السوفسطائيون .. وسقراط
ظهرت في بلاد اليونان القديمة ضمن الأوساط الاجتماعية الأكثر تهذيباً في القرن الخامس قبل الميلاد حاجة ملحّة الى مزيد من التعليم العالي، إضافة الى ما كان المبتدئون يتلقّونه من تعليم تقليدي، يتألف من الموسيقى والشعر والدراما والألعاب الرياضية ونحوها ... فتصدّى لتلك المهمّة جملة من الأساتذة الجامعيين المتجوّلين، الذين كانوا ينتقلون من بلد الى آخر لإلقاء محاضراتهم والتي اتخذت تعلم فن الخطابة وطرق النجاح في الحياة موضوعاً لها، واتخاذ هذا الفن وسيلة للارتقاء الى أعلى المناصب الاجتماعية والسياسية، إذ لا طريق الى التقدم والنجاح إلا التأثير في الناس ولا يمكن التأثير في الناس إلا من خلال البراعة اللفظية والقدرة على المماحكة والمراوغة التي تجعل من الإنسان سيداً لكل مجلس.
وقد أطلق على هؤلاء اسم (السوفسطائيين) والتي كانت تعني شيئاً يشبه ما تعنيه كلمة (الأساتذة)، وكانوا يلقون محاضراتهم تلك في مقابل أجور يتقاضونها من طلابهم، وكانت فحوى دروسهم تلك هي تعلم المغالطات واحتقار الفلسفة الحقة، ووصفها بالكذب والخيال، ووصف أصحابها بالمشعوذين الذين لا يملكون سوى كلام فارغ ظاهره امتلاء وحقيقته هواء، ويسوقون دليلاً على ذلك بأنهم - أي السوفسطائيين - أقدر من أولئك على التلاعب بالألفاظ وتأليف الأقيسة الصورية التي لا تمت الى الواقع بسبب، وأنهم يستطيعون أن يجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً، ويروى لذلك حولهم بعض الأمثلة للتقريب ذكرها بعض المفكرين، نذكر منها:
(1) رأى سوفسطائي صورة فرس بيد شخص، فقال له:
- أتريد أن أثبت لك بالبرهان أن هذا الرسم صاهل؟
- مع الشكر.
- هذا فرس، وكل فرس صاهل، فهذا صاهل.
"وإذا حاول هذا السفسطائي أن يثبت الصهيل الى رسم الفرس، فإن بعض كتاب هذا العصر يحاول أن يجعله السابق في الحلبات".
(2) ومنها قولهم:
في الحائط فأر، وللفأر آذان، فللحائط آذان.
"وهذا القياس أشبه بقول القائلين: في الجزائر بترول، والبترول ملك فرنسا، فالجزائر ملك فرنسا"
(3) وكان سوفسطائي يتحدث مع شاب أثيني، فقال له:
- هل أبرهن أن أباك كلب؟
- وكيف ذلك؟
- هل عندك كلب؟
- أجل.
- هل للكلب جراء؟
- أجل.
- إذن، فالكلب أب !
- بكل تأكيد
وعندما انتهى السفسطائي من هذا الاستنطاق للشاب قال:
- إذن الكلب أبٌ، وهو لك، فالكلب أبٌ لك.
ولعلك لو بحثت في هذا الملتقى لا تعدم من يتكلم بنفس هذا القياس.
وإثر تلك المحاضرات والادعاءات والمغالطات التي كان يلقيها السوفسطائيين لطلبتهم شاعت (السفسطة) والتي ألقت بظلالها على الحياة الاجتماعية والسياسية في اليونان وأدت الى الازدراء بقيم الإنسان العليا لا سيما احترام العقل ومكارم الأخلاق، مما تطلب الأمر إحداث نهضة فكرية وأخلاقية لإعادة الأمر الى نصابه، يقوم بها من يمتلك رصيداً فكرياً وأخلاقياً عالياً بالاضافة الى الحنكة في التعامل والحوار .. فكان سقراط.
يتبع ...
تعليق