ليالي كانون البعيدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الله راتب نفاخ
    أديب
    • 23-07-2010
    • 1173

    ليالي كانون البعيدة

    ليالي كانون البعيدة

    الجمال خلقة ربانية ، صنعها مصرف القلوب و أبدعها، وصيرها طريقاً إليه ومرقى ترقى به الأرواح لتعرف خالقها و بارئها ، فيكون لها صلة به بلغة الحس التي يدرك بها ما لا يدرك بلغة العقل والرياضة ،ويفقه ما لا يفقه بلغة الفكر والسفسطة.
    ولهذا كان للجمال اقتران بالحس يغلب اقترانه بالعلم ، وكان لعهد النشأة الأولى في قلب كل منا مكان لا ينازعه فيه غيره ، ذلك العهد الذي كانت فيه النفس على فطرتها ، حديثة عهد بالدنيا وما فيها ،وما تزال بها بقية من الأيام التي قضتها محلقة في رحاب السموات، الأيام التي لم يكن قد نالها فيها شيء من تراب الأرض و أدرانها ،أو خالطها شيء من رسوم الكتابة والتعليم ونقوشهما.
    ومن تلك الأيام أيام بعيدة ، كان والدي يأبى فيها إلا أن يجلسني وإياه في شرفة منزلنا ليالَيَ الشتاء ، مفترشين أرض الشرفة ولا شيء علينا يقينا البرد غير لباسنا، و مستقبلين السماء في لحظات تجرد مطلق نحو العلياء ، كأنما نبحث فيها عن سر الصلة الأزلية بين النفس والروح وبين السماء المجلِلة هذا الكون و المادة ظلها عليه.
    كانت تلك ليالي شتائية ينال المرء فيها من القر ما يعيا به ، ولكن ما كان بين أرواحنا في ساعات صفائها المطلق تلك وبين السماء الرائقة ونجومها التي تتلألأ في بهجة و شاعرية لانهائيتين ، و القمرالذي كان يطل علينا بحنو و رأفة فأخاله مبتسماً لي بمحبة حقيقية ، وهامساً لي في بعض الأحايين، ما ينسينا كل ما عداه و يشغلنا عن سواه .
    وليلة بعد ليلة كان شيء في داخلي يكبر ، شيء يرفعني نحو الأعلى السماوي مفارقاً فيَ أناي الأرضي ، وأثناءإذ تدور بيني وبين والدي أحاديث ما عدت
    أذكر منها شيئاً مفصلاً سوى أنها كانت تدور في فلك السماء و نجومها وكواكبها ، وما كان يعتلج في نفسينا من حالات شعورية لم أحس مثلها من بعد على طول الأمد .
    ومرت الليالي و سماء دمشق تملؤنا صفاء و شاعرية ليس لهما حدود ، إلى أن لمحت ليلة خلال لحظات فارقني بها أبي كوكباً يلتمع و يشع ثم يحترق ويختفي ،
    فسعيت نحوه لأخبره بما رأيت فأنكر علي كلامي ، لكنني رأيت في عينيه شيئاً غامضاً لم أدرك كنهه حينها.
    بعد بضعة أيام حلق ملك الموت فوق بيتنا ،وفرغ المنزل ممن كان يملؤه علماً و نوراً و إيمانا فيشع شرقاً وغرباً إلى حيث يُنطق بالعربية و يؤذن للصلاة ،وخلا من رجله جسداً و إن ظلت روحه تطيف به و ترفرف حوله.
    وبت كل ليلة من حينها أفزع إلى الشرفة ذاتها ، وأقف على المكان الذي كنا نركن إليه ،وأرنو إلى القمر الذي كان يطالعني دوماً باسم الثغر ، فألمح فيه وجهاً ناعماً متألق القسمات ، وجه الرجل الذي فقدته بعدما كان يملأ علي دنياي كلها ، أراه باسماً لي إن كنت محسناً ومشفقاً علي إن مر بي ما يضير، متبرماً إن صنعت ما يسوء ، وحزيناً إن مر بي من الشر شيء، و أراه دوماً يلقي علي هالة من نور تضيء لي دربي و أسمع صوته هاتفاً بي :ولدي ....كلما ضاقت عليك الدنيا بما فيها ، وتطابقت عليك أمواج الظُلم من الهم والغم والحزن ،ارفع بصرك إلى السماء كما عودتك في ما مضى من أيامنا ، واطلب العون من خالقها ، تجده معك معيناً لك ، وتجد قلبك يدلك على الخير و يهديك نحو الرشاد ، وإن خلت أنك من الهم تحت سبع أراضيه .
    الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ

    [align=left]إمام الأدب العربي
    مصطفى صادق الرافعي[/align]
  • سالم العامري
    أديب وكاتب
    • 14-03-2010
    • 773

    #2

    الاستاذ عبد الله راتب
    بداية رحم الله الوالد الكريم وأسكنه فسيح جناته،
    وجعل الخير والبركة في بقائكم....
    وحقه أن نشكره إذ ترك بعده رجلاً واثقاً يمزج قلبه
    بالغمام ليمطر الحنين ودَقاً من عبق الأمس والذكريات......
    فسلمت أخي العزيز، وشكراً على سفر أخذتنا فيه حروفك
    الندية على أجنحة الجمال إلى حيث صفاء الروح....
    لك صادق ودي والامنيات

    سالم



    إذا الشِعرُ لم يهْزُزْكَ عند سماعهِ
    فليس جديراً أن يُـقـالَ لهُ شِــعْــرُ




    تعليق

    • خلود الجبلي
      أديب وكاتب
      • 12-05-2008
      • 3830

      #3
      الاستاذ عبد الله راتب

      سعيدة جدا بهذا النص الأكثر من رائع
      طرح رائع يحمل احساس ممزق يخبرنا أن هناك ما اهو أجمل قادم

      زهرة ياسمين لروحك
      لا إله الا الله
      محمد رسول الله

      تعليق

      • محمد زكريا
        أديب وكاتب
        • 15-12-2009
        • 2289

        #4
        التفكر ..إنه من العبادة ((ويتفكرون في خلق السماواتِ والأرض ..ربنا ماخلقت هذا باطلا))
        وللقمر أحاديث وروايات لاتنتهي ..إنه من يسهر لنا ومعنا وبنا ..لنقاسمه همومنا وشكوانا
        وكأنني بكَ ياسيدي معك ..على تلك الشرفة أناظر النجوم والسماء ..لأدعو معك
        وهمي يكاد يقتلني
        \\
        مرحباً بكِ بين آل صيد الخاطر أخي الكريم
        \\
        مودتي وتقديري
        نحن الذين ارتمينا على حافة الخرائط ، كحجارة ملقاة في مكان ما ،لايأبه بها تلسكوب الأرض
        ولاأقمار الفضاء
        .


        https://www.facebook.com/mohamad.zakariya

        تعليق

        • عبد الله راتب نفاخ
          أديب
          • 23-07-2010
          • 1173

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة سالم العامري مشاهدة المشاركة

          الاستاذ عبد الله راتب
          بداية رحم الله الوالد الكريم وأسكنه فسيح جناته،
          وجعل الخير والبركة في بقائكم....
          وحقه أن نشكره إذ ترك بعده رجلاً واثقاً يمزج قلبه
          بالغمام ليمطر الحنين ودَقاً من عبق الأمس والذكريات......
          فسلمت أخي العزيز، وشكراً على سفر أخذتنا فيه حروفك
          الندية على أجنحة الجمال إلى حيث صفاء الروح....
          لك صادق ودي والامنيات

          سالم
          بارك الله بك أيها الكريم ..
          شرفتني بمرورك و تعليقك ...
          و برأيك الكريم في ما كتبت على تواضعه ....
          حفظك الله و سلمك
          الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ

          [align=left]إمام الأدب العربي
          مصطفى صادق الرافعي[/align]

          تعليق

          • عبد الله راتب نفاخ
            أديب
            • 23-07-2010
            • 1173

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة خلود الجبلي مشاهدة المشاركة
            الاستاذ عبد الله راتب

            سعيدة جدا بهذا النص الأكثر من رائع
            طرح رائع يحمل احساس ممزق يخبرنا أن هناك ما اهو أجمل قادم

            زهرة ياسمين لروحك
            بارك الله بك أيتها الكريمة ....
            و الروعة إنما هي في قراءتك و ذوقك ....
            سلمك الله ... و ألف شكر لك
            الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ

            [align=left]إمام الأدب العربي
            مصطفى صادق الرافعي[/align]

            تعليق

            يعمل...
            X