عبث في قطار آخر الليل
سامي البدري
في القطار او في الباص ، دائما يصادفك جار او رفيق سفر يحرمك من سويعات صمتك التي تحب ان تقضيها بعيدا عن رقابة المتطفلين ، في القراءة او في التفكير او حتى في مجرد مراقبة قضبان سكك الحديد وهي تمتد ببلاهة في صمتها الابدي او في عد اعمدة الكهرباء وهي تتراجع باستسلام لايذكرك الا بعذابات رحلتك .وكعادتي معهم ،فان رفيق سفرتي هذه المرة كان قد استعد لهجومه من اول لحظة استعداده للسفر في القطار الصاعد من العاصمة . فبعد السؤال عن ان كان المقعد المجاور لمقعدي شاغرا ام لا ،سالني بجراة انذرتني برفيق سفر بتمام المواصفات ، عن امكانية الحصول على مقعدي المجاور لنافذة القطار فاجبته باقتضاب : كلا . ولكنه سالني بادب مصطنع : لماذا؟ فقلت بشئ من الارتباك : لا لشئ مهم الحقيقة سوى ان الجلوس قريبا من بحر العربة يفقدني الشعور بخصوصية مكاني التي احتاج . ابتسم ابتسامة شك ،او هكذا قراتها ، قبل ان ترتسم امارات الجد على وجهه ليقول : نعم افهم .. ثم زرع عينيه في نقطة ما من ظهر
المقعد الذي يتقدمه وغرق في صمت لم اعتده من رفاق سفراتي المعتادين فقدمت له سجارة مجاراة للفضول الذي اتبد بي .. بعد عدة محاولات من التنبيه ، استفاق صاحبي ليصطنع ابتسامة باهتة ويقول : اوه ! شكرا للطفك . اخذ السجارة بلهفة ظاهرة وعض عليها بشفتيه وانتظر متحرقا ان اشعلها له .. لم اشعلها له ،ولم اشعل سجارتي هي الاخرى وانتظرت ردة فعله . بعد دقيقة اخرى فهم لوحده اني لااحمل علبة ثقاب فنهض بعصبية وقال : ساتيك بالنار حالا ؛ واخذ بالدوران على ركاب العربة التي علا ضجيجها فاشعلت سجارتي وانتظرت ردة فعله بهدوء مصطنع . عندما عاد مد لي سجارته بامتنان لاشعل سجارتي ، وعندما اريته اياها وهي تشتعل جلس دون تعليق . عاد جاري الى صمته وهو يمص سجاته بنهم ، ولمن بهدوء . لم ينم وجهه عن تفكير عميق او انفعال .. كان صامتا فقط .. او هكذا بدا لي . فجاة نشب نزاع بين شاغلي المقعد الذي يتقدمنا وعلا صراخ احد الرجلين سابا لاعنا قبل ان يرد عليه الثاني ويشتبكا بالايدي وصاحبي على هدوءه تطارد عيناه نقطة ما في فراغ الخارج ، وكأنه معزولا عن عن تلك الضجة . وحتى عندما سقطت نظارة احد الرجلين في حضنه ، فان كل ما فعله هو انه مدها باتجاهي ورجاني ان اعيدها الى صاحبها . سيطر الرجل على كامل اهتمامي ولم استطع تحويل عينيّ عنه فمددت علبة سجائري امام عينيه وانتظرت ان يتذكر وجودي وجلوسي الى جانبه .. ولكن الامر احتاج الى نصف ساعة من تارجح القطار على قضبانه المتهالكة ولتوقفه في احدى المحطات الضاجة ، ولثلاث صرخات من احد باعة الصحف .. عندما تنبه اى علبة السجائر سحب سجارة وهو يدمدم : سيشركك الاخرون في ضجتهم ولو كنت في بطن امك . شكرني بامتنان كبير ونهض ليبحث عمن يشعلها له . عندما عاد وجد سجارتي في انفاسها الاخيرة فقال بشئ من الغضب :
ـ الامر معك اسهل .. فقلت بلهجة استفزازية ..
ـ هذا لانك مفلس لا اكثر . فهز راسه بما يشبه الموافقة وقال ..
ـ وحرماني من الجلوس الى جوار النافذة ، هل يعود الى افلاسي هو الاخر ؟
ـ بالتأكيد !فسالني باهتمام ..
ـ ولماذا أنا مفلس برأيك ؟
ـ ثمة من يعنث بك وبمصيرك .. قوة او روح خارجية . فرد باهتمام كبير ، بعد ان استدار ليصير بمواجهتي ..
ـ وكيف عرفت كل هذا ؟ هل انت من الروحانيين ؟
ـ كلا ، ولكني لا اجد تفسيرا آخر لحالتك .
ـ وهذا كل شئ ... ؟
ـ نعم . فان تصل من البؤس لن لاتجد ثمن سجارة فهذا لا يعني سوى ان الامر خارج حدود سيطرة الانسان . فقال وهو يعاود زرع عينيه في زجاج النافذة التي تحولت الى لوح جيري بسبب شدة ظلام المكان الذي كنا نمر به ..
ـ قبل عشرين عاما توصلت الى التفسير عينه ولكني مازلت اعاند هذه الفكرة .
ـ والى اين وصلت الان ؟
ـ ان اتسلل خلسة الى القطار وان لا اجد ثمن سجارة احرقها .. هل عندك ما تشير به علي ّ.. ؟
ـ نعم . ان تجترح معجزة ، او تقتل روح ما !
ـ واين اجد مثل هذه الروح ، ما دمت عاجزا عن فعل المعجزة ؟
ـ ربما في عرض البحر او ربما في مقبرة مهملة او ربما بابل القديمة حيث علم هاروت وماروت بني آدم السحر ! في هذه اللحظة لم اعد اتمكن من السيطرة على نفسي فانفجرت بضحكة ضاجة لاغراقي في عبثي ذاك ؛ لكن صاحبي امسك بذراعي بحزم ليوقفني عن الضحك وقال بجد وهو يقف على قدميه ..
ـ ولم تضحك ، فهذه هي قناعتي والان ساذهب لتنفيذها !
ـ ولكني كنت اعبث فقط ...؟
وانا لم يعد امامي غير عبثك !
وانطلق بخطى قلقة باتجاه العربة الامامية . بعد ربع ساعة ، وفي بقعة لايتذكرها حتى الجغرافيون ، توقف القطار للحظات ثم عاود ارتجاجاته باتجاه الشمال وجاء راكب جديد ليحتل مقعد ذلك الرجل .
سامي البدري
في القطار او في الباص ، دائما يصادفك جار او رفيق سفر يحرمك من سويعات صمتك التي تحب ان تقضيها بعيدا عن رقابة المتطفلين ، في القراءة او في التفكير او حتى في مجرد مراقبة قضبان سكك الحديد وهي تمتد ببلاهة في صمتها الابدي او في عد اعمدة الكهرباء وهي تتراجع باستسلام لايذكرك الا بعذابات رحلتك .وكعادتي معهم ،فان رفيق سفرتي هذه المرة كان قد استعد لهجومه من اول لحظة استعداده للسفر في القطار الصاعد من العاصمة . فبعد السؤال عن ان كان المقعد المجاور لمقعدي شاغرا ام لا ،سالني بجراة انذرتني برفيق سفر بتمام المواصفات ، عن امكانية الحصول على مقعدي المجاور لنافذة القطار فاجبته باقتضاب : كلا . ولكنه سالني بادب مصطنع : لماذا؟ فقلت بشئ من الارتباك : لا لشئ مهم الحقيقة سوى ان الجلوس قريبا من بحر العربة يفقدني الشعور بخصوصية مكاني التي احتاج . ابتسم ابتسامة شك ،او هكذا قراتها ، قبل ان ترتسم امارات الجد على وجهه ليقول : نعم افهم .. ثم زرع عينيه في نقطة ما من ظهر
المقعد الذي يتقدمه وغرق في صمت لم اعتده من رفاق سفراتي المعتادين فقدمت له سجارة مجاراة للفضول الذي اتبد بي .. بعد عدة محاولات من التنبيه ، استفاق صاحبي ليصطنع ابتسامة باهتة ويقول : اوه ! شكرا للطفك . اخذ السجارة بلهفة ظاهرة وعض عليها بشفتيه وانتظر متحرقا ان اشعلها له .. لم اشعلها له ،ولم اشعل سجارتي هي الاخرى وانتظرت ردة فعله . بعد دقيقة اخرى فهم لوحده اني لااحمل علبة ثقاب فنهض بعصبية وقال : ساتيك بالنار حالا ؛ واخذ بالدوران على ركاب العربة التي علا ضجيجها فاشعلت سجارتي وانتظرت ردة فعله بهدوء مصطنع . عندما عاد مد لي سجارته بامتنان لاشعل سجارتي ، وعندما اريته اياها وهي تشتعل جلس دون تعليق . عاد جاري الى صمته وهو يمص سجاته بنهم ، ولمن بهدوء . لم ينم وجهه عن تفكير عميق او انفعال .. كان صامتا فقط .. او هكذا بدا لي . فجاة نشب نزاع بين شاغلي المقعد الذي يتقدمنا وعلا صراخ احد الرجلين سابا لاعنا قبل ان يرد عليه الثاني ويشتبكا بالايدي وصاحبي على هدوءه تطارد عيناه نقطة ما في فراغ الخارج ، وكأنه معزولا عن عن تلك الضجة . وحتى عندما سقطت نظارة احد الرجلين في حضنه ، فان كل ما فعله هو انه مدها باتجاهي ورجاني ان اعيدها الى صاحبها . سيطر الرجل على كامل اهتمامي ولم استطع تحويل عينيّ عنه فمددت علبة سجائري امام عينيه وانتظرت ان يتذكر وجودي وجلوسي الى جانبه .. ولكن الامر احتاج الى نصف ساعة من تارجح القطار على قضبانه المتهالكة ولتوقفه في احدى المحطات الضاجة ، ولثلاث صرخات من احد باعة الصحف .. عندما تنبه اى علبة السجائر سحب سجارة وهو يدمدم : سيشركك الاخرون في ضجتهم ولو كنت في بطن امك . شكرني بامتنان كبير ونهض ليبحث عمن يشعلها له . عندما عاد وجد سجارتي في انفاسها الاخيرة فقال بشئ من الغضب :
ـ الامر معك اسهل .. فقلت بلهجة استفزازية ..
ـ هذا لانك مفلس لا اكثر . فهز راسه بما يشبه الموافقة وقال ..
ـ وحرماني من الجلوس الى جوار النافذة ، هل يعود الى افلاسي هو الاخر ؟
ـ بالتأكيد !فسالني باهتمام ..
ـ ولماذا أنا مفلس برأيك ؟
ـ ثمة من يعنث بك وبمصيرك .. قوة او روح خارجية . فرد باهتمام كبير ، بعد ان استدار ليصير بمواجهتي ..
ـ وكيف عرفت كل هذا ؟ هل انت من الروحانيين ؟
ـ كلا ، ولكني لا اجد تفسيرا آخر لحالتك .
ـ وهذا كل شئ ... ؟
ـ نعم . فان تصل من البؤس لن لاتجد ثمن سجارة فهذا لا يعني سوى ان الامر خارج حدود سيطرة الانسان . فقال وهو يعاود زرع عينيه في زجاج النافذة التي تحولت الى لوح جيري بسبب شدة ظلام المكان الذي كنا نمر به ..
ـ قبل عشرين عاما توصلت الى التفسير عينه ولكني مازلت اعاند هذه الفكرة .
ـ والى اين وصلت الان ؟
ـ ان اتسلل خلسة الى القطار وان لا اجد ثمن سجارة احرقها .. هل عندك ما تشير به علي ّ.. ؟
ـ نعم . ان تجترح معجزة ، او تقتل روح ما !
ـ واين اجد مثل هذه الروح ، ما دمت عاجزا عن فعل المعجزة ؟
ـ ربما في عرض البحر او ربما في مقبرة مهملة او ربما بابل القديمة حيث علم هاروت وماروت بني آدم السحر ! في هذه اللحظة لم اعد اتمكن من السيطرة على نفسي فانفجرت بضحكة ضاجة لاغراقي في عبثي ذاك ؛ لكن صاحبي امسك بذراعي بحزم ليوقفني عن الضحك وقال بجد وهو يقف على قدميه ..
ـ ولم تضحك ، فهذه هي قناعتي والان ساذهب لتنفيذها !
ـ ولكني كنت اعبث فقط ...؟
وانا لم يعد امامي غير عبثك !
وانطلق بخطى قلقة باتجاه العربة الامامية . بعد ربع ساعة ، وفي بقعة لايتذكرها حتى الجغرافيون ، توقف القطار للحظات ثم عاود ارتجاجاته باتجاه الشمال وجاء راكب جديد ليحتل مقعد ذلك الرجل .
تعليق