بسم الله الرحمـــــن الرحيم
مقامة : إسْتـَحَقَّ الغـِيلـَــة من عَدِمَ الحيلـــــة
مقامة : إسْتـَحَقَّ الغـِيلـَــة من عَدِمَ الحيلـــــة
حدثني أحد الجيران قال :
تَعلمْ يا عافاك الله أني سليلُ تـُجَّار، ضَرَّابٌ في الأرْضِ وكثيرُ أسْفار، أقيــمُ وزنـًا للملـِّيم قبْل الدِّينار. كنتُ أسْتأسِدُ حين البيع حتى أضْمَنَ ناتِجَ الرَّيـْـع، وأصمُدُ أوانَ الشـِّرَاء حتى يَمَجــَّني النـُّظرَاء، وأجْبــِرُهُمْ على التـَّنازُل بسَخاء. فبتُّ أعْرَفُ باســــــــم "الخذرُوف"، بمَا يدُورُ في دكـَّاني من الصُّنوف، وما تكتنِــزُهُ الدَّواليبُ والرُّفـُوف. وطبعًا كرهَنِي من بالسُّوق، وناصَبُوني الحَنقَ والعـُقوق، تغتابـُنِي منهُمُ العيْنُ قبل الفــَم، فأمْعِن شمَاتة في الجُلوس طويلا واضعًا قدمًا على قدَم.
وذات صباح كئيبٍ وفاتـِـر، كنتُ أتفحَّصُ المَخازنَ وأتفقـَّـدُ الدَّفاتِر، حضر لــــــــدي شخْصَان غريبَان، يلبسَان لباسًا عربيًّا يـُنـْبِئُ بهمَا العِقالان، فرَمَيَا السَّلام ثم دُون انتظار ردِّي، انطلق كبيرُهُمَا بالكلام : "بلغنـَا يا أخا العربْ، يا "شاهْبَنْدرَ" السُّوق وغالِي الحَسَب، أنك تاجرٌ ماهر، على دَمَثٍ وذو مآثِــر، ألا فلتتعطـَّفْ برَبـِّك علينا، وتقضِي لنا حاجتنا الـْــمِنْ أجْلها أتـَيْنا." انتفضتُ وارْتعشَتْ يَداي، وبادرتُ إلى الإبريق أصبُّ لهُمَا الشـَّاي، وأغلظتُ كالعادة أيْمَانِي، أنَّ بــِي ولــِي ما لا ينعَمُ بهِ أقـْرَانِي، حتى أني اسْتمَلـْتُ عَبَرَاتِي، لأحْبُكَ الدَّوْرَ وتـُنْجـِدُنِي قـَسَمَاتِي، ثم تنحْنحْتُ وقلتُ بأنـَاة : "حاجتـُكُمْ بعَوْن اللهِ وتوفِيقهِ مُسْتوفاة، ولو كان دُونَهَا الوَفاة". شكرَ ضيْفاي لي حُسْن قولي، وأفاضَا فيضًا على وفادَتِي وفضْلِي، وطلبَا مني أنْ أجدَ لهُمَا جَرْو ثعْلبْ، بدعوى الحاجة الماسَّة إلى دقيق مِخـْلبْ، لمُداواة زوجَةِ أحَدِهِمَا تبْغِي الحَمْلَ ولمْ تـُنـْجبْ.
صُدِمْتُ حقيقة للطـَّلب، وتملـَّكنِي العَجب، فما كنتُ أنتظرُ مثلَ هذا السُّؤال العجيب، وأخبرْتهُمَا أني تاجرٌ ولا أمُتُّ للصَّيد من بعيدٍ أو من قريب. وبعد أخْذٍ ورد، وشدٍّ وصد، ناولني أحدُهُما مبلغـًا من المال، ألفَ دينار بالتمَام والكمَال، لقاءَ عناءٍ قد ألقاهُ عند البحْث والسُّؤال، وأجَازَانِيهِ حقـًّا مهما كان التحصيلُ أو المَآل. ثم أكـَّدا لي أنهُما سيعُودانـَنِي للإطمِئنان، بعد أن يزُورَا بعضَ الأصْهار والمعارفِ والخِلان.
ومُذ رحلا هجرني الكرى لأيـام، أصِلُ الليلَ بالنهار كمنْ نذرَ الإعتكافَ والقِيام، أبحثُ هنا وهناك وأسترشِدُ الأقوامَ تِلوَ الأقوام، فما أبْشـَرَني راعِي الغنم ولا أسْعَفني مُدمِنَ القِفـَافِ والآكام. حتى صِرْتُ أهْذِي وأُجانِب، فمَرة أرى القطط وأتمنـَّاها ثعالب، ومرات أجْزلُ السُّبابَ على الكواسر وذوات المخالب، وأنتهي دوما لبــَوْح العاجز المقهُور : "الله غالـــب" .
وبعد مُضي أيام على هذه الحال، كنت أجلسُ مهمُومًا شارد البال، مرَّ من أمام الدُّكان، شابٌّ طويلُ الأفنان، يكتسي ثوبا رياضيا من الحذاء إلى التـُّبَّان، يضع من الوشْم أشكالا، ومن الحُلِي أرْطالا، غير أن ما ميَّزَهُ أنه يحملُ ما اعتبرْتـُهُ أملا بل آمالا. كان يحتضِنُ أنثى الثـَعَالِي، فانتعشتْ آمالي، وهبـَبْتُ واقفـًا لا أبالي، وناشدْتـُها سِرًّا : "أي مُعَذبتي تعالي". واعترضْتـُهُ مصطنعًا الأدب، وأخبرته أنه مُجَازًى بما كسبْ، وأنْ ليسَ هناك مجالٌ لرفض الطلبْ. فامتنع وكابــــر، ورفض مبدأ النقاش والتحاوُر، فأمرُ البيع مردود، والطريق إلى ما عرضتُ مَسْدُود. لكن بعد مضي السَّاعة، فاجأني تدخـُّلُ بقية التـُّجَّار والباعة، فلان قوله وأذعنَ لهم وتسلمْتُ البضاعة، بعدما دفعتُ عشرة آلاف دينار، جزاءا وفاقــًـا لهذا الإبــْرَارْ.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أنتظرُ ضُيُوفي العرب، ستُّ سنواتٍ هَـرمَتْ بضَاعتي حتى أصابَهَا –حاشاكُمُ- داءُ الكلب، وعيني لم تبْـرَحْ مدْخلَ السُّوق أنـَّى انقلبْ.
أخيرا فقط علِمْتُ بمصَادِري أننِي أخِذتُ غدرا وغِيلــَةً، فلم يكـُن المشْهَدُ برُمَّتِهِ سِوَى حبكٍ وحِيلة، فقد كادَ لي صَحْبي من التجار، كي أثوبَ إلى رُشدِي وأعوِّضُهُم عمَّا لحِقهُمْ من إضْرَار، فانسحبْتُ نهائيا من السُّوق أتجرَّع مرارة الخزْي والعَـــار.
تَعلمْ يا عافاك الله أني سليلُ تـُجَّار، ضَرَّابٌ في الأرْضِ وكثيرُ أسْفار، أقيــمُ وزنـًا للملـِّيم قبْل الدِّينار. كنتُ أسْتأسِدُ حين البيع حتى أضْمَنَ ناتِجَ الرَّيـْـع، وأصمُدُ أوانَ الشـِّرَاء حتى يَمَجــَّني النـُّظرَاء، وأجْبــِرُهُمْ على التـَّنازُل بسَخاء. فبتُّ أعْرَفُ باســــــــم "الخذرُوف"، بمَا يدُورُ في دكـَّاني من الصُّنوف، وما تكتنِــزُهُ الدَّواليبُ والرُّفـُوف. وطبعًا كرهَنِي من بالسُّوق، وناصَبُوني الحَنقَ والعـُقوق، تغتابـُنِي منهُمُ العيْنُ قبل الفــَم، فأمْعِن شمَاتة في الجُلوس طويلا واضعًا قدمًا على قدَم.
وذات صباح كئيبٍ وفاتـِـر، كنتُ أتفحَّصُ المَخازنَ وأتفقـَّـدُ الدَّفاتِر، حضر لــــــــدي شخْصَان غريبَان، يلبسَان لباسًا عربيًّا يـُنـْبِئُ بهمَا العِقالان، فرَمَيَا السَّلام ثم دُون انتظار ردِّي، انطلق كبيرُهُمَا بالكلام : "بلغنـَا يا أخا العربْ، يا "شاهْبَنْدرَ" السُّوق وغالِي الحَسَب، أنك تاجرٌ ماهر، على دَمَثٍ وذو مآثِــر، ألا فلتتعطـَّفْ برَبـِّك علينا، وتقضِي لنا حاجتنا الـْــمِنْ أجْلها أتـَيْنا." انتفضتُ وارْتعشَتْ يَداي، وبادرتُ إلى الإبريق أصبُّ لهُمَا الشـَّاي، وأغلظتُ كالعادة أيْمَانِي، أنَّ بــِي ولــِي ما لا ينعَمُ بهِ أقـْرَانِي، حتى أني اسْتمَلـْتُ عَبَرَاتِي، لأحْبُكَ الدَّوْرَ وتـُنْجـِدُنِي قـَسَمَاتِي، ثم تنحْنحْتُ وقلتُ بأنـَاة : "حاجتـُكُمْ بعَوْن اللهِ وتوفِيقهِ مُسْتوفاة، ولو كان دُونَهَا الوَفاة". شكرَ ضيْفاي لي حُسْن قولي، وأفاضَا فيضًا على وفادَتِي وفضْلِي، وطلبَا مني أنْ أجدَ لهُمَا جَرْو ثعْلبْ، بدعوى الحاجة الماسَّة إلى دقيق مِخـْلبْ، لمُداواة زوجَةِ أحَدِهِمَا تبْغِي الحَمْلَ ولمْ تـُنـْجبْ.
صُدِمْتُ حقيقة للطـَّلب، وتملـَّكنِي العَجب، فما كنتُ أنتظرُ مثلَ هذا السُّؤال العجيب، وأخبرْتهُمَا أني تاجرٌ ولا أمُتُّ للصَّيد من بعيدٍ أو من قريب. وبعد أخْذٍ ورد، وشدٍّ وصد، ناولني أحدُهُما مبلغـًا من المال، ألفَ دينار بالتمَام والكمَال، لقاءَ عناءٍ قد ألقاهُ عند البحْث والسُّؤال، وأجَازَانِيهِ حقـًّا مهما كان التحصيلُ أو المَآل. ثم أكـَّدا لي أنهُما سيعُودانـَنِي للإطمِئنان، بعد أن يزُورَا بعضَ الأصْهار والمعارفِ والخِلان.
ومُذ رحلا هجرني الكرى لأيـام، أصِلُ الليلَ بالنهار كمنْ نذرَ الإعتكافَ والقِيام، أبحثُ هنا وهناك وأسترشِدُ الأقوامَ تِلوَ الأقوام، فما أبْشـَرَني راعِي الغنم ولا أسْعَفني مُدمِنَ القِفـَافِ والآكام. حتى صِرْتُ أهْذِي وأُجانِب، فمَرة أرى القطط وأتمنـَّاها ثعالب، ومرات أجْزلُ السُّبابَ على الكواسر وذوات المخالب، وأنتهي دوما لبــَوْح العاجز المقهُور : "الله غالـــب" .
وبعد مُضي أيام على هذه الحال، كنت أجلسُ مهمُومًا شارد البال، مرَّ من أمام الدُّكان، شابٌّ طويلُ الأفنان، يكتسي ثوبا رياضيا من الحذاء إلى التـُّبَّان، يضع من الوشْم أشكالا، ومن الحُلِي أرْطالا، غير أن ما ميَّزَهُ أنه يحملُ ما اعتبرْتـُهُ أملا بل آمالا. كان يحتضِنُ أنثى الثـَعَالِي، فانتعشتْ آمالي، وهبـَبْتُ واقفـًا لا أبالي، وناشدْتـُها سِرًّا : "أي مُعَذبتي تعالي". واعترضْتـُهُ مصطنعًا الأدب، وأخبرته أنه مُجَازًى بما كسبْ، وأنْ ليسَ هناك مجالٌ لرفض الطلبْ. فامتنع وكابــــر، ورفض مبدأ النقاش والتحاوُر، فأمرُ البيع مردود، والطريق إلى ما عرضتُ مَسْدُود. لكن بعد مضي السَّاعة، فاجأني تدخـُّلُ بقية التـُّجَّار والباعة، فلان قوله وأذعنَ لهم وتسلمْتُ البضاعة، بعدما دفعتُ عشرة آلاف دينار، جزاءا وفاقــًـا لهذا الإبــْرَارْ.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أنتظرُ ضُيُوفي العرب، ستُّ سنواتٍ هَـرمَتْ بضَاعتي حتى أصابَهَا –حاشاكُمُ- داءُ الكلب، وعيني لم تبْـرَحْ مدْخلَ السُّوق أنـَّى انقلبْ.
أخيرا فقط علِمْتُ بمصَادِري أننِي أخِذتُ غدرا وغِيلــَةً، فلم يكـُن المشْهَدُ برُمَّتِهِ سِوَى حبكٍ وحِيلة، فقد كادَ لي صَحْبي من التجار، كي أثوبَ إلى رُشدِي وأعوِّضُهُم عمَّا لحِقهُمْ من إضْرَار، فانسحبْتُ نهائيا من السُّوق أتجرَّع مرارة الخزْي والعَـــار.
17 جويلية 2010
تعليق