[align=right]
لَمَحَهُ من بعيد ، يجلس وحده في زاوية المقهى الصَيفيّ ، إلى طاولة منفردة ، يتناول وجبـة طعامه .. إنه هو ، والدها !
راحَ يتذكّر ملامحها من ملامحه : العينين الخضراوين ، والوجهَ الأبيضَ المسـتديرَ، تلفّتَها ونظراتها ، حركةَ يديها .. سبحان الله ! خفق فؤادُه بشدّة ، وأحسّ بلذّةٍ مُؤلِمَةٍ .. وتمنّى أن يسـمعَ صوتَها من صوته ..
ترك فنجان الشاي من يده وقام متّجهاً إليه ، حين وصل إلى طاولته لم يكن يدري ماذا سيقول كان فقط يريد أن يسمع صوتَه ..
- السلامُ عليكم .
رفع الشيخُ السّتينيّ رأسَه عن طبق الطعام :
- وعليكم السلام ورحمة الله !
اشتدّ خَفَقانُ قلبه حين سمع صوتَه ، وأحسّ بطيفٍ يحوم حول الطاولة .. تماسك ورسم على شفتيه ابتسامةً ، وقال بِأدبٍ :
- أنا آسفٌ يا حاجّ ! رأيتُك وأنا جالسٌ هُناك – وأشار بيده إلى طاولته التي كان يجلس إليها - فأحببتُ أن أسلّم عليك . ألم تعرفني ؟
أجابه الشيخُ بابتسامةٍ حنونة :
- لا والله - من غَيْر شرّ - تفضّلْ يا بُنيّ اجلسْ ، مُدّ يدَكَ ، شارِكْني غَدائي المتواضعَ .
تناول الكرسيّ القريبَ وجلس بهدوء :
- شُكراً ، صحّة وهَنا .. طمئنّي عنكَ يا حاجّ ، كيف الهمّة ؟
- الحمد لله .. تشكيلة واللهِ يا بُنيّ ! السّكّر والضغط والرّبو .. نحمده على كلّ شيء .
كان يهزّ رأسَه بأسفٍ وهو يُتابع كلمات الشيخِ الشاكيةَ ، ويسمع في الوقت نفسه من كلماته موسيقا حالمةً أرجعتْه خمسـاً وعشرين سنةً إلى الوراء !
- عافاك اللهُ يا حاجّ ، عافاك الله .. المَصيفُ الجبليُّ هُنا يُخفّفُ الرّبوَ ، أليس كذلك يا حاجّ ؟
- طبْعاً ، الهواءُ الجبليُّ الجافّ دواءٌ للرّبوِ ، لذلك أنا أقضي مُعظمَ أيّامِ الصيفِ هنا .. الحاجّة لا تحبّ مغادرةَ المدينة .. وأنا لا أُطيقُ الرّطوبةَ هناك .. الحمد لله . تأتي إليّ كُلَّ خميس وجمعة وتعود إلى البلد صباحَ السبت .
سكتَ لحظة ، ثم ابتسم بِطِيبةٍ ، وقال له :
- عدمَ المؤاخذة يا بنيّ ، ما تعرّفْنا !
- نحن جيران يا حاجّ .. أنا عفيف ، عفيف حسين .. كُنّا نسكن ..
لَمَعَتْ عينا الشيخِ الخضراوان ، وقاطعه بِحَفاوَةٍ :
- أهلاً أهلاً أهلاً .. طبعاً نحن جيران .. جيران العمر .. رحم اللهُ أباكَ .. كيف حالك يا بني ؟
كيف أمّك وإخوتك ؟ أين أنت في هذه الأيام ؟
- بخير والحمدُ لله ..
وحكى له مُوجَزاً عن مسيرة ربع قرن ، منذ أن تخرّج في كليّة الآداب ، إلى أن صار أباً لأربعة أبناء أكبرُهم بنت في السابعة عشرة ، وأصغرهم في الخامسة ، وعن عشر سنين معاناةً قضاها في البلد بعدَ تخرّجه ، قبلَ أن يُكرمَهُ اللهُ بعقد عملٍ في دولةِ الإمارات ، فتحسّنتْ أحوالُهُ ، واشترى بيتاً في اللاذقية وآخَرَ في المصيف ، هنا حيثُ يقضي إجازته الصيفيّة معَ عائلته كُلّ سَنةٍ .
كان الشيخُ يُصغي إليه مُعجَباً ، وحين توقف عن الكلام سأله فجأة :
- الآن تذكرت .. ألم تكن أنتَ و تَقِيّة ، ابنتي ، زملاءَ في الجامعة ؟
آه .. تَقِيّة.. أبوها .. صوتُها .. طيفُها .. ريحُها !!
أجاب وعيناه سارحتان في وجه الشيخ :
- نعم.. طبعاً .. نحن كُنّا زملاء ، وكُنّا نتبادل أحياناً بعضَ المراجع ، ونتعاونُ في كتابةِ البحوث .
وماذا يُمكن أن يزيد على ذلك !
أطرقَ سارحاً .. لم يسمعْ من أخبارها شيئاً منذ سنين وسنين.. شعَرَ بالظّمأ لأنْ يعرفَ شيئاً ما عنها.. أينَ هي الآن ؟ فقط يُريد أن يعرف أينَ هي الآن ..أينَ تسكن .. لعلّه يقصدُ الشارعَ ، أو الحارةَ ..
- ما أخبارُها يا حاجّ ؟ بالتأكيد تزوّجت و ..
- مَنْ ، تقيّة ؟ أووه ، وصار عندها خمسُ بناتٍ .. لم تُرزق بصبيان .
ودمعتْ عينا الشيخ :
- لم أرَها ، هي وبناتها وزوجها ، من سنتين ..
- لماذا ؟! خيرٌ إن شاء الله ؟
- هُمْ بخير والحمدُ لله ، في فرنسا .. تزوّجَها مهندسٌ ، وهاجروا جميعاً إلى هناك ، من عشـر سنين الآن صاروا كلّهم فرنسيين ، أعطوهم الجنسيّة ..
هزّ رأسَه مبتسماً ابتسامةً مريرة :
- ترى وجهَهُمْ بخيرٍ إن شاءَ الله يا حاجّ ..
- سلّمك الله يا بنيّ ..
ثم استدرك الشيخُ مُبتسماً ً :
- نسيتُ أنْ أسألكَ ، لماذا أنتَ وحدَكَ ؟ أين زوجتك وأولادك ؟
- سيحضرون بعد قليل ، سبقتُهم إلى هنا .. لأنفردَ بنفسي قليلاً ..
ثمّ لَمَحَهُمْ وهم يدخلون بابَ المقهى ، فخفَقَ قلبُه بشدّة ! أفاقَ من حُلُمِهِ الغائِمِ !
كانت ابنتُه تسيرُ إلى جانب أمّها ؛ صبيّةً يُطلّ وجهُها من خلال الحجاب كالقمر ، تُمسك يدَ أمّها ويلفّهما معاً جِلبابُ الحياء .. ومن خلفِهِما صِبيانُهُ الثلاثة بوجوههم البريئة الوضيئة .. تُزَيّنهم الصحّةُ والعافية..
توقّفوا عندَ مدخلِ المقهى يبحثون عنه بنظراتهم . راح يتأمّلهم وكأنّه يراهم أولَ مرّة ! شعرَ بسعادةٍ غامرةٍ ، وبسكينةٍ تهبطُ على قلبه .. رآهُ الصغيرُ ، فأفلتَ يدَ أمّهِ وانطلقَ إليه ..
هبّ عن كرسيّه نحوَ ابنه ، فالتَقَطَهُ ورفعه في الهواء وراحَ يُقبّل خدّيه ورقبتَهُ ..ثمّ توجّهوا جميعاً إلى طاولتِه البعيدةِ ..
ونَسِيَ أنْ يُسلّمَ على الشيخ !!
[/align]
[align=center]نَظرةٌ[/align]
لَمَحَهُ من بعيد ، يجلس وحده في زاوية المقهى الصَيفيّ ، إلى طاولة منفردة ، يتناول وجبـة طعامه .. إنه هو ، والدها !
راحَ يتذكّر ملامحها من ملامحه : العينين الخضراوين ، والوجهَ الأبيضَ المسـتديرَ، تلفّتَها ونظراتها ، حركةَ يديها .. سبحان الله ! خفق فؤادُه بشدّة ، وأحسّ بلذّةٍ مُؤلِمَةٍ .. وتمنّى أن يسـمعَ صوتَها من صوته ..
ترك فنجان الشاي من يده وقام متّجهاً إليه ، حين وصل إلى طاولته لم يكن يدري ماذا سيقول كان فقط يريد أن يسمع صوتَه ..
- السلامُ عليكم .
رفع الشيخُ السّتينيّ رأسَه عن طبق الطعام :
- وعليكم السلام ورحمة الله !
اشتدّ خَفَقانُ قلبه حين سمع صوتَه ، وأحسّ بطيفٍ يحوم حول الطاولة .. تماسك ورسم على شفتيه ابتسامةً ، وقال بِأدبٍ :
- أنا آسفٌ يا حاجّ ! رأيتُك وأنا جالسٌ هُناك – وأشار بيده إلى طاولته التي كان يجلس إليها - فأحببتُ أن أسلّم عليك . ألم تعرفني ؟
أجابه الشيخُ بابتسامةٍ حنونة :
- لا والله - من غَيْر شرّ - تفضّلْ يا بُنيّ اجلسْ ، مُدّ يدَكَ ، شارِكْني غَدائي المتواضعَ .
تناول الكرسيّ القريبَ وجلس بهدوء :
- شُكراً ، صحّة وهَنا .. طمئنّي عنكَ يا حاجّ ، كيف الهمّة ؟
- الحمد لله .. تشكيلة واللهِ يا بُنيّ ! السّكّر والضغط والرّبو .. نحمده على كلّ شيء .
كان يهزّ رأسَه بأسفٍ وهو يُتابع كلمات الشيخِ الشاكيةَ ، ويسمع في الوقت نفسه من كلماته موسيقا حالمةً أرجعتْه خمسـاً وعشرين سنةً إلى الوراء !
- عافاك اللهُ يا حاجّ ، عافاك الله .. المَصيفُ الجبليُّ هُنا يُخفّفُ الرّبوَ ، أليس كذلك يا حاجّ ؟
- طبْعاً ، الهواءُ الجبليُّ الجافّ دواءٌ للرّبوِ ، لذلك أنا أقضي مُعظمَ أيّامِ الصيفِ هنا .. الحاجّة لا تحبّ مغادرةَ المدينة .. وأنا لا أُطيقُ الرّطوبةَ هناك .. الحمد لله . تأتي إليّ كُلَّ خميس وجمعة وتعود إلى البلد صباحَ السبت .
سكتَ لحظة ، ثم ابتسم بِطِيبةٍ ، وقال له :
- عدمَ المؤاخذة يا بنيّ ، ما تعرّفْنا !
- نحن جيران يا حاجّ .. أنا عفيف ، عفيف حسين .. كُنّا نسكن ..
لَمَعَتْ عينا الشيخِ الخضراوان ، وقاطعه بِحَفاوَةٍ :
- أهلاً أهلاً أهلاً .. طبعاً نحن جيران .. جيران العمر .. رحم اللهُ أباكَ .. كيف حالك يا بني ؟
كيف أمّك وإخوتك ؟ أين أنت في هذه الأيام ؟
- بخير والحمدُ لله ..
وحكى له مُوجَزاً عن مسيرة ربع قرن ، منذ أن تخرّج في كليّة الآداب ، إلى أن صار أباً لأربعة أبناء أكبرُهم بنت في السابعة عشرة ، وأصغرهم في الخامسة ، وعن عشر سنين معاناةً قضاها في البلد بعدَ تخرّجه ، قبلَ أن يُكرمَهُ اللهُ بعقد عملٍ في دولةِ الإمارات ، فتحسّنتْ أحوالُهُ ، واشترى بيتاً في اللاذقية وآخَرَ في المصيف ، هنا حيثُ يقضي إجازته الصيفيّة معَ عائلته كُلّ سَنةٍ .
كان الشيخُ يُصغي إليه مُعجَباً ، وحين توقف عن الكلام سأله فجأة :
- الآن تذكرت .. ألم تكن أنتَ و تَقِيّة ، ابنتي ، زملاءَ في الجامعة ؟
آه .. تَقِيّة.. أبوها .. صوتُها .. طيفُها .. ريحُها !!
أجاب وعيناه سارحتان في وجه الشيخ :
- نعم.. طبعاً .. نحن كُنّا زملاء ، وكُنّا نتبادل أحياناً بعضَ المراجع ، ونتعاونُ في كتابةِ البحوث .
وماذا يُمكن أن يزيد على ذلك !
أطرقَ سارحاً .. لم يسمعْ من أخبارها شيئاً منذ سنين وسنين.. شعَرَ بالظّمأ لأنْ يعرفَ شيئاً ما عنها.. أينَ هي الآن ؟ فقط يُريد أن يعرف أينَ هي الآن ..أينَ تسكن .. لعلّه يقصدُ الشارعَ ، أو الحارةَ ..
- ما أخبارُها يا حاجّ ؟ بالتأكيد تزوّجت و ..
- مَنْ ، تقيّة ؟ أووه ، وصار عندها خمسُ بناتٍ .. لم تُرزق بصبيان .
ودمعتْ عينا الشيخ :
- لم أرَها ، هي وبناتها وزوجها ، من سنتين ..
- لماذا ؟! خيرٌ إن شاء الله ؟
- هُمْ بخير والحمدُ لله ، في فرنسا .. تزوّجَها مهندسٌ ، وهاجروا جميعاً إلى هناك ، من عشـر سنين الآن صاروا كلّهم فرنسيين ، أعطوهم الجنسيّة ..
هزّ رأسَه مبتسماً ابتسامةً مريرة :
- ترى وجهَهُمْ بخيرٍ إن شاءَ الله يا حاجّ ..
- سلّمك الله يا بنيّ ..
ثم استدرك الشيخُ مُبتسماً ً :
- نسيتُ أنْ أسألكَ ، لماذا أنتَ وحدَكَ ؟ أين زوجتك وأولادك ؟
- سيحضرون بعد قليل ، سبقتُهم إلى هنا .. لأنفردَ بنفسي قليلاً ..
ثمّ لَمَحَهُمْ وهم يدخلون بابَ المقهى ، فخفَقَ قلبُه بشدّة ! أفاقَ من حُلُمِهِ الغائِمِ !
كانت ابنتُه تسيرُ إلى جانب أمّها ؛ صبيّةً يُطلّ وجهُها من خلال الحجاب كالقمر ، تُمسك يدَ أمّها ويلفّهما معاً جِلبابُ الحياء .. ومن خلفِهِما صِبيانُهُ الثلاثة بوجوههم البريئة الوضيئة .. تُزَيّنهم الصحّةُ والعافية..
توقّفوا عندَ مدخلِ المقهى يبحثون عنه بنظراتهم . راح يتأمّلهم وكأنّه يراهم أولَ مرّة ! شعرَ بسعادةٍ غامرةٍ ، وبسكينةٍ تهبطُ على قلبه .. رآهُ الصغيرُ ، فأفلتَ يدَ أمّهِ وانطلقَ إليه ..
هبّ عن كرسيّه نحوَ ابنه ، فالتَقَطَهُ ورفعه في الهواء وراحَ يُقبّل خدّيه ورقبتَهُ ..ثمّ توجّهوا جميعاً إلى طاولتِه البعيدةِ ..
ونَسِيَ أنْ يُسلّمَ على الشيخ !!
[/align]
تعليق