موت الذاكرة ..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • وليد صلاح حماد
    أديب وكاتب
    • 23-07-2009
    • 172

    موت الذاكرة ..


    ما كنتٌ أظن يوماً قبل الآن بأن للذاكرة ومجموعة من الصور المليئة بأحداث الزمن القدرة على

    تغيير منحنى القدر بهذه الطريقة, كم أود لو أستطيع البكاء الآن ولا أستطيع, لا لأني معها

    أو لأن أخي محمد عاد اليوم بعد مشوار طال انتظاره طويلاً, أو لأن لحظات الاشتياق خانتني

    في بعد أمي لأيام طويلة, كم أرغب في البكاء الآن ولكني لا أستطيع, قبل الآن لم يكن للبكاء ً

    هذا القدر من الجمال ,ولكني اليوم أراه يمتلك الكثير منه

    ولكنه يحتفظ به تحت عيون الزمن .! لم أكن أعي إلي الآن بان للذاكرة القدرة على امتطاء

    صهوة العقل والسفر به خارج حدود الزمن ,دوماً ما كنت عكس الناس أحاول أن اختبر بها

    الإخلاص أن أجد فيها مالم أجده في بيتي طوال السنين الماضية ,هو لم يدري بعد كيف أهتدي

    قلبه يوماً إليها.!

    صباح جديد يزورنا بلا شمس وغيوم ملبدة تختبئ تحت وقع السماء وضحك الأطفال يرتفع

    الصدى.وجوه غريبة تمر أمامي ,نساء يحملن كومات الحطب فوق رؤوسهن , ورجال

    يمارسون رياضة الأرض المفضلة الحراثة على امتداد كرم الزيتون المحيط لمنزلنا الكبير.

    امشي بخطوات بطيئة, أحدق في فراغ غائم, بعيون خضراء تلفها خضرة الأرض بجمالها.

    كومة الذكريات أضحت بعيدة تعود بي لأيام ماضية أختبأت داخل قنينة قبل أن يشحذ الزمن

    سكينه الدامية: قلب ليلي الذي لا اعرف كم اختلج قبل أن يستكين إلي عرش خالقه.

    غرفتي حدود لوطن صغير من أربعة جدران حجرية وسماء قاسية لا ترحم ولا تلين, ووطن

    بسماء واسعة تغيب عبر الحدود تارة لترجع بثوبها الأزرق الجديد,

    ليلي وأحمد اثنان جمعهما القدر خلسة على طاولة حب شتائي

    لم يعرفا قبلاً بأن اللقاء يحتاج الكثير ليرتدي قبل أن تطاله عيون السماء الباكية

    لم يكن أحمد قبل الآن يبالي أو يفهم على الأقل, هذه الغريبة التي تتعكّز على قلبها دوماً

    ذالك القلب الذي لم يستطع أن يمحو القليل ممّا يبقيه ضعيفاُ متشبثا بكل حبل سري يوصله

    بتلك الصور الذي غادرته حتى دون أذن مسبق بالرحيل, وكأن تلك الصور كانت هي الحياة بالنسبة له

    كم أفتقدها الآن وكم ضاق عالمي الكبير بعدها وكم من مساحة بيضاء, تبخرت أمام تلك

    الشمس التي أنجبت ملايين النجوم الصيفية التي أعيش إلي اليوم تحت ضلها

    آه من قلبي الذي تكون من بعض رماد تنورها ,ومن موت زيتون اخضر ولوعة شوق فاصلة

    وطفولة وطن ضاعت بين أيدي العابثين وبرأه أرض تناهشتها الجارفات ,أركان السماء تهتز

    خشوعاً لصورة تلك الأم التي مازالت متشبثة بشتلة زيتون مثل قلب أمي الذي تقاسمته

    رصاصات هاربة من عادلة الأرض . الجارفات اللعينة تتغذي على بيتي وأشجار الزيتون

    , ومازالت غرفتي جالسة في أركان الأرض تحكي للأطفال عن طفولة وطني المعذب

    مازلتٌ أذكر بيتي ذالك الحنون, بأدراجه المليئة بذكريات الزمن الضائع وحاكيا الطفولة

    مثل روح أمي التي مازالت تزورني إلى الآن, قصة حب طفلة وشغب شباب وكرؤؤس قهوة

    عربية بالهيل والزعفران , وطناجر عدس وأقراص لحم وجبن تعدها أمي في رمضان. إذن

    هي الذاكرة التي ماتكف أبداً عن مداعبة أيامي بكل هذا الحب والخوف , صورة رفيقة عمري ليلي
    التي مازالت تراقبني باستمرار, وصورة أمي العالقة على جدران قلبي التي تقسمتها معي

    نبضات الأرض, وعيون أبي المليئة بترسبات الزمن الضائع منا قبل عيد الفرحة

    للمرة الأولي من أعوام راحلة دون رجعة أعود للجلوس وحيداً بين أرصفة الماضي وكومات

    الصور لأصبح اليوم أسيراً لوجه أمي العالق في كل زاوية وركن وشارع في وطني الصغير

    وسجيناً لجميع ذكريات ليلي رفيقة عمري وصباي الراحل . ولا أعرف حد الآن هل أنا أصبحتٌ

    أسيراً لذالك الماضي الجميل المخيف أم أنا من أسرته في حنايا قلبي حتى لا يستطع

    الهروب؟؟ شتاء 2000 حيث أتا أخي محمد من باريس بعد عشر سنوات ليجمع أنقاض عمره

    الضائع بين أرصفة غربته والوطن المحاصر مازال يحلم بوجود أمه كل ليلة ويدور في أركان

    البيت ينتظر عودتها وكأن الزمن سيعود غداً ليقص على مسامعه حكاية الغربة.!

    هاهو يطلع نهار جديد ويمتلئ الزائرون في بيتنا الحنون الذي غص بالزوار والمهنّئين ,

    وأبناء العمومة والجيرة والأصدقاء والكثيرون, ورائحة الأرز الأصفر وقدور اللحم

    والمشروبات الكثيرة

    وبعض العطور الآتية من باريس يقولون بأن باريس تشتهر بروعة عطورها, كل تلك الروائح

    تغص بأنفي .لتقف على مفترق أنفاسي لتذكرني برائحة دم أمي التي تناثر على أشجار الزيتون

    وكأني الآن أراها جالسة تتوسط الجموع وتحتضن محمد بعد مشوار دام طويلاً وترقص معه كما لم ترقص أبداً في حياتها.


    بعد مشوار طويل عبر ربوع الذاكرة المليئة بذكريات الزمن الماضي أعود من جديد لأجلس

    على كرسي أمي المفضل لارتشف فنجان قهوتي وأدخن سيجارة على أطلال ربيعي الراحل مع

    أني لم أحب التدخين يوماً ,كنتٌ أقول بأنه ضار بالصحة وما أكثر الأشياء التي تضر بصحتنا

    اليوم دون إن ندري بها, أعود مجدداً لألملم شتات نفسي المتضاربة وأعود لمشواري الروتيني المعهود

    موجة عارمة من الذكريات تجتاح جسدي لتقذف به في دوامة العادات والوطن والأهل والحب

    ما أكثرها العادات في حياتنا, وما هي حياتنا غير دوامة من العادات التي تقودنا إلى ذاكرة النسيان

    رفعت المقعد بجنب النافدة لانتظر من الشباك على الشارع العام الذي يفصلنا عن البحر.عدتٌ

    من جديد للنظر عبر النافدة والتحليق بعيداً مع طيور النورس المسافرة عبر أزير الريح

    كم أود التحليق بعيداً مع الطيور المسافرة إلى وطن أخر وبيت أخر وأرض أخري

    وكأني أذا رحلت سأشفي من جميع أعباء ذاكراتي المحاطة بإكليل من النسيان

    وما أكثرها اليوم, حتى لو غادرت هل سأشفي من جرح أمي التي استشهدت بأمر من القدر

    وهل سأنسي ليلي رفيقة العمر الذي خطفها مني المرض

    أذكر بأنها قبل وفاتها طلبت مني تقبيل هذا البيت الذي جمعنا طويلاً بين ضلوعه

    هذا البيت الذي لم يتواني للحظات بأن يمنحنا الدفء والحنان في ليل الضجر والوحشة والبرد

    القاسي ,أنستني كثرة المشاوير برفقة الذاكرة أن أقبل جدرانه وأرضه وسمائه أن أحتظانه بين

    ذراعي كم أحتضن أطفالي الصغار في كل صباح وكل مساء, أنستني الأيام الكثير لأفعله وخانتني

    ذاكراتي بالكثير من التفاصيل التي تاهت بغفلة مني ,رائحة خبز أمي ,وصحن العجين,وكعك

    أمي المعجون بعرق يديه ليلة العيد, خلافتنا الحميمة على حبات الكعك وانتظار الضيوف

    وصندوق ذكرياتي الأحمر المصنوع من خشب الزيتون القديم, تمضي الأيام ويمضي العمر

    بي وأنا مازلتٌ جالس على كرسي أمي أحتضن جميع أشياءها الباقية, مازلتٌ أذكرها جيداً حينما

    لبست هذا الثوب الأسود المزركش بعرق السنين الماضية ,هل خانتني اليوم أقلامي حين

    رسمتكِ يوم نجمة في السماء يندي لها الجبين أم حين رسمتٌ ليلي قمراً فتيا يشعل النور في السماء
    كم هي قاسية الذاكرة حين تعود بنا للجلوس على منعطفات كنا قد غادرنها حتى دون رجاء

    مسبق بالعودة, والأصعب من ذالك هي الحياة التي تجافينا للحظات كثيرة حتى نكاد ننسي طعم جلوتها

    كم احسد تلك الرفوف القابعة في مكتبة أبي حين يداهمني القلق ليلاً فانهض من فراش طفولتي

    لأقتنص احد الكتب التي تقع عليها عيني ,دوماً ماكانت تغريني قرأة الكتب والروايات الطويلة

    حتى نهايتها ,دوماً ماكان لمكتبة أبي مكانها المفضل من عقلي وذاكراتي ,كما كرسيه الذي

    يشغل الحيز الأكبر من مكتبي اليوم, أنستني الزحمة العودة لأخي محمد الذي يكبرني بأعوام ذالك الأخ
    الذي كان ومازال له مكانه الكبير وسط ربوع الجسد ,كثيراً ماكان يحلم بالسفر والدراسة خارج


    فلسطين.كانت أفكاره دوماً تسبق عمره ودوماً ماكان له الحيز الأكبر من وجهات التحرر

    والمكافحة ضد العادات القديمة والرجعية في وجه الشرق التي لا ترحم

    لم أخف يوماً من أن تصيبني أفكاره بعدوي مزمنة في مجتمع متناقض الوجهات

    فانا كثيراً ما كنتٌ أختلف معه بوجهته حول الشرق وطباع الشرق وأحياناً كثيراً ما كنت أؤيده

    وأشجعه في كتباته المناهضة للظلم والتسلط والكثير الكثير , لم تخونه ذاكرته يوماً

    في أي شيء ولكنها خانته هذه المرة في رؤية أمه للمرة الأخيرة

    دوماً ما تفضل الذاكرة الأحتفاض بجزء من تفاصيلنا لنفسها لتعربد عليه جيداً

    حتى لا يسقط منها شيء وتبقي هي المسيطرة على جميع أجزائنا المقفاة على سطوح العقل

    كصوت فيروز حين تحلق في ربوع البيت فتطفئ بحنو صوتها جميع ينابيع الخوف والتو هان

    أو حتى أكون أكثر دقة كتواجد أم كلثوم على المسرح حين ثثير الجمال للوقوف بحضرة بهائها

    وجمال صوتها الذي يخطفك لعالم من الحب الجميل , عادت بي هذه المرة ذاكراتي لتطرق باب

    جارتنا أم محمود تلك الجارة الطيبة, كم أضحك أحين أذكرها وأذكر قرأتها للفنجان وأيمانها

    العميق بوجود عرفات للفنجان يحرسونا أينما نذهب

    يا ألهي كم أشعر بالتعب الآن أرهقتني هذه المرة الذاكرة القاسية بالعودة لتفاصيل قديمة مضي

    عليها من الزمن الكثير ومازالت محتفظة بمكانها الأكبر من حياتي اليوم

    ها أنا عدت للجلوس على الأرض لألملم شتات الصور ورسائل الحب المنثورة أمامي

    لأضاعها من جديد في مكانها, أمي وليلي ومحمد وأطفالي الصغار كانوا يشكلون الجزء الأكبر

    من عالمي, وقد أستطاع القدر إن يتقاسم معي جزء منهما, سأحاول أن أحافظ على الجزء

    المتبقي منها لأكمل مشاوري القادم لأعود الآن إلى غرفتي آه غرفتي التي كانت تشكّل نصف عالمي

    , بجثث عنها طويلاً بين الصور فلم أجد منها سوى صورة صغيرة لبعض الأشياء الجميلة منها

    لم تضيع رسائل الحب هذه المرة ,وجدتها جالسة داخل كتاب التاريخ تنتظر عودتي لقرأتها مجدداً

    ملعون هو باب الذاكرة الذي طرقته اليوم لأجد نفسي عالقاً بين ذاكرة الماضي واليوم.

    ترمقني الرسائل بنظرة حزينة وكأنها تكاد تسقط من عينيها دمعة

    وتقل لي ادر وجهك للناحية الأخرى حتىأنتهي البكاء !

    انهمرت من عيني دمعة خارجة عن أرادتي لتشعل بقلبي حسرة الذكريات

    على جميع الأماكن التي أصبحت فارغة في حياتي

    اليوم أشعر بان جزءاً مات مني..!
    التعديل الأخير تم بواسطة وليد صلاح حماد; الساعة 15-08-2010, 20:37.
    أحبينى بلا عقدً ..

    وضيعى فى خطوط يدى..
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    مرحبا أستاذ وليد صلاح.
    لغة فاتنة ،و صدق في الأداء و يسر في السّرد أهنّؤك عليه.
    صديقي وليد ، تبليغ الفكرة(الأفكار) للقارىء لا يشفع بأيّ شكل من الأشكال للقاص أن يورد مطيّتها كما هي و دون تنسيق أو ترتيب أو ترابط بين خيطانها و أن يُهمل جانب الوضوح في رسمها البياني.
    و في اعتقادي و بعد إمعان في القراءة ،بدا لي أنّ كمّا هائلا من الذّكريات كالتي أوردها الكاتب في نصّه و حرص على الوقوف على تفاصيلها واحدة واحدة، كانت الرّواية أقدر على تحمّلها و أفضل من التّعويل على الحيّز الضيّق المركّز للقصّة القصيرة .
    صديقي العزيز تقبّل ودّي و محبّتي و تقديري لأدبك الرّاق.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • بسمة الصيادي
      مشرفة ملتقى القصة
      • 09-02-2010
      • 3185

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة وليد صلاح حماد مشاهدة المشاركة

      ما كنتٌ أظن يوماً قبل الآن بأن للذاكرة ومجموعة من الصور المليئة بأحداث الزمن القدرة على

      تغيير منحني القدر بهذه الطريقة (هل القدر منحك التغير أم التغير منحك القدر؟؟) فإن كنت تقصد أن القدر منحك التغير إذا الجملة: "تغيير منحني إياه القدر ", كم أود لو أستطيع البكاء الآن ولا أستطيع," لا لأني معها

      أو لأن أخي محمد عاد اليوم بعد مشوار طال انتظاره طويلاً, أو لأن لحظات الاشتياق خانتني

      في بعد أمي لأيام طويلة, كم أرغب في البكاء الآن ولكني لا أستطيع, قبل الآن لم يكن للبكاء ً

      هذا القدر من الجمال ,ولكني اليوم أراه يمتلك الكثير منه " هنا الأسلوب جميل جدا ، كنت بارعا في الإنتقال من الصورة العامة إلى الخاصة

      ولكنه يحتفظ به تحت عيون الزمن .! لم أكن أعي إلى الآن بأن للذاكرة القدرة على امتطاء

      صهوة العقل والسفر به خارج حدود الزمن ,دوماً ما كنت عكس الناس أحاول أن اختبر بها

      الإخلاص، أن أجد فيها مالم أجده في بيتي طوال السنين الماضية ,هو لم يدري بعد كيف أهتدى

      قلبه يوماً إليها.!

      صباح جديد يزورنا بلا شمس وغيوم ملبدة تختبئ تحت وقع السماء، وضحكات الأطفال ترتفع

      الصدى (ر بما قصدت ترفع الصدى أو يرتفع بها ..، مممم أعتقد أن هناك حرف جر سقط منك سهوا ).وجوه غريبة تمر أمامي ,نساء يحملن كومات الحطب فوق رؤوسهن , ورجال

      يمارسون رياضة الأرض المفضلة، الحراثة على امتداد كرم الزيتون المحيط لمنزلنا الكبير.

      أمشي بخطوات بطيئة, أحدق في فراغ غائم, بعيون خضراء تلفها خضرة الأرض بجمالها.

      كومة الذكريات أضحت بعيدة تعود بي لأيام ماضية تخبئت(إختبأت) داخل قنينة قبل أن يشحذ الزمن

      سكينه الدامية: قلب ليلى الذي لا أعرف كم اختلج قبل أن يستكين إلي عرش خالقه.

      غرفتي حدود لوطن صغير من أربعة جدران حجرية وسماء قاسية لا ترحم ولا تلين, ووطن

      بسماء واسعة تغيب عبر الحدود تارة لترجع بثوبها الأزرق الجديد,

      ليلي وأحمد اثنان جمعهما القدر خلسة على طاولة حب شتائي

      لم يعرفا قبلاً بأن اللقاء يحتاج الكثير ليرتدي قبل أن تطاله عيون السماء الباكية

      لم يكن أحمد قبل الآن يبالي أو يفهم على الأقل, هذه الغريبة التي تتعكّز على قلبها دوماً

      ذالك القلب الذي لم يستطع أن يمحو القليل ممّا يبقيه ضعيفاُ متشبثا بكل حبل سري يوصله

      بتلك الصور الذي غادرته حتى دون أذن مسبق بالرحيل, وكأن تلك الصور كانت هي الحياة بالنسبة له

      كم أفتقدها الآن وكم ضاق عالمي الكبير بعدها وكم من مساحة بيضاء, تبخرت أمام تلك

      الشمس التي أنجبت ملايين النجوم الصيفية التي أعيش إلي اليوم تحت ضلها

      آه من قلبي الذي تكون من بعض رماد تنورها ,ومن موت زيتون أخضر ولوعة شوق فاصلة

      وطفولة وطن ضاعت بين أيدي العابثين وبرأه أرض تناهشتها الجارفات ,أركان السماء تهتز

      خشوعاً لصورة تلك الأم التي مازالت متشبثة بشتلة زيتون مثل قلب أمي الذي تقاسمته

      رصاصات هاربة من عادلة الأرض ( صور رائعة) . الجارفات ( هل تقصد الجرافات ؟؟) اللعينة تتغذى على بيتي وأشجار الزيتون

      , ومازالت غرفتي جالسة في أركان الأرض تحكي للأطفال عن طفولة وطني المعذب

      مازلتٌ أذكر بيتي، ذالك الحنون, بأدراجه المليئة بذكريات الزمن الضائع وحاكيا الطفولة

      مثل روح أمي التي مازالت تزورني إلى الآن, قصة حب طفلة وشغب شباب وكرؤؤس قهوة

      عربية بالهيل والزعفران , وطناجر عدس وأقراص لحم وجبن تعدها أمي في رمضان. إذا

      هي الذاكرة التي ما تكف أبداً عن مداعبة أيامي بكل هذا الحب والخوف , صورة رفيقة عمري ليلى
      التي مازالت تراقبني باستمرار, وصورة أمي العالقة على جدران قلبي التي تقسمتها (هل تقصد تقاسمتها؟؟) معي

      نبضات الأرض, وعيون أبي المليئة بترسبات الزمن الضائع منا قبل عيد الفرحة

      للمرة الأولى من أعوام راحلة دون رجعة أعود للجلوس وحيداً بين أرصفة الماضي وكومات

      الصور لأصبح اليوم أسيراً لوجه أمي العالق في كل زاوية وركن وشارع في وطني الصغير

      وسجيناً لجميع ذكريات ليلى رفيقة عمري وصباي الراحل . ولا أعرف حد الآن هل أنا أصبحتٌ

      أسيراً لذالك الماضي الجميل المخيف أم أنا من أسرته في حنايا قلبي حتى لايستطيع

      الهروب؟؟ شتاء 2000 حيث أتى أخي محمد من باريس بعد عشر سنوات ليجمع أنقاض عمره

      الضائع بين أرصفة غربته والوطن المحاصر مازال يحلم بوجود أمه كل ليلة ويدور في أركان

      البيت ينتظر عودتها وكأن الزمن سيعود غداً ليقص على مسامعه حكاية الغربة.!

      هاهو يطلع نهار جديد ويمتلئ الزائرون في بيتنا الحنون الذي غص بالزوار والمهنّئين ,

      وأبناء العمومة والجيرة والأصدقاء والكثيرون, ورائحة الأرز الأصفر وقدور اللحم

      والمشروبات الكثيرة

      وبعض العطور الآتية من باريس يقولون بأن باريس تشتهر بروعة عطورها, كل تلك الروائح

      تغص بأنفي .لتقف على مفترق أنفاسي لتذكرني برائحة دم أمي التي تناثر على أشجار الزيتون

      وكأني الآن أراها جالسة تتوسط الجموع وتحتضن محمد بعد مشوار دام طويلاً وترقص معه كما لم ترقص أبداً في حياتها.


      بعد مشوار طويل عبر ربوع الذاكرة المليئة بذكريات الزمن الماضي أعود من جديد لأجلس

      على كرسي أمي المفضل لارتشف فنجان قهوتي وأدخن سيجارة على أطلال ربيعي الراحل مع

      أني لم أحب التدخين يوماً ,كنتٌ أقول بأنه ضار بالصحة وما أكثر الأشياء التي تضر بصحتنا

      اليوم دون أن ندري بها, أعود مجدداً لألملم شتات نفسي المتضاربة وأعود لمشواري الروتيني المعهود

      موجة عارمة من الذكريات تجتاح جسدي لتقذف به في دوامة العادات والوطن والأهل والحب

      ما أكثرها العادات في حياتنا, وما هي حياتنا غير دوامة من العادات التي تقودنا إلى ذاكرة النسيان

      رفعت المقعد بجنب النافدة لانظر من الشباك على الشارع العام الذي يفصلنا عن البحر.عدتٌ

      من جديد للنظر عبر النافدة والتحليق بعيداً مع طيور النورس المسافرة عبر أزير الريح

      كم أود التحليق بعيداً مع الطيور المسافرة إلى وطن أخر وبيت آخر وأرض أخرى

      وكأني أذا رحلت سأشفى من جميع أعباء ذاكراتي المحاطة بإكليل من النسيان

      وما أكثرها اليوم, حتى لو غادرت هل سأشفى من جرح أمي التي استشهدت بأمر من القدر

      وهل سأنسي ليلى رفيقة العمر الذي خطفها مني المرض

      أذكر بأنها قبل وفاتها طلبت مني تقبيل هذا البيت الذي جمعنا طويلاً بين ضلوعه

      هذا البيت الذي لم يتوانى للحظات بأن يمنحنا الدفء والحنان في ليل الضجر والوحشة والبرد

      القاسي ,أنستني كثرة المشاوير برفقة الذاكرة أن أقبل جدرانه وأرضه وسمائه أن أحتضنه بين

      ذراعي كما أحتضن أطفالي الصغار في كل صباح وكل مساء, أنستني الأيام الكثير لأفعله وخانتني

      ذاكراتي بالكثير من التفاصيل التي تاهت بغفلة مني ,رائحة خبز أمي ,وصحن العجين,وكعك

      أمي المعجون بعرق يديه ليلة العيد, خلافتنا الحميمة على حبات الكعك وانتظار الضيوف

      وصندوق ذكرياتي الأحمر المصنوع من خشب الزيتون القديم, تمضي الأيام ويمضي العمر

      بي وأنا مازلتٌ جالس على كرسي أمي أحتضن جميع أشياءها الباقية, مازلتٌ أذكرها جيداً حينما

      لبست هذا الثوب الأسود المزركش بعرق السنين الماضية ,هل خانتني اليوم أقلامي حين

      رسمتكِ نجمة في السماء يندي لها الجبين أم حين رسمتُ ليلى قمراً فتيا يشعل النور في السماء
      كم هي قاسية الذاكرة حين تعود بنا للجلوس على منعطفات كنا قد غادرنها حتى دون رجاء

      مسبق بالعودة, والأصعب من ذالك هي الحياة التي تجافينا للحظات كثيرة حتى نكاد ننسى طعم جلوتها

      كم أحسد تلك الرفوف القابعة في مكتبة أبي حين يداهمني القلق ليلاً فأنهض من فراش طفولتي

      لأقتنص أحد الكتب التي تقع عليها عيني ,دوماً ماكانت تغريني قراءة الكتب والروايات الطويلة

      حتى نهايتها ,دوماً ماكان لمكتبة أبي مكانها المفضل من عقلي وذاكراتي ,كما كرسيه الذي

      يشغل الحيز الأكبر من مكتبي اليوم, أنستني الزحمة العودة لأخي محمد الذي يكبرني بأعوام ذالك الأخ
      الذي كان ومازال له مكانه الكبير وسط ربوع الجسد ,كثيراً ماكان يحلم بالسفر والدراسة خارج


      فلسطين.كانت أفكاره دوماً تسبق عمره ودوماً ماكان له الحيز الأكبر من وجهات التحرر

      والمكافحة ضد العادات القديمة والرجعية في وجه الشرق التي لا ترحم

      لم أخف يوماً من أن تصيبني أفكاره بعدوى مزمنة في مجتمع متناقض الوجهات

      فأنا كثيراً ما كنتٌ أختلف معه بوجهته حول الشرق وطباع الشرق وأحياناً كثيراً ما كنت أؤيده

      وأشجعه في كتباته المناهضة للظلم والتسلط والكثير الكثير , لم تخونه ذاكرته يوماً

      في أي شيء ولكنها خانته هذه المرة في رؤية أمه للمرة الأخيرة

      دوماً ما تفضل الذاكرة الأحتفاظ بجزء من تفاصيلنا لنفسها لتعربد عليه جيداً

      حتى لا يسقط منها شيء وتبقى هي المسيطرة على جميع أجزائنا المقفاة على سطوح العقل

      كصوت فيروز حين تحلق في ربوع البيت فتطفئ بحنو صوتها جميع ينابيع الخوف والتوهان

      أو حتى أكون أكثر دقة كتواجد أم كلثوم على المسرح حين ثثير الجمال للوقوف بحضرة بهائها

      وجمال صوتها الذي يخطفك لعالم من الحب الجميل , عادت بي هذه المرة ذاكراتي لتطرق باب

      جارتنا أم محمود تلك الجارة الطيبة, كم أضحك حين أذكرها وأذكر قرأتها للفنجان وإيمانها

      العميق بوجود عرفات للفنجان يحرسونا أينما نذهب

      يا إلهي كم أشعر بالتعب الآن أرهقتني هذه المرة الذاكرة القاسية بالعودة لتفاصيل قديمة مضى

      عليها من الزمن الكثير ومازالت محتفظة بمكانها الأكبر من حياتي اليوم

      ها أنا عدت للجلوس على الأرض لألملم شتات الصور ورسائل الحب المنثورة أمامي

      لأضاعها من جديد في مكانها, أمي وليلى ومحمد وأطفالي الصغار كانوا يشكلون الجزء الأكبر

      من عالمي, وقد أستطاع القدر إن يتقاسم معي جزء منهما, سأحاول أن أحافظ على الجزء

      المتبقي منها لأكمل مشواري القادم لأعود الآن إلى غرفتي.. آه غرفتي التي كانت تشكّل نصف عالمي

      , بحثت عنها طويلاً بين الصور فلم أجد منها سوى صورة صغيرة لبعض الأشياء الجميلة منها

      لم تضيع رسائل الحب هذه المرة ,وجدتها جالسة داخل كتاب التاريخ تنتظر عودتي لقرأتها مجدداً

      ملعون هو باب الذاكرة الذي طرقته اليوم لأجد نفسي عالقاً بين ذاكرة الماضي واليوم.

      ترمقني الرسائل بنظرة حزينة وكأنها تكاد تسقط من عينيها دمعة

      وتقل لي أدر وجهك للناحية الأخرى حتى أنتهي من البكاء !

      انهمرت من عيني دمعة خارجة عن أرادتي لتشعل بقلبي حسرة الذكريات

      على جميع الأماكن التي أصبحت فارغة في حياتي


      اليوم أشعر بأن جزءاً مات مني..!
      أولا اسمح لي أن أصفق لهذا القلم الذي ازدحمت فيه الصور، كلوحات عريقة، حولت الصفحة إلى متحف من متاحف الذاكرة ..
      ليس لأنني أعشق الحديث عن الذكريات فحسب بل حقا كانت صورا مذهلة
      وشفافة، أخذتنا معها في رحلة بين جبال ووديان ذاكرة متعبة، من الألم الذي عشعش فيها، ومن العصافير التي قتلت على أغصانها ..
      وكان الحبر ينزف نفس ذلك الدم الذي سال من جراح الفقد طويلا ..
      لا أدري إن كنت فقط تكتب ..أم أنك تقصدت النقش على قلوبنا!!
      مع أنك أطلت قليلا في الحديث، إلا أن كل حرف كان له ملامحه الجميلة ..
      أجدت بوصف تلك الحالة .. ورسمت ببراعة رجلا يعيش على أطلال الماضي .. وعلى كرسي الأم الشهيدة ... وطيف ليلى ..
      هذه هي جراح فلسطين ... وجراح البشر الذين تأخذ منهم الحياة أعز ما يملكون .. ونحن لا ندفن الأحباب إلا ومعهم جزءا كبيرا منا .......
      أرجو أن لا يتوقف هذا القلم الشفاف عن الإبداع ...
      أنتظر منك ما هو أجمل وأروع ...
      شكرا لك من الأعماق ..كنت بحاجة لقراءة هذا
      تحيتي لك ..
      في انتظار ..هدية من السماء!!

      تعليق

      • إيمان الدرع
        نائب ملتقى القصة
        • 09-02-2010
        • 3576

        #4
        الأستاذ القدير وليد صلاح حماد:
        شاركناك..هذه الرحلة عبر الذاكرة ومحطّاتها
        وأبطال أحداثها..
        فوجدنا صدق المشاعر..وعمق الإحساس..وبعد المعنى
        دُمتَ بسعادةٍ... تحيّاتي

        تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

        تعليق

        • وليد صلاح حماد
          أديب وكاتب
          • 23-07-2009
          • 172

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
          مرحبا أستاذ وليد صلاح.
          لغة فاتنة ،و صدق في الأداء و يسر في السّرد أهنّؤك عليه.
          صديقي وليد ، تبليغ الفكرة(الأفكار) للقارىء لا يشفع بأيّ شكل من الأشكال للقاص أن يورد مطيّتها كما هي و دون تنسيق أو ترتيب أو ترابط بين خيطانها و أن يُهمل جانب الوضوح في رسمها البياني.
          و في اعتقادي و بعد إمعان في القراءة ،بدا لي أنّ كمّا هائلا من الذّكريات كالتي أوردها الكاتب في نصّه و حرص على الوقوف على تفاصيلها واحدة واحدة، كانت الرّواية أقدر على تحمّلها و أفضل من التّعويل على الحيّز الضيّق المركّز للقصّة القصيرة .
          صديقي العزيز تقبّل ودّي و محبّتي و تقديري لأدبك الرّاق.

          الأستاذ محمد

          كنت هنا متنيراُ لجميع التفاصيل
          قعلاً كان بودي لو كانت رواية وليست قصة
          ولكن لضيق الزمن المحيط بي سأجعلها لأخرى
          سعدت جداً بتواجدك هنا وانتقادك
          ورؤيتك الجميلة جداً للكمات
          دمت بكل خير دوماً
          أحبينى بلا عقدً ..

          وضيعى فى خطوط يدى..

          تعليق

          • وليد صلاح حماد
            أديب وكاتب
            • 23-07-2009
            • 172

            #6
            الأستاذة بسمة

            وماأجمله من تواجد كانسمة صيفية تهب عبر الأوراق
            فتعطيها جمالاً يقيده الطيران

            كنتِ هنا زاخرة حد العطاء
            ولهذا لن يكون هذا القلم بخيلاً ليوم
            بان يمنح القارئ حد الطيران
            أحبينى بلا عقدً ..

            وضيعى فى خطوط يدى..

            تعليق

            • وليد صلاح حماد
              أديب وكاتب
              • 23-07-2009
              • 172

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة إيمان الدرع مشاهدة المشاركة
              الأستاذ القدير وليد صلاح حماد:
              شاركناك..هذه الرحلة عبر الذاكرة ومحطّاتها
              وأبطال أحداثها..
              فوجدنا صدق المشاعر..وعمق الإحساس..وبعد المعنى
              دُمتَ بسعادةٍ... تحيّاتي
              القديرة أيمان

              وأنا بدورى أقدم أجمل باقى شكر مصحوبة برائحة عطر الأرض
              واهديها لكِ
              أحبينى بلا عقدً ..

              وضيعى فى خطوط يدى..

              تعليق

              يعمل...
              X