على هامش موضوع نشره الأستاذ عزيز عرباوي في الصالون الأدبي/ملتقى الحوار الأدبي أثار الشاعر و الناقد يوسف الديك مسألة أساسية طالما اثيرت منذ الخمسينيات و الستينيات ، وتحتاج إلى نقاش هادئ .
يرى الأستاذ يوسف الديك أن محمدا الماغوط قلم سياسي ساخر ....، وليس شاعر قصيدة نثر وبالأحرى أن يكون رائدها . وفي مقابل هذا الرأي آراء رفعت الرجل إلى مصاف الشعراء العالميين أمثال بودلير ورامبو ومن يكتب على منوالهما .فأي الرأيين أقرب إلى الحقيقة ؟، وماذا بوسع الطلبة والنقاد الناشئين أن يتبعوا وهم بين رأيين متعارضين بل ومتناقضين ؟
يرى الأستاذ يوسف الديك ألا تناقض في الموضوع :
"
(و لو نشرت هذه النصوص في مكان يشرف عليه وكان مسؤولاً عنه لحولها دون تردّد إلى ملتقى المحاولاتالأدبية ..والناشئين.
ويُرجع اهتمام النقد بهذا الشعر إلى اسم الماغوط الذي اكتسب شهرة كبيرة في الخمسينيات مع مجلة شعر ، ولو أرسل نصوصه غير مقترنة باسمه لرفضت .
وعلى الرغم من وجاهة هذا التبرير وصدقه في نشر نصوص أغلب الشعراء الكبار ، بما فيها النصوص الركيكة ، فإن الأمر يتطلب نقاشا علميا أكاديميا هادئا بعيدا عن الأسماء و ترتيب الشعراء إلى كبار وصغار .
إن تصنيف شاعر في مصاف كبار الشعراء لا يعني بالضرورة أن ما يكتبه دائما يكون جيدا ، فقد يكتب نصا شعريا ممتازا ويكتب في الآن نفسه نصا ركيكا فيحظى بالمكانة نفسها التي تحظى بها النصوص الجيدة لأنه لا يخضع للتقويم الذي تخضع له نصوص الشعراء الناشئين .
قديما ، كان عمود الشعر العربي هو المرجع النظري الذي يحتكم إليه للحكم على جودة النصوص فلا يُختلف كثيرا في الحكم على هذا النص أو ذاك .
أما في شعرنا الحديث ، فلم يعد هناك مرجعا نظريا واحدا بل مرجعيات ، وقد تصل التقاطعات بين هذه المرجعيات إلى مستوى الصفر، فما يعتبر شعرا عند هذه المرجعية النظرية يعد إسفافا و ركاكة عند مرجعية أخرى أو العكس . وقد سبق للمرحوم محي الدين صبحي الشاعر القومي العروبي المنظر للعديد من المنابر القومية اللبرالية أن أعلن أن مجلة شعر اللبنانية ـ التي تعد في نظر الكثير من النقاد المنبر الذي أعلى من شأن الشعر الحديث و من شأن قصيدة النثر ، والذي يعد الماغوط أحد شعرائه ـ لم تضف شيئا إلى الشعر العربي إن لم تعد به إلى الوراء ، و أعلن أدونيس أحد شعراء شعر ومنظريها أن أغلبية الشعر القومي شعر مناسبة و الشعر الحق ضد المناسبة لذا ، فلا علاقة له بالحداثة.
هذا الخلاف مرده إلى المرجعية النظرية التي يرجع إليها كل من المنبرين، فكل منبر ينطلق في تصوره للإبداع من قوانين نظرية مجردة تؤطر الآفاق التي يجب أن يقتحمها الإبداع، وتضبط حركية وآلية تكون ماهيته، وتحديد طبيعته ووظيفته. إنه يؤسس ويشرع منطلقا في ذلك من خلفيات معرفية أيديولوجية كانت أم فلسفية تقبل ما يندرج ضمن نسقها العام، وترفض كل ما يحيد عنه أو يتعارض معه.يرى الأستاذ يوسف الديك أن محمدا الماغوط قلم سياسي ساخر ....، وليس شاعر قصيدة نثر وبالأحرى أن يكون رائدها . وفي مقابل هذا الرأي آراء رفعت الرجل إلى مصاف الشعراء العالميين أمثال بودلير ورامبو ومن يكتب على منوالهما .فأي الرأيين أقرب إلى الحقيقة ؟، وماذا بوسع الطلبة والنقاد الناشئين أن يتبعوا وهم بين رأيين متعارضين بل ومتناقضين ؟
يرى الأستاذ يوسف الديك ألا تناقض في الموضوع :
"
(و لو نشرت هذه النصوص في مكان يشرف عليه وكان مسؤولاً عنه لحولها دون تردّد إلى ملتقى المحاولاتالأدبية ..والناشئين.
ويُرجع اهتمام النقد بهذا الشعر إلى اسم الماغوط الذي اكتسب شهرة كبيرة في الخمسينيات مع مجلة شعر ، ولو أرسل نصوصه غير مقترنة باسمه لرفضت .
وعلى الرغم من وجاهة هذا التبرير وصدقه في نشر نصوص أغلب الشعراء الكبار ، بما فيها النصوص الركيكة ، فإن الأمر يتطلب نقاشا علميا أكاديميا هادئا بعيدا عن الأسماء و ترتيب الشعراء إلى كبار وصغار .
إن تصنيف شاعر في مصاف كبار الشعراء لا يعني بالضرورة أن ما يكتبه دائما يكون جيدا ، فقد يكتب نصا شعريا ممتازا ويكتب في الآن نفسه نصا ركيكا فيحظى بالمكانة نفسها التي تحظى بها النصوص الجيدة لأنه لا يخضع للتقويم الذي تخضع له نصوص الشعراء الناشئين .
قديما ، كان عمود الشعر العربي هو المرجع النظري الذي يحتكم إليه للحكم على جودة النصوص فلا يُختلف كثيرا في الحكم على هذا النص أو ذاك .
أما في شعرنا الحديث ، فلم يعد هناك مرجعا نظريا واحدا بل مرجعيات ، وقد تصل التقاطعات بين هذه المرجعيات إلى مستوى الصفر، فما يعتبر شعرا عند هذه المرجعية النظرية يعد إسفافا و ركاكة عند مرجعية أخرى أو العكس . وقد سبق للمرحوم محي الدين صبحي الشاعر القومي العروبي المنظر للعديد من المنابر القومية اللبرالية أن أعلن أن مجلة شعر اللبنانية ـ التي تعد في نظر الكثير من النقاد المنبر الذي أعلى من شأن الشعر الحديث و من شأن قصيدة النثر ، والذي يعد الماغوط أحد شعرائه ـ لم تضف شيئا إلى الشعر العربي إن لم تعد به إلى الوراء ، و أعلن أدونيس أحد شعراء شعر ومنظريها أن أغلبية الشعر القومي شعر مناسبة و الشعر الحق ضد المناسبة لذا ، فلا علاقة له بالحداثة.
ونميز في التنظير بين نوعين: التنظير الذي يصدر عن شعراء لهم تجربتهم في مجال الإبداع، والتنظير الذي يصدر عن الفلاسفة والنقاد الذين لا صلة لهم مباشرة بالإبداع.
في ما يخص النوع الأول ، يرى ت . س . إليوت أن الشاعر إنما " يدافع عن ذلك الشعر الذي يكتبه هو". فمعظم آرائه تعبير عن جدله مع نفسه حول ما سيعمله في المرحلة القادمة، وما سيتخلى عنه. فما الشاعر إلا " ناقد يهتم بكاتب واحد، ولا تعنيه إلا الأعمال التي لم تكتب بعد، بل يكاد المرء في بعض لحظات الخبث أن يستجيب لإغراء التفكير في أن كل ما يقوله الشاعر هو: اقرؤوني لاتقرأوا سواي". من هنا ، فإن تنظيرات الشعراء تتمحور حول ذواتهم الإبداعية المتحققة والممكنة، ولا يفتحون آفاقهم التنظيرية أمام الاختلاف والتعدد.
أما النوع الثاني، فخطورته تكمن في انطلاقه من خلفيات معرفية تتوخى بناء الأنساق الكبرى لتفسير الظواهر الكونية، بما فيها الظواهر المعرفية. هذه الخلفيات تنطلق من مقولات تعتبرها مسلمات لتعميمها على كل الظواهر. وبناء الأنساق يحتم بالضرورة القفز على كل ما يتعارض وهذه الأنساق، الشيء الذي ينتج عنه خضوع الإبداع للتنظير وليس العكس.
نخلص من كل ماسبق إلى أن الماغوط و الذين أعجبوا بالماغوط ـ دون أن يفهم من كلامنا أن كل ما يكتبه الماغوط يرقى إلى مستوى الشعر الجيد أو العكس ــ لهم مرجعيات نظرية مخالفة كليا للمرجعية التي ينطلق منها الشاعر و الناقد يوسف الديك. فالشعر عند الماغوط يكتسب شعريته من التمرد والرفض وهدم الجاهز والمفارقة والمس بالمقدسات الاجتماعية و الدينية أحيانا ، والتشبيه البسيط الغريب غير المنتظر . ويكون أسلوبه غالبا بسيطا وعاديا وقد تتخلله عبارات ركيكة. في حين أن شعر أدونيس شعر تجريب وغرابة و غموض ( ماسي) على حد تعبيره ، والذي يجد ذاته في شعر أدونيس وما يشبهه الذي ينطلق من مرجعيات نظرية فرنسية مغرقة في التجريب لن يستسيغ شعر الماغوط في بساطته وجرأته الكبيرة . والعكس صحيح ، فما اختلف اثنان على شعر مثلما اختلفا على شعر أدونيس ،فهو الشاعر الذي يقتدى به عند الحداثيين التجريبيين وهو الشاعر الغامض الذي لا يجب الاهتمام به عند الشعراء القوميين الذين ينحون نحو الوضوح و البساطة، وهو الشاعر الذي يجب أن يحارب وبل ويحاكم عند الإسلاميين .
بعد هذه الفذلكة الكلامية ، كيف نقوّم شعر شاعر ، هل نقومه انطلاقا من ذواتنا و أذواقنا ومرجعياتنا ، فنحكم بعالميته إذا وافق أذواقنا وتصورنا ، ونحكم بلا شاعريته إذا خالف تصورنا ، أم نحكم عليه انطلاقا من خلفياته النظرية ومرجعياته و تصوره للشعر، فنبحث في العلاقة بين مرجعياته النظرية وإبداعاته النصية ؟ أم نحكم عليه بمدى حفاظه على الذوق العربي القديم بكل ما يعنيه من سلامة اللغة وجزالة الألفاظ و تضمنه لرسالة يوصلها إلى القارئ و عذوبة الإيقاع وبيانية الصورة …أم نحكم عليه بمدى تجاوزه وتخطيه لهذا الذوق العربي ؟ أم نحكم عليه بمدى قدرته عن التعبير عن تجربة ذاتية فردانية ؟
أسئلة مشروعة تَفرَّع النقد واختلف في الأخذ بهذا المقياس أو ذاك ، فاختلفت الآراء حول النصوص ولم يكن هناك إجماع حول نص حديث ،وما ينبغي له أن يكون ما دامت الخلفيات النظرية متعارضة ومتناقضة .ويكفي أن نشير هنا إلى أن النصوص التي اعتبرها المرحومان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس قمة الإبداع في كتابهما في الثقافة المصرية لا يلتفت إليهما اليوم ولا تقرأ حتى ضمن النصوص الشعرية .في حين هناك نصوص سفها بها واعتبراها نصوصا بورجوازية رؤيتها إلى المستقبل قاصرة ،وتحتل اليوم مكانة متميزة ضمن تاريخ الأدب الحديث .
نقطة أخرى
أشار الفاضل الأستاذ محمد ثلجي إلى مسألة أساسية على هامش مقال الأستاذ عرباوي يقول :
كغيري من شعراء الشعر العمودي وشعر التفعيلة أكتب قصيدة النثر. وكثيرا ما أهرب إليها طلباًللراحة والاستجمام .. دون ذلك ، صدقني ما يمكنني أن أوظفه فيها بالإمكان توظيفه في قصيدة العمودي والتفعيلة .. لم ألحظ ما يجعلها تتميز عن أختيها من جهة إيجابية على العكس فجلها سلبية .. وأستحضر مقولة لأدونيس نفسه يقول : المشكلة أن الشعراء الذين يكتبون النثر يعتقدون أنها هروب من الوزن والقافية ولكن هي في حقيقتها تمرد علىاللغة وعلى الذات وعلى المحيط السياسي والاجتماعي والديني..
هنا أقول ما المانع في أن يكون هذا التمرد المشار له في داخل قصيدة العمودي والتفعيلة ما دمنا متفقين على أنه ليس تمرداً من جهة الوزن والقافية!!
أتمنى الإجابة عن هذا السؤال فهو من الأهمية الكبيرة لو أردنا التحقق فعلياً من كون هذا النوع من الشعر يستحق المحاولة والجهد.
هذا القول يستدعي أيضا وقفة متأنية للتوسع فيه :
أولا : قصيدة النثر: شكل من الأشكال الشعرية وليس بديلا للأشكال السابقة ، كما لا تعد كتابةهذا الشكل الشعري عجزا عن كتابة القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة ، فأغلب الذين يكتبون هذا الشكل كتبوا وما زالوا يكتبون قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية . فالمسألة ليست مسألة شكل وإنما مسألة إبداع وقدرة على التعبير عن تجربة يعيشها الشاعر بقلبه وعقله معا ، و الارتقاء بها إلى مستوى التجربة الإنسانية. و أي شكل من الأشكال أسعف الشاعر في التعبير عن تجربته ، فهو الشكل الملائم .
هذه قصيدة عمودية لا أعرف صاحبها أعجبت بها كثيرا يغنيها الفنان مارسيل خليفة أعتبرها من أبدع النصوص و أجملها على الرغم من شكلها العمودي :
كأنــــما جبـــــل البـــاروك أذهلـــــه
أن تنحني فمشى في يومك الشجر
و الأرز أفلت من حراسه ومشــــــى
وفي ثناياه من جرح الردى كــــــدر
أظنها طلقات الغدر حين هــــــــوت
تكاد لو أبصرت عينيك تعتـــــــــــذر
كأنما أمة في كفك اجتمعــــــــــت
وأنت وحدك في صحرائها المطـــر
على المناديل من أوجاعه عبـــــق
و في المواويل من أحلامه أثــــــــر
طال ارتحالك ما عودتنا سفــــــــرا
أبا المساكين فارجع نحن ننتظـــر
إن ما يقصده أدونيس بقوله ، هو أن تحطيم الوزن والقافية وحدهما و الحفاظ على باقي الخصائص التقليدية للقصيدة العربية لا يجعلان من النص المكتوب قصيدة النثر ، لأن الوزن والقافية مكونان شكليان أساسا ، و قصيدة النثر شكل حداثي يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها ، ويصدر عن رؤيا فريدة للإنسان والكون ، و الصدور عن هذه الرؤيا يقتضي التمرد ضد اللغة والقيم و الأفكار و الدين والأشكال الشعرية الجاهزة ، وبعبارة أوجز،إن إبداع قصيدة النثر يقتضي تخطي الثقافة التقليدية التي تؤمن بأسبقية الماهية على الوجود و تجاوزها إلى الثقافة الحداثية التي تؤمن بأسبقية الوجود على الماهية . وفي هذه الحالة لا بد للقصيدة الحداثية لكي تكون حداثيةشكلا ورؤيا أن تتمرد أيضا على الوزن والقافية والتفعيلة ما دامت قيودا خارجية سابقة الوجود على وجود القصيدة . أن تنحني فمشى في يومك الشجر
و الأرز أفلت من حراسه ومشــــــى
وفي ثناياه من جرح الردى كــــــدر
أظنها طلقات الغدر حين هــــــــوت
تكاد لو أبصرت عينيك تعتـــــــــــذر
كأنما أمة في كفك اجتمعــــــــــت
وأنت وحدك في صحرائها المطـــر
على المناديل من أوجاعه عبـــــق
و في المواويل من أحلامه أثــــــــر
طال ارتحالك ما عودتنا سفــــــــرا
أبا المساكين فارجع نحن ننتظـــر
ولكم واسع النظر و الله أعلم.
تعليق