البحــر كويس
ما كنا انتبهنا لغياب طاهر عنا، نحن الذين اجتمعنا على شرفة الشاليه ، نتفرج على النساء بثياب البحـر ، لو لم نكن صرنا في حاجة لسؤاله عن موعد إن كان قد آن لنباشـر بإعداد الطعام .. قلت للشباب :" مؤكـد أنه في الحمام يزيل عن جسده أثر المياه المالحـة..".
لأول مرة ينـزل الطاهر الى الماء برغبتـه.. فيما مضى من رحلاتنا التي نقوم بها إلى الشاطئ، نحن المعلمين في مدرسة ضيعة المركونة الابتدائية ، حين يشتد الحرد في شهري تموز و أب ، في عطلة الصيف ، كان يبقى وحيداً، بعيداً عنا ، لا يقترب من الشاطىء ، إلا حين يتأكد من أننا قد ابتعدنا في الماء ، مفوتاً علينا أي فرصة للقبض عليه ، و إنزاله الماء مرغماُ.. مرة يعلل بعدم معرفته السباحة ، وأخرى بتحسس جسده من الماء المالح .. و في الحقيقة ما كان يمنعه سوى الخجل .. أينـزل الى الماء بثياب البحر ، أمامم الناس ، وهو الذي يخجل من لبس قميص بنصف كم ؟ من فتحو لو زر واحد من أزرار قميصه العلوية ؟ من لبس بنطلون جينـز ، أو أي نوع من طراز آخر ضيق ، أو على الموضـة ؟
و حين نذهب بعيداً في الماء ، يقترب من الشاطىء ، إلى أن تلامس قدماه زبد الموج ، ويتوسل إلينا بحركات من رأسه ، و يديه ، كأب حنون ، ألا نبتعد أكثر.. ألا نغامر.. ألا نضع عقلنا بعقل البحر، فالبحـر مجنـون قد يبتلعنا في أية لحظـة..
في رحلتنا السابقة التي مضى عليها عام و شهر غافلناه ، وألقينا القبض عليه قرب الشاطىء ، و أنزلناه الماء بثيابـه .. في البدايـة أخـذ يهددنا : " أتركوني يا شباب .. أتركوني بالتي هي أحسن .. ابتعدوا عني و إلا .. " .
وإلأ ماذا يا طاهـر ؟ أنحن في المدرسة لتأمر؟ و تهدد ؟ في المدرسة أنت مدير ، تتصدر غرفة الإدارة ، وتلقي في وجهنا التعليمات : الغياب ممنوع .. التقارير الطبية ممنوعـة.. التأخير عن الدوام ممنـوع .. الخروج من الصف قبل نصف دقيقة من صوت الجرس ممنـوع .. لا شيء في جيوبك في المدرسة سوى الممنوعات .. هذا غير لوائــح العقوبات التي تهددنا برفعها لمديرية التربية ، فيما لو قصر أي واحد منا بأداء الواجب تجاه التلاميذ .. هنا ، على الشاطىء ، كلنا سواسية.. نترك أعمارنا ، و رتبنا ، في الضيعة ، و نجيء .. صحيح نحن نطلق عليك خلال أيام الرحلـة : " الجاويش " فهذا لأنك أكبرنا سناً ، وأكثرنا تنظيماً.. لكن أن تأمرنا ؟! فهذا بعيد عنك يا طاهر.. بعيد بعد قريتنا عن البحـر.. على الشاطئ لا يوجد مدرسة ، و تلاميذ ، و دفاتر تحضير، ومديرية تربية تستند إليها..
أوامر الطاهر على الرمل ، صياحه في وجوهنا ، عبوسه ،آلت الى تضرعات في الماء :" دخيل عرضكـم يا شباب ارتكوني .. منشان الله لا تبهدلوني .. أبوس رؤوسكم .. ذقونكم .. أيديكم ..".
مع من كان الطاهر يحكي وقئذ ؟ و من منا كان على استعداد أن يسمع منه كلمة واحدة ؟ أتصح لنا فرصة كهذه ، ننتظرها منذ سنوات ، ونتركها تذهب من بين أيدينا هدراً ؟! مستحيل .. فحين غمرنا المــاء الى رقابنا، عملنا حول حلقة ، نحن الستة ، و شرعنا نحملـه بين أيدينا ، ونقذفـه إلى الأعلى ، ثم نتركـه يسقط في الماء، إلى أن يختفي، ثم نخرجـه الى السطح ، و نعيد قذفـه ، وهو يصرخ ، ويستجير بالأحيـاء من آبائنا وأجدادنا، والأموات.. بالأنبياء، والآلهــة.. ونحن نقهقه ، ونلهـو به ، و كانه لعبـة بين أيدينا ، و لم نتركـه إلا حين وصل الى حافـة البكـاء ..
ثم أجهـزنا عليه بالضربـة الفنية القاضيـة ، بعد أن خرج من الماء ، عندما أحطنا به ثانية ، وعملنا لــه حفلـة تهريـج ما عرف لها الشاطىء مثيلاً ، و نحن نشير إلى أماكن محددة في جسمه .. لقد التصقت جلابيـه الطاهر بجسده ، فظهرت الزوائد تحتها ، و السواقي ، فبدا لنا ، و للناس ، على الشاطىء ، عارياً ، أو في أحسن الأحوال كراقص بفرقـة باليه ..
ندمنا على ما فعلناه بعد أن صحونا .. حملنا مسؤولية ما جـرى كاملـة الى العرق المثلث الذي أحضره سامر ، معلم الصف السادس .. في كل مرة يأمرنا الطاهـر ألا نحمـل معنا أي نوع من أنواع المشروبات الروحية، وينذر بالانسحاب من الرحلـة فيما لو فعلنا.. وكنا نكذب عليه ، حين نعده ، بعد أن نمسك على شواربنا، وذقوننا ، لكن سامراً ، و بتشجيع منا ، كان يدس بين الأغراض عدداً من الزجاجات ، فنشرب خلال الرحلـة خلسة، ولا ينتبـه الطاهر إلينا إلا بعد أن نكون قد انتشينا .. و في الحقيقة كانت كأساً واحدةً تكفي مــزاج الواحد منا ليروق، فنحن لسنا من المواظبين على الشراب ، و لا من المعتادين عليه ..الأمر ليس بيدنا.. واقع ضيعتنا لا يسمح.. من يشرب من أهل الضيعة، يتناول المشروب على نحو سري، إذا ما تم كشفه فربما يكون مصيره النفي من الضيعـة ، أو العزل ، قد يجلب العار لأولاده و أحفاده بعد موته..أهل ضيعة المركونة لا يتذوقون رائحة اليانسون إلا في أيام ولادات النساء..
في أكثر الحفلات الليلية التي كنا نقيمها ، و يشاركنا فيها جيران البحر ، أو التي كان جيران البحر يقيمونها، ونشارك فيها نحن ، وبعد أن يشتعل الشاطىء بالغناء و الرقص و الدبكـة ، يغض الطــاهر بعـض الطرف عنا، فتسلل الكؤوس إلى مكان الحفلة، وترفع علانية أمام عينه ، لكنه حين يعتقد أننا وصلنا إلى حالة من السكر قد تنتهي الرحلة ولا نصحو منها، يجرنا الواحد بعد الآخر إلى الشاليه، إذا كانت الحفلة مقامة عند الجيران، أو ينهي الحفلة بشكل مفاجئ إذا كانت مقامة عندنا ، فيخطف العود من حضن ماهر ؛ معلم الصف الرابع ، والدربكـة من حضن وردان؛ معلم الصف الأول ، فأصمت أنا؛ معلم الصف الثاني ، ومطرب الرحلات الدائم، و ، يكرشنا أمامه إلى الشاليه ، مثل الغنم ، ليحبسنا في الغرف ، و يقعد ناطوراً أمـام باب الشاليه الرئيس ، إلى أن نغفو، و يعلو شخيرنا ، مفوتاً علينا أي موعد ليلي ربما نكون قد ضربناه خلال النهار ، أو خلال الحفلة ، أو يساهر عبد الله ؛ معلم الصف الخامس ، الذي يدوخ في نصف الكأس الأول ، ولا يغمض له جفن قبل ان يبكي لنصف ساعة على الأقــل ، و يحكي على زوجـته ، التي لا تحلو لها النومـة إلا بين أولادها ، والتي تبقى تفوح روائح الطبخ منها، بالأخص يوم تقلي العجة ، أو السمك ، أو القرنبيط ..
أقسم الطاهـر يومها بالتراب الذي نزل فوق أبيه أنه لن يعود لمرافقتنا في رحلة قادمـة ..أمضينا أياماً وليالي و نحن نحاول إقناعه دون جدوى ..أجلنا موعد الرحلـة الأخيرة لأيام في البداية ، ثم لأسبوع ، فشهر ، دون جدوى .. المسك على الشوارب، و اللحى ، والذقـون ، ما فادنا في شيء ، و لم يوافق ، في نهاية الأمـر، إلا بعد أن حصل منا على مواثيق مكتوبة، عليها توقيع شهود، أول بند فيها ألا نقترب مـن المشروبات ، طوال أيام الرحلـة ، وآخر بند أن نكون مثل الخاتم في إصبعه .. التنازل الوحيد الذي حصلنا عليه من الطاهر ، مقابل مواثيقنا مجتمعة، أن ينـزل إلى الماء برغبته ..
" تأخر الطاهر في الحمام يا شباب.." قلت ، أنا الأقرب إلى باب الشاليه ، و استدرت ، فلمحت الطاهر يصلي..
في الطريق قال لنا :" إننا نرتكب ذنوباً في أيام ثلاثة لا تمحوها صلاة عام بطوله..".
وصلنا الشاطئ قبل اشتداد الحر .. ثلاث ساعات أمضيناها في الطريق بين قريتنا في الداخـل و البحر .. رمينا أغراضنا في الشاليـه التي حجزناها بالهاتف فور وصولنا ، و غيرنا ثيابنا على عجل ، وركضنا صوب الماء ..
الطاهر قال لنا: " اسبقوني .. سأرتب الشاليه ، وأضـع الطعام في البراد ، وألحقكـم ..".
كنا ندرك أنه سيخجل من استبدال ثيابـه بوجودنا ، فتركناه ، وهرعنا لمعانقـة الأمواج بشوق المحبيـن ، ليلحقنا بعد نصف ساعـة تقريباً .. كنا نسبح غير بعيدين عن الشاطىء ، و كأن أجسادنا كانت تريد أن تسـلم على البحـر ، و تداعبـه ، في البدايـة ، قبل أن تستسلم لـه ، و تغوص فيـه ..
أقبل يرتدي سروالاً يغطيـه من فـوق السرّة إلى أسفل بطتي ساقيه ، كأن زوجتـه قد فصلتـه له من كيس طحيـن فارغ .. اقترب من الماء بتوجس ، وهو منكمش ، يظن أن كل المنتشرين على الشاطئ يتفرجون عليـه.. توجهنا إليــه مزغردين ، لنعلمه السباحـة ، فاستدار و ابتعد عن الشاطىء .. قرأنا على سرواله كتابة بخـط أحمــر عريــض : " طحين زيرو . المصدر كندا " تركناه، ورحنا نسبح ، فعاد إلى الشاطئ من جديد .. لامست نهايات الأمــواج قدميـه ، فوقف .. كنا نراقبـه من مسافة غير بعيدة .. تقدم بعد دقائق ببطء إلى أن وصل الماء حدود ركبتيه.. أخذ اسـتراحـة أخـرى ، ثم واصل المسير البطيء ، المحاذر ، ليصل ماء البحر صدره ..
تساءل ماهــر : " طالت صلاة الطاهـر يا شباب ؟! ".
أجــاب وردان : " مؤكـد أنـه الآن يصلي أكثر من المطلوب في الشرع كفارة عن الذي فعلـتـه يداه قبل قليل في الم..".
لا ندري من أين حطت عصفورتان ملونتان واحدة على ميسرة الطاهـر ، والأخـرى على ميمنته ، وهـو واقف في الماء ، أخذت الأولى برجليـه ، والثانية بيديه ، وقبل أن تطير عقولنا من رؤوسنا من الغيظ، والحسـد ، ونطير إليه ، لنعرف حقيقة ما يجـري ، كانت العصفورتان قد طارتا، وتركتا الطاهـر يضـرب برجليه ، و يديه ، فوق سطح الماء ..
صحيح أننا بدأنا نحس بالجـوع، لكن ما كانت عند أي واحد منا رغبـة أن يغادر الشرفة ، و يترك وراءه متعة النظرالى النساء بثياب البحر ، وقد تمدد عدد منهن على بطونهن ، و ظهورهن ، غير عابئات بتصويتات عيوننا إليهن ، ولا مدركات للحرائق التي اشتعلت في صدورنا ، ولا عارفات بأن مناظر كهذه لا تأخــذ عقولنا، نحن أبناء الداخل ، إذ تختبئ المرأة عندنا في عشرين ثوباً فحسب ، بل تتركنا نهيم في البراري و الوديان .. و في الحقيقة لم تكن السباحـة متعتنا الوحيدة خلال الرحلـة .. على الشاطىء متع لا حدود لها .. قلت للشباب في طريق العودة من رحلتنا الأخيرة : " لا نحس بوجودنا .. بأننا بشر، في السنة بطولها ، إلا في أيام الرحلـة الثلاثة..".
استدرت من مكاني على الشرفة صوب باب الشاليه .. هاهو الطاهرلا يزال يصلي .. اسـتغربت .. أتأخذ الصلاة منه كل هذا الوقت ؟! ثم إني لم أره يركع ، أو يسجد .. أيكون قد نسي نفسه ، وشرد ، وهو يصلي، من حالة الوقوف فحسب ؟ توجهت إليه على رؤوس أصابع قدمي .. اقتربت منه من الخلــف .. يبّسني المنظـر الذي رأيته في مكاني .. امرأة بديعة تستحم في الشاليه المجاورة ، أمام عيني الطاهر ، كأنها نسيت نافذة الحمام مفتوحة ، أو تعمدت أن تتركهـا ، والله أعلـم ..
ـــــــــــــــــــــ
من أغنية لوديـع الصافـي
تعليق