تفكيك مفاهيم البراغماتية الأمريكية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حكيم عباس
    أديب وكاتب
    • 23-07-2009
    • 1040

    تفكيك مفاهيم البراغماتية الأمريكية

    موضوع الندوة في المركز الصوتي التي انعقدت يوم الأربعاء الموافق 28/7/2010


    تفكيك مفاهيم البراغماتية الأمريكية


    نَارسيساس (Narcissus) شاب صيّاد يوناني جميل كما تقول الأسطورة الإغريقية ، وقع في حب صورته في الماء ، عشقها ، فغدى أسيرا لهذا الحب ، ضعف جسده و التوى و تحوّل إلى "نرجسة" ، هكذا أصبحنا نسمّي من يُفتن بنفسه "نرجسي" .

    أوفيد أو أفيديوس الشاعر الروماني المشهور صاحب قصائد هيرويديس (البطولة" و أموريس "الحب" و آرس أموريا (فن الحب) وضع له نهاية حزينة .. الانتحار.
    لاحظوا عشق النّفس لحدّ الإنتحار ، رمز آخذه لدلالاته ، أمريكا تبدو لي صورة مضخمة جدا عن الصيّاد اليوناني المفتون بنفسه نارسيساس الذي رسمه الفنّان الايطالي "كرافاجيو" في القرن السادس عشر في لوحة فنيّة بديعة ، رائعة ، لكنّها لم تشفع له و لن تشفع لأمريكيا أيضا.

    جوزيف كونراد : روائي أوكراني بولوني فرنسي بريطاني و في النهاية أمريكي ! من رواياته "أطفال البحر" التي أعيد نشرها في حياته في نهاية القرن التاسع عشر بعنوان " The nigger of the Narcissus" .
    نرجس ، إسم السفينة ، و "الأسود" هو أحد أبطال الرواية ، بائع تاجر أسود له أصول هندية ، يعمل ما بين بومبي في الهند و لندن. مقدّمة الرواية بقلم الروائي نفسه ، تعتبر بيان ، إعلان رسمي لتبني الإنطباعية في الأدب الرّوائي لأوّل مرّة و بكلّ جرءة ، لذا ترجمت للفرنسية سريعا. كون الرّجل "الأسود" بائع ، فكلّما مكثت السفينة "نرجس" مدّة أطول في الميناء كلمّا باع أكثر من بضائعه ، فظهرت في الرواية هذه العبارة : (more days, more dollars) ، رغم أن الرواية نشرت في بريطانيا و ايرلاندا و أمريكا في نفس الفترة الزمنية تقريبا ، و ترجمت إلى الفرنسية فورا (بسبب الإنطباعية و التي كانت تشغل فرنسا) إلاّ أنّ أيا من جمهور المتلقين في هذه الدّول ، لم يقتبس هذه العبارة في حياته اليومية ، سوى الجمهور الأمريكي ، أصبحت متداولة بين النّاس ، فيما بعد حوّرت لصيغة أبسط و أسهل كما هو الحال عند الشعوب قاطبة ، تجنح العامة عادة لتبني أشكال و صياغات أبسط و أسهل و أكثر مباشرة في التعبير و ايصال المعنى ، فتحوّلت هذه العبارة ، لتصبح:
    (another day another dollar) ، ثمّ ظهرت في بعض الأعمال الأدبية الخفيفة و في الأغاني ثم عمّت و انتشرت و أصبحت علامة مميّزة للأمريكان ، أصبحت نوع من التّعريف بهم ، عندما نسمعها لا يتبادر لذهننا إلاّ الأمريكي.
    أن تأسف في نهاية اليوم لعمرك الذي نقص يوما فينقبض صدرك ، شيء عام مشترك عند كل البشر. عند المساء قبيل الغروب ، سحابة من الحزن تستوطن النفس ، أمّا أن تُعزّي نفسك و تواسيها قائلا : لا عليك ، غدا سيكون يوما جديدا حاملا معه دولارا آخر !! فهذا ما يجب الوقوف عنده. الغد .. لا يعني شيئا إلا بما سيحمله لنا ، هذا يبدو صحيحا و متّزنا، أمّا أن تكون هديّة اليوم الجديد دولارا !! أن تختزل كلّ ما يحمله الغد للدولار!! أن تجسد قيمة الأشياء التي ستأتيك مفرحة بالغد بالدولار!! أن يصبح الدولار وحدة قياس لقيمة الأشياء ، أن تقاس الأشياء كلّها بالقيمة المادية المباشرة ، أن تنحسر كلّ القيم الأخرى و تتراجع للخلف و يتقدّم الدولار!! هذا كلّه له معنى واحدا ، المنفعة، الفائدة المادية المباشرةالعائدة على الفرد
    لم يلاحظ الجمهور العريض في مختلف الدّول هذه الجملة غير الأساسية في رواية كونراد ، لم يقتبسها أحد و لم يتمّ تداولها في الحياة اليومية بين الأفراد في علاقاتهم اليومية ، لكن في أمريكا حصل هذا .. ما يؤشر إلى أن هناك توافقا ، أو استحسانا ، إذ رأى الملتقي الأمريكي نفسه في هذه الجملة ، رآها تمثّل جزءا من ذهنيته ، من عصب الحياة عنده ، فهل حقا المنفعة الشخصية هي عصب رئيسي من أعصاب الحياة هناك؟
    و هل هي جزء من التكوين الشخصي و الذهني للأمريكي.؟
    لنرى في تاريخ أمريكا و منذ لحظة اكتشافها ، هل لهذا العنصر "المنفعة الشخصية" جذور واضحة يمكن الاتّكاء عليها ؟
    أعيد هنا بعض ما قلته في موضوع "تسقط الأندلس و تحيا أمريكا"
    بعد الموجة الأولى من المهاجرين ، انتشرت في عموم أوروبا أخبار الأرض الجديدة ، خيراتها و كنوزها و أنهار ذهبها و ثرواتها الخيالية التي لا يمكن تصوّرها ، داعب الحلم الناس ، الثراء ، التّحول فجئة من صعلوك إلى ارستقراطي في شوارع باريس و مسارحها و كبريهاتها و صالوناتها ، حلم الخلاص من القوانين و جمودها ، من قسوة الحياة و سوداويّتها ، الهروب من الحرب و ويلاتها ، حلم أن تستيقظ صباحا فلا ترى الجوع و الأوبئة و لا رجال محاكم التفتيش ، يفتشون في دماغك ، لعلك تحمل شيئا يخالف الكهنوت الكاثوليكي .. حلم أن تكون لك فرصة أخرى في هذه الحياة غير الفرصة التي أتاحها لك (الرّب (في أوروبا ، حلم يختصر كلّ ما تقدّم ، حلم الحريّة و الكنز، الحرية و فرصة للثراء ، هكذا صارت أمريكا أرض الأحلام ، أرض الحريّة ، أرض الفرص الذهبية.
    حملت لنا الأفلام الأمريكية ، خاصة أفلام الكاوبوي ، كيف أن همّ رجل الكاوبوي و، الرّجال الباحثين عن الذهب و الثراء ، قُطّاع الطرق و اللّصوص ، كيف يعلنون مباشرة و صراحة عن أهدافهم الرئيسية في الحياة ، عن أحلامهم الشخصية المستحوذة و المسيطرة عليهم ، الثراء لكي يعودوا لباريس !!
    هذا في منتهى الوضوح ، معظم الأعمال الروائية و الأدبية من تلك الفترة ، تُنسج حول هذا الحلم ، حول هذه العقدة. إذن القدوم لأمريكا هو لمنفعة شخصية ، ثم العودة و التّمتع بما كان الأوروبي الفقير المسحوق محروما منه .

    فيما بعد أصبح النّظام الاقتصادي و الاجتماعي الأمريكي نفسه آلة جذب أخرى ، فتوجّه لهناك المثقفون و المفكرون و الأدباء و العلماء و الباحثون و الدارسون ، كلّ من وجد عقبات البيروقراطية في بلده ، الظلم من مؤسسات بلاده و مراكزها التعليمية و الأكادميية ، كل من لم تستوعبه بلده ، شدّ الرّحال إلى أمريكا ، إذن أيضا في هذه الفئات ، إلى جانب الدّوافع العلمية المحضة ، أو الفكرية المحضة ، التي لا يمكن إنكارها ، يوجد أيضا عاملا إضافيا و هوالمنفعةالشخصية.

    المنفعة الشخصية ، أو الفائدة الشخصية التي يسعها لها الإنسان ، لا يصل لها ، كما يصل محطة القطار مثلا ، ما عليه إلاّ أن يسير و سيصل ، ما عليه إلى أن يذهب لأمريكا و سيحصل على مبتغاه ، الأمر ليس كذلك ، إذ لا بدّ من و سائل و أدوات توصلك لهذه الفائدة ، بها تستطيع تخطّي العراقيل و العقبات في طريقك لجني الثمار؟
    ما هي العقبات التي يمكن أن تقف أمامك فتعوق وصولك الهدف ؟
    شخص يريد الوصول للفائدة ، لمبتغاه النفعي فعليه أن يعمل ، أليس كذلك؟
    ماذا يعمل؟ و كيف سيعمل ؟
    هذان سؤالان أساسيّان ، هما من سيحدّد كل شيء فيما بعد .
    هل كلّ مجالات العمل مفتوحة أمام الإنسان ؟
    طبعا لا ، إذ لا بدّ للعمل أن يكون منسجما مع النظام القيمي للمجتمع و النظام القيمي للفرد ، كما أن وسائل العمل نفسه ، يجب أن تكون مبرّرة أخلاقيا و قانونيا ، إضافة إلى أن العمل و نتائجه يجب أن لا تحط من قيمة و قدر الإنسان ، فالإنسان بحد ذاته قيمة و ليس وسيلة ، ليس أداة.
    ما دام الأمر كذلك ستكون الموعقات المحتملة نحو العمل الحر الذي من المفترض أن يؤدي للمنفعة ، للفائدة الشخصية على النّحو التالي:
    يجب تبرير المنفعة ، بدلا من أن تظهر شخصية ، فردية ، أنانية ، يجب أن تكون منفعة عامة و إلا سقطت وفق المعايير القيمية و عمل الآخرون على إفشالها، إذن النظام القيمي الفردي و الجمعي هو عائق محتمل أمام العمل الحر ، البعد الاخلاقي عائق محتمل و كذلك الدين و القانون.
    جميع هذه الركائز يجب التّوافق معها كي نتمكّن من العمل و الوصول للمنفعة .
    إذن هي عقبات محتملة ، إذا وقفت هذه العقبات في طريقك ، لن تتمكن من العمل ، ستفشل و لن تصل للمنفعة أو الفائدة المرجوّة.أمّا إن استطعت الانسجام و التّوافق معها ، أو التحايل عليها ، أو تجاوزها بأي شكل من الأشكال ، بما لا يثيرها ، فستنجح و ستصل ، عندها ستكون إنسانا ناجحا ، عمليا ، ميدانيا ، قادرا على ابداع وسائل و أساليب تمكّنك من النّجاح.
    إذن الصفة الثانية التي نبحث عنها في البراغماتية الأمريكية هي العملانية . الصفة الأولى كانت المنفعة ، الآن في الطريق إلى تحقيق المنفعة يُفرض عليك أن تكون عملانيّا ، تتخطى العقبات و الحواجز التي قد تظهر أمامك.

    في الجزء التالي سنرى كيف رست مفاهيم النّفعية ، و كيف تمّ تجاوز العقبات المحتملة ، فالنّفعية كما سنرى ، بُنيت على عدّة فلسفات و تيارات فكرية ، بطريقة استباحت فيها العوائق المحتملة (الدين ، القانون ، الاخلاق) و أسست لتغطية أخلاقية جديدة ، بهذا صارت البراغماتية مذهب متكامل ، ليس سياسيا أو اقتصاديا فحسب ، بل اجتماعيا و إداريا و قانونيا و معايير أخلاقية و دساتير و ماكينة إعلامية و دعائية جبارة ، و ايديولوجيا و مفاهيم عن الإنسان نفسه و الكون و الحياة ...الخ ، تتحكّم بحياة الإنسان إلى أدقّ التّفاصيل ، بل تطوّقه من جميع الجوانب و توجّهه و تبرمجه و تبني مفاهيمه و ذائقته و تطلّعاته و أحلامه ، و جنّدت لهذا نظاما فلسفيا متكاملا . سنوضّح كلّ هذا في الجزء التالي.


    ........ // يتبع في الصفحة التالية
  • حكيم عباس
    أديب وكاتب
    • 23-07-2009
    • 1040

    #2
    .....// تتمّة الموضوع في الصفحة السابقة


    البراغماتية الأمريكية المعاصرة التي تقوم على النفعية و العملانية ، تشكّلت و بنيت من مجموعة من العناصر المأخوذة من مجموعة من التيارات الفلسفية و الفكرية على النحو التالي:
    1. Utilitarianism = النفعية و sequentialism = العواقبية ، من ميكافيلي حتى بينثام و ستيوارت ميل و انسكومبي .
    2. الأداتية = instrumentalism عند جون ديوي و ما طوّره في فلسفة شارلز بيرس و وليام جيمس
    3. العملانية = operationalism عند بريجمان
    4. الأنسنيّة humanism عند شيلر الذي سرق مفهوم الأنسة و و منحه للبراغماتية .
    5. structuralism ليفي شتراوس
    6. البراغماتية الأولى عند شارلز بيرس و وليام جيمس .

    طبعا لن نُفصّل هذه الفلسفات و لن نخوض بها ، هنا سأكتفي فقط بإضاءة أهم الأفكار و المفاهيم ذات العلاقة المباشرة و الواضحة بما أريد ايصاله لحضراتكم .
    في القرن الثامن عشر و التاسع عشر، كانت الفلسفة مشغولة في معاركها الكبرى بعد أن فُصلت الدولة عن الكنيسة ، و بعد أن ظهرت للعيان نتائج الثورة الصناعية ، أي أفعال العقل.
    - محاولة حسم المعركة مع الميتافيزيقي
    - فلسفة العقل و فلسفة العلم
    - العمّال و المعدمين (نتائج الثورة الصناعية) و فلسفة الفقراء – ماركس
    - التأسيس للفلسفة الوجودية ، الإنسان و كيانه و جوده و موقعه في الكون.
    لذا لم يتم الاهتمام كثيرا في تفاصيل الفلسفة الميكافيلية ، رغم تناولها بكثير من التقدير و الإعجاب من قِبَل روسو و هيجل و غيرهما.
    1. ميكافيلي : يضع المبدأ الأول و مفاده : المفيد هو الضروري
    2. جيرمي بينثام – انكليزي قانوني ، يضع ما سميّ بالقاعدة العظمى للسعادة (greatest happiness principle) ، "الجيد أو الخير الأكبر لأكبر عدد من النّاس "
    "the greatest good for the greatest number of people"
    قيمة الشيء تأتي من فائدته ، إذا كان مفيدا ، نافعا فهو ذات قيمة ، إذاً القيمة التي كان ينظّر لها كانط ، اختزلت هنا عند بينثام لتصبح موجودة ليس في الإنسان ، و لا قيمة مجرّدة في الشيء نفسه ، بل في الفائدة التي تعود على الإنسان.
    3. جون ستيوارت ميل : أدخل مفاهيم جديدة على أفكار بينثام حول الحرية الفردية مقابل سلطة الدولة ، تحرّر المجتمع،طغيان و استبداد الأكثرية،ديمقراطية الاقتصاد و ربط هذه الديمقراطية بالمنفعة ، بالفائدة التي تعود على الإنسان .
    4. أنسكومبي : يوضّح و يشرح أفكار بينثام و ميل و يبني عليها ما سميّ بالفلسفة العواقبية (sequentialism ) ، الفعل يقيم بحسب ما ينتج عنه ، قيمة العمل تكمن في نتائجه.
    5.تشارلز بيريس : الفكرة الأساية عنده "كون الشيء نافعا فهو موجود" المعرفة بالشيء لا قيمة لها إن لم تكن نافعة ، إذن العقل نفسه هو ليس للتفكير و المعرفة المجرّدة ، بل تحويل التّفكير و المعرفة إلى أشياء نافعة . معنى ذلك أن العقل هو أداة لتطوّر الحياة وتنميتها ، فليس من وظيفة العقل أن يعرف ، و أن يتأمل ، و يفكر بالمطلق ، وإنما وظيفته خدمة الحياة . يعرف ليأتي بالفائدة فقط و ليس المعرفة لأجل المعرفة.هذا الكلام واسع و ذو معاني متشعبة ، منها أن القيم و الأخلاق مثلا ، لا معنى لها ، بل هي غير موجودة إلا إذا خدمت الإنسان و نفعته بالمعني المادي الملموس .

    لاحظ أن الإنسان أصبح هنا الحكم على منفعة الأشياء ، يمنح شيلر الإنسان هنا مكان الصدارة ، فيعتبره المركز لكامل العالم الفكري. فالانسانيستبدل أحكام "الوجود" باحكام "القيمة". هكذا تتحول الحقيقة ، الى مجردأداة للعمل ( بعد ان فقدت قيمتها المطلقة و التجريدية) فهي لا تصبح حقيقيةالاّ بفعل الإنسان فيها. أي لا حقيقة خارج الإنسان ، و لا قيمة للحقيقة داخل الإنسان إذا لم تكن مفيدة.

    أبعد من ذلك ، الدين نفسه ، و السماء ( الله) هو حقيقي و واقع ، أي موجود عندما يكون نافعا و مفيدا (في الحياة الملموسة المادية) ، يخدم مصالح الفرد و المجتمع .

    هذا يعني بأن فكرة الايمان نفسها ، نأخذ بها لتبث فينا شحنة تفاؤلية و عزيمة ، و علينا أن نعزّزها كقوة روحية تزيّن لنا الحياة و تدفع بنا إلى التطور ، دون أن يكون أهمية للمضمون أو دون الاكتراث لعالم السماء و ما بها ، أي جرّد الايمان من غاياته الإلهية و من مضامينه ةو مقاصده ، و حوّل لأداة تستغل و تجنّد لجلب المنفعة الفائدة المحسوسة في العالم المادي الذي نعيش الآن فيه.
    بذلك أحكم الطوق على الدين ، و أصبح أداة للمنفعة و خدمة المصالح يتطور و يتبدل و يتغير وفق المصلحة و المنفعة (الدينامية التي أدخلها شلر) ، و هنا العملانية و تجاوز العقبات ، فبدلا من التّصادم مع الدين كما في الماركسية اللينينية ، تمّ احتواء الدين في البراغماتية الأمريكية و تجنيده لخمة المصالح ، فتناسلت و ما زالت تتناسل عشرات الفرق و المذاهب ، تُستغل لتكوّن قاعدة عقائدية و أيديولوجية تبثّ العزيمة و التفاؤل ، و تدفع الإنسان نحو تحقيق أهدافه و غاياته ، في امريكا لوحدها أكثر من 600 فرقة دينية انبثقت عن المسيحية فقط!!!
    5. (instrumentalism ) أدخل ديوي فكرة في غاية الوضوح و الأهمية:
    استخدم كلمتين قريبتين من قلب الأمريكيين هما العلم و الديمقراطية. ديوي يطالب ببناء مجتمع ديمقراطي و فلسفة علمية ، كما ينادي بإرساء توازن بين قيمة الفرد مع قيمة الجماعة والمجتمع . برأي ديوي ، النظام الصحيح هو الذي يُحقق المرونة بعلاقة الفرد بالمجتمع . و هكذا منح الحرية المطلقة للفرد بالخروج على مفاهيم المجتمع و تبديلها لما يتناسب و مصالحة ، و على المجتمع أن يقبل ذلك بمرونة و يستفيد منها.

    هكذا بدلا من أن يكون الدين نظاما قيميّا للمجتمع و يصبح مرجعية أخلاقية فردية و اجتماعية ، تضبط التوازن الداخلي للفرد و للمجتمع ، أصبح الدين و المجتمع (معا) أداة يتم إدخال التحسينات عليها لتقوم بوظيفتها على وجه أفضل ، من أجل تلبية حاجات الفرد الأخلاقية التي تتغير تبعا للمنفعة الفردية و المصالح. ثمّ تطوّرت هذه الأداة لتصبح أداة لتحديد الاهداف السياسية و الاقتصادية للأمة بأسرها.
    و أبعد من ذلك أيضا ، إذ أصبحت مهمّة الفلسفة نقض القيم الحالية (الحاضرة) في المجتمع و البحث عن قيم جديدة تواكب التغيرات المستجدّة في الحياة .

    نرى كيف شملت الديناميكية و الحركة إلى الأمام ، كلّ شيء ، الفرد والمجتمع و الدولة و الدين و الفلسفة و النظام القيمي و الاخلاقي و السياسةو الاقتصاد
    .

    6. (structuralism ) أدخل شتراوس الألماني الفرنسي اليهودي الهارب من النازية إلى أمريكا فكرة مهمّة:
    إذا كانت الحقيقة تثير حفيظة العامة من الناس ، يجب أن تنحصر ضمن فئة محدودة من الساسة ، فإذا تطلّب الأمر منهم أن يكذبوا ، فلا ضير في ذلك طالما كان الهدف هو الحفاظ على استقرار المجتمع.
    و هنا و بهذا بدأت تتبلور فلسفة الدّعاية و الإعلام و إحكام الطوق على الإنسان ، إذ أصبح الإنسان يُفبرك ، يُصنّع كما تريده المؤسسات الاقتصادية الكبرى بعد أن اخضعت الدين و القيم و قبضت على السلطة .
    و هذا بحث منفصل في حدّ ذاته ، أضاءه تماما هابرماز في كتابه الميدان العام و كذلك هوركماير في كتابه الإنسان ذو الإتّجاه الواحد.

    هنا الكارثة ، إذ و لأول مرّة يصبح الإنسان نفسه أداة ، بعد أن كان قيمة و غاية في حدّ ذاته ، يصبح أداة ، تخضع لمفاهيم البراغماتية و تطلّعاتها ، يخضع لقوانيين المنفعة و العملانية و متغيّراتها (الدينامية) ، فيصبح التّلاعب بالإنسان ، و استغلاله ، و فبركته و تصنيعه و إخضاعه لبرامج الإعلام و الدّعاية ، أمرا يمارسعلى مدار الساعة ، يصبح الإجرام و المجازر و نشر الأوبئة و القنبلة النووية و الإبادة ، كلّها احتمالات واردة ، و مغطاة أخلاقيا ، يتمّ ارتكابها بدمّ بارد ، و لتدعيم التغطية الأخلاقية ، يُسحب الدين هنا و يجنّد في ايديولوجيا محبوكة جيّدا (أنظر موضوع تسقط الأندلس و تحيا أمريكا).
    أنجز الأمريكيون بذلك إخضاع الدينللفلسفة و إخضاع الدين و الفلسفة لمصالحهم ، فتحولت كل القيم إلى أدواتبما في ذلك الايمان و الاخلاق و الفكر ..

    هذه هي البراغماتية الأمريكية في مفاهيمها الفلسفية التي تقوم عليها حقيقة.
    الا نستطيع تتبع السياسة الأمريكية و فلسفتها الاقتصادية و معالجتها للقضايا الإنسانية الكبرى مثل العلم و المعرفة و الفن و التعليم و التكنولوجيا على ضوء ما تقدم من شروحات حول الفلسفة و الدين؟؟
    نستطيع ... خطوة خطوة ، و موقفا موقف ، كأننا أمام سطور في كتاب مفتوح ، بمنتهى الوضوح...


    انتهى

    تعليق

    • حكيم عباس
      أديب وكاتب
      • 23-07-2009
      • 1040

      #3
      أقتبس هنا من الموضوع الفقرة الأخيرة :- " .....هنا الكارثة ، إذ و لأول مرّة يصبح الإنسان نفسه أداة ، بعد أن كان قيمة و غاية في حدّ ذاته ، يصبح أداة ، تخضع لمفاهيم البراغماتية و تطلّعاتها ، يخضع لقوانيين المنفعة و العملانية و متغيّراتها (الدينامية) ، فيصبح التّلاعب بالإنسان ، و استغلاله ، و فبركته و تصنيعه و إخضاعه لبرامج الإعلام و الدّعاية ، أمرا يمارس على مدار الساعة ، يصبح الإجرام و المجازر و نشر الأوبئة و القنبلة النووية و الإبادة ، كلّها احتمالات واردة ، و مغطاة أخلاقيا ، يتمّ ارتكابها بدمّ بارد ، و لتدعيم التغطية الأخلاقية ، يُسحب الدين هنا و يجنّد في ايديولوجيا محبوكة جيّدا (أنظر موضوع تسقط الأندلس و تحيا أمريكا) "

      من أجل فهم ما ورد أعلاه في الاقتباس ، لا بدّ من الخوض في الفلسفات و التيارات الفكرية التي بُنيت عليها البراغماتية الأمريكية ، التي بدورها تُشكّل النّظام الذي تسير وفق ضوابطه السياسة الخارجية الأمريكية ، هذه (السياسة الخارجية الأمريكية) هي التي تعنينا مباشرة ، إذ أنّها تتدخل في أدق تفاصيل حياتنا اليومية ، ناهيك عن قضايانا الوطنية و القومية الكبرى ، هذا مبرّر كافي للدّراسة و البحث في هذا المجال ، و الذي على أساسه يجب فهم الخصم ، و فهم الخصم جزء لا يتجزّأ من مواجهته و الوقوف بوجهه و خوض النّضال ضدّه على جميع الأصعدة ، و هذا أقل ما يمكن.
      على ما أظن لذلك جاء العنوان "تفكيك" مفاهيم البراغماتية الأمريكية..

      تعليق

      يعمل...
      X