لازالت تتناسل
قصة : محمد عزوز
كانت تأتي مستعجلة دون أن تراني ، تظن أنها صارت في منأى عن العيون ، تحفر بقدمها جرفة أو جرفتين من التراب الناعم في مكان قريب جداً من نافذة مكتبي الشمالية ، تثني مؤخرتها وقائمتيها الخلفيتين وتفعلها .
في البداية ، اثارتني فعلتها هذه ، وصرت أفتش عن سبب مقنع يدفعها لفعل ذلك أمامي وعلى مرأى من بصري .
وكانت حاسة الشم عندي ضعيفة منذ طفولتي ، فقد كان السيلان الدائم في أنفي خلال أيام الشقاوة سبباً في وصولي إلى حاسة شم شبه منعدمة ، ولذلك لم أهتم لما قد تتركه فضلات هذه الكلاب من رائحة ، ولم يعترض زوار المكتب على رائحة ما ، كانت تنبعث ولاشك في الأيام الدافئة من تلك الزاوية .
وكان الأمر محصوراً في البداية ببعض ذكورها أو أناثها ، إلا أن الأمر زاد عن حده بعد ذلك ، وصارت كل الكلاب المنتشرة في البرية المحيطة بالإدارة التي قيض لي أن أدير أحد مكاتبها هنا في هذه الزاوية المطلة على جبال بعيدة وروابي قريبة وعلى أكوام من الحطام ونفايات الحديد ، تفعلها هكذا ، دون أن تفكر بذاك الذي يراقبها من خلف زجاج نافذة واسعة .
مما دفعني للتفكير بفعل شيء ما يردعها ويدفعها كي تفعلها بعيداً ، فالمساحات واسعة ، وليس هناك من مبرر لإصرارها على التخلص من قذاراتها في هذا المكان .
وبدأت أصدر صوتاً ما أو حركة ، تفر إثر سماعه مسرعة ، كي تبحث بسرعة عن مكان أو زاوية أخرى تفعلها فيها .
ولكن ذلك لم ينه الأمر تماماً ، إذ أنني سرعان مامللت من فعل كهذا ، ولم أعد أجده لائقاً ، وظللت ألمح بعضها في أوج انشغالي وهي تفعل ذلك في مكان قريب جداً من النافذة .
فكرت في أن أرفع الأمر للسيد المدير العام ، عله يفعل شيئاً ، ولم أر من اللائق أن أصور له الأمر بكامل تفاصيله ، فرفعت مذكرة شرحت فيها أمر ازدياد عدد الكلاب الشاردة في البرية المحيطة بالإدارة ، ودخولها عبر منافذ السور إلى الساحات القريبة ، مما يسبب بعض الأمراض التي يمكن أن تنقلها هذه الكلاب ، وازعاجاتها المستمرة بالإضافة إلى أن جوعها المزمن الذي صار يبدو واضحاً ، قد يدفعها إلى داخل المكاتب ، أو يحرضها على أذى العاملين في هذه الإدارة .
ذيلت مذكرتي بحاشية ذكر فيها :
ــ السيد رئيس الدائرة : للمذاكرة ..
ولم أكن أتصور أنه سيوجه لي كل هذا التوبيخ بفعل مذكرتي تلك :
ــ هل يحتاج هذا الأمر إلى هذه المذكرة ياأستاذ ..؟
ــ أنت تجلس في مكتبك تراقب الكلاب إذاً ..؟
ــ ثم ماذا تريدني أن أفعل ..؟ أوظف لك أناساً يبعدونها أو يطعمونها .. أو .. أو ..!؟
ــ وإذا كنت تريدني أن أعطي أمراً بإعدامها ، فهذا ليس من صلاحياتي ، إعدام الكلاب يحتاج إلى موافقة جهات أعلى ياأستاذ .. ثم أنه إثم لايمكنني تحمل وزره ..
ــ عد إلى مكتبك .. وكف عن ملاحقتها .. واهتم بعملك وعمل موظفيك ..
أردت أن أعترض ، أن أقول شيئاً ما ، لكنه قاطعني فوراً :
ــ لاداعي لما ستقوله .. أنا أعرف ماتفكر به .. المسألة في غاية السخف ..
عدت إلى مكتبي منكسراً حائراً .. جلست وأنا أراقب كلبة بأثداء متهدلة ، وجراء سبعة تلتف حولها ، طابت لها القيلولة مع جرائها أمام نافذتي الشمالية تلك .
نسيت الأمر أياماً ، غضضت بصري عن مرأى كلاب لازالت تصر على فعلتها دون خجل ، قلت في نفسي :
ــ لماذا لا أفتش عن ميزة ما في هذا المكان تدفع هذه الكلاب إليها ، فأحرمها منها ، وتنتهي مشكلتي معها ..؟
خرجت متذرعاً باستطلاع ما ، اقتربت من المكان ، نفرت مني كلاب كانت تحاول الإقتراب ، وخاب أملي عندما لم أجد شيئاً مميزاً ، بقعة أرض معشوشبة ، بقع مزروعة هنا وهناك ، بعضها جففته أشعة الشمس ، والآخر لايزال حديث الزرع ، وخمنت أنها تفضل هذا المكان لقناعتها أنه يؤمن لها شيئاً من التستر عن أعين العابرين .
في أيام قادمة أخرى ، صرت أرى مشاهد ذات خصوصية عالية ..
كانا يقتربان متدانيين ، يحاول الذكر أن يحتك بها أكثر ، تهرب منه ، وعندما تراه وقد حرد أو انفرد ، تدنو منه بدورها ، يحس بتنامي شهوتها فيحاول ، تهرب منه مجدداً ، يصر أخيراً على إتمام مغامرته ، فتنصاع له .
يثيرني المشهد في البداية ، خاصة أنني قليلاً أو ربما نادراً ماأشاهد مثله ، ثم أنفر .. ومع تكراره ، أزداد نفوراً .
ولم أعد أطيق صبراً بعد ذلك .
كان علي أن أفعل شيئاً كي أخلص من هذه المشاهد اليومية التي باتت شغلي الشاغل ، وباتت تلهيني عن متابعة عملي بالدقة المعهودة مني فعلاً ، والأنكى من ذلك أن الكثير من العاملين في الإدارة باتوا يتذرعون ببعض الأعمال ليراقبوا هذه المشاهد عبر زجاج نافذتي .
لم أتناول قلمي هذه المرة ، صفقت باب مكتبي ورائي ، ولم أنتظر كي تأذن لي السكرتيرة ، فتحت الباب ، كان منكباً على طاولته ، تفاجأ بي فرفع رأسه :
ــ أهلاً أستاذ منير .. ماذا لديك ..؟
ــ لدي الكثير ياأستاذ .. ( بانفعال )
ــ خير إن شاء الله ..؟
ــ خير .. من أين يأتي الخير .. وقد صارت الكلاب تتناسل أمامي ، لقد باتت وقحة إلى حد كبير ياأستاذ ، قلنا جائعة .. خائفة .. لامانع .. لكن أن تتناسل بهذه الوقاحة أمام الأعين ، أمرٌ لم يعد يطاق ، أرجو أن تفعل من أجلنا شيئاً ما ..
انتظرني كي أنهي كلامي ، ضحك ، قهقه حتى دمعت عيناه ، قال بهدوء :
ــ عليك أن تعتاد ياأستاذ على هذه المشاهد ، وأن تهيء نفسك لمشاهد أخرى أكثر إثارة ..
ــ إثارة ..!! أنا لم أسمها إثارة .. إنها وقاحة .. وقاحة ياأستاذ .. ثم ماذا سأنتظر بعد ذلك ..؟
ــ ستنتظر الكثير .. (تابع بسخرية واضحة ) مشاهد أخرى قد يتفتق ذهنها عنها ..
وعاد يقهقه من جديد ، بقوة دفعت السكرتيرة للدخول ، ظناً منها أن أمراً ما حدث يستدعي تدخلها . حرضه دخولها على القهقهة من جديد ، بينما وجدت نفسي أخرج صافقاً الباب ورائي بقوة دفعت رؤوساً كي تطل من الأبواب وأنا في طريقي إلى مكتب يطل على كلاب لازالت تتناسل أمام ناظري حتى الساعة .
تعليق