحديث، إذا كانت الدبكة قد هدأت، أخذ عبد الرحيم يقرأ أشعاراً غير موجودة في كتاب الأدب لا نعرف من أين حصل عليها، منها قصيدة يقول مطلعها:
لفوق الركبتين تشمرينا بربك أي نهر تعبرينا
السيد الوزير، وعندما رأى اختلاط حابل قصائد عبد الرحيم بنابلها، لم يتركه يكمل قصيدة التشمير أعلاه، فقد ترك مكانه في صدر بيت الشعر، و توجه صوب المنصة، فأخلى عبد الرحيم المكان فوراً..
ارتجل الضيف كلمة قصيرة شكرنا بها على دعوتنا له لزيارة قريتنا ـ هو لا يعرف أنها حارة شرقية ، و حارة غربية ـ وعلى الحفاوة التي استقبلنا بها..
وبعد أن حكى عن الكرم المستأصل في ناس ريفنا الطيبين، الكرم مستأصل في ناس ريفنا الطيبين، كلمات عن الأرض المحتلة التي ستحرر مهما طال زمن الاحتلال.. عن انقلاب تشيلي المشؤوم.. انتفاضة نيكاراغوا الباسلة.. التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وأشياء أخرى عن بقية العالم، وبعد أن وعد بأن تكون مطالب أهل قريتنا في موضع اهتمامه، طلب أن نرخص له بالذهاب لضيق وقته، بعد أن أقسم بأن تكون مدة زيارته القادمة لضيعتنا أطول.. أمام إلحاح وجهاء الحارة ، انتظر مع مرافقيه بضع دقائق, ليأكل كل واحد منهم شقفة لحم، وملعقة أرز مخلوط بالبرغل..
ودعناه بعراضة تشبه تلك العراضة التي استقبلناه بها.. وبعد غياب موكبه عن الأنظار، نزلنا نحن في مناسف الطبيخ..
عشنا ستة أيام مزهوين نماحك أقراننا من أهالي الحارة الشرقية.. المساكين كانوا غير قادرين على النظر في وجوهنا مثلما توقع الحاج عبد الغفور.. ستة أيام فقط، وفي اليوم السابع سمعنا أصوات زخات من الرصاص فوق حارتنا قادمة من الشرق، وضرب على طبول، وزغاريد.. صعدنا فوق أسطح، بيوتنا فرأينا أهالي الحارة الشرقية مجتمعين عن بكرة أبيهم، على أرض بيدر حارتهم يدبكون ويرقصون ويغنون ويذبحون الخراف.. استفسرنا.. ويا للهول، إن وزير الإصلاح الزراعي، بنفسه، يزورهم؟؟
اختبأنا في بيوتنا، أو صرنا نراقب تجمعهم المهيب خلسة من وراء الأبواب المواربة، أو وهم منبطحون على أسطح منازلنا..
الحاج عبد الغفور أحس بالعطب.. كان يردد في مجلسه بصوت منخفض حزين :" غلبونا في هذه المرة.. نحن استضفنا وزير دولة، أما هم فقد استضافوا وزير الإصلاح.. "
ومن يومها، ورغم مرور سنوات عديدة، يفكر الحاج بالطريقة التي يستضيف بها رئيس الوزراء، و إذا تعذر ذلك، فوزير الدفاع على الأقل..
سافر الحاج عبد الغفور، إلى العاصمة، محملاً بالسمن العربي، و الجبن، والفريكة ، والبيض البلدي، والعسل، و أشياء أخرى تغيب عن بالي الآن، وعندما رجع بعد يومين، أعلن على رؤوس الأشهاد أننا سنكسر رؤوس أهالي الحارة الشرقية، وأنهم لن يتجرؤوا بعد اليوم على النظر في وجه واحد من حارتنا؛ الغربية، حتى لو كان كريمو العبد، أو حمدو قصير الذيل، لأن وزير الدولة، لشؤون الله أعلم، سيكون في زيارة حارتنا بعد ثلاثة أيام..
أقول حارتنا لأن قريتنا مقسومة إلى حارتين، بزاروب ضيق، فشلت كل محاولات الوسطاء لجعل المسير فيه آمناً، وعندما سمع أهل قريتنا، من نشرات الأخبار، أن بيروت مسحت خطها الأحمر وتوحدت، وأن الألمان هدموا سور برلين، استهجنوا.... و أصروا على بقاء الضيعة " حارة شرقية و حارة غربية ".
قريتنا محرومة من زيارة المسؤولين الكبار ليس لأنها مهملة كغيرها من القرى البعيدة عن مركز المحافظة فحسب، وإنما لبعدها أيضاً عن الطرق الإسفلتية التي تربط المدن الكبيرة بعضها ببعض..
أهالي مركز الناحية، وكلما حاولنا أن نرفع صوتنا، يخرسوننا بقولهم: اسكتوا أنتم فلاحون متخلفون لم تروا مسؤولاً في حياتكم.. ويدعون أنهم شاهدوا أغلب مسؤولي البلد، حتى جمال عبد الناصر، وتيتو، حملاهما على الأكتاف، في يوم من أيام الوحدة، بين مصر و سورية، عندما زارا الإقليم الشمالي، نزلا للاستراحة ببلدتهم، وهم يغنون ويرقصون ويهتفون ويهزجون بأصوات خارجة من أعماق قلوبهم تمجد القائدين:" عاش الماريشال تيتو، ربي يعيشو ولا يميتو.. وعبد الناصر يا جمال يا مقدام عروبتنا.." بعد أن أطل عليهم زعيمهم الأسمر من شرفة مكتب رئيس البلدية في الطابق الثاني محاطاً بأم خالد والزعيم تيتو وزجته، ليلقي فيهم خطاباً من ساعات كعادته، رحمه الله..
نفتح أفواهنا كالبلهاء، ونحن نستمع إلى حكاياتهم الخرافية، و نلعن حظنا، و نقول:" لو أن الطرق العام الذي يربط الشام بعاصمة الشمال حلب مر بقريتنا، و لم يمر ببلدتهم، لو..".
حضرنا لقدوم الوزير أيما تحضير.. لم نهدأ في الأيام الثلاثة.. نظفنا الطريق الذي سيعبره الموكب، وسويناه لمسافة خمسة كيلومترات من القرية، وأخذنا نرش عليه الماء كلما توقعنا أن ساعة وصول الموكب قد اقتربت، كيلا يطمر الغبار السيارات.. طلت نساؤنا البيوت بالحوار الأبيض.. نظفنا الزواريب والأزقة، لاحتمال قيام سعادته بجولة ميدانية في القرية.. ربطنا حيواناتنا السائبة من كدش وبغال وحمير بجذوع الأشجار بعيداً على أطراف الضيعة.. حبسنا كلابنا الشرسة في البيوت خوفاً ن أن تهاجم لموكب، لحساسيتها من السيارات.. اشترينا ثياباً جديدة ومن لا يملك استدان على الموسم.. بنينا على أرض البيدر بيت شعر " مثومن " كنا استعرناه من أبي عناد، شيخ عشيرة المساليخ، التي تقطن على أطراف حقول الضيعة من جهة الشرق، بعد أن وعد الشيخ بحضور الحفل، ووفى بالوعد.. جعنا ثمانين خروفاً لنحرها عند وصول الموكب.. نزعنا مكبرات الصوت من فوق قبة المسجد، وثبتناها على الأعمدة الأمامية لبيت الشعر.. المشكلة الوحيدة واجهتنا كانت تكمن بالإجابة عن سؤال كهذا: من أين سنجلب القصائد الحماسية التي سنلقيها عند وصول الوزير.. أيامها لم يكن عدد الذين حصلوا على الشهادة الثانوية قد تجاوز الثلاثة من شباب الضيعة.. استعنا لهذا الغرض بكتاب الأدب العائد للصف الثالث الثانوي، و أخذنا بعض القصائد..
في صباح اليوم الموعود اجتمعت أمة لا إله إلا الله على أرض البيدر.. جماعتنا؛ أهالي الحارة الغربية، حضروا عن بكرة أبيهم" الكبير و الصغير و المقمط في السرير " وحضر أيضاً المتعاطفون معنا من أهالي القرى المجاورة.. أما جماعة الحارة الشرقية، فقد همدوا.. أغلقوا أبواب بيوتهم على أنفسهم، أو أخذوا يراقبون تجمعنا المهيب خلسة، من وراء الأبواب المواربة، أو من فوق أسطح منازلهم وهم منبطحون..
قبل أذان العصر بقليل، وبعد أن كدنا نقطع الأمل من حضوره، وصل موكبه المؤلف من خمس سيارات، فانطلقت زخات الرصاص، و هتافات الرجال، و زغاريد النساء، و صيحات: الله أكبر.. عبد الرحيم، آنئذ، زعق من وراء الميكرفون بأبيات من الشعر من قصيدة لإبراهيم اليازجي، كتبها يوم كان بني عثمان في البلاد، قبل زيارة الوزير لحارتنا بنحو مائة و عشر سنوات، يقول مطلعها :
تنبهوا و استفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
صافح الضيف ومرافقوه كبار مستقبليهم من وجهاء الحارة، وتوجهوا صوب بيت الشعر، كانت الدبكات خارج بيت الشعر قد نصبت، و الخراف قد نحرت، و النار تحت الدسوت قد أشعلت..
بدا حضرته مأخوذاً بما يجري أمام بيت الشعر، و بعد أن دارت القهوة المرة على الضيوف، واستراحة قصيرة، قام بعض مرافقيه ليشاركوا الناس أفراحهم.. شاركوا أول الأمر مصفقين.. لكن الناس سرعان ما أخذوهم من أيديهم ليشاركوا بالدبكة .. داروا مع الدبيكة دورة واحدة، أو دورتين و بدؤوا بالانسحاب.. إيقاع أرجلهم لم يوافق إيقاع أرجل الآخرين، فتركوا الدبكة لأصحابها.. أخذوا ينسحبون الواحد، بعد الآخر، ليعودوا إلى أماكنهم في صدر بيت الشعر..
عاد عبد الرحيم إلى الميكروفون، وبدأ بقراءة قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي كتبها يوم قصف المحتلون الفرنسيون دمشق، مطلعها :
سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق
بدأ الضيف يسأل الوجهاء عن أحوال الضيعة.. المواسم.. الماء.. الأرض.. ناقشهم في مطالبهم ووعد.. وفي أوج الحديث، إذا كانت الدبكة قد هدأت، أخذ عبد الرحيم يقرأ أشعاراً غير موجودة في كتاب الأدب لا نعرف من أين حصل عليها، منها قصيدة يقول مطلعها:
لفوق الركبتين تشمرينا بربك أي نهر تعبرينا
السيد الوزير، وعندما رأى اختلاط حابل قصائد عبد الرحيم بنابلها، لم يتركه يكمل قصيدة التشمير أعلاه، فقد ترك مكانه في صدر بيت الشعر، و توجه صوب المنصة، فأخلى عبد الرحيم المكان فوراً..
ارتجل الضيف كلمة قصيرة شكرنا بها على دعوتنا له لزيارة قريتنا ـ هو لا يعرف أنها حارة شرقية ، و حارة غربية ـ وعلى الحفاوة التي استقبلنا بها..
وبعد أن حكى عن الكرم المستأصل في ناس ريفنا الطيبين، الكرم مستأصل في ناس ريفنا الطيبين، كلمات عن الأرض المحتلة التي ستحرر مهما طال زمن الاحتلال.. عن انقلاب تشيلي المشؤوم.. انتفاضة نيكاراغوا الباسلة.. التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وأشياء أخرى عن بقية العالم، وبعد أن وعد بأن تكون مطالب أهل قريتنا في موضع اهتمامه، طلب أن نرخص له بالذهاب لضيق وقته، بعد أن أقسم بأن تكون مدة زيارته القادمة لضيعتنا أطول.. أمام إلحاح وجهاء الحارة ، انتظر مع مرافقيه بضع دقائق, ليأكل كل واحد منهم شقفة لحم، وملعقة أرز مخلوط بالبرغل..
ودعناه بعراضة تشبه تلك العراضة التي استقبلناه بها.. وبعد غياب موكبه عن الأنظار، نزلنا نحن في مناسف الطبيخ..
عشنا ستة أيام مزهوين نماحك أقراننا من أهالي الحارة الشرقية.. المساكين كانوا غير قادرين على النظر في وجوهنا مثلما توقع الحاج عبد الغفور.. ستة أيام فقط، وفي اليوم السابع سمعنا أصوات زخات من الرصاص فوق حارتنا قادمة من الشرق، وضرب على طبول، وزغاريد.. صعدنا فوق أسطح، بيوتنا فرأينا أهالي الحارة الشرقية مجتمعين عن بكرة أبيهم، على أرض بيدر حارتهم يدبكون ويرقصون ويغنون ويذبحون الخراف.. استفسرنا.. ويا للهول، إن وزير الإصلاح الزراعي، بنفسه، يزورهم؟؟
اختبأنا في بيوتنا، أو صرنا نراقب تجمعهم المهيب خلسة من وراء الأبواب المواربة، أو وهم منبطحون على أسطح منازلنا..
الحاج عبد الغفور أحس بالعطب.. كان يردد في مجلسه بصوت منخفض حزين :" غلبونا في هذه المرة.. نحن استضفنا وزير دولة، أما هم فقد استضافوا وزير الإصلاح.. "
ومن يومها، ورغم مرور سنوات عديدة، يفكر الحاج بالطريقة التي يستضيف بها رئيس الوزراء، و إذا تعذر ذلك، فوزير الدفاع على الأقل..
تعليق