ديوان الحقيقة
أُصاب بالخجل الشديد من نفسي كما لو أنّ أحدهم رفض مصافحتي أمام جمع من النّاس ،كلّما تذكّرت إحدى خطاباتي الحماسيّة الغاضبة أمامها،و أنا أستنكر و أنتقد و أدين البعض و أفضح سلوك البعض الآخر،كواحد من أكثر المنتبهين الفطنين لكلّ كبيرة و صغيرة بالمدينة و سائر البلاد.بل كنت ربّما أحسب أنّي من القلائل الذين يرتّبون المسائل جيّدا و يضعونها في خاناتها بكلّ دقّة و سعة دراية و إلمام بالتّفاصيل و امتلاك لشروحات و تفاسير لجميع الظّواهر.أمثالي من المطّلعين على قاع المدينة قبل وجهها الزّائف،لا تتوّههم الأقنعة التي تضعها العصابات الحقيقيّة ،و لا ما اعتادوا أن يغلّفوا به جرائمهم من مخمل و قطن. فذرائعهم،و تبريراتهم،و جميع تحرّكاتهم صارت مألوفة لدينا و حيلهم باتت مكشوفة ..الأزقّة،الجحران،أكثر الأركان ظلمة في المدينة هي الأكثر إضاءة بالنّسبة لنا ..نحن الشّاطرون ..أو هكذا توهّمت.
كان يجمعنا مكتب واحد،و كنّا بمفردنا على الرّغم من أنّه يتّسع لاثنين آخرين.
كنت مكلّفا بضبط حسابات الشّركة،فيما لم تكن شادية تجيد شيئا عدا ترتيب الوثائق حسب التّاريخ و تصفيفها بعناية داخل علب الأرشيف.دون أن تكون لديها أدنى فكرة عمّا بداخلها.
المكتب في آخر الرّواق ،ممّا يتيح لنا حريّة أكثر في التّصرّف و الحديث بصوت عال مقارنة بالآخرين.
كنت فخورا بثقافتي الاجتماعية،و مولعا بتعرية الوقائع ؛و لكن حين تزيغ عينا شادية ناحية اليمين فهذا يعني أنّها غابت عن الوعي تماما من شدّة الإصغاء،و لم تعد تسمع أو تفقه شيئا ممّا أقول . بالنّسبة لي تلك كانت العلامة التي تجعلني أتوقّف عن الحديث حتّى دون أن أختم،و كانت لحسن الحظّ تقنع و لا تطالب ببقيّة.فبالإضافة إلى انعدام الفضول لديها،فهو إن وُجد شبيه بفضول العجائز أمام مصائر الأبطال في القصص الخرافيّة.فكون المرأة عالقة ليلا فوق سطح بناية شاهقة ،تستغيث و تصيح، تتلاطمها تيّارات الهواء القويّة و تهدّدها بالسّقوط في كلّ لحظة، فهذا لا يعنيها و لا يحرّك بداخلها شعورا بالإثارة أو رغبة في معرفة مصيرها،بقدر ما سيشغلها مصير زوجها المسكين حين يعود من عمله منهكا فلا يجدها في البيت.
في البداية اعتبرت شادية حالة نادرة في الخواء، حلقة مكمّلة للنّظام البيئي لا أكثر،و قد أكون ابتعدت في إقصائها عن دائرة النّفع و لكنّي فعلا لا أجد فائدة من وجودها على وجه الأرض، كانت في نظري أيّام يتعكّر مزاجي ،و تسكنني نزعة شرّيرة مجرّد كائن طفيلي مغلوب على أمره،لا يبدي رأيا ،شقيّ،لا يقدّم و لا يؤخّر و سوف لن ننتبه لزواله مثلا مثقال ذرّة،كائن علميّ يعيش ليتنفّس و يتنفّس ليعيش.
ثمّ مع مرور الوقت أصبحت أتعامل معها كمادّة ثريّة ،مكتظّة بالغبن و الغباء مجتمعين في كتلة لحم واحدة،و إن كنت أسمح لنفسي بمغازلتها من حين لآخر،ليقيني أنّها لن تفهم عباراتي و لن تؤوّلها أو توجّهها صوب التّحرّش.
جمال عينيها و جذعها المكتنز هما اللّذان شجّعاني على مواصلة الحديث معها رغم سلبيّتها المفرطة و ركاكة استيعابها.هناك سبب آخر كنت دائما أحدّث به نفسي لأبرّر حاجتي للثّرثرة أمامها أثناء العمل لكنّه غير صحيح،و هو أنّي كنت أفتح عينيها و أعلّمها مسارب الحياة شفقة عليها و تعاطفا مع جهلها و براءتها ،أي كما تقول الكتب الصّفراء :خوفا عليها من الذّئاب المتربّصة بأمثالها من الحملان الوديعة.
تفكيرها سخيف جدّا و لا يمتّ للواقع بصلة على الإطلاق إلاّ في مناسبات نادرة جدّا،حين يتعلّق الأمر بمسألة مجترّة و متداولة جدّا بين النّاس،كالفوائد الجمّة للمطر في شهر آذار على الزّراعة مثلا.
حدّثتها عن قرصان الأسواق و كيف صفع شيخا على وجهه لأنّه امتنع عن دفع معلوم انتصاب يساوي ثمن الدّيك الذي كان يبيعه.
تعاطفت شادية مع الشّيخ ساعتها ،لكن رأفة بكلّ من تلقّى صفعة على وجهه ،ليس إلاّ كأنّ الحكاية ،لا تحمل أبعاد أخرى.
حدّثتها أيضا عن مدرّس أعرفه يملك بالتّوازي قاعة أفراح و كيف يبرم عقوده مع حرفائه داخل قاعة الدّرس.ساعتها أجابت:ألا يملك طاولة في بيته؟
أذكر أيضا أنّي أخبرتها عن ممرّض يزوّد المستشفى الذي يعمل فيه بما فسد له من خضر و غلال في محلّه.
قالت :كيف يجرؤ ؟ ما هذه القسوة و الأنانيّة.
قلت أدفع بالحوار إلى الأمام،و أستغلّ ردّها المناسب،لعلّها ساعة الفهم السّنويّة:
"- ..أحيانا ينتابني يا شادية شعور بالشّفقة تجاه هؤلاء،ربّما كانوا بإصرارهم على ارتكاب الشرّ ،إنّما يخفّفون على أنفسهم وطأة الزّوال و حتميّة الحساب بعد الموت،لأنّهم بذلك سيثبتون لأنفسهم أنّهم مخلوقات فاسدة عفنة،تستحقّ ،بل من الأفضل أن تُطمر تحت التّراب ."
كنت بذلك أروّح عن نفسي من ناحية و ألمّح لها من ناحية أخرى بأنّ الحياة لا تقبل داخل لعبتها إلاّ أصحاب المخالب و الجلود السّميكة.و خطر لي بفضل صمتها أنّ الأخلاق تفسد أيضا و تهترؤ شأنها شأن الأطعمة،و اللّحم،حينها ستصبح سمادا اجتماعيّا جيّدا لابدّ منه لتنمو أدمغة البشر و تثمر.
كدت أجهر لها بما توصّلت إليه لو لا أن بصرها كسل و زاغ ناحية اليمين،فكتبت الخاطرة..
كنت ربّما – و هذا يخجلني كلّما تذكّرته- أصنعها لنفسي،و كنت دائما أقول في سرّي أنّ حمقها الفضيع و ضآلة تجربتها ،يعيقان شعوري ناحيتها بالحبّ بل يخمدانه تماما.
عقدت شادية قرانها على أحد أقاربها يوم خطبتها بالذّات،و بقيت كذلك في انتظار الزّفاف سنة أخرى.عثرتُ خلالها فوق مكتبها مصادفة على ورقة كتبت عليها بحبر أحمر: "حبيبي ،أحبّك كلّ يوم أكثر من اليوم الذي قبله،خصوصا لمّا ارتبطنا بشكل قانوني.".تردّدت في نسخ الورقة و التندّر بها بمعيّة و لكنّي في الأخير عدلت عن الفكرة.
الميزة الوحيدة البادية عليها بوضوح في كلّ ما تتعرّض له من مواقف حتّى بالنّسبة لغير المتبحّرين في عالمها مثلي هو عشقها للخوف .تحبّ الخوف و تجد فيه لذّة عارمة.
و هي تمارس طقوس الذّعر من شيء ما أو أحد ما،بإمكانك أن تلاحظ جليّا بأنّها سعيدة.حتّى أنّي أكاد أجزم من باب المزاح أنّها لو ولدت في اسبانيا،لكانت أوّل من ينطلق راكضا أمام الثّيران في أزقّة برشلونة أيّام الكرنفال.
علّمتني شادية أنّ الشّعور بالخوف موهبة و متعة.
داخل رأسها الصّغير تسبح مسلّمات و بديهيّات بدائيّة في شكل كجّات صغيرة،وسط ماء لزج،يغلّفها من الخارج عازل من مطّاط.هذا كلّ ما تحتاجه لمجابهة الحياة برمّتها.
أعقد هذه الشّعارات على الإطلاق هو أنّ الكهرباء خطير،و بسببه هلك كثيرون.
ضلّت الأيّام تتكرّر على وتيرة واحدة مملّة ،إلى أن طلب منّي أخي الصّغير مرافقته إلى امرأة يقول إنّها تسكن خارج المدينة في إحدى الأحياء الشّعبية .كان بحاجة لكشف بنكيّ يشهد بأنّ رصيده يساوي أو يفوق خمسة آلاف دولار،ليتمكّن من السّفر للدّراسة بفرنسا.
أحد أصدقائه الذين يثق بهم أكّد له أنّ هذه المرأة قادرة على كلّ شيء:
- لن يصعب عليها مطلبك أبدا.إنّ يدها تجمّد الماء ؛جوازات السّفر و شهادات العوز البنّيّة لعب أطفال بالنّسبة إليها فما بالك بكشف سخيف..العنوان غير مهمّ حال وصولك إلى الحيّ ، اسأل عن الضّاوية بنت الرّشيد،و قل إنّ ممدوح هو الذي أرسلنا..لعلمك هي لا تقبل الزوّار سوى بالّليل.
في قاعة الانتظار زبائن كثيرون ،الجوّ كئيب ،و الهواء ثقيل و طعم المغامرة جفّف حلقي.التّوتّر باد على الجميع ،كلّ واحد من الحاضرين له مشكلة عويصة،و إلاّ لأراح نفسه من هذا الجوّ المرعب المقيت.
مهرّبوا الوقود و السّلع الممنوعة يستشيرونها قبل الشّروع في أيّة عمليّة.هذا ما عرفته من أحد الزّبائن الجالسين بجانب أخي.همس لي أيضا بأنّها تساعد على استخراج الكنوز المطمورة تحت الأرض.
في تلك الحجرة المخيفة تذكّرت شادية،و قلت أخاطب نفسي هازئا:"ماذا لو أنّ شادية علمت غدا بأنّي قضّيت اللّيل في خندق كهذا ،في حيّ كهذا ،أنتظر دوري لتزوير وثيقة رسميّة؟ كم سنة ضوئيّة ستتحوّل إليها المسافة بين تجاربنا إذّاك يا ترى؟أمر مضحك حقّا."
جاء دورنا ..دخل أخوها أوّلا عقب خروج الزّبون مباشرة ليحيطها علما بسبب مجيئنا ،ثمّ بعد ذلك دعانا لدخول الدّيوان.
لم تكن الضّاوية بنت الرّشيد سوى شادية ،جارتي في المكتب..صعقت لرؤيتها ،و أحسست بالدّوار ،و بأنّي دودة سمينة،و انطلق كالبرق تيّار في ساقي كاد يفقدني توازني.كانت جالسة على حصير من الحلفاء الملوّنة ،نظرت ناحيتنا لكنّها لم تلمحني لأنّي خرجت قبل أن أخطو خطوة واحدة إلى الدّاخل.
ليلتها غادرنا الدّيوان و معنا كشف بنكي بعشرة آلاف دولار في أكبر بنوك البلاد باسم أخي،ليس بوسع أعتى أجهزة المخابرات أن تشكّك في صحّته.
أمّا أنا فكأنّي ولدت دون لسان،منذ ذلك اليوم..و صرت أعمل بما اكتشفت..
كنت الأبله منذ البداية ..كان عليّ أن أصغي ..فقط أصغي و أتعلّم..
محمد فطّومي
تعليق