ثمن الرائحة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • تاج الدين الموسى
    عضو الملتقى
    • 16-07-2010
    • 63

    ثمن الرائحة

    ثمن الرائحة

    عندما علمنا أن كيلو البطيخ، الذي نشتريه بخمس ليرات، يباع في " المركونة " بنصف ليرة، استأجرنا شاحنة صغيرة، صندوقها يتسع لطن واحد، وقصدنا المركونة..
    قال لي أبو العز، شريكي، إن سفرتنا ستكلف ألف ليرة: خمسمائة أجرة الشاحنة، وخمسمائة ثمن البطيخ.. ومثل هذا المبلغ كان متوفراً لدينا لأننا في كنا الأسبوع الأول من الشهر..
    اتفقنا أن نبيع كيلو البطيخ بأربع ليرات، أي أقل بليرة واحدة عن السعر الدارج، لنسيطر على السوق، ونسود فيه، وكي تنفد بضاعتنا بسرعة .. ثم إن ربح ثلاثة آلاف ليرة بالنقلة الواحدة يكفي، ويزيد، جدتي كان تقول لي عندما كنت أعتدي على دالية بيت عمني : " الطمع ضر ما نفع ".
    واتفقنا أيضاً أن نأخذ إجازة بلا راتب طيلة فصل الصيف، لنتفرغ لشؤون التجارة بالبطيخ.. أما موضوع الاستقالة، فقد أجلنا إثارته إلى وقت آخر.. ولماذا الوظيفة أصلاً إذا كنا سنوفر راتب الشهر من نقلة بطيخ واحدة ؟ وبخصوص الخيمة التي فكرنا في نصبها على الرصيف أمام مدخل البناية، فقد قررنا شراءها على عجل، لتكون مستقراً لنا ولبضاعتنا التي لن تقتصر على البطيخ فحسب، وإنما سيدخلها الخيار والكوسا والبندورة والعنب والتين والفليفلة بنوعيها الأخضر والأحمر، وغيرها من خضر الصيف، وفاكهته0
    وفي الطريق إلى المركونة فكرنا بأشياء كثيرة منها أننا سنقوم بتسديد الأقساط المترتبة علينا للجمعية التعاونية السكنية، وسننتهي من قرض مصرف التسليف الشعبي، وسنقوم بتجديد عفش بيتينا، وسيذهب أولادنا إلى المدارس بحقائب وثياب جديدة.. وقلت لأبي العز إننا سنرتاح من نقيق زوجتينا لأن جيوبنا ستمتلئ، وستكون طلباتهن الكثيرة في موضع حفاوة من قبلنا..
    في تمام الساعة السادسة من صباح اليوم التالي انطلقنا صوب حقول المركونة، التي تبتعد عن المدينة مسافة أربعين كيلو متراً، فوصلناها بعد نصف ساعة.. لقد كان الكلام الذي سمعناه عن أسعار الخضر والفواكه صحيحا مائة في المائة.. فالأرزاق مكومة فوق بعضها بعضاً، والأسعار لم تكن تستحق الذكر..
    انتقينا مائة بطيخة وحملناها بصندوق السيارة.. حاسبنا صاحب الرزق، وصعدنا كبين الشاحنة وقلنا للسائق: على بركة الله.. أبو العز أخذ يدندن بلحن شعبي، أما أنا فأخذت أغني بصوت مرتفع:"على بلدي المحبوب وديني..""
    بعد أن قطعت السيارة بنا مسافة كيلو متر واحد، اعترضت طريقنا سيارة ترجل منها ثلاثة أشخاص سأل أحدهم السائق : " أيش معك في صندوق السيارة؟".
    ـ بطيخ .
    ـ وماذا تخبئ تحت البطيخ؟
    ـ لاشيء ، والله !
    ـ فرّغ لنا الصندوق لنتأكد ..
    نزلنا من الكبين، وفرّغنا صندوق الشاحنة من البطيخ.. وعندما تأكدوا أن لاشيء تحته، أخذوا ثلاث بطيخات، وتركونا في حالنا.. لعنا الشيطان الرجيم، وأعدنا تحميل بضاعتنا، لتنطلق بنا السيارة من جديد..
    أحصى أبو العز الخسائر: ثلاث بطيخات للشباب، واثنتان كسرتا أثناء التنزيل، وواحدة أثناء التحميل، يصبح المجموع ست بطيخات.. وأخرج من جيبه دفتراً صغيراً كنا فتحناه لتسجيل حساباتنا التجارية الجديدة، ليدون فيه الخسائر.. وقبل أن يكتب شيئاً في الدفتر، وجدنا أمامنا سيارة تقطع الطريق بالعرض، فوقفنا..
    ـ أوراقك.
    دسّ السائق قطعة نقود من فئة عشر الليرات بين الأوراق، وترجل من كبين الشاحنة..
    ـ بطيخكم سقي أم عدي؟
    أجابه أبو العز بعصبية واضحة:" إنه عدي، وهل يوجد بالمنطقة كلها واحد يزرع بطيخ سقي؟
    ـ رائع! البطيخ العدي أحلى من السكر..
    وأخذ كل واحد منهم بطيخة، وأفسحوا لنا مجالاً لنمشي.. أخرج أبو العز الدفتر من جيبه، وسجل بأصابع مرتجفة: أربع بطيخات، زائد ست في المرة الأولى، يصبح المجموع عشر بطيخات.. انطلقت بنا السيارة، فأخذنا نختلس النظر في وجوه بعضنا بعضاً، دون أن ننطق.. أحس السائق بتراجع حالتنا النفسية ، فزعق بموال من جنس الفراقيات التي تنوح به النساء عند رؤوس الموتى من الراحلين، يتحدث الموال عن شير ـ الكلب ـ الذي رحل أهله توالي الليل في غيابه دون أن يتركوا وراءهم أي أثر سوى العظام.. خفّف من وطأة الموال علينا هدير السيارة، وقبل أن ينهي السائق مواله، ظهرت أمامنا فجأة سيارة ترجل منها خمسة أشخاص..
    ـ هوياتكم!
    أخرجنا بطاقاتنا الشخصية من جيوبنا، وقبل أن ينظروا فيها، صرخ واحد من الخمسة وقف عند مؤخرة السيارة:" من أين اشتريتم هذا البطيخ؟
    ـ من المركونة.
    ـ يا عيني عليك يا بطيخ المركونة!
    وحمل كل واحد منهم بطيخة، وأمرونا بالتحرك.. أخرج أبو العز الدفتر والقلم من جيبه.. لكنه لم يسجل الخسائر في هذه المرة، فقد قذف بالدفتر والقلم من نافذة السيارة، وأسند رأسه لمسند المقعد، وصمت..
    بعد عشرة كيلو مترات أوقفت السيارة، بعد خمسة عشر أوقفت، بعد عشرين ، بعد ثلاثين.. وفي كل مرة كانت تطير بطيخة، أو اثنتان، أو خمس.. وفي منتصف المسافة، أيقنت أننا سنصل المدينة دون بطيخ، فاعتبرت الخمسمائة ليرة، التي دفعتها في تجارة البطيخ، قد ضاعت..
    أخذت أهوّن على نفسي، التي شغلتها في التفكير بمسائل أخرى، ليست لها علاقة بالتجارة، والأرباح، ومخاطر ركوب الدروب.. أيضاً شغلتني الحالة التي وصل إليها أبو العز، الذي لم يعد يكترث عندما كان السائق يوقف الشاحنة، لتزيد خسائرنا.. حكيت معه أكثر من مرة فلم يرد.. لقد ظهرت عليه علائم التقدم في السن فجأة.. أحسست أنه أكبر عشر سنوات في نصف الساعة تلك..
    ـ الحمد لله أننا لم ندفع المبلغ للأطباء..
    ـ كبّرها تكبر صغرها تصغر..
    ـ اللهم اجعلها أكبر المصائب..
    ـ هون على نفسك أبو العز.. نصف الألف خمسمية..
    فشلت في جعله يحرك شفتيه تحريكاً في الأقل.. كان ينظر إلى الأمام دون أن يرف له جفن، حدقتاه ثابتتان كأنهما تحولتا إلى خرزتين..
    السائق، وحده، صاحب الشاحنة، كان طبيعياً.. أو لأقل إنه كان سعيداً.. ولماذا لا يكون سعيداً ؟ أجرته مقبوضة سلفاً، وسيارته لم يصبها أي تعب.. راحت بصندوق فارغ، ورجعت بصندوق فارغ، فلماذا الحزن إذن؟ أهو ابن عمنا عصب؟ في الستين جهنم نحن وبطيخنا..
    لما وصلت بنا السيارة، ونزلنا عند مدخل البناية، كنت أخمن أن بطيخنا نفد تماما.. لكن أبا العز، الذي دبت فيه الحركة فجأة، عند وصولنا، فنزل على عجل من صندوق السيارة، وتوجه إلى الخلف، ليجد في الصندوق بطيخة واحدة، هجم عليها ورفعها لفوق رأسه وقذفها بلؤم باتجاه الرصيف، كأن له ثأراً عندها، فتطايرت أشلاؤها في الفضاء..
    عندئذ انتشرت رائحة البطيخ الأحمر الذكية..
  • محمد عبد السميع نوح
    عضو الملتقى
    • 14-11-2008
    • 108

    #2
    pure.heart86

    تعليق

    • تاج الدين الموسى
      عضو الملتقى
      • 16-07-2010
      • 63

      #3
      سلام

      المشاركة الأصلية بواسطة محمد عبد السميع نوح مشاهدة المشاركة
      pure.heart86
      السيد محمد عبد المسيح نوح
      تحية طيبة
      وصلتني رسالة فارغة منك..
      يرجى الاطلاع

      تعليق

      • محمد عبد السميع نوح
        عضو الملتقى
        • 14-11-2008
        • 108

        #4
        الأخ الفاضل الأستاذ / تاج الدين الموسي
        نعم .. عاكسني جهازي كثيرا .. فمعذرة ياأخي ..
        كانت رسالة طويلة حول هذه القصة الرائعة التي قرأت فيها أعذب وأخف روح من الدعابة الرامزة الهادفة ، والسرد الفني الملتحم بالدراما والحركة بلا نقص ولافائض .. وكذلك هذا المزيج من الخبرة الحياتية والحكمة الحاضرة الغائبة عن الموقف .
        والإسقاط الذكي من الخاص بين الصديقين إلى العام وهو أمتك التي نفد وينفد منها البطيخ كل يوم ، بل كل لحظة ..
        أحييك أستاذ تاج على هذه القصة وأتمنى لك التوفيق ولرسالتي هذه ألا تطير كما يطير البطيخ !
        كل عام وأنت بخير

        تعليق

        • تاج الدين الموسى
          عضو الملتقى
          • 16-07-2010
          • 63

          #5
          الشكر الجزيل..

          الشكر الجزيل لك أخي محمد..
          ورأيك يجعلني أثق بنفسي أكثر..

          تعليق

          • فايزشناني
            عضو الملتقى
            • 29-09-2010
            • 4795

            #6
            شكراً لك أخ تاج الدين
            قصة جميلة
            ذات مرة حاول صديق لي ان يوهمني بفكرة مشابهة
            وقعد يحسب لي كم سنجني من تربية الأرانب
            وربك ستر
            هيهات منا الهزيمة
            قررنا ألا نخاف
            تعيش وتسلم يا وطني​

            تعليق

            • تاج الدين الموسى
              عضو الملتقى
              • 16-07-2010
              • 63

              #7
              شكرا لمرورك اخ فايز..

              تعليق

              • فوزي سليم بيترو
                مستشار أدبي
                • 03-06-2009
                • 10949

                #8
                [align=center]
                الأخ العزيز تاج الدين الموسى
                كثيرة هي النصوص التي لا ننتبه لها وتكون ذات قيمة عالية
                من ناحية أسلوب السرد الشيّق ، والمضمون الهادف .
                وهذه " ثمن الرائحة " إحداها . لقد استمتعت بقرائتها ، وشوَّقتني
                لرائحة البطيع وطعمه مع أننا قد دخلنا في فصل الشتاء .
                فعذرا أخي الجميل تاج الدين . وأعدك أنني سأحمّص بذور بطيخك
                وأقزقزه على كانون الحطب الذي أمامي . ودمت بكل العز أنت وصاحبنا أبو العز .


                فوزي بيترو

                [/align]

                تعليق

                • تاج الدين الموسى
                  عضو الملتقى
                  • 16-07-2010
                  • 63

                  #9
                  الشكر الجزيل لك أخي العزيز د. فوزي..

                  تعليق

                  يعمل...
                  X