راس القرد!!
بقلم: محمد هجرس **
جات الحزينة تفرح.. مالقيتلهاش مطرح!
هكذا كانت تقول جدتي ـ الله يرحمها ـ وهي تمصمص شفتيها عند أي موقف لا يعجبها، ثم تكمل وهي تضحك:
ما قلت لهم.. دي راس قرد!
فلا أملك وأنا صغير لم أتجاوز الثامنة، إلا أن أبحث ببراءة عن هذا القرد، الذي كان يزور قريتنا كل أشهر مع عم "حسّونة القرداتي".. لا أذكر بالضبط إن كانت رأسه "حمرا" أم لا كما كانت تقول جدتي.. لكنني في كل الأحوال، عزمت على أن أتأكد عندما يزورنا المرة القادمة، وعندما جاء عم حسونة بعد أسابيع، جاء وحيداً وهو يجر سلسالاً خالياً، يحرّكه في الهواء، وما أن جلس أمام الباب.. حتى أجهش في البكاء..
ـ القرد ماااااات يا حاجّة.
هكذا قال، ثم أكمل بحسرة: لوحده كدا، لقيته نص الليل بيفرفر، قعد ينط يمين وشمال، حاولت معاه، أفهم إيه اللي جراله.. ما فيش فايدة.. ثم تساءل: ما تكونش عين وصابته؟
ضحكت جدتي قبل أن تداعبه مواسيةً: يمكن من كتر "نوم العازب" يا منيّل!
أمسك بعصاه وهو يخط طلاسما على الأرض، ثم أردف:
أبداً والله.. دانا حتى كنت بأفكر أجوّزه.. وقعدت أدور على "قردة" بنت أصول تنفع له!
وبينما ضربته جدتي بحصاة صغيرة على وجهه وقالت مازحة: مش لما تتجوز انت الأول يا مسخوط، أخذتُ أنا أهرش في قفاي محاولاً التذكر.. فيما طأطأ حسونة رأسة إلى الأرض قليلاً وأخذ يتمتم: ومين ح يرضى يجوّز بنته لواحد قرداتي يا خالة؟
ولأني لم أستوعب المشكلة الاجتماعية، أدركت أن مأساة عم حسونة، ليست فيمن تقبل به زوجاً، لكن ربما هناك أشياء أخرى، عندها تبرعت بطفوليتي الشقية وقلت له: يمكن علشان راسك مش حمرا يا عم حسّونة مش عارف تتجوز؟
هنا نهرتني جدتي، كذلك استشاط الرجل غضباً، وهب واقفاً وهو يكاد يضربني بعصاه ثم أردف: وحياة راس القرد لأشتكيك للحكومة!
هنا صرخت، فالحكومة هنا ليست إلا عم إبراهيم خفير قريتنا الذي كان يمشي بجسده الضخم في خيلاء، ويرعب من يراه، ببندقيته التي يحملها على كتفه الأيمن، فيما عمامته الكبيرة التي تجلل رأسه، تخفي صلعة تحمل كل مآسي الكرة الأرضية.
ذات مرّة وأنا ألعب الكرة، حاولت أن أركلها بشدة، فقادني الحظ السيء إلى أن تصطدم برأسه، تقع العمامة على الأرض، فيظهر ما تحتها أبيض من غير سوء، ما كان منه بعد أن صفّق الصغار لرؤية المشهد الكوميدي، إلا أن أمسك بالكرة، وصوب بندقيته عليها لتنفجر بطلق ناري، فزعت منه القرية وذهبت لأختبئ بعيداً خوفاً من علقة ساخنة تنتظرني أنا الطفل الصغير.
ارتجفت رعباً، فقد كانت تهمتي التي أقسم عم إبراهيم على أن يأخذ بثأره مني تتمثل في إهانة "الحكومة"..
لم أكن أعرف يومها.. يعني إيه كلمة إهانة، ولم أكن أعرف يعني إيه حكومة، ولم أكن أعرف يعني إيه رئيس الجمهورية، ولا رئيس الوزراء ولا الوزير ولا المحافظ..
كنت أعرف عم إبراهيم.. وبس! لذا أمرني والدي في جلسة صلح بالاعتذار له وأن "أبوس راسه" اقتربت من الرجل، وما أن تذكرت منظر "صلعته البهية" حتى انفجرت بالضحك، فما كان منه إلا أن لطمني على وجهي!
وهنا، شددت عم حسونة من جلبابه، محاولاً تقبيل يديه، أتمتم وأنا أبكي متوسلاً: هات راسك أبوسها
فأومأ رافضاً وهو ينصرف بعيداً.. لأكمل أنا في فزع:
والا أقول لك أبوس راس القرد!
لكزني بعصاه وهو يهرول، متمتماً ببضع كلمات لم أفهمها، لكنها كانت بالتأكيد يأساً من واقع مرير، فقد فيه مصدر رزقه.. القرد الذي لم يفرح به
وعندما كبرت عرفت فيما بعد عمق المأساة، وأن العملية ليست رأس قرد، وأنها ليست كما يفعل كثير منّا، مجرد نط ع الجبال، أو نوم عازب، أو تمثيلية بسيطة كثيراً ما نراها في الشارع أو المصلحة، أو في أي إدارة أو وزارة.
ـ ليست اختفاء زوجة تثير فتنة طائفية..
ـ وليست أزمة كيلو لحمة ارتفع ثمنه فوق 50 جنيه.. فلا يجد المحرومون ما "يمصمصونه" من فتات..
ـ وليست عملية نصب فقدت بريقها بعدما بعنا كل شيء.. واستولى أصحاب الكرافتات السوداء على كل شيء..
ـ وليست مجرد علقة أخدها مواطن على يد اتنين عساكر.. ومات.. بتقرير طبي عن لفة بانجو اتحشرت وما نزلتش!
ـ وليست لعبة 3 ورقات، في أي شارع أو حارة، أو شنطة يد يلطشها واحد حرامي في أوتوبيس مزدحم..
ـ ليست مجرد أمرأة تذبح زوجها بسكين، أو عاشق انتحر من فوق كوبري قصر النيل، ولا شباب تركوا مصيرهم بيد بحر أبيض أو أحمر أو أسود أو أزرق.. هربا من وطن أنكرهم، ولا مهاجرين فضلوا العدو في تل أبيب بعدما طفشهم القريب في القاهرة..
أنها حاجة تانية.. في مصر تانية، تجري وراء البقشيش والفهلوة و"فتح عينك تاكل ملبن"..
حاجة تانية خالص..
يا دي الكسوف..
ما ينفعش أقولها علشان الرقابة!!
ــــــــــــــــ
** كاتب صحافي مصري
mediasoso@yahoo.com
بقلم: محمد هجرس **
جات الحزينة تفرح.. مالقيتلهاش مطرح!
هكذا كانت تقول جدتي ـ الله يرحمها ـ وهي تمصمص شفتيها عند أي موقف لا يعجبها، ثم تكمل وهي تضحك:
ما قلت لهم.. دي راس قرد!
فلا أملك وأنا صغير لم أتجاوز الثامنة، إلا أن أبحث ببراءة عن هذا القرد، الذي كان يزور قريتنا كل أشهر مع عم "حسّونة القرداتي".. لا أذكر بالضبط إن كانت رأسه "حمرا" أم لا كما كانت تقول جدتي.. لكنني في كل الأحوال، عزمت على أن أتأكد عندما يزورنا المرة القادمة، وعندما جاء عم حسونة بعد أسابيع، جاء وحيداً وهو يجر سلسالاً خالياً، يحرّكه في الهواء، وما أن جلس أمام الباب.. حتى أجهش في البكاء..
ـ القرد ماااااات يا حاجّة.
هكذا قال، ثم أكمل بحسرة: لوحده كدا، لقيته نص الليل بيفرفر، قعد ينط يمين وشمال، حاولت معاه، أفهم إيه اللي جراله.. ما فيش فايدة.. ثم تساءل: ما تكونش عين وصابته؟
ضحكت جدتي قبل أن تداعبه مواسيةً: يمكن من كتر "نوم العازب" يا منيّل!
أمسك بعصاه وهو يخط طلاسما على الأرض، ثم أردف:
أبداً والله.. دانا حتى كنت بأفكر أجوّزه.. وقعدت أدور على "قردة" بنت أصول تنفع له!
وبينما ضربته جدتي بحصاة صغيرة على وجهه وقالت مازحة: مش لما تتجوز انت الأول يا مسخوط، أخذتُ أنا أهرش في قفاي محاولاً التذكر.. فيما طأطأ حسونة رأسة إلى الأرض قليلاً وأخذ يتمتم: ومين ح يرضى يجوّز بنته لواحد قرداتي يا خالة؟
ولأني لم أستوعب المشكلة الاجتماعية، أدركت أن مأساة عم حسونة، ليست فيمن تقبل به زوجاً، لكن ربما هناك أشياء أخرى، عندها تبرعت بطفوليتي الشقية وقلت له: يمكن علشان راسك مش حمرا يا عم حسّونة مش عارف تتجوز؟
هنا نهرتني جدتي، كذلك استشاط الرجل غضباً، وهب واقفاً وهو يكاد يضربني بعصاه ثم أردف: وحياة راس القرد لأشتكيك للحكومة!
هنا صرخت، فالحكومة هنا ليست إلا عم إبراهيم خفير قريتنا الذي كان يمشي بجسده الضخم في خيلاء، ويرعب من يراه، ببندقيته التي يحملها على كتفه الأيمن، فيما عمامته الكبيرة التي تجلل رأسه، تخفي صلعة تحمل كل مآسي الكرة الأرضية.
ذات مرّة وأنا ألعب الكرة، حاولت أن أركلها بشدة، فقادني الحظ السيء إلى أن تصطدم برأسه، تقع العمامة على الأرض، فيظهر ما تحتها أبيض من غير سوء، ما كان منه بعد أن صفّق الصغار لرؤية المشهد الكوميدي، إلا أن أمسك بالكرة، وصوب بندقيته عليها لتنفجر بطلق ناري، فزعت منه القرية وذهبت لأختبئ بعيداً خوفاً من علقة ساخنة تنتظرني أنا الطفل الصغير.
ارتجفت رعباً، فقد كانت تهمتي التي أقسم عم إبراهيم على أن يأخذ بثأره مني تتمثل في إهانة "الحكومة"..
لم أكن أعرف يومها.. يعني إيه كلمة إهانة، ولم أكن أعرف يعني إيه حكومة، ولم أكن أعرف يعني إيه رئيس الجمهورية، ولا رئيس الوزراء ولا الوزير ولا المحافظ..
كنت أعرف عم إبراهيم.. وبس! لذا أمرني والدي في جلسة صلح بالاعتذار له وأن "أبوس راسه" اقتربت من الرجل، وما أن تذكرت منظر "صلعته البهية" حتى انفجرت بالضحك، فما كان منه إلا أن لطمني على وجهي!
وهنا، شددت عم حسونة من جلبابه، محاولاً تقبيل يديه، أتمتم وأنا أبكي متوسلاً: هات راسك أبوسها
فأومأ رافضاً وهو ينصرف بعيداً.. لأكمل أنا في فزع:
والا أقول لك أبوس راس القرد!
لكزني بعصاه وهو يهرول، متمتماً ببضع كلمات لم أفهمها، لكنها كانت بالتأكيد يأساً من واقع مرير، فقد فيه مصدر رزقه.. القرد الذي لم يفرح به
وعندما كبرت عرفت فيما بعد عمق المأساة، وأن العملية ليست رأس قرد، وأنها ليست كما يفعل كثير منّا، مجرد نط ع الجبال، أو نوم عازب، أو تمثيلية بسيطة كثيراً ما نراها في الشارع أو المصلحة، أو في أي إدارة أو وزارة.
ـ ليست اختفاء زوجة تثير فتنة طائفية..
ـ وليست أزمة كيلو لحمة ارتفع ثمنه فوق 50 جنيه.. فلا يجد المحرومون ما "يمصمصونه" من فتات..
ـ وليست عملية نصب فقدت بريقها بعدما بعنا كل شيء.. واستولى أصحاب الكرافتات السوداء على كل شيء..
ـ وليست مجرد علقة أخدها مواطن على يد اتنين عساكر.. ومات.. بتقرير طبي عن لفة بانجو اتحشرت وما نزلتش!
ـ وليست لعبة 3 ورقات، في أي شارع أو حارة، أو شنطة يد يلطشها واحد حرامي في أوتوبيس مزدحم..
ـ ليست مجرد أمرأة تذبح زوجها بسكين، أو عاشق انتحر من فوق كوبري قصر النيل، ولا شباب تركوا مصيرهم بيد بحر أبيض أو أحمر أو أسود أو أزرق.. هربا من وطن أنكرهم، ولا مهاجرين فضلوا العدو في تل أبيب بعدما طفشهم القريب في القاهرة..
أنها حاجة تانية.. في مصر تانية، تجري وراء البقشيش والفهلوة و"فتح عينك تاكل ملبن"..
حاجة تانية خالص..
يا دي الكسوف..
ما ينفعش أقولها علشان الرقابة!!
ــــــــــــــــ
** كاتب صحافي مصري
mediasoso@yahoo.com
تعليق