قراءة لبعض قصائد مجموعة ‘‘شعرائيل‘‘ لتمام تلاوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مزن أتاسي
    عضو الملتقى
    • 07-01-2010
    • 46

    قراءة لبعض قصائد مجموعة ‘‘شعرائيل‘‘ لتمام تلاوي

    عن تمام تلاوي


    قراءة في بعض نصوص ‘‘شعرائيل‘‘

    ‘‘الذي نفتقده فعلا هو الموهبة القادرة على التحرك بين مختلف الأشكال، إن كنت شاعرا حقيقيا لن يعيقك الشكل عن تمرير شعريتك فيما تود قوله أو كتابته‘‘. الكلام للشاعر السوري تمام تلاوي من حوار أجراه معه الصحافي ‘‘محمد ديبو‘‘ منقول عن موقع ‘‘جهات الشعر، ولعله أوجز في هذا السطر – بتكثيف ودقة – الإشكاليات التي تطرحها ثنائية الشكل والمضمون: أيهما الأهم والأسبق، دون أن يكون لأي من أنصار الفريقين الكلمة الفصل، ولا ينبغي أن يكون له أصلا. نحن نعرف أنه لا يوجد أبدا قصيدا مكتملا يتطابق مع النموذج المتوقع في ذهن القارئ / المتلقي لكننا نعرف بالمقابل أن النص الحقيقي يستجيب لعملية النقد ويتكشّف عن جمالياته غبّ البحث في مكامن تلك الجماليات ومعرفة مصادرها، وقصائد تمام تلاوي – الحائز على الجائزة الثانية لمسابقة محمد الماغوط للشعر عام 2004 – هي من هذا النوع التي تفتح شهية النقد على البحث والنبش. تتألف مجموعته ‘‘شعرائيل‘‘ ،وهي الحائزة على الجائزة سابقة الذكر، من أربعة أقسام تحمل العناوين التالية: أقول لمن تبعوني: اسمعوني ويحتوي أربعة قصائد، عندما جاعوا جرحت لهم يدي ويحتوي على خمسة قصائد، الطوفان.. فالخروج ويحمل أربعة قصائد، والقسم الأخير الذي يحمل عنوان: مالي على الأرض من بعدي خليفة ويحتوي على خمس قصائد، وأخيرا المعراج ويحتوي على ثلاثة أسطر بيضاء في منتصف السطر الثاني فاصلة وفي النهاية إشارة إستفهام.

    تكتسي لغة القصائد وضوحا شعريا - إن صح التعبير - وغنائية عالية رفيعة بسبب موسيقى ‘‘التفعيلة‘‘ من جانب أول حيث يعتبر التلاوي من شعرائها، ولأسباب عديدة أخرى تتعلق بتوزيع الأسطر الشعرية ليس توزيعا عروضيا صرفا لايراعي الدفق الشعوري والاحساس بانتهائه بصرف النظر عن الوقفة العروضية ، بل إنه يستجيب تماما لحدسه لكي ‘‘يمرر شعريته‘‘ كما قال بنفسه، كما في المثال الآتي من قصيدة بعنوان: آخر حسرات الناصري:

    ألله كيف يصدقون، أنا الذي في العمر ما أحببت

    إمرأة ، وما من مرة شاهدت أنثى واشتهيت ندى بعشب

    صباحها، أو رف سرب غواية فيها وفياّ

    يفترق المقطع السابق عما قبله في توزيع الأسطر، فهو يبدو كما لو أنه يكتب نثرا، في أسلوب التدوير أولا، وفي كسره لتوقع القافية ثانيا، نلاحظ أيضا كيف تتصادى أو ‘‘تتناص‘‘ في النص السابق لغة القرآن كما هو واضح من العنوان وتمنحها شكلها الملائم للمواضيع المختارة فيها على جدول الاستبدال، لكنها تفترق عنه في التوجه والقصد، متخلية عن نبرة المباشرة والخطابة والوعظ، حاملة حرارتها العاطفية المتلبسة بلبوس صوفي ‘‘إيروسي‘‘ ، يتبدى في الدهاليز الذي يتمشى فيها الشاعر ،والطبقات الصوتية المنخفضة في الأعم الغالب التي تلائم حالة الناصري المتحسر على مضي العمر دون إمرأة أحبها، في قصيدته ‘‘شعرائيل‘‘ التي تحمل المجموعة اسمها، يجرب تلاوي أسلوبا شعريا مختلفا حيث تتبادل القوافي مواقعها فلا نصطدم بقافية واحدة موحدة للقصيدة تثوي تحت لوائها كما في آخر حسرات الناصري، وحيث الإيقاع يغتني ويصبح أكثر ثراء لأنه آت من مناحٍ مختلفة: القطع ،التدوير، التكميل، فالتتميم ومطابقتها مع مقتضى الحال وهو المقام الذي سيقت لأجله كما في المثال:

    جاءني ليلة السبت وقد ناموا جميعا

    جاءني كنت صغيرا

    كان مبتلّ الجناحين طويل اللحية البيضاء ملتفا

    بأوراق قديمة

    خلع العِمة واستسقى

    فعبّأت له خوفي وحاولت البكاء

    مدّد الأيمن فوق الطاولة

    قال: يا ابني لا تخف وانتزع الريشة هذي من جناحي

    قلت: من أنت وحدّقت بعينيه

    - ففاضت أعيني بالخوف إذ أدركتُ كم يشبهني لما أشيخ

    هو مشهد شعري بامتياز: للتكثيف، والبناء الصوتي للكلمات ومعناها السياقي: خلع العمة واستسقى، العلاقة المتبادلة بين ‘‘التشكيل الصوتي والمحتوى الشعري‘‘ بحسب ريتشاردز، الإعتام والضوء للمفردات: عبأت له خوفي، ثم القفلة المدهشة للمقطع التي تمنحه ذروة عالية. في ‘‘قصيدة القصائد‘‘ - وهي طويلة نسبيا – نجده يستعير قناع ‘‘سليمان وهدهده وحكايته مع بلقيس‘‘ ، ومن وراء هذا القناع يتماهى الشاعر مع سليمان، ويقص بالشعر حكاية عشقه الإيروسي، وتحتفل اللغة بصخب العلاقة المتبادلة بين حرارة العاطفة وصدقها مع قماشتها الخام ‘‘الجسد‘‘ ، لتنصب مرة كشلال هادر حين يكون الحكي عن الأحاسيس، وكجدول رقراق مرة أخرى حين تكون العاطفة هي المسيطرة من خلال التراكيب ، وصيغ التعبير التي تطول حين تريد الإفصاح عن وجودها كما في هذا المقطع:

    سيصدقون اليوم فيما يسمعون من الموسيقى في ذراعي، منذ دارت حول خصرك، فلأقل خصر الكمنجة، ولأقل ماتبصرون على شفاهي ليس تمرا، بل وصايا حلمتيها يوم أكملتا فطامي، ولأقل هذا المحار وهذه الأصداف عالقة بشَعري منذ نمت على شواطئ فخذها. أماّ اسمراري ذا، فبعد شروق سرتها، وهذي الزنبقات على جبيني ماتزال لأنني لمّا مرضت امتصت الحمّى بقبلتها عليه.

    يختزن المقطع السابق بلاغة بيانية وإبداعية عالية، من حيث التقديم والتأخير، والحذف والذكر، الفصل والوصل، الخبر والإنشاء، أما عن التصوير والأخيلة فهي من الجمال والجدة والابتكار بمكان ويكاد يكون المقطع بكامله تصويريا اختلط فيه تصوير الحسي بالحسي، والحسي بالذهني وبالعكس، أما قفلة المقطع البديعة فإن جمالها آت من العفوية الطفلة – إذا جاز التعبير – في استعادة مشهد رؤوم إذ تكذب الأم على طفلها حين تقنعه بأن قبلتها ستشفي جرحه. هذه قراءة بسيطة في مجموعة‘‘شعرائيل‘‘ لتمام تلاوي، ولاشك أنه يوجد الكثير من الكنوز المخبوءة التي تحتاج إلى من يفض ختمها، ولابد من كلمة أخيرة تقول – من وجهة نظر شخصية - بأن طيف الراحل محمود درويش يتمشى في دهاليز النص ‘‘التلاوي‘‘ ثاويا طيّ ‘‘التناص‘‘ الذي قلما يستطيع شاعر قارئ ومحب للنص الدرويشي من الفكاك منه.

يعمل...
X