موضوع الندوة في المركز الصوتي التي انعقدت يوم الأربعاء الموافق 28/7/2010
تفكيك مفاهيم البراغماتية الأمريكية
نَارسيساس (Narcissus) شاب صيّاد يوناني جميل كما تقول الأسطورة الإغريقية ، وقع في حب صورته في الماء ، عشقها ، فغدى أسيرا لهذا الحب ، ضعف جسده و التوى و تحوّل إلى "نرجسة" ، هكذا أصبحنا نسمّي من يُفتن بنفسه "نرجسي" .
أوفيد أو أفيديوس الشاعر الروماني المشهور صاحب قصائد هيرويديس (البطولة" و أموريس "الحب" و آرس أموريا (فن الحب) وضع له نهاية حزينة .. الانتحار.
لاحظوا عشق النّفس لحدّ الإنتحار ، رمز آخذه لدلالاته ، أمريكا تبدو لي صورة مضخمة جدا عن الصيّاد اليوناني المفتون بنفسه نارسيساس الذي رسمه الفنّان الايطالي "كرافاجيو" في القرن السادس عشر في لوحة فنيّة بديعة ، رائعة ، لكنّها لم تشفع له و لن تشفع لأمريكيا أيضا.
جوزيف كونراد : روائي أوكراني بولوني فرنسي بريطاني و في النهاية أمريكي ! من رواياته "أطفال البحر" التي أعيد نشرها في حياته في نهاية القرن التاسع عشر بعنوان " The nigger of the Narcissus" .
نرجس ، إسم السفينة ، و "الأسود" هو أحد أبطال الرواية ، بائع تاجر أسود له أصول هندية ، يعمل ما بين بومبي في الهند و لندن. مقدّمة الرواية بقلم الروائي نفسه ، تعتبر بيان ، إعلان رسمي لتبني الإنطباعية في الأدب الرّوائي لأوّل مرّة و بكلّ جرءة ، لذا ترجمت للفرنسية سريعا. كون الرّجل "الأسود" بائع ، فكلّما مكثت السفينة "نرجس" مدّة أطول في الميناء كلمّا باع أكثر من بضائعه ، فظهرت في الرواية هذه العبارة : (more days, more dollars) ، رغم أن الرواية نشرت في بريطانيا و ايرلاندا و أمريكا في نفس الفترة الزمنية تقريبا ، و ترجمت إلى الفرنسية فورا (بسبب الإنطباعية و التي كانت تشغل فرنسا) إلاّ أنّ أيا من جمهور المتلقين في هذه الدّول ، لم يقتبس هذه العبارة في حياته اليومية ، سوى الجمهور الأمريكي ، أصبحت متداولة بين النّاس ، فيما بعد حوّرت لصيغة أبسط و أسهل كما هو الحال عند الشعوب قاطبة ، تجنح العامة عادة لتبني أشكال و صياغات أبسط و أسهل و أكثر مباشرة في التعبير و ايصال المعنى ، فتحوّلت هذه العبارة ، لتصبح:
(another day another dollar) ، ثمّ ظهرت في بعض الأعمال الأدبية الخفيفة و في الأغاني ثم عمّت و انتشرت و أصبحت علامة مميّزة للأمريكان ، أصبحت نوع من التّعريف بهم ، عندما نسمعها لا يتبادر لذهننا إلاّ الأمريكي.
أن تأسف في نهاية اليوم لعمرك الذي نقص يوما فينقبض صدرك ، شيء عام مشترك عند كل البشر. عند المساء قبيل الغروب ، سحابة من الحزن تستوطن النفس ، أمّا أن تُعزّي نفسك و تواسيها قائلا : لا عليك ، غدا سيكون يوما جديدا حاملا معه دولارا آخر !! فهذا ما يجب الوقوف عنده. الغد .. لا يعني شيئا إلا بما سيحمله لنا ، هذا يبدو صحيحا و متّزنا، أمّا أن تكون هديّة اليوم الجديد دولارا !! أن تختزل كلّ ما يحمله الغد للدولار!! أن تجسد قيمة الأشياء التي ستأتيك مفرحة بالغد بالدولار!! أن يصبح الدولار وحدة قياس لقيمة الأشياء ، أن تقاس الأشياء كلّها بالقيمة المادية المباشرة ، أن تنحسر كلّ القيم الأخرى و تتراجع للخلف و يتقدّم الدولار!! هذا كلّه له معنى واحدا ، المنفعة، الفائدة المادية المباشرةالعائدة على الفرد
لم يلاحظ الجمهور العريض في مختلف الدّول هذه الجملة غير الأساسية في رواية كونراد ، لم يقتبسها أحد و لم يتمّ تداولها في الحياة اليومية بين الأفراد في علاقاتهم اليومية ، لكن في أمريكا حصل هذا .. ما يؤشر إلى أن هناك توافقا ، أو استحسانا ، إذ رأى الملتقي الأمريكي نفسه في هذه الجملة ، رآها تمثّل جزءا من ذهنيته ، من عصب الحياة عنده ، فهل حقا المنفعة الشخصية هي عصب رئيسي من أعصاب الحياة هناك؟
و هل هي جزء من التكوين الشخصي و الذهني للأمريكي.؟
لنرى في تاريخ أمريكا و منذ لحظة اكتشافها ، هل لهذا العنصر "المنفعة الشخصية" جذور واضحة يمكن الاتّكاء عليها ؟
أعيد هنا بعض ما قلته في موضوع "تسقط الأندلس و تحيا أمريكا"
بعد الموجة الأولى من المهاجرين ، انتشرت في عموم أوروبا أخبار الأرض الجديدة ، خيراتها و كنوزها و أنهار ذهبها و ثرواتها الخيالية التي لا يمكن تصوّرها ، داعب الحلم الناس ، الثراء ، التّحول فجئة من صعلوك إلى ارستقراطي في شوارع باريس و مسارحها و كبريهاتها و صالوناتها ، حلم الخلاص من القوانين و جمودها ، من قسوة الحياة و سوداويّتها ، الهروب من الحرب و ويلاتها ، حلم أن تستيقظ صباحا فلا ترى الجوع و الأوبئة و لا رجال محاكم التفتيش ، يفتشون في دماغك ، لعلك تحمل شيئا يخالف الكهنوت الكاثوليكي .. حلم أن تكون لك فرصة أخرى في هذه الحياة غير الفرصة التي أتاحها لك (الرّب (في أوروبا ، حلم يختصر كلّ ما تقدّم ، حلم الحريّة و الكنز، الحرية و فرصة للثراء ، هكذا صارت أمريكا أرض الأحلام ، أرض الحريّة ، أرض الفرص الذهبية.
حملت لنا الأفلام الأمريكية ، خاصة أفلام الكاوبوي ، كيف أن همّ رجل الكاوبوي و، الرّجال الباحثين عن الذهب و الثراء ، قُطّاع الطرق و اللّصوص ، كيف يعلنون مباشرة و صراحة عن أهدافهم الرئيسية في الحياة ، عن أحلامهم الشخصية المستحوذة و المسيطرة عليهم ، الثراء لكي يعودوا لباريس !!
هذا في منتهى الوضوح ، معظم الأعمال الروائية و الأدبية من تلك الفترة ، تُنسج حول هذا الحلم ، حول هذه العقدة. إذن القدوم لأمريكا هو لمنفعة شخصية ، ثم العودة و التّمتع بما كان الأوروبي الفقير المسحوق محروما منه .
فيما بعد أصبح النّظام الاقتصادي و الاجتماعي الأمريكي نفسه آلة جذب أخرى ، فتوجّه لهناك المثقفون و المفكرون و الأدباء و العلماء و الباحثون و الدارسون ، كلّ من وجد عقبات البيروقراطية في بلده ، الظلم من مؤسسات بلاده و مراكزها التعليمية و الأكادميية ، كل من لم تستوعبه بلده ، شدّ الرّحال إلى أمريكا ، إذن أيضا في هذه الفئات ، إلى جانب الدّوافع العلمية المحضة ، أو الفكرية المحضة ، التي لا يمكن إنكارها ، يوجد أيضا عاملا إضافيا و هوالمنفعةالشخصية.
المنفعة الشخصية ، أو الفائدة الشخصية التي يسعها لها الإنسان ، لا يصل لها ، كما يصل محطة القطار مثلا ، ما عليه إلاّ أن يسير و سيصل ، ما عليه إلى أن يذهب لأمريكا و سيحصل على مبتغاه ، الأمر ليس كذلك ، إذ لا بدّ من و سائل و أدوات توصلك لهذه الفائدة ، بها تستطيع تخطّي العراقيل و العقبات في طريقك لجني الثمار؟
ما هي العقبات التي يمكن أن تقف أمامك فتعوق وصولك الهدف ؟
شخص يريد الوصول للفائدة ، لمبتغاه النفعي فعليه أن يعمل ، أليس كذلك؟
ماذا يعمل؟ و كيف سيعمل ؟
هذان سؤالان أساسيّان ، هما من سيحدّد كل شيء فيما بعد .
هل كلّ مجالات العمل مفتوحة أمام الإنسان ؟
طبعا لا ، إذ لا بدّ للعمل أن يكون منسجما مع النظام القيمي للمجتمع و النظام القيمي للفرد ، كما أن وسائل العمل نفسه ، يجب أن تكون مبرّرة أخلاقيا و قانونيا ، إضافة إلى أن العمل و نتائجه يجب أن لا تحط من قيمة و قدر الإنسان ، فالإنسان بحد ذاته قيمة و ليس وسيلة ، ليس أداة.
ما دام الأمر كذلك ستكون الموعقات المحتملة نحو العمل الحر الذي من المفترض أن يؤدي للمنفعة ، للفائدة الشخصية على النّحو التالي:
يجب تبرير المنفعة ، بدلا من أن تظهر شخصية ، فردية ، أنانية ، يجب أن تكون منفعة عامة و إلا سقطت وفق المعايير القيمية و عمل الآخرون على إفشالها، إذن النظام القيمي الفردي و الجمعي هو عائق محتمل أمام العمل الحر ، البعد الاخلاقي عائق محتمل و كذلك الدين و القانون.
جميع هذه الركائز يجب التّوافق معها كي نتمكّن من العمل و الوصول للمنفعة .
إذن هي عقبات محتملة ، إذا وقفت هذه العقبات في طريقك ، لن تتمكن من العمل ، ستفشل و لن تصل للمنفعة أو الفائدة المرجوّة.أمّا إن استطعت الانسجام و التّوافق معها ، أو التحايل عليها ، أو تجاوزها بأي شكل من الأشكال ، بما لا يثيرها ، فستنجح و ستصل ، عندها ستكون إنسانا ناجحا ، عمليا ، ميدانيا ، قادرا على ابداع وسائل و أساليب تمكّنك من النّجاح.
إذن الصفة الثانية التي نبحث عنها في البراغماتية الأمريكية هي العملانية . الصفة الأولى كانت المنفعة ، الآن في الطريق إلى تحقيق المنفعة يُفرض عليك أن تكون عملانيّا ، تتخطى العقبات و الحواجز التي قد تظهر أمامك.
في الجزء التالي سنرى كيف رست مفاهيم النّفعية ، و كيف تمّ تجاوز العقبات المحتملة ، فالنّفعية كما سنرى ، بُنيت على عدّة فلسفات و تيارات فكرية ، بطريقة استباحت فيها العوائق المحتملة (الدين ، القانون ، الاخلاق) و أسست لتغطية أخلاقية جديدة ، بهذا صارت البراغماتية مذهب متكامل ، ليس سياسيا أو اقتصاديا فحسب ، بل اجتماعيا و إداريا و قانونيا و معايير أخلاقية و دساتير و ماكينة إعلامية و دعائية جبارة ، و ايديولوجيا و مفاهيم عن الإنسان نفسه و الكون و الحياة ...الخ ، تتحكّم بحياة الإنسان إلى أدقّ التّفاصيل ، بل تطوّقه من جميع الجوانب و توجّهه و تبرمجه و تبني مفاهيمه و ذائقته و تطلّعاته و أحلامه ، و جنّدت لهذا نظاما فلسفيا متكاملا . سنوضّح كلّ هذا في الجزء التالي.
........ // يتبع في الصفحة التالية
أوفيد أو أفيديوس الشاعر الروماني المشهور صاحب قصائد هيرويديس (البطولة" و أموريس "الحب" و آرس أموريا (فن الحب) وضع له نهاية حزينة .. الانتحار.
لاحظوا عشق النّفس لحدّ الإنتحار ، رمز آخذه لدلالاته ، أمريكا تبدو لي صورة مضخمة جدا عن الصيّاد اليوناني المفتون بنفسه نارسيساس الذي رسمه الفنّان الايطالي "كرافاجيو" في القرن السادس عشر في لوحة فنيّة بديعة ، رائعة ، لكنّها لم تشفع له و لن تشفع لأمريكيا أيضا.
جوزيف كونراد : روائي أوكراني بولوني فرنسي بريطاني و في النهاية أمريكي ! من رواياته "أطفال البحر" التي أعيد نشرها في حياته في نهاية القرن التاسع عشر بعنوان " The nigger of the Narcissus" .
نرجس ، إسم السفينة ، و "الأسود" هو أحد أبطال الرواية ، بائع تاجر أسود له أصول هندية ، يعمل ما بين بومبي في الهند و لندن. مقدّمة الرواية بقلم الروائي نفسه ، تعتبر بيان ، إعلان رسمي لتبني الإنطباعية في الأدب الرّوائي لأوّل مرّة و بكلّ جرءة ، لذا ترجمت للفرنسية سريعا. كون الرّجل "الأسود" بائع ، فكلّما مكثت السفينة "نرجس" مدّة أطول في الميناء كلمّا باع أكثر من بضائعه ، فظهرت في الرواية هذه العبارة : (more days, more dollars) ، رغم أن الرواية نشرت في بريطانيا و ايرلاندا و أمريكا في نفس الفترة الزمنية تقريبا ، و ترجمت إلى الفرنسية فورا (بسبب الإنطباعية و التي كانت تشغل فرنسا) إلاّ أنّ أيا من جمهور المتلقين في هذه الدّول ، لم يقتبس هذه العبارة في حياته اليومية ، سوى الجمهور الأمريكي ، أصبحت متداولة بين النّاس ، فيما بعد حوّرت لصيغة أبسط و أسهل كما هو الحال عند الشعوب قاطبة ، تجنح العامة عادة لتبني أشكال و صياغات أبسط و أسهل و أكثر مباشرة في التعبير و ايصال المعنى ، فتحوّلت هذه العبارة ، لتصبح:
(another day another dollar) ، ثمّ ظهرت في بعض الأعمال الأدبية الخفيفة و في الأغاني ثم عمّت و انتشرت و أصبحت علامة مميّزة للأمريكان ، أصبحت نوع من التّعريف بهم ، عندما نسمعها لا يتبادر لذهننا إلاّ الأمريكي.
أن تأسف في نهاية اليوم لعمرك الذي نقص يوما فينقبض صدرك ، شيء عام مشترك عند كل البشر. عند المساء قبيل الغروب ، سحابة من الحزن تستوطن النفس ، أمّا أن تُعزّي نفسك و تواسيها قائلا : لا عليك ، غدا سيكون يوما جديدا حاملا معه دولارا آخر !! فهذا ما يجب الوقوف عنده. الغد .. لا يعني شيئا إلا بما سيحمله لنا ، هذا يبدو صحيحا و متّزنا، أمّا أن تكون هديّة اليوم الجديد دولارا !! أن تختزل كلّ ما يحمله الغد للدولار!! أن تجسد قيمة الأشياء التي ستأتيك مفرحة بالغد بالدولار!! أن يصبح الدولار وحدة قياس لقيمة الأشياء ، أن تقاس الأشياء كلّها بالقيمة المادية المباشرة ، أن تنحسر كلّ القيم الأخرى و تتراجع للخلف و يتقدّم الدولار!! هذا كلّه له معنى واحدا ، المنفعة، الفائدة المادية المباشرةالعائدة على الفرد
لم يلاحظ الجمهور العريض في مختلف الدّول هذه الجملة غير الأساسية في رواية كونراد ، لم يقتبسها أحد و لم يتمّ تداولها في الحياة اليومية بين الأفراد في علاقاتهم اليومية ، لكن في أمريكا حصل هذا .. ما يؤشر إلى أن هناك توافقا ، أو استحسانا ، إذ رأى الملتقي الأمريكي نفسه في هذه الجملة ، رآها تمثّل جزءا من ذهنيته ، من عصب الحياة عنده ، فهل حقا المنفعة الشخصية هي عصب رئيسي من أعصاب الحياة هناك؟
و هل هي جزء من التكوين الشخصي و الذهني للأمريكي.؟
لنرى في تاريخ أمريكا و منذ لحظة اكتشافها ، هل لهذا العنصر "المنفعة الشخصية" جذور واضحة يمكن الاتّكاء عليها ؟
أعيد هنا بعض ما قلته في موضوع "تسقط الأندلس و تحيا أمريكا"
بعد الموجة الأولى من المهاجرين ، انتشرت في عموم أوروبا أخبار الأرض الجديدة ، خيراتها و كنوزها و أنهار ذهبها و ثرواتها الخيالية التي لا يمكن تصوّرها ، داعب الحلم الناس ، الثراء ، التّحول فجئة من صعلوك إلى ارستقراطي في شوارع باريس و مسارحها و كبريهاتها و صالوناتها ، حلم الخلاص من القوانين و جمودها ، من قسوة الحياة و سوداويّتها ، الهروب من الحرب و ويلاتها ، حلم أن تستيقظ صباحا فلا ترى الجوع و الأوبئة و لا رجال محاكم التفتيش ، يفتشون في دماغك ، لعلك تحمل شيئا يخالف الكهنوت الكاثوليكي .. حلم أن تكون لك فرصة أخرى في هذه الحياة غير الفرصة التي أتاحها لك (الرّب (في أوروبا ، حلم يختصر كلّ ما تقدّم ، حلم الحريّة و الكنز، الحرية و فرصة للثراء ، هكذا صارت أمريكا أرض الأحلام ، أرض الحريّة ، أرض الفرص الذهبية.
حملت لنا الأفلام الأمريكية ، خاصة أفلام الكاوبوي ، كيف أن همّ رجل الكاوبوي و، الرّجال الباحثين عن الذهب و الثراء ، قُطّاع الطرق و اللّصوص ، كيف يعلنون مباشرة و صراحة عن أهدافهم الرئيسية في الحياة ، عن أحلامهم الشخصية المستحوذة و المسيطرة عليهم ، الثراء لكي يعودوا لباريس !!
هذا في منتهى الوضوح ، معظم الأعمال الروائية و الأدبية من تلك الفترة ، تُنسج حول هذا الحلم ، حول هذه العقدة. إذن القدوم لأمريكا هو لمنفعة شخصية ، ثم العودة و التّمتع بما كان الأوروبي الفقير المسحوق محروما منه .
فيما بعد أصبح النّظام الاقتصادي و الاجتماعي الأمريكي نفسه آلة جذب أخرى ، فتوجّه لهناك المثقفون و المفكرون و الأدباء و العلماء و الباحثون و الدارسون ، كلّ من وجد عقبات البيروقراطية في بلده ، الظلم من مؤسسات بلاده و مراكزها التعليمية و الأكادميية ، كل من لم تستوعبه بلده ، شدّ الرّحال إلى أمريكا ، إذن أيضا في هذه الفئات ، إلى جانب الدّوافع العلمية المحضة ، أو الفكرية المحضة ، التي لا يمكن إنكارها ، يوجد أيضا عاملا إضافيا و هوالمنفعةالشخصية.
المنفعة الشخصية ، أو الفائدة الشخصية التي يسعها لها الإنسان ، لا يصل لها ، كما يصل محطة القطار مثلا ، ما عليه إلاّ أن يسير و سيصل ، ما عليه إلى أن يذهب لأمريكا و سيحصل على مبتغاه ، الأمر ليس كذلك ، إذ لا بدّ من و سائل و أدوات توصلك لهذه الفائدة ، بها تستطيع تخطّي العراقيل و العقبات في طريقك لجني الثمار؟
ما هي العقبات التي يمكن أن تقف أمامك فتعوق وصولك الهدف ؟
شخص يريد الوصول للفائدة ، لمبتغاه النفعي فعليه أن يعمل ، أليس كذلك؟
ماذا يعمل؟ و كيف سيعمل ؟
هذان سؤالان أساسيّان ، هما من سيحدّد كل شيء فيما بعد .
هل كلّ مجالات العمل مفتوحة أمام الإنسان ؟
طبعا لا ، إذ لا بدّ للعمل أن يكون منسجما مع النظام القيمي للمجتمع و النظام القيمي للفرد ، كما أن وسائل العمل نفسه ، يجب أن تكون مبرّرة أخلاقيا و قانونيا ، إضافة إلى أن العمل و نتائجه يجب أن لا تحط من قيمة و قدر الإنسان ، فالإنسان بحد ذاته قيمة و ليس وسيلة ، ليس أداة.
ما دام الأمر كذلك ستكون الموعقات المحتملة نحو العمل الحر الذي من المفترض أن يؤدي للمنفعة ، للفائدة الشخصية على النّحو التالي:
يجب تبرير المنفعة ، بدلا من أن تظهر شخصية ، فردية ، أنانية ، يجب أن تكون منفعة عامة و إلا سقطت وفق المعايير القيمية و عمل الآخرون على إفشالها، إذن النظام القيمي الفردي و الجمعي هو عائق محتمل أمام العمل الحر ، البعد الاخلاقي عائق محتمل و كذلك الدين و القانون.
جميع هذه الركائز يجب التّوافق معها كي نتمكّن من العمل و الوصول للمنفعة .
إذن هي عقبات محتملة ، إذا وقفت هذه العقبات في طريقك ، لن تتمكن من العمل ، ستفشل و لن تصل للمنفعة أو الفائدة المرجوّة.أمّا إن استطعت الانسجام و التّوافق معها ، أو التحايل عليها ، أو تجاوزها بأي شكل من الأشكال ، بما لا يثيرها ، فستنجح و ستصل ، عندها ستكون إنسانا ناجحا ، عمليا ، ميدانيا ، قادرا على ابداع وسائل و أساليب تمكّنك من النّجاح.
إذن الصفة الثانية التي نبحث عنها في البراغماتية الأمريكية هي العملانية . الصفة الأولى كانت المنفعة ، الآن في الطريق إلى تحقيق المنفعة يُفرض عليك أن تكون عملانيّا ، تتخطى العقبات و الحواجز التي قد تظهر أمامك.
في الجزء التالي سنرى كيف رست مفاهيم النّفعية ، و كيف تمّ تجاوز العقبات المحتملة ، فالنّفعية كما سنرى ، بُنيت على عدّة فلسفات و تيارات فكرية ، بطريقة استباحت فيها العوائق المحتملة (الدين ، القانون ، الاخلاق) و أسست لتغطية أخلاقية جديدة ، بهذا صارت البراغماتية مذهب متكامل ، ليس سياسيا أو اقتصاديا فحسب ، بل اجتماعيا و إداريا و قانونيا و معايير أخلاقية و دساتير و ماكينة إعلامية و دعائية جبارة ، و ايديولوجيا و مفاهيم عن الإنسان نفسه و الكون و الحياة ...الخ ، تتحكّم بحياة الإنسان إلى أدقّ التّفاصيل ، بل تطوّقه من جميع الجوانب و توجّهه و تبرمجه و تبني مفاهيمه و ذائقته و تطلّعاته و أحلامه ، و جنّدت لهذا نظاما فلسفيا متكاملا . سنوضّح كلّ هذا في الجزء التالي.
........ // يتبع في الصفحة التالية
تعليق