عناقيد النور
كنت بصحبة جدي الكبير ، عائدين من الغيط ، تركنا الشمس خلفنا هناك ، تسبح فى بحر أحمر ، و انطلقنا نسابق الطريق ، و السكة الزراعية تخترق الغيطان الخضراء ، وهناك المدينة كحلم ، هاهى تدنو كنهار أبيض رويدا .. رويدا ، صامتة هادئة ، كأنها تنتظرنا بفارغ الشوق ، كما تنتظر زائرا مهيبا ، ووجدتنى أطالع المآذن العالية فى إكبار ، هاهى ذي تمتد معانقة السماء فى شموخ ، يحمل جمالا و إجلالا .
كان هدوء عجيب يخيم على كل شىء ، رغم أن المتوقع عكس ذلك ؛ فاليوم تتحرك سيارات النقل فى مواكب تطوف فى شوارع المدينة ، تصدر رنينا و طرقا صاخبا ، لأصحاب الحرف من حدادين و صناع من كافة الأسواق ، ليعلنوا ترحيبهم بالزائر القادم بعد طول غياب .
هاهى المآذن تقترب ، هاهى عناقيد النور تطوق كل منها .. نعم . وحين يحط الليل على المدينة ، تحيل ظلامه نهارا أبيض ، و أحمر و أصفر و أزرق ، وساعتها أسرع إلى أصحابي حاملا فانوسي الجميل الملون ، ونروح ندور فى أرجاء الحى ، ونحن نردد غناءنا المعتاد " وحوي ياوحوي ".
نزور كل البيوت ، ننادي على أصحابها ، مباركين دخول العم رمضان عندهم ، رمضان ذلك الجميل الذى يجعلنا نصوم .. نصوم طول النهار ، ونجلس جميعا عند المغرب حول طبلية واحدة !
رمضان الرجل الطيب جعلني أرى أبي كل يوم ؛ فيأتي لنا بالفاكهة ، و التمر و المكسرات ، وغيرها . أنا أحب رمضان كثيرا .. نعم أحبه .. و لكن كيف يدخل كل بيوت الحي و الأحياء المجاورة فى وقت واحد ؟
أنا لم أره عندنا ، لكن جدي فى العام الماضي قال وهو يضحك : أخذ شربة ماء ، وذهب إلى بيت جارنا ".
يومها بكيت لأنني لم أره ، كنت أتمني رؤيته عندنا ، لأنني أحبه .. أحبه كثيرا ؛ فهو يجعل الناس سعداء طيبين ، لا يسبون ، لا يشتمون ، لا يتعاركون !
فجأة و أنا أسير إلى جوار جدي ، ارتفع صوته :" باكر يأتي رمضان ".
ارتعش جسدي ، وقلت :" هل قابلته ياجدي ؟".
قهقه جدي ، وقال :" نعم .. كثيرا ياولد .. وقال أنا قادم عند السحور الليلة ".
صحت بتهلل و فرح : " ما شكله ياجدي .. مثلك هو .. أم يشبه أبي .. أله شاربان و لحية ، و يلبس الطاقية و الجلباب أم البنطال ؟!".
قال جدي الطيب :" إنه رجل طيب جميل ، يحب الخير و البر .. يحب الصغار و الكبار ، يحب كل الناس الغنى و الفقير ، و يفرح بهم كثيرا ، وحين يأتي لا يأكل إلا عند أذان المغرب ، والناس تحبه ، وتفعل مثله تماما ، و الذى لا يفعل مثلما يفعل يخاصمه ، و لا يدخل بيته ".
انتفض جسدي ، قلت فى نفسي :" سوف أراه الليلة .. نعم .. لا بد أن أراه عندما يأتي فى السحور .. نعم .. لن أنام ؛ فعندما أنام لا يوقظني أحد .. لا أمي و لا أبي .. لن أنام !!
بفرح قلت لجدي :" هل يزورنا ياجدي ؟!".
قال الجد :" نعم ؛ فهو يحبنا كما نحبه .. نحبه كثيرا .. ألا تحبه يا إبراهيم ؟! ".
قلت متلعثما :" نعم .. نعم ياجدي . لكنني العام الماضي لم أستطع الصوم مثله ، أخاف أن يكون غاضبا مني ؛ فلا يزورنا !!".
ربت جدي على كتفي ، و قال :" هذا العام يجب أن تحرص على حبه لك ، إنه يحب الصوم و العطف و الحب ، و الكلام الحلو ، و القرآن ؛ فلا تؤذ أحدا من جيرانك أو أصدقائك .. أحب جميع أصدقائك وجيرانك كما تحب رمضان ، و الذي يحبه رمضان يحبه الله الخالق العظيم ".
كان فرحي صافيا ، ونفسي ترفرف بين رياش صدري .
فجأة تعلقت عيناي بالسماء ، كانت صافية صامتة ، رائعة ، تحوم فى فضائها الطيور .
قلت لجدي :" ألا تر يا جدي .. انظر .. القمر .. لقد خرج من داره قبل حلول الظلام !!".
تنهد جدي بفرح ، ونظر مثلي إلى القمر الذى كان يبدو باهتا :" لهذا سوف يأتي رمضان باكرا ، إنه هلال الرؤية ، وسوف أشتري لك فانوسا لاستقباله ، لتلعب مع أصحابك ، وتدور فى الحي ، و تبارك للناس زيارة رمضان لهم ، وعند السحور تخرج به ، و تسحرهم حتى يحبك رمضان ، فيسمح لك بالطلوع إلى أعلى مئذنة المسجد ، لتنادي عليهم رمضان بدأ صومه ، كونوا مثله ، و أمسكوا عن الطعام و الشراب !".
الله .. ما أحلى رمضان ، ما أجمله يا جدي !
هذا الرجل الذى لم أره إلى الآن ، لكنني سوف أراه الليلة .. لن أنام حتى أراه ، إنه يجعل الأولاد طيبين ، يلعبون فى رفق وحب و سماحة ، لا يغضب بعضهم بعضا .. نعم .
فى العام الفائت حين أتى رمضان ، الولد بكر سب زكريا ، فقال له : سامحك الله .. اللهم أنى صائم . رغم أن زكريا كان أكبرنا سنا ، و أكثرنا قوة ؛ فهو يغلب الجميع .. جميع الأولاد ، ومع ذلك لم يضرب بكرا ، وساعتها خجل بكر من نفسه ، وطيب خاطر زكريا ، وتصالحا فى الحال .
وفى نفس الليلة جلسنا قريبا من المسجد بعد صلاة التراوح ، نحكي و نتحدث ، ونقلد الشيخ حجوجة فى خطبته الأخيرة ، نروي القصص الجميلة التي كان يرويها للناس عن النبي و الصحابة و عن الحسن و الحسين و الناس من حوله مشدودون ، ينظرون إليه مثلنا نحن الصغار ، صامتين يمصمصون شفاههم ، ثم يخفضون وجوههم .. لقد رأيت دموع أبي فى المسجد ، وهو ينصت إلى حديث الشيخ عن رمضان !
حين حلّ الظلام ، وهلل الناس و الأولاد فى الحي .. جميع من بالبيت يردد :" رمضان يأتى صباحا .. السحور الليلة ".
وكان النوم يداعب جفوني ، فأقاوم ، لكنه غلبني ، فرحت فى سبات عميق ، وشاهدته فى الحلم رجلا جميلا ، يحمل فوانيس كثيرة ملونة ، وتحيط بصدره عناقيد من الأنوار ، كان أكثر شبها بجدي الكبير ، وكان يسير بها فى الشارع ، يوزعها على الأولاد ، ثم يخرج من جيبه التمر الأحمر الجميل ، ويوزعه أيضا .. فجأة خلع جدي عناقيد النور ، أعطاها لي ، وطلب مني أن أعلقها على حائط بيتنا .
حين رحت أعلقها على الحائط ، زلقت قدمي ، فصحوت مرعوبا لأجد كل من بالبيت يتحلقون طاولة الطعام ، فجريت و أنا أفرك عيني ، ثم توقفت .
ناداني جدي الكبير :" تعال يا إبراهيم لتري عمك رمضان .. تعال ".
قعدت بينهم ، وكان إحساس داخلي بأن عناقيد النور تشع نورا فى صدري ، و أن جدي كان الأكثر شبها برمضان .
فرحت ، وأكلت حتى اكتفيت ، وخرجت راكضا صوب المسجد لأكون أعلى مئذنة المسجد ، و العناقيد من حولي و داخلي ، أرفع صوتي مع الكبار : ارفع .. ارفع سحورك ياصائم !!
كنت بصحبة جدي الكبير ، عائدين من الغيط ، تركنا الشمس خلفنا هناك ، تسبح فى بحر أحمر ، و انطلقنا نسابق الطريق ، و السكة الزراعية تخترق الغيطان الخضراء ، وهناك المدينة كحلم ، هاهى تدنو كنهار أبيض رويدا .. رويدا ، صامتة هادئة ، كأنها تنتظرنا بفارغ الشوق ، كما تنتظر زائرا مهيبا ، ووجدتنى أطالع المآذن العالية فى إكبار ، هاهى ذي تمتد معانقة السماء فى شموخ ، يحمل جمالا و إجلالا .
كان هدوء عجيب يخيم على كل شىء ، رغم أن المتوقع عكس ذلك ؛ فاليوم تتحرك سيارات النقل فى مواكب تطوف فى شوارع المدينة ، تصدر رنينا و طرقا صاخبا ، لأصحاب الحرف من حدادين و صناع من كافة الأسواق ، ليعلنوا ترحيبهم بالزائر القادم بعد طول غياب .
هاهى المآذن تقترب ، هاهى عناقيد النور تطوق كل منها .. نعم . وحين يحط الليل على المدينة ، تحيل ظلامه نهارا أبيض ، و أحمر و أصفر و أزرق ، وساعتها أسرع إلى أصحابي حاملا فانوسي الجميل الملون ، ونروح ندور فى أرجاء الحى ، ونحن نردد غناءنا المعتاد " وحوي ياوحوي ".
نزور كل البيوت ، ننادي على أصحابها ، مباركين دخول العم رمضان عندهم ، رمضان ذلك الجميل الذى يجعلنا نصوم .. نصوم طول النهار ، ونجلس جميعا عند المغرب حول طبلية واحدة !
رمضان الرجل الطيب جعلني أرى أبي كل يوم ؛ فيأتي لنا بالفاكهة ، و التمر و المكسرات ، وغيرها . أنا أحب رمضان كثيرا .. نعم أحبه .. و لكن كيف يدخل كل بيوت الحي و الأحياء المجاورة فى وقت واحد ؟
أنا لم أره عندنا ، لكن جدي فى العام الماضي قال وهو يضحك : أخذ شربة ماء ، وذهب إلى بيت جارنا ".
يومها بكيت لأنني لم أره ، كنت أتمني رؤيته عندنا ، لأنني أحبه .. أحبه كثيرا ؛ فهو يجعل الناس سعداء طيبين ، لا يسبون ، لا يشتمون ، لا يتعاركون !
فجأة و أنا أسير إلى جوار جدي ، ارتفع صوته :" باكر يأتي رمضان ".
ارتعش جسدي ، وقلت :" هل قابلته ياجدي ؟".
قهقه جدي ، وقال :" نعم .. كثيرا ياولد .. وقال أنا قادم عند السحور الليلة ".
صحت بتهلل و فرح : " ما شكله ياجدي .. مثلك هو .. أم يشبه أبي .. أله شاربان و لحية ، و يلبس الطاقية و الجلباب أم البنطال ؟!".
قال جدي الطيب :" إنه رجل طيب جميل ، يحب الخير و البر .. يحب الصغار و الكبار ، يحب كل الناس الغنى و الفقير ، و يفرح بهم كثيرا ، وحين يأتي لا يأكل إلا عند أذان المغرب ، والناس تحبه ، وتفعل مثله تماما ، و الذى لا يفعل مثلما يفعل يخاصمه ، و لا يدخل بيته ".
انتفض جسدي ، قلت فى نفسي :" سوف أراه الليلة .. نعم .. لا بد أن أراه عندما يأتي فى السحور .. نعم .. لن أنام ؛ فعندما أنام لا يوقظني أحد .. لا أمي و لا أبي .. لن أنام !!
بفرح قلت لجدي :" هل يزورنا ياجدي ؟!".
قال الجد :" نعم ؛ فهو يحبنا كما نحبه .. نحبه كثيرا .. ألا تحبه يا إبراهيم ؟! ".
قلت متلعثما :" نعم .. نعم ياجدي . لكنني العام الماضي لم أستطع الصوم مثله ، أخاف أن يكون غاضبا مني ؛ فلا يزورنا !!".
ربت جدي على كتفي ، و قال :" هذا العام يجب أن تحرص على حبه لك ، إنه يحب الصوم و العطف و الحب ، و الكلام الحلو ، و القرآن ؛ فلا تؤذ أحدا من جيرانك أو أصدقائك .. أحب جميع أصدقائك وجيرانك كما تحب رمضان ، و الذي يحبه رمضان يحبه الله الخالق العظيم ".
كان فرحي صافيا ، ونفسي ترفرف بين رياش صدري .
فجأة تعلقت عيناي بالسماء ، كانت صافية صامتة ، رائعة ، تحوم فى فضائها الطيور .
قلت لجدي :" ألا تر يا جدي .. انظر .. القمر .. لقد خرج من داره قبل حلول الظلام !!".
تنهد جدي بفرح ، ونظر مثلي إلى القمر الذى كان يبدو باهتا :" لهذا سوف يأتي رمضان باكرا ، إنه هلال الرؤية ، وسوف أشتري لك فانوسا لاستقباله ، لتلعب مع أصحابك ، وتدور فى الحي ، و تبارك للناس زيارة رمضان لهم ، وعند السحور تخرج به ، و تسحرهم حتى يحبك رمضان ، فيسمح لك بالطلوع إلى أعلى مئذنة المسجد ، لتنادي عليهم رمضان بدأ صومه ، كونوا مثله ، و أمسكوا عن الطعام و الشراب !".
الله .. ما أحلى رمضان ، ما أجمله يا جدي !
هذا الرجل الذى لم أره إلى الآن ، لكنني سوف أراه الليلة .. لن أنام حتى أراه ، إنه يجعل الأولاد طيبين ، يلعبون فى رفق وحب و سماحة ، لا يغضب بعضهم بعضا .. نعم .
فى العام الفائت حين أتى رمضان ، الولد بكر سب زكريا ، فقال له : سامحك الله .. اللهم أنى صائم . رغم أن زكريا كان أكبرنا سنا ، و أكثرنا قوة ؛ فهو يغلب الجميع .. جميع الأولاد ، ومع ذلك لم يضرب بكرا ، وساعتها خجل بكر من نفسه ، وطيب خاطر زكريا ، وتصالحا فى الحال .
وفى نفس الليلة جلسنا قريبا من المسجد بعد صلاة التراوح ، نحكي و نتحدث ، ونقلد الشيخ حجوجة فى خطبته الأخيرة ، نروي القصص الجميلة التي كان يرويها للناس عن النبي و الصحابة و عن الحسن و الحسين و الناس من حوله مشدودون ، ينظرون إليه مثلنا نحن الصغار ، صامتين يمصمصون شفاههم ، ثم يخفضون وجوههم .. لقد رأيت دموع أبي فى المسجد ، وهو ينصت إلى حديث الشيخ عن رمضان !
حين حلّ الظلام ، وهلل الناس و الأولاد فى الحي .. جميع من بالبيت يردد :" رمضان يأتى صباحا .. السحور الليلة ".
وكان النوم يداعب جفوني ، فأقاوم ، لكنه غلبني ، فرحت فى سبات عميق ، وشاهدته فى الحلم رجلا جميلا ، يحمل فوانيس كثيرة ملونة ، وتحيط بصدره عناقيد من الأنوار ، كان أكثر شبها بجدي الكبير ، وكان يسير بها فى الشارع ، يوزعها على الأولاد ، ثم يخرج من جيبه التمر الأحمر الجميل ، ويوزعه أيضا .. فجأة خلع جدي عناقيد النور ، أعطاها لي ، وطلب مني أن أعلقها على حائط بيتنا .
حين رحت أعلقها على الحائط ، زلقت قدمي ، فصحوت مرعوبا لأجد كل من بالبيت يتحلقون طاولة الطعام ، فجريت و أنا أفرك عيني ، ثم توقفت .
ناداني جدي الكبير :" تعال يا إبراهيم لتري عمك رمضان .. تعال ".
قعدت بينهم ، وكان إحساس داخلي بأن عناقيد النور تشع نورا فى صدري ، و أن جدي كان الأكثر شبها برمضان .
فرحت ، وأكلت حتى اكتفيت ، وخرجت راكضا صوب المسجد لأكون أعلى مئذنة المسجد ، و العناقيد من حولي و داخلي ، أرفع صوتي مع الكبار : ارفع .. ارفع سحورك ياصائم !!
تعليق