وحطت أخيراً .. !
أمام هذا الشاهد القديم .. وقفت مغيب الروح و الجسد، أتأمل قبرها النائم بمحاذاة الطريق الزراعي وأشيعها بنظرات بليدة ..
كل ما في يستنطقني ويئن، يصرخ في .. يهدهدني .. يرفسني، ويشدني نحو البكاء .. لكن ثمة برود يمتطيني ويشل مآقي ..
تجمدت العبرات، والرغبة معدومة، أصبحت كتلة من حجر مجردة من مشاعر الريفي القديم، الذي ضيعته في بلاد الثلج والنار من سنوات مضت، لم أكن هذا الكائن الزاحف وراء منازل الأصدقاء، وعتبات الأهل و الجيران بشوق قاتل، ورغبة عارمة في الخروج مع أحدهم لمعانقة السكك وتمشيط الحقول ..
كنا نجمع قرون الفول الأخضر ونرقد على جوانب الغيطان تدغدغنا تكات ميكنة الري وهي تنقل الماء من جوف الترعة إلى حوض الزراعة بإصرارٍ عجيب ..
يتطاير الرذاذ الأبيض في ضوء الشمس صانعاً ألواحاً قزحية وقرمزية، ويتطاير معها رذاذ الأحلام.. يمضي مع لحظات العمر والصبا .. نصعد أشجار التين و الجميز، نقطف زهور التمر حنة، نبحث عن دودة الأرض.. نفتش عن رأسها نغرس فيه الحطب، نعذبها ثم نرميها لنبحث عن غيرها ..
وفي المساء نتطفل على الفلاحين؛ نعتلي ظهور دوابهم، ونحسب أنفسنا فرساناً راجعة من الحرب.. تستقبلنا نسوان الحارة بابتساماتٍ عريضة .. نضع في حجورهن الفول والرمان، وأخبيء لها التمر حنة .. !
أذهب إليها وأرشق الأعواد في خصلاتها.. أفرك الزهرات فوق شعرها الأبيض المخلوط بلون الحناء، فتمتزج الرائحتان .. الحناء مع التمر حنة .. وتفوح في جنبات الدار .. تمتليء الحيطان و الجدران بتركيبة غريبة من عطر نادر ..
أرتمي إلى جانبها على حصير الأيام وأتوسد ركبتيها , تحدثني عن صباها وكم كانت جميلة تصل جدائلها حتى الأفخاذ .. وكم كان قدها ممشوقاً يصلب شواربهم، ذات ظهيرة كانت الزغاريد ترن في قاعات الدار، لما رجعت لهن بشهادة الليسانس، وسألتها عما تحب أن أشتريه لها من قبض أول راتب .. وهي تمسد شعري بكفيها الطريين المرتعشين قالت : كفاية عليك شال صوف يصد عني برد الشتاء ..!
حينها احتضنتها ولا أعرف كيف انفجرت في بكاء بلل صدرها .. !
أحلامي كانت تتزاوج وتتوالد في المساء، وفي الصباح تموت.. يتساقط رذاذها حلماً بعد حلم .. فاستعجلت الرحيل .. سافرت إلى بلاد جديدة .. وغادرت قرون الفول والتمر حنة ..
كانت الشهور الأولى عصيبة، تمر مر الصخور على الرمل .. وأحياناً ثابتة كالرواسي .. بدأت أحلامي تتبدل، كان أشدها حلم العودة والنوم على ركبتيها، وهي متلفعة بالشال الصوفي الذي دسسته في شنطة سفري منذ الشهر الأول .. أحضرت معه أطيب أنواع العود، كل ليلة أفتحه.. أعطره وأدس فيه زهور التمر حنة.. أخاطبها، وأصف لها اشتياقي , وشعوري بالندم .. !
سرقتني السنة الأولى بقلع ضرس، وهلت الثانية ببعض ثلج، ورويداً رويداً بدأت ثغراتي في مشوار الاحتضار، تكاسلت عن رؤية الشال؛ أذكر أني لم أفتح الشنطة في هذه السنة غير مرة واحدة .. كنت أحفظ بعض الأوراق .
مرت الليالي مسرعة، وساعدتني البلادة كثيراً أن أخطف السنة الثالثة دون تفكير .. أحببت البعاد ! أو قـُل صار الأمر عادياً .. أنام بسهولة وأصحو على مهلٍ .. ما عاد الاستعجال قريني .. وما لم يتحقق اليوم يتحقق غدا .. وإن لم يتحقق لا مانع أن أدخره لسنة رابعة إن أحببت .. فما شاءالله أصبحت أكياس الثلج فوق صدري بلا عد ..
إلى أن شعرت بالملل .. وإرادة عنيفة في قطع هذا المشوار .. رجعت .. الوجوه تغيرت كثيراً و الشوارع كما لو كنت أراها لأول مرة .. وربما هم أيضا يرون ملامحي مختلفة كساها الثلج و التبلد .. !
تحققت أحلام الصبايا وأنجبن صبياناً يسرقون الفول و يقطفون التمر حنة .. يرشقون أعوادها في ضفائر فارسات أحلامهم .. فأحسست أن حلما ما ضاع مني، أو افتقدته في بلاد الثلج و النار , غرفتي كما هي لم يتبدل فيها حائط مكان حائط .. حتى الكراسي بنفس الترتيب الذي تركته ..
استدرجوني للحديث عن سنوات الغربة .. هربت منهم .. تحججت بالهدايا , وقمت أفرغت الحقيبة .. ظهر الشال على السطح دون قصد .. تركتهم ونزلت إليها .. لكن استوقفني والدي .. أحس بما أقصد .. فطاوعت يده التي جذبتني في منتصف السلم ..
وها أنا جئتها , أقف بين يديها بنفس البلادة ,أعتصر مآقي دون فائدة .. وفجأة رنت الزغاريد في أذناي وحينما سألتها عما تحب أن أشتري لها من أول راتب , مسدت شعري بكفيها الطريين المرتعشين وقالت : كفاية عليك شال صوف يصد عني برد الشتاء ..!
حينها لا أعرف كيف انفجرت في بكاء بلل قبرها .. ففرشت عليه الشال ورشقته بأعواد التمر حنة , واستدرت عائداً للخلف أمسح بطرف أكمامي الدموع التي حطت أخيرا .. !
كل ما في يستنطقني ويئن، يصرخ في .. يهدهدني .. يرفسني، ويشدني نحو البكاء .. لكن ثمة برود يمتطيني ويشل مآقي ..
تجمدت العبرات، والرغبة معدومة، أصبحت كتلة من حجر مجردة من مشاعر الريفي القديم، الذي ضيعته في بلاد الثلج والنار من سنوات مضت، لم أكن هذا الكائن الزاحف وراء منازل الأصدقاء، وعتبات الأهل و الجيران بشوق قاتل، ورغبة عارمة في الخروج مع أحدهم لمعانقة السكك وتمشيط الحقول ..
كنا نجمع قرون الفول الأخضر ونرقد على جوانب الغيطان تدغدغنا تكات ميكنة الري وهي تنقل الماء من جوف الترعة إلى حوض الزراعة بإصرارٍ عجيب ..
يتطاير الرذاذ الأبيض في ضوء الشمس صانعاً ألواحاً قزحية وقرمزية، ويتطاير معها رذاذ الأحلام.. يمضي مع لحظات العمر والصبا .. نصعد أشجار التين و الجميز، نقطف زهور التمر حنة، نبحث عن دودة الأرض.. نفتش عن رأسها نغرس فيه الحطب، نعذبها ثم نرميها لنبحث عن غيرها ..
وفي المساء نتطفل على الفلاحين؛ نعتلي ظهور دوابهم، ونحسب أنفسنا فرساناً راجعة من الحرب.. تستقبلنا نسوان الحارة بابتساماتٍ عريضة .. نضع في حجورهن الفول والرمان، وأخبيء لها التمر حنة .. !
أذهب إليها وأرشق الأعواد في خصلاتها.. أفرك الزهرات فوق شعرها الأبيض المخلوط بلون الحناء، فتمتزج الرائحتان .. الحناء مع التمر حنة .. وتفوح في جنبات الدار .. تمتليء الحيطان و الجدران بتركيبة غريبة من عطر نادر ..
أرتمي إلى جانبها على حصير الأيام وأتوسد ركبتيها , تحدثني عن صباها وكم كانت جميلة تصل جدائلها حتى الأفخاذ .. وكم كان قدها ممشوقاً يصلب شواربهم، ذات ظهيرة كانت الزغاريد ترن في قاعات الدار، لما رجعت لهن بشهادة الليسانس، وسألتها عما تحب أن أشتريه لها من قبض أول راتب .. وهي تمسد شعري بكفيها الطريين المرتعشين قالت : كفاية عليك شال صوف يصد عني برد الشتاء ..!
حينها احتضنتها ولا أعرف كيف انفجرت في بكاء بلل صدرها .. !
أحلامي كانت تتزاوج وتتوالد في المساء، وفي الصباح تموت.. يتساقط رذاذها حلماً بعد حلم .. فاستعجلت الرحيل .. سافرت إلى بلاد جديدة .. وغادرت قرون الفول والتمر حنة ..
كانت الشهور الأولى عصيبة، تمر مر الصخور على الرمل .. وأحياناً ثابتة كالرواسي .. بدأت أحلامي تتبدل، كان أشدها حلم العودة والنوم على ركبتيها، وهي متلفعة بالشال الصوفي الذي دسسته في شنطة سفري منذ الشهر الأول .. أحضرت معه أطيب أنواع العود، كل ليلة أفتحه.. أعطره وأدس فيه زهور التمر حنة.. أخاطبها، وأصف لها اشتياقي , وشعوري بالندم .. !
سرقتني السنة الأولى بقلع ضرس، وهلت الثانية ببعض ثلج، ورويداً رويداً بدأت ثغراتي في مشوار الاحتضار، تكاسلت عن رؤية الشال؛ أذكر أني لم أفتح الشنطة في هذه السنة غير مرة واحدة .. كنت أحفظ بعض الأوراق .
مرت الليالي مسرعة، وساعدتني البلادة كثيراً أن أخطف السنة الثالثة دون تفكير .. أحببت البعاد ! أو قـُل صار الأمر عادياً .. أنام بسهولة وأصحو على مهلٍ .. ما عاد الاستعجال قريني .. وما لم يتحقق اليوم يتحقق غدا .. وإن لم يتحقق لا مانع أن أدخره لسنة رابعة إن أحببت .. فما شاءالله أصبحت أكياس الثلج فوق صدري بلا عد ..
إلى أن شعرت بالملل .. وإرادة عنيفة في قطع هذا المشوار .. رجعت .. الوجوه تغيرت كثيراً و الشوارع كما لو كنت أراها لأول مرة .. وربما هم أيضا يرون ملامحي مختلفة كساها الثلج و التبلد .. !
تحققت أحلام الصبايا وأنجبن صبياناً يسرقون الفول و يقطفون التمر حنة .. يرشقون أعوادها في ضفائر فارسات أحلامهم .. فأحسست أن حلما ما ضاع مني، أو افتقدته في بلاد الثلج و النار , غرفتي كما هي لم يتبدل فيها حائط مكان حائط .. حتى الكراسي بنفس الترتيب الذي تركته ..
استدرجوني للحديث عن سنوات الغربة .. هربت منهم .. تحججت بالهدايا , وقمت أفرغت الحقيبة .. ظهر الشال على السطح دون قصد .. تركتهم ونزلت إليها .. لكن استوقفني والدي .. أحس بما أقصد .. فطاوعت يده التي جذبتني في منتصف السلم ..
وها أنا جئتها , أقف بين يديها بنفس البلادة ,أعتصر مآقي دون فائدة .. وفجأة رنت الزغاريد في أذناي وحينما سألتها عما تحب أن أشتري لها من أول راتب , مسدت شعري بكفيها الطريين المرتعشين وقالت : كفاية عليك شال صوف يصد عني برد الشتاء ..!
حينها لا أعرف كيف انفجرت في بكاء بلل قبرها .. ففرشت عليه الشال ورشقته بأعواد التمر حنة , واستدرت عائداً للخلف أمسح بطرف أكمامي الدموع التي حطت أخيرا .. !
إلى روح جدتي ..
أفلم يصلها الشال بعد ..؟!
أفلم يصلها الشال بعد ..؟!
تعليق