[align=center]في اللغة النوصطراطية / "The Nostratic Language"[/align]
[align=justify]كَثُرَ الذين يجدون في أنفسهم القدرة على المغامرة وولوج باب التفسير التأثيلي للكلم في لغات البشر، وردها إلى هذه اللغة أو تلك، ومنها العربية. وكان الغربيون إبان تخلفهم في العصور الوسطى يعتقدون أن كل لغات البشر مشتقة من اللغة العبرية. وعندما تعرفوا على العربية والسريانية ورأوا كم هما قريبتان من العبرية، زعموا أن العربية والسريانية أكثر "البنات وفاء للأم التي أنجبتهما"، وهي العبرية بزعمهم آنذاك! وأما اللغات التي لا تمت بصلة إلى العبرية، فقد اعتبروها اللغات الأبعد من اللغة الأم، وبحثوا فيها جاهدين ومجتهدين في إيجاد تشابه بين كلماتها والكلمات العبرية، وتعلقوا بالتشابه الصوتي، مهما كان بعيداً، بين كلمات تلك اللغات والكلمات العبرية بهدف إثبات القرابة منها. وهكذا زعم الإنكليز في الماضي أنهم "بنو العهد"، عهد الله مع بني إسرائيل، مضيفين أنهم القبيلة اليهودية الثانية عشرة الضائعة، وصلت بقدرة قادر إلى جزيرتهم، وتكاثرت فيها. وليس من تفسير لهذا الوسواس إلا التشابه الصوتي في بعض الكلمات، وهو تشابه مرده إلى الصدفة وليس غير ذلك. والصدفة في هذا الشاهد هي أن British تشبه ـ صوتياً ـ الكلمتين العبريتين: ברית איש = beriit ‘iish (بِرِيت إِيش)، وتعنيان "رجل العهد" (إِيش = "رجل" وبِرِيت = "العهد"، ويُقصد به عهد الله الأول مع بني إسرائيل). هذا والأمثلة كثيرة جداً.
وأما عندنا فنحن لا نعدم وجود مفسرين من هذا الجنس يفسرون أية كلمة في أية لغة، تشبه في لفظها لفظ كلمة عربية ما، ولو بنسبة واحد في المائة، على أنها من العربية، غير آبهين بليِّ عنقها إن جاز التعبير، وتطويعها لقوانين صوتية ما أنزل لله بها من سلطان، إما "على البركة" (مثل القائل إن العربية أصبحت، بقدرة قادر، آرابية ثم آرامية وذلك دون أن يشرح لنا القانون الصوتي الذي لا يكون قانوناً صوتياً إلا عندما يكون مضطرداً)، أو "على التجلي" (مثل القائل إن earth الإنكليزية من /أرض/ العربية لأن لفظها في الإنكليزية وفي كل اللغات الجرمانية يشبه لفظها في العربية، متناسياً أن السريانية، وهي أخت العربية، تلفظ الضاد في /أرض/ عيناً فيقال: أَرْعا = ܐܪܥܐ "الأرض" بدلاً من أَرْضا، وأن الآرامية الكتابية تلفظ الضاد في /أرض/ قافاً فيقال أَرْقا = ארקא "الأرض" بدلاً من أَرْضا)!
إن التشابه اللفظي بين اللغة العربية (ومعها اللغات الحامية السامية) من جهة، والإنكليزية (ومعها اللغات الهندية الأوربية) من جهة أخرى، تشابه مرده إلى عاملين: عامل الصدفة وعامل القرابة البعيدة. ولا يعتد بعامل الصدفة في الدراسات لأن الصدفة هي صدفة وإلا لجاز لنا اعتبار الصينية واليونانية شقيقتان لأن كلمة /عين/ في هاتين اللغتين ذات لفظ متشابه (في اليونانية: μάτι =mati ، وشيء من قبيل ذلك في الصينية كما أتذكر من أيام الدراسة)!
وأما بخصوص عامل القرابة البعيدة بين أسرة اللغات الحامية السامية من جهة، وأسرة اللغات الهندية الأوربية من جهة أخرى، فأشير في هذا المقام إلى وجود نظرية لغوية يعضدها شبه إجماع لدى علماء علم اللغة المقارن، مفادها أن اللغات الحامية السامية من جهة، واللغات الهندية الأوربية من جهة أخرى، تعود كلها إلى أصل لغوي واحد، هو لغة افتراضية اصطلح على تسميتها بـ "اللغة النوصطراطية" أو The Nostratic Language. وقد جمع الألماني هيرمان مولر (Hermann Moller) في كتابه "قاموس مقارن للغات الهندية الأوربية والسامية" [1]، معظم الجذور المشتركة بين هذه اللغات، واهتدى إلى القوانين الصوتية التي تحدد القرابة اللغوية بينها. وقد طور هذه النظرية وهذبها مواطنه لينوس برونر (Linus Brunner) في كتابه القيم "الجذور المشتركة للمفردات السامية والهندية الأوربية". [2] ويبدو من هذين السفرين اللغويين الجليلين أن القرابة اللغوية (أي المعجمية) ثابتة بين اللغات الحامية السامية (ومنها العربية) واللغات الهندية الأوربية (ومنها الإنكليزية)، وقد اهتدى الباحثان أعلاه إلى القوانين الصوتية التي تحكم التطور الحاصل في مفردات تلك اللغات.
من تلك القوانين الصوتية: القاف السامية = الكاف الأوربية. ويمثل عليه بالجذر الحامي السامي /قرن/ الذي يجانس تأثيلياً الجذر الهندي الأوربي /KRN/. يفيد هذا الجذر في الأسرتين اللغويتين معنى "القَرْن" أو "ما يوضع على الرأس".
إلى جانب القرابة المعجمية هنالك تجانس واضح وقرابة بنوية ملحوظة بين اللغات الحامية السامية من جهة، واللغات الهندية الأوربية، وأهمها اشتراك الأسرتين اللغويتين في الظواهر النحوية العامة مثل تصريف الأفعال وإعراب الأسماء والجنس والعدد وظواهر كثيرة لا يتسع المقام لذكرها في هذه الحاشية الموجزة.
وأما القرابة التي قد تبدو من حكاية أصوات الحيوانات، فلا يؤخذ بها لأنها حكاية أصوات، وذلك على الرغم من الفرق الكبير الذي يوجد أحياناً بين حكاية أصوات الحيوانات الإنكليزية والعربية والصينية!
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر Hermann Moller (1911), Vergleichendes indogermanisch-semitisches Worterbuch. Gottingen. هذا ولم أستطع وضع النقطتين فوق الـ o في اسم الكاتب وفي كلمة Worterbuch فيرجى أخذ العلم بذلك.
[2] انظر: Linus Brunner (1969), Die gemeinsamen Wurzeln des semitischen und indogermanischen Wortschatzes. Bern.[/align]
[align=justify]كَثُرَ الذين يجدون في أنفسهم القدرة على المغامرة وولوج باب التفسير التأثيلي للكلم في لغات البشر، وردها إلى هذه اللغة أو تلك، ومنها العربية. وكان الغربيون إبان تخلفهم في العصور الوسطى يعتقدون أن كل لغات البشر مشتقة من اللغة العبرية. وعندما تعرفوا على العربية والسريانية ورأوا كم هما قريبتان من العبرية، زعموا أن العربية والسريانية أكثر "البنات وفاء للأم التي أنجبتهما"، وهي العبرية بزعمهم آنذاك! وأما اللغات التي لا تمت بصلة إلى العبرية، فقد اعتبروها اللغات الأبعد من اللغة الأم، وبحثوا فيها جاهدين ومجتهدين في إيجاد تشابه بين كلماتها والكلمات العبرية، وتعلقوا بالتشابه الصوتي، مهما كان بعيداً، بين كلمات تلك اللغات والكلمات العبرية بهدف إثبات القرابة منها. وهكذا زعم الإنكليز في الماضي أنهم "بنو العهد"، عهد الله مع بني إسرائيل، مضيفين أنهم القبيلة اليهودية الثانية عشرة الضائعة، وصلت بقدرة قادر إلى جزيرتهم، وتكاثرت فيها. وليس من تفسير لهذا الوسواس إلا التشابه الصوتي في بعض الكلمات، وهو تشابه مرده إلى الصدفة وليس غير ذلك. والصدفة في هذا الشاهد هي أن British تشبه ـ صوتياً ـ الكلمتين العبريتين: ברית איש = beriit ‘iish (بِرِيت إِيش)، وتعنيان "رجل العهد" (إِيش = "رجل" وبِرِيت = "العهد"، ويُقصد به عهد الله الأول مع بني إسرائيل). هذا والأمثلة كثيرة جداً.
وأما عندنا فنحن لا نعدم وجود مفسرين من هذا الجنس يفسرون أية كلمة في أية لغة، تشبه في لفظها لفظ كلمة عربية ما، ولو بنسبة واحد في المائة، على أنها من العربية، غير آبهين بليِّ عنقها إن جاز التعبير، وتطويعها لقوانين صوتية ما أنزل لله بها من سلطان، إما "على البركة" (مثل القائل إن العربية أصبحت، بقدرة قادر، آرابية ثم آرامية وذلك دون أن يشرح لنا القانون الصوتي الذي لا يكون قانوناً صوتياً إلا عندما يكون مضطرداً)، أو "على التجلي" (مثل القائل إن earth الإنكليزية من /أرض/ العربية لأن لفظها في الإنكليزية وفي كل اللغات الجرمانية يشبه لفظها في العربية، متناسياً أن السريانية، وهي أخت العربية، تلفظ الضاد في /أرض/ عيناً فيقال: أَرْعا = ܐܪܥܐ "الأرض" بدلاً من أَرْضا، وأن الآرامية الكتابية تلفظ الضاد في /أرض/ قافاً فيقال أَرْقا = ארקא "الأرض" بدلاً من أَرْضا)!
إن التشابه اللفظي بين اللغة العربية (ومعها اللغات الحامية السامية) من جهة، والإنكليزية (ومعها اللغات الهندية الأوربية) من جهة أخرى، تشابه مرده إلى عاملين: عامل الصدفة وعامل القرابة البعيدة. ولا يعتد بعامل الصدفة في الدراسات لأن الصدفة هي صدفة وإلا لجاز لنا اعتبار الصينية واليونانية شقيقتان لأن كلمة /عين/ في هاتين اللغتين ذات لفظ متشابه (في اليونانية: μάτι =mati ، وشيء من قبيل ذلك في الصينية كما أتذكر من أيام الدراسة)!
وأما بخصوص عامل القرابة البعيدة بين أسرة اللغات الحامية السامية من جهة، وأسرة اللغات الهندية الأوربية من جهة أخرى، فأشير في هذا المقام إلى وجود نظرية لغوية يعضدها شبه إجماع لدى علماء علم اللغة المقارن، مفادها أن اللغات الحامية السامية من جهة، واللغات الهندية الأوربية من جهة أخرى، تعود كلها إلى أصل لغوي واحد، هو لغة افتراضية اصطلح على تسميتها بـ "اللغة النوصطراطية" أو The Nostratic Language. وقد جمع الألماني هيرمان مولر (Hermann Moller) في كتابه "قاموس مقارن للغات الهندية الأوربية والسامية" [1]، معظم الجذور المشتركة بين هذه اللغات، واهتدى إلى القوانين الصوتية التي تحدد القرابة اللغوية بينها. وقد طور هذه النظرية وهذبها مواطنه لينوس برونر (Linus Brunner) في كتابه القيم "الجذور المشتركة للمفردات السامية والهندية الأوربية". [2] ويبدو من هذين السفرين اللغويين الجليلين أن القرابة اللغوية (أي المعجمية) ثابتة بين اللغات الحامية السامية (ومنها العربية) واللغات الهندية الأوربية (ومنها الإنكليزية)، وقد اهتدى الباحثان أعلاه إلى القوانين الصوتية التي تحكم التطور الحاصل في مفردات تلك اللغات.
من تلك القوانين الصوتية: القاف السامية = الكاف الأوربية. ويمثل عليه بالجذر الحامي السامي /قرن/ الذي يجانس تأثيلياً الجذر الهندي الأوربي /KRN/. يفيد هذا الجذر في الأسرتين اللغويتين معنى "القَرْن" أو "ما يوضع على الرأس".
إلى جانب القرابة المعجمية هنالك تجانس واضح وقرابة بنوية ملحوظة بين اللغات الحامية السامية من جهة، واللغات الهندية الأوربية، وأهمها اشتراك الأسرتين اللغويتين في الظواهر النحوية العامة مثل تصريف الأفعال وإعراب الأسماء والجنس والعدد وظواهر كثيرة لا يتسع المقام لذكرها في هذه الحاشية الموجزة.
وأما القرابة التي قد تبدو من حكاية أصوات الحيوانات، فلا يؤخذ بها لأنها حكاية أصوات، وذلك على الرغم من الفرق الكبير الذي يوجد أحياناً بين حكاية أصوات الحيوانات الإنكليزية والعربية والصينية!
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر Hermann Moller (1911), Vergleichendes indogermanisch-semitisches Worterbuch. Gottingen. هذا ولم أستطع وضع النقطتين فوق الـ o في اسم الكاتب وفي كلمة Worterbuch فيرجى أخذ العلم بذلك.
[2] انظر: Linus Brunner (1969), Die gemeinsamen Wurzeln des semitischen und indogermanischen Wortschatzes. Bern.[/align]
تعليق