رواية السماء تعود الى اهلها / وفاء عبدالرزاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • وفاء عبدالرزاق
    عضو الملتقى
    • 30-07-2008
    • 447

    #16
    5
    جلس يستعيد اللوحات التي رسمها الطلبة في كلية الفنون، ناقشه وقتها أحدهم، حين وجده يرسم أشكالاً غير واضحة الملامح، مجرد حُفَر في وجوه، العيون حفر، الأفواه حفر، الأشكال غير مترابطة، مجرد فوضى وهياج.
    سأله:
    -ماذا ترسم؟ أنت تسيء للفن برسومك هذه.
    - أجابه:
    - هذا ليس من شأنك، والنقاش بيننا عقيم، لكل منا طريقته في التعبير عن ذاته.. وأنت ماذا ترسم؟
    -أرسم ابنة العراق السمراء، أنثى غامضة أليفة الجمال، انظر كيف الأنوثة تصفو في عينيها.
    رد عليه وليد:
    - ترسم ابنة العراق، وأنا أرسم العراق كله.
    احتدم النقاش بين الأصدقاء، تدخّلَ أحد الأساتذة الذي خرج على صوت نقاشهم الحاد، تطاول عليه صاحبه ونعته بالشيوعية، ثم وجّه كلامه للأستاذ جلال:
    ـ أستاذ، كل لوحاته صراخ.. إنه يحرّض للثورة.
    نظر إليه وليد كقزم خسيس، متأكداً أن لوحاته ستُباع في الأسواق بثمن بخس وفي متاجر الفن الهابط. وحاول أن يلتمس له المعاذير، قائلاً: تذوّق الفن يحتاج إلى ثقافة عالية وعريضة المساحة.
    من وقتها لم يتدخل وحيد في رسومات رفيقه وليد، كي لا يفضح ثقافته السطحية، إلا يوم قادت الشرطة وليـــــد من الكلية إلى التحقيق مكبّـل اليدين.
    وقف متسائلاً، بعد استئذان الشرطي :
    - ألم تعجبك صورة المرأة التي رسمتها؟
    ردّ وليد بشجاعة:
    - لا (واستمرّ): كل يبحث عمـّا ينقصه، وعمـّا يترجمه من الداخل، أنت بحاجة لما يترجم نقصك الجنسي.
    نهره الشرطي:
    - وأنت أيها الكلب تنقصك الثورة، اسمعوا، هذه إجابة صريحة، إنه يدين نفسه أمامكم ويبرهن على تحريضه ضد الدولة والرئيس والحزب*
    في لندن يحوك عزلته في غربة نفسه، مجموعة لوحات تنتظر من يعرفها أو يستكشف ببياضها، مجاميع من الأماني لا وقت لها الآن ولا محل لها في ركن من الحياة. يتخيلها عارية، حلمة متورّدة لا يجرؤ على الاقتراب منها. يفتح الثلاجة، لم يجد زجاجة بيرة، يمشي متوتراً صوب المرآة:
    -ها أنا أعود لامرأتك يا وحيد.. لمَ لمتك وقتها؟ لمَ وبّختك ؟ لست أدري.
    تساءل وقطـّب حاجبيه:
    -هل كنت أكذب على نفسي وقتها؟
    شعر بحاجة ماسّة للتبوّل، دخل الحمام، ولعب لعبته المعهودة في إغلاق الضوء وفتحه من خيط متدلٍ قرب الباب:
    -ألا يكفي الإنجليز علبهم وأقفاصهم التي يتوهمون أنها بيوتاً؟
    ضرب الخيط كي يتأرجح، سحب السيفون، وترك الضوء منبعثاً:
    -كم أنتم تقليديون.
    ***
    رجع الى جلسته، استحضر أعزّته، كانت أمه تبتسم والمغزل بيدها على آخره. سمع طقطقة صفائح النفط، ابتسامة "علية" الأخيرة، نظرة طفلتها الجميلة. صديقة تعرف عليها أول مجيئه إلى لندن، بعد فترة اكتشف أنها تتجسس عليه، وكانت تعامله كامرأة مثلها، لم تكن تحب الرجال، أسرّت إليه:
    - أنها تعرفت على غانية مغربية تعمل سكرتيرة لدى ثري إنجليزي، بعد أن أغوته وتزوجته، كما ذكرت له علاقتها بامرأة ذات ثراء وزوجها الثري، كلاهما في الإمارات. ولمعرفته الجيدة بالناس وتجاربه الحياتية استنتج من أحاديثها أنها لا تصادق إلا من تجد لديهم ما تحتاجه وتصبو إليه، لا يهم إن كانت غانية سيئة السمعة ، من اجل حاجتها تترك أولادها وتبيت في بيتها ثلاث ليالٍ، المهم كم تستفيد من علاقتها بها. ومن تلك النظرة ذات المصلحة وطـّدت علاقتها بالخليجية، التي بحكم الطيبة المعهودة في بلادها شربت المقلب.
    استحضر من يحب ومن لا يحب، تنفست مسام جلده إثر ابتسامة تلتها ضحكة عالية، إذ طرأت عليه فكرة ذات يوم للتنزّه في شارع (هاي ستريت كنزكتن) استقل الحافلة (72) ثم سار مشياً ممشطاً الشارع ومحلاته وفنادقه ومقاهيه، الشقق الفاخرة، محلات البضائع النسائية والرجالية، مكاتب العقارات. شم رائحة بخور هندي ، استدرجته الرائحة ودخل المحل ذا الطابع الشرقي، الديكور الهندي بألوانه الزاهية بين الأحمر الناري والأزرق الفاتح، بضائع حريرية، ملابس نسائية وحلي، حقائب نسائية يدوية.
    دخل فاتــــحاً منخاريه على آخرهما، لم يقصــــد الشراء أو التجــــوال في الشوارع، بل رغب في رؤية وجوه النساء لعلـّه يجد من يتمنى رسمها. ابتسم له صاحب المحل، ردّ على ابتسامته، لحقه البائع الشاب عارضاً عليه خدماته. شكره، ثم ردّ على سؤال طرحه البائع حول مسقط رأسه :
    I am from Iraq)- )
    ـ ( أوه.. صدام.. You are from Saddam)
    هزّ رأسه مؤكداً :
    - لكن كما لديكم (غاندي)؛ لدينا......(مبتسما)، مع الفارق طبعاً. وبما أن في بلادكم حكمت امرأة مثل (أنديرا غاندى )منذ زمن، نحن جاءنا الفرج، لقد رفعت نزيهة الدليمي ورفيقاتها صوت المرأة عالياً. وطبعاً مع فارق الزمن.
    - اسمح لي ، أظنك فخوراً (بطاغور) ، ونحن فخورون بالسيف الذي تغني به المتنبي. أنتم تعودتم لغة السلام ونحن لغة السيف ، تفننتم بالتجارة والزراعة والعلم والفن وكل ما يحتاجه الإنسان، ونحن قمنا بطمر الإنسان ووسعنا قبره.
    وضع يده على وليد: لا تكن متشائما.
    ـ (أوه .. سوف أفعل. (مستهزئاً).
    ثم خرج مودعاً، كأنه يبحث عن شيء فقده .
    استوقفه محل للوشم.. طوابير الفتيات المراهقات، النساء والرجال. دفعه حب الاستطلاع إلى الدخول،غرفة ذات أربع كنبات حُشرت عليها أجساد الفتيات المنتظرات دورهن، صور معلقة على الحائط بكل الرسومات الصغيرة والكبيرة مستعرضة الأشكال والمواقع الموشومة، على السرّة والأفخاذ والأوراك والأثداء.
    شاهد صورة امرأة وصورة صليب موشوم على عورتها، بينما صورتان لرجلين أحدهما جالس على ركبتيه الموشومتين والرسومات تملأ فخذية وعلى مؤخرته، بينما وقف الثاني منتصب القامة كأن منظره الموشوم يقول ها أنا ذا برجولتي المزخرفة.
    مدّ يده إلى بنطلونه يتحسس شيئاً فقده منذ زمن، وفكر؛ ماذا لو حجزت لي موعداً مع الوشّام، ربما نغز الإبر يوقظ المقتول بين فخذي، هزّ يده مستنكراً، وخرج*
    شعر بحرارة الكرسي تحته، كان الوقت يُغرقه بالذكريات، وكانت الساعات الثلاث التي قضاها على جلسة واحدة قد تركت النمنمة والخدر يدبّان في قدميه حتى لم يعد قادراً على تحريكهما. فركهما بيده، شعر بوخز قوي في رجله اليمنى، فركها أكثر، دعك ساقه وقدمه، اعترف بالخطأ الجسيم أمامها:
    - ((من حقك أن تخدري، أكو مجنون يجلس ثلاث ساعات مرة واحدة؟ أي وين كنت يا ابن الكلب أكو واحد يسوّي عملتك هذه؟ إي ما جعت؟ ما عطشت؟
    - أدري بأنك كنت ترسم صورة في خيالك، تستحضر كل الوجوه في (هاي ستريت كنزكتن)، تتفحصها وجهاً وجهاً، ثم ما الذي استفدت من اجترار أشعار عبد الحق؟
    حتى التليفون كان مصـــراً على الصمــت، كان متواطئاً مع ساعاته. نهض متعباً، لم يكن راغباً بفتح التلفاز، ولم يستحضر امرأة بباله. وقف أمام المرآة في مدخل الشقة، تفحص عينيه المحمرّتين، ثم أشار بإصبعه: نعم، مازلت تشبه وليداً الذي عرفته. وليد بائع النفط، وليد الرسام، وليد الذي لم يساوم.. انتبه فجأة.. ووليد النصف، وتريد أن تهواك امرأة؟
    - النساء تحب الرجل الكامل، المرأة أيها النصف تحب أن يمسكها الرجلبيديه، يطبقهما ويتفحص الجسد، يتنقل من نقطة إلى نقطة،يرتجف عشقا ورغبة فأين يداك؟
    ثم أنت فاقد لحاسة الشم، تشم ماذا؟ ها. كيف تتغزل بعطرها؟ وعضوك المخذول ماذا تفعل به؟ هل تتذكر أول ( قحبة) جئت بها من (البيكاديللي) إلى هنا؟
    هل نسيت ما قالته إليك؟ أنا أذكّرك، قالت لك: لا جيب ولا رجولة أحضرتني هنا لتمصّ ثديي، طيّب هات نصف أجرة إذاً؛ ودفعت لها أجرة كاملة لتغطى عيبك.
    ماذا لو كانت "علية" الآن أمامك، وأنت لا جيوب ممتلئة ولا سيارة فارهة ولا رجولة؟ مجرد زبالة تتصورها وليداً، (تفو عليك..)
    بصق وراح يتابع بصاقه كيف تنزلق على سطح المرآة، حتى وصلت إلى النصف؛ نعم:
    -استقرّي هنا. (وينك يا علاّوي تشوف صاحبك، حتى التفلة عرفت وين تستقر)
    التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 26-08-2010, 22:32.

    تعليق

    • وفاء عبدالرزاق
      عضو الملتقى
      • 30-07-2008
      • 447

      #17
      6
      علاوي أحد أصدقائه الذين استقروا في الإمارات منذ السبعينات، وأصبح تاجراً الآن وذا نفوذ في البلد. كاد أن يُغمى عليه فرحاً حين شاهده ذات يوم
      صدفة، وهو يتجول في محلات (ماركس أند سبنسر)؛ في شارع أوكسفورد).
      ـ علاّوي.. ماذا تفعل هنا؟ متى وصلت؟ ما هي أحوالك؟ هل أنت وحدك أم مع نسوان؟
      ـ وليد.. يا للصدفة الجميلة، وأنت ماذا تفعل هنا؟
      ـ جئت لأبحث عن امرأة أرسمها، وأنت؟. للتسوق أكيد.
      خرجــا معاً، كانــت سيارة بسائقها في خدمته، أشار للسائق بالانطلاق والتوجــه إلى مطعــم (مســـقوف ) .
      بعد تذوق أطيب الأكلات وألذها قررا أن يلتقيا ليلاً في دار مراكش، هناك ألذ المأكولات المغربية والشيشة. هل تعرف المكان جيداً يا وليد؟
      ودعه وليد مؤكداً على معرفته المكان وعلى الذهاب إلى هناك لانتظاره في التاسعة مساء.
      معدته لم تألف مثل هذا الأكل، فثارت عليه مترجمة رفضها بآلام حادة، صاحبها قيء وصداع. فقرر عدم الذهاب حسب الموعد قائلاً:
      -هذا أحسن، ألم معدتي لم يكن من التخمة بل من فراغ الجيب.
      المفروض أنا من يضيّف، هو الزائر وأنا ابن البلد. ثم إذا ذهبت هناك هل أتركه يدفع عني، وأنا لا أملك سعر علبتين من البيرة ؟ يا الله، هذا أفضل. شكراً أيها المغص المنقذ، خلصتني من ورطة كبيرة،من الدفع ومن سيل لعابي على النساء وعلى حديثي عنهن:
      -الصدر بضّ، الشعر ناعم، المؤخرة مدوّرة، تفعل ما ترغب به، هي في خدمتك، بينما زوجتي.. ثم يصمت علاوي.
      التقط قطعة لحم بالشوكة وقبل أن يضعها بفمه يبرر لي سبب خيانته لزوجته:
      صحيح أنا أحبها بجنون، لكنها أكلة واحدة، يا أخي ملــّيت كل يوم بامية، بامية.. إي هم يشتهي الواحد اللحم الروسي الذي غزا شوارع الإمارات ودوائرها ومحلاتها؛ ثم أنا مللت من اللحم الفلبيني.
      ( حين كانا في المطعم ، كان يضع قطعة من لحم الكباب في صحن وليد ويقول له) :
      - كُل يا وليد، كل. هذا لحم إنجليزي.. ويغمز له، أكيد ذقت اللحم الإنجليزي؟
      تمدّد وليد على فراشه، وراح يقرأ رسالة عبد الحق التي وصلت صباحا، قرأها أربع مرات، ثم الخامسة، استفزه شعر عبد الحق، تخيل صورة ما، ودخل المرسم، يستعيد الكلمات ثم يرسمها. يتناول الألوان، ويضع حرفاً على شكل قوس، وتمرّ الساعات.. يقف يتطلع ، يرسم، يشعل سيجارة ، يشرب قليلاً من البيرة، يضعها أرضاً ويواصل .
      أذهله سحر اللوحة، إنها كيان وليست ألواناً فقط، لا بل قصيدة، لغة بالألوان. يحدث لوحته، يقف وهو يسند ظهره إلى الحائط : وينك يا عبد الحق، وينك تجي وتشوف بيت الشعر الذي قلت فيه:
      خضّبتُ المستباحَ
      حمّلتُه ميعادكَ وانفلقتُ.
      - ها هي انفلقت..
      كل المستباح، من رجولتنا إلى أرضنا. ثورة ألوان.
      أحمر، أخضر، أصفر، أزرق؛ سأسمّيها المستباح؛ ولن أعرضها في أي معرض، هي لي.. يجب أن أعلّقها على هذا الحائط. لا، في غرفة نومي، لا.. هي هدية يا عبد الحق، هدية.
      وراح وليد يدير قرص التلفون، بعد ثلاثة أرقام تطلـّع إلى ساعته، وجد أن الوقت غير ملائم، فقرر الاتصال بعبد الحق غداً.
      لم يلتقِ بعبد الحق في سوريا، لكنه التقى به في كلية الآداب في بغداد، وتصادقا بعد أن التقت أفكارهما وآلامهما. كان يلحظ ألماً دفيناً في عيني عبد الحق، وبعد توطد الصداقة حكي له كل شيء، وصارا لا يفترقان. لكن فرّقهما السجن، من وقتها لم يسمع عنه أي شيء، إلا مفاجأة عبد الحق له عبر الهاتف في لندن.

      ***
      التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 27-08-2010, 03:04.

      تعليق

      • وفاء عبدالرزاق
        عضو الملتقى
        • 30-07-2008
        • 447

        #18
        7
        كانت أمه قاسية جداً، تضربه كثيراً وبعنف. كانت تعكس مشاكلها العائلية وسخطها على عائلة زوجها التي تغار منها لكونها جميلة، ولكونها استحوذت على قلب أبيه. لم يكن متعلقاً بأمه، بل بأبيه الذي كان عاملاً في شركة البيبسي كولا، ثم شرطياً، ثم سائق تكسي. كان متفوقاً في المدرسة، وخاصة في دروس اللغة العربية، وكان موضع اهتمام مدرس اللغة العربية، حيث أهداه مجموعة قصصية لـ(فهد الأسدي).
        هرب من البيت إثر ضرب و إهانة من والدته، وسكن عند عمته.
        كانت طفولته في (الشاكرية ). و كانت ( الشاكرية ) عرصات وصرائف للعمال والفلاحين النازحين من الجنوب، ليس فيها مدارس أو مراكز صحية. وعندما كان أحمد حسن البكر رئيساً للوزراء، انتقل مع عائلته إلى مدينة الثورة، أرض مهجورة متعاطفة مع عبد الكريم قاسم ، وفي عام 1963 اعتقل الحرس القومي الشباب من جيله، ورحّلوه بعد هجوم على بيت عمته وسحل زوج العمة بدمه. ثم خرج بعد شهور من الاعتقال والتحقيق، حيث لم يعثروا على ما يدينه.
        كانت ميوله دينية في بادئ الأمر، لكن القراءات في فترة عبد الرحمن عارف، لِنجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس وغيرهم أبعدته وهو في سن المراهقة عن الحس الديني، ونتيجة تأثير الأقارب والأصدقاء الذين ينتمون للحزب الشيوعي، والذين كانوا يزودونه بالكتب وهو في سن السابعة عشرة، أصبح شيوعياً، ثم عضواً في اتحاد الطلبة.
        في سنة 1972 تعرف في جامعـــــة بغداد على فتاة سمراء، معه في القسم نفسه، وتزوجها بعد ذلك، وفي السنة ذاتها قُدّم ضده بلاغ بأنه ضمن خلية حزبية تتآمر على اغتيال قائم مقام مدينة الثورة. واعترف عليه شيوعي سابق من المنطقة بعد تعذيبه، وعلى مجموعة من الشباب.
        حين داهموا بيت عمته مرة ثانية، لم يجدوه في البيت. وسجل اسمه إثر هذه التهمة الملفقة مع الممنوعين من دخول الجامعة، فطلب منه الحزبُ الاختفاءَ لمدة سنة.
        في أول سنة له في الجامعة، كوّن مع أصدقاء له من شعراء وكتاب ورسامين أصبحوا معروفين الآن (جمعية اتحاد أدباء مضاد) ؛ رغم أن بينهم من بعثيين والشيوعيين. ولقاءاتهم في مقهى المثقفين في بغداد حمّسته على كتابة الشعر ومواصلة الثقافة. ومن خلال اتحاد الطلبة توطدت علاقته مع جريدة (طريق الشعب) وتم ترشيحه للحزب قبل السن القانوني.
        إثر تسرب معلومات لوالدته عن مكان الجريدة ، جاءت إليه وزارته في مقر جريدة طريق الشعب ، وأصبحت العلاقة بينهما إثر تلك الزيارة، رغم توترها، فيها شيء من الألفة وحنان الأم.
        إلا إنه بقي في بيت عمته، ثم انتقل بعدها إلى بيت ابنة عمته التي تكبره بكثير، أرملة استشهد أخوها إثر اعتقاله سنة 1963 مع مجموعة القيادة المركزية بعد أن حقن في رأسه إبراً أودت به إلى الجنون ثم الموت.
        أما هي فقد كانت توزّع المناشير في علاّقة ،الخضار وهي ذاهبة تتسوق، كانت غاية في الجمال، وحادة الذكاء، وتحب الحزب بشكل تلقائي وعفوي، وصاحبة نكتة.
        تزوج عبد الحق سنة 1979 وفي السنة ذاتها ترك العراق، قدّم على جواز سفر بصفته عاملاً بكفالة قدرها خمسة آلاف دينار، ووقع على وثيقة صحية لكونه ذاهباً للعلاج في بلغاريا ثم السياحة في تركيا، وعقوبة تكذيب هذه الوثيقة هي الإعدام. في الحدود بقوا ليلة كاملة، بعد أن أعياهم السفر من الموصل إلى دهوك. نقطة إبراهيم الخليل كانت مرحلة الشك في سفرته، سمحوا لزوجته بالعبور لوحدها. سمحوا للمرافق أن يمر، بينما أمروا المريض أن يرجع مع شقيق زوجته الذي قادهم إلى نقطة الشك بسيارته مدعياً أنه صاحب تكسي.
        انتقل مسرح التدبير للخروج من العراق إلى والد الزوجة، رجل بسيط صاحب محل لبيع وتصليح الزجاج ، يمرّ عليه ضابط يعمل في الجوازات. فطلب منه جواز سفر جديداً لصديق اسمه مظلوم، وأعطاه صورة شخصية لعبد الحق، وحين سأله الضابط عن صاحب الصورة أكد أنه عامل بناء، لكن الضابط أصرّ على أنه صحفي، وأنه شاهد صورته في جريدة طريق الشعب.
        فأقسم له:
        - لا والله يا أبو مخلص، هذا رجل بسيط لا يعرف طريق الشعب ولا طريق الحكومة.
        عندها وافق الضابط على ذلك، وقبض قيمة الجواز مئة دينار، وهو يقول: إكراماً لك يا عم أسقط حقي في الأجرة، لكنْ لدي عمل صباغة في الدار وأريده أن يقوم بذلك.
        انتقل عبد الحق من القلم إلى الفرشاة، يلطـّخ هنا ويعربد هنـــــــاك، ولمدة شهر كامل. غادر بعدها إلى سوريا، ومن سوريا التحق بزوجته في بلغاريا.
        هناك أصيب بإحباط ، كانت بلغاريا بالنسبة إليه صدمة حضارية وثقافية، فبينما كان فرحاً ومتهيئاً نفسياً لمشاهدة بلد ديمقراطي مقارنة بالوطن، وجد شيئاً آخر، لكن العيب لم يكن في البلد، بل في الناس، كانوا نصّابين باسم الرفاق، أين الرفاق الذين عهدهم في العراق؟ فلاحون وعمال ، مثقفون وبسطاء، أين هم؟ من هم الحقيقيون ومن هم المزيفون؟.
        إنه يعرف الكثير منهم والذين جاهد معهم، وتوقف واعتقل معهم.
        ترفـّع على الصغائر واهتمّ بالانتماء، بانتمائهم ابتعد عن التشكيك بالآخر كما كانوا يفعلون. سلبية الأحزاب بالحكم وسلبية البيروقراطية والزجر والأوامر جعلته ينهار، إلى درجة أنه لم يقوَ على ممارسة الجنس مع زوجته لمدة سنة، بعد أن خضع لجلسات علاج لدى طبيب نفسي.
        التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 27-08-2010, 03:07.

        تعليق

        • وفاء عبدالرزاق
          عضو الملتقى
          • 30-07-2008
          • 447

          #19
          8
          من الصعب أن يجد المرء القدوة والمثل ينهار في نظره، رغم أن الكثير من النساء والرجال ضحوا من أجل قناعاتهم وانتمائهم الحقيقي والمبدئي.
          كانت تراوده صورهم وهو في المصحة ، منها صورة تلك المرأة الجميلة، زوجة صديقه الذي يسكن في مدينة الثورة. كان لا يستطيع أن يلتقي معها في البيت أو في مدينة الثورة كي لا يكشف صلتها الحزبية معه، فيواعدها في ساحة النصر.
          سابقاً كانت العباءة العراقية هي ستر المرأة، والغانيات هنّ من يرتدين القصير والعاري من أجل جلب الزبون. ولكن في أعوام السبعينات تخفـّت المومس في العبــــــاءة، وصار ارتداء المرأة لملابس محتشمة يُعدّ جذباً للتحرشات والمعاكسات. تعرضت تلك الرفيقة للإساءة، وكان الراغبون في امرأة يسألونه، وهو يسير معها لتوصيل خبر أو تعليمات حزبية، عن أجرة الساعة بصفته القواد، المرافق.
          لقد تعرضت للاعتقال والتعذيب، وسمع في بلغاريا أنها ماتت صامدة ولم تخبر عن رفاقها، كما سمع عن إعدام شقيق زوجته الذي وقع على كفالته بأن المعلومات الكاذبة التي قدّمها هي معلومات صحيحة. قصته تكفي أن ينتظر قليلاً، ويكفّ عن الكلام. لذا لم يكمل عما عانى في بلغاريا، وظنّ أن هذه المعلومات تزيد إحباط وليد، فاختصرها في رسالته الطويلة.
          أخبره أن الأوامر اقتضت إرساله إلى اليمن، وأرسل عن وضعه في اليمن ديواناً شعرياً يترجم فيه كل شيء، سمّاه "الصهيل المبتور".
          ثم وضع نقطة سوداء كبيرة في نهاية الرسالة، وترك ملاحظة يشرح فيها كيف عرف عنوانه من صديق يعمل في الصحافة في ألمانيا، فكانت تلك اللحظات بالنسبة إليه لحظات استثنائية أن يعرف عن صديقه الفنان. كما أن الصديق ذاته دبّر له عملاً معه ، وراح ينشر أشعاره مترجمة إلى اللغة الألمانية، ومرة بالعربية. *

          عاين وليد يمنة ويسرة، فوجد أشرطة تسجيل مرمية أرضاً حيث يعتبرها أشرطة غسل الذاكرة، أدار المسجل بعد أن وضع فيه شريطاً لأغانٍ قديمة، وترك هاجس المرأة يعبث بمخيلته.
          غمرته نشوة جنونية وهو يحاول الوصول إلى حلمة متوردة، كلما انتهي من رسم امرأة من المخيلة مزقها، وبحث عن أخرى. يقترب منها،تسحره عيناها،تزحف النشوة إلى جسده وهو يحرك الكرسي الهزاز ويداعب شفتيها.
          تسير يده ببطء، تقرأ وجنتيها ورقبتها، يمرر طرف إصبعه على زندها وعظمات رقبتها ناحية الظهر، ينزلق إصبعه في ممر العظمات ويستقر عند قراءة المفرق، آخر عظمة تتربع بين تلـّين من اللحم الأبيض.
          خطوط جديدة تزيح اللحم البضّ عن مخيلته، فتأتي عابرة ودون استئذان صورة "علية"، يفتح عينيه ويهرب من صورتها القديسة، يجلس على الأرض، ومعه ثلاث علب من البيرة، يضعها أمامه دفعة واحدة، ويضع عشرات من السنين في خزانة قلبه.
          يقضم أظافره بأسنانه، لا يجد أمامه غير صورة الفراغ، يفرك عينيه باحثاً عن لون. يبرهن لنفسه أنه مازال يتنفسها ويشم رائحتها:
          - تعالى، تعالى يا علية ، تعالى ولو في الحلم.
          يسند ظهره إلى حافة الأريكة، يندف شعره الذي تركه على سجيته دون حلاقة أو صبغة، يستحضر كل ما يمتّ" لعلية" بصلة، فيجده عصياً عليه، يتمدّد على الأرض كسفينة لا تجرؤ على الإبحار، يجلب له خمس علب أخرى، ويتركها قرب الثلاث الفارغة. ثم يرجع لسفينته، ليعطيها قليلاً من جرأة، وحين عصت.. حثـَّها، ولما استكبرت، دفعها إلى حافة الرمل ، انزلقت قليلاً إلى الماء.
          أغمض عينيه بارتخــــاء ساخن، كانــــت على صدره اثنتان تجددان القُبل، وختم الشفتين يزيّن رقبته ويديه وبطنه العارية. نفَـَس حار، وشعر أشقر أُسدِل على وجهه، شمّ رائحة عطر لم يشمه من قبل ، نساء هاي ستريت كنزكتن، أجورد رود، بيكاديللي، الناصرية، بغداد ، لم يجده على بطاقات السفر اليومية وعلى تذاكر الطائرات. بينما سمراء متمردة بشعرها المتمرد، تطوقه وتشمه، وتصطك أضلاعه بأضلاعها، ويكاد أن يحيي الميت فيه.. فإذا بعربدة جاره السكير تستقر في رأسه وتعيد إليه صحوته .
          أفزعته الوحشة والفراغ بينما العزلة أصابته بالخرَس، لم يجد أثراً لقُبل. تفحّص بطنه، فتح منخاريه ليشم رائحة امرأة، لم يجد أية شفة تتصدق عليه بقبلة، كان قلبه بوسعه أن يتسع لحلم استثنائي. وكاد أن يدخل صدر الشقراء، يخترق نبضات قلبها ويدخل.
          دار في الصالة عشر دورات، دخل غرفة نومه، شعر برقصة على أصابعه. عضّ شفتيه ومدّهما، عضّ الفرشاة الصغيرة، ابتعد مسافة مترين، تحسس يده المبتورة، سكت، فاض في قلبه شيء غريب،أحسّ بجسارة سؤال في صدره : ما الذي يمكنه أن يصور امرأة تفضح النهدين؟ امرأة هي غايتي وجرحي العابث باللذة.
          التفّ حول نفسه، وقف أمام المرآة :
          - هذه اللوحة الأخيرة، وسأعلن عند إتمامها عن معرضي، وأدعو إليه أصدقائي المقربين؛ لقد نالت مني العزلة ونلت منها ما يكفي. نعم يا (دافنشي)،العزلة هي الحرية، وصدقتَ حين قلت:
          - ( إذا كنت وحيداً فأنت تملك نفسك، وإذا كنت مع رفيق واحد فلن تملك إلا نصفك ).

          بعد حمّام دافئ، فتح صدره لهواء الشرفة، صرخته اليوم أكبر من صدره، وجدها تهتزّ مع الشجر على مرأى من الهواء لسعته البرودة، زرّ بلوزته الرمادية ضامّاً صدره إليه، قبل أن يغلق النافذة أخذ نفَساً عميقاً، وأغلقها بهدوء، أعدّ كوباً من الشاي، استخرج رسائل قديمة وصوراً قديمة لأهله، تضاعف حجم السؤال حين وجد صورته في الناصرية، ابتسم لنخيلها:
          - أيتها الجميلة يا ناصريتي الموقرة، سأحفرك في مجرى الروح.
          - احمرّت عيناه، واحتقنت وجنتاه، تطلـّع إلى المنفضة، وجد السيجارة قد أكلت نفسها. خطا نحو مرسمه فرحاً : أيتها اللوحة خُذيني إليك.
          سألته الحبيبة: لا بدّ أن أطير على جناحيك.
          لم يسمعها، هيّئ له أن صوت "علية" مرّ قرب ريشته المغموسة في اللون الأحمر، سأل وجه أمه من الفرشاة، دهش حين وجد الوجه يبتسم له قائلاً:
          - جِدْ نفسك يا بني، جدها. هيا ارسم، مازال في الوقت متسع، ومازال في العمر نفَسٌ لعزف ناي.
          ضرب جبينه براحته اليمنى:
          - مازلت تحلم يا وليد، خذ ما يكفي من اللون، خُذ ما يكفي من النسيان ، ما يكفيك من الذكــّر وارسم.
          بعد أن شعر بالجوع يعصر معدته، تطلع إلى ساعة يده، وجدها تشير إلى السادسة مساء. لم يعبأ بالوقت الذي مرّ، ولم يعِـر للجوع أهمية ،استسلم للألوان، اهتدى إلى شعاعها ، راح يهذي كمن يحادث شخصا حقيقياً :
          - سأرسمكِ كما رأيتك في الحلم أيتها الشقراء، مومسٌ بحفنة امرأة.
          - سمرائي أين ساعدك الجميل، سأرسمه صيحةً تعرّي إطارك، واعذريني فقد قلت سأرسمك وأجسّد شقرائي، هذه حكمة الرجال حين يصبحون عبيداً لسراويلهم. أرسمكما لتمثلا الحرب، وسأردّه إلى ضميره وضمير سادته واعذريني حبيبتي "علية"، لن تموتي حرباً إثر حرب، لقد حفرتك في مجرى الدم، لا تقوليّ؛ يهذي أو يثرثر.
          شمّ رائحة نساء مختلفة المصدر، عجين أمه، غطاء رأسها. بعثر ملابسه أرضاً بعد أن داهمته سخونة الرائحة، صوت أنثوي يصبّ بمصبّات الجسد. اقتربت منه حورية سمراء، دنت من رقبته وقبّلتها، شقراء ضمّت رأسه بين نهديها، دارت به دوامة مومس، بينما مومس ثانية تتبادل معه سكرته، تعيد له النصف الخالي من العمر، وتسكره معها ثانية.
          لم يدرِ ِ كم مضى من الوقت، لكنه حين أفاق إلى نفسه، اكتشف أنه جالس في ركن قريب جداً من اللوحة المربعة الشكل. غمس فرشاة جديدة باللون الأصفر: شعرك كالحصان سأتركه يلتفّ على عنقك، الفجر يخاف من القمر، أنتِ قمري.
          فتح ثلاثة أزرار من ثوبها، فبانت استدارة النهدين البضّين:
          - ويحك يا وليد أمازلت تحدّث لوحاتك؟،
          غيّر طبعك هذا، وإلا أكلتك الألوان؛ لن تحتاج لوليد آخر.
          مرّر إصبعه بين نهديّ الشقراء بينما السمراء ظلـّت تراقبه، وعيناها تكادان تأكلانه. سحب كـمّ فستانها، ليظهر الكتف عارياً محدثا لوحته:
          - في الناصرية حين يتعرّى الكتف يعني يا قاتل يا مقتول، والدماء تصل الرُّكب، فالعار لا بدّ أن يُغسل. أما في لندن فالأكتاف العارية ببلاش، والنـهود النافرة على قفا من يشيل
          التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 27-08-2010, 03:09.

          تعليق

          • وفاء عبدالرزاق
            عضو الملتقى
            • 30-07-2008
            • 447

            #20
            أحسّ بثقل قدميه، تحرك ببطء باتجاه التلفاز، سمع صوتاً يناديه:
            - عيناك متورمتان يا وليد، خُذ قسطاً من الراحة.
            رجع ووقف قبالة الصورة، أغمض عينيه، تذكر أنه اشترى زجاجة عطر غالية الثمن (Givenchy) لغانية رافقها ثلاثة أيام ، وحين وجدته غير قادر عن إحياء ميّت بين فخذه تركته هاربة من فشله .
            جلب العطر إلى شقراء اللوحة، الأنثى وحدها تنصت لهمسه الخفي ، رآها بالقرب منه تسيل نظراتها عليه ، التصق بها ورشه على عنقها، اقترب من شحمة أذنها وقبّلها عليها، اشتعل مصباح جسده، احتاج لاحتراق، سمع صوت المطر وهو يعانق الأشجار، أبعده عن سطوة الجسد، لكن رائحة الأنثى اتجهت صوبه، اقتربت منه، شمّ أنفاسها، بذل جهداً لمقاومتها.. رمت شالها البرتقالي، بحركتها العفوية تفتقت أزرار ثوبها، وضغطت على خدّه، ثوب أزرق وجسد بض، عناق الضدّين، تآمر عليه.
            أطبقت السمراء شفتيها على شفتيه، وطبعت قبلة حلوة، لكن عينيه شاخصتان باتجاه حلمة وردية وثدي نفر من ثوبه الأزرق.
            صلـّى فؤاده بمحراب الأنثى، لصق وجهه في سُرّة الشقراء، وبحركة عفوية أبعد عنه ذات الرداء الأحمر. يرتاح لصوت أعماقه، نده شقراءه :
            - خلـّصيني منك.
            أسكتته بإشارة من إصبعها الرقيق الملمس، لمع جسدها في الظلمة: ماذا ستفعل بالسمراء؟
            ـ فقط ضربات فرشاة.
            سمع صوتاً آخر يناديه باسمه، كلـّمه وليد في صمته:
            - ويحك وليد، صرتَ تـكلـّم نفسك. الله يلعن الوحدة ، وتتهيأ أيضا ؟
            رشّ لوناً ذهبياً على إطار الصورة المركون أرضاً:
            - الشقراء رمزٌ للغواية.
            تردّد الصوت ثانية؛ وليد.. وليد.
            ـ يا رب أنا لم أكلـّم نفسي إذاً مَن أنتما؟ هل أنتما من الجن؟
            ـ وهل لرجل مثل وليد وثقافته أن يؤمن بالجن؟
            ـ نحن امرأتاك، اقترب من اللوحة.. هل تسمعنا جيداً؟ نريد أن نعقد معك اتفاقاً.
            ـ عن أي اتفاق تتحدثان؟
            فرك عينيه، وفرك أذنيه، كي يُبعد عنه التهيّؤ. سمعهما مرة ثانية، وثالثة وعاشرة:
            ـ نريد الخروج من عالمك، لنا رغبة في التجوال والطواف في شوارع لندن.
            ـ لكنكما مجرد ألوان، نساء من ألوان.
            ـ نعرف ذلك.. امنحنا حريتنا ولو لمرة واحدة، ألستَ تحبّ الحرية وتحبّ المرأة المتمردة؟
            ـ إننا نعلن العصيان عليك، ونتمرّد على إطارك الذي هيأته، كما نتمرد على سجن أفكارك.
            تقدمت السمراء إليه :
            - أرجوك.
            قبّلته على جبينه.. ارتعش لدبيب القبلة في بدنه.
            تحسّست الشقراء بطنه:
            - أرجوك.
            قالتها بصوت خفوت يسيل لعاب الذكور له، ومدّت يدها تمسّ عضوه من خارج البنطلون. قال لها:
            - إلى أين تذهبين، إنه معطـّل؟
            أشارت إلى السمراء بفكّ أزرار قميصه، وأخذته بين ذراعيها:
            - لا بدّ أنك تعيش في أحلام اليقظة.
            استسلم لها وهي تنزع ثوبها الأزرق، وتقف أمامه عارية وفتحت زنـّاّر بنطلونه، اهتزت الأشجار قرب النوافذ، واهتزّ معها زجاج الشبابيك حين سمعها تهمس في أذنه:
            - كم أنت جميل يا وليد.
            رغم استغراب السمراء مما يجري وما فعلته دون قصد منها، ارتاحت لأوامر الشقراء، جرّته من يده، وأجلسته على الأريكة، ثم جلست على ركبتيه، حرارة جسده تُشعل جسدها، أدنت طرف أنفها من أنفه، شمّت أنفاسه، واعترفت بعشقها.
            شفتاه فتحهما بذهــول، واســترجع آخر حرفين سمعهما من كلامها (I love you). إنه بلا زوجة، بلا "علية" الحبيبة، وبلا شهقة يفرز فيها سائل ذكورته. إنه مجرد قطعة من أثاث الشقة، وخرائط لا ورق ولا جدران ولا حول لها لترسم نفسها.
            أدار عينيه حول محتويات الشقة، طاولة صغيرة، أريكة قديمة، سرير مخذول، مسجل وبعض أشرطة مبعثرة، تلفاز، ثلاجة، لوازم مطبخ. وهو، وألوان تتجول حسب إرادته، قماش الكنفز، وخشب ومسامير. قال لها:
            - اقرصيني، اقرصيني ، أريد أن أعرف إن كنت في يقظتي أم..
            - وضعت إصبعها على شفتيه كي لا يكمل، وارتمت على صدره، سمراء بشعر أسود طويل وثوب أحمر وثديين نافرين، وتركته يكتشف جسد الشرق: جلدكِ ناعم، ناعم.. يا.
            تركها وفتح ذراعيه للشقراء:
            - وجلدكِ أيضاً، أنت غريبة أليفة.
            استكشف محاكاة أخرى للجسد، نقاط خفيفة بيضاء علقت بأصابعه، بينما علق لون أزرق في شعر صدره ورقبته، إذ مازال اللون طرياً لم يجفّ، كما أن هناك جزءاً من ثوب السمراء مازال أبيض لم يصبغه بالأحمر. الدهشة والحب و غير الواقع واللامعقول والشال البرتقالي، شلـّوا تفكيره، لكنّ الشقراء وهي تعبث وتلعب بشعره، ثم تنحني إلى شعر أسفله، علقت بأصابعها بعض شعيرات راحت تنفخها في الهواء، وتطلب منه السماح لها بالخروج إلى شوارع لندن. فردّ عليها دون أن يعرف سبب خضوعه لها : سأفعل لكن بشرط :
            ـ اشترط، نحن موافقتان على شروطك كلها (بصوت واحد).
            ـ أمنحكما اثني عشر يوماً، على أن تعودا قبل تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولن أقبل التأخير ولو دقيقة واحدة. لقد حجزت القاعة، وحدّدت يوم العرض بعد ثلاثة عشر يوماً من الآن.
            ـ نوافق.
            ركضتا فرحتين، دخلت الشقراء غرفة نومه وخرجت مسرعة، أمسكت السمراء من يدها؛ هيا.. هيا.. قبل أن يرجع في قراره.
            ركض خلفهما، وأعطى السمراء بطاقة فيها عنوانه واسمه، مشى حافياً على أرض المطبخ، سخّن ماء و وضع فيه كيساً من ورق الشاي، لم يكن مقتنعاً بما سمع ورأى، ولما سمع حركة، ركض مسرعاً إلى شقرائه، قبّلها من وجنتها وضمّها إلى صدره:
            - احترسا، ففي الخارج غابة من ذئاب. (وشدّ على يدها):
            - لا تنسى أني أعبدك.
            ردّت عليه السمراء: وأنا كذلك، أحببتُك منذ أن كنتُ فكرة تدور في رأسك.
            رجع إلى كوب الشاي، وضع قليلاً من السكـّر، وتذكر أنه لم يطلق عليهما أي اسم. التفت راجعاً، لم يجد أحداً. وحين لم يجد غير انكسار الضوء على النافذة، عاد إلى الثلاجة، استخرج ثلجاً ووضعه في قدح كان فوق الثلاجة، صبّ الويسكي عليه، وشربه دفعة واحدة. ثم سكب الشاي في مغسلة المطبخ، ضرب رأسه وجبينه، وترك السيجارة تحرق أصابعه، وراح يلوم نفسه :
            ـ كيف تركتهما تغادران؟ لماذا ضعفت لرجائهما ؟ وكيف طرأت لهما فكرة الخروج؟
            - ويحكَ لستَ بالكفء للعشق، لامرأتين فيهما طفولة ألوانك.
            تذكر أن لديه حبوب (فاليوم)؛ فتناول حبّـة من (دوز العشرة)، وهو يردد :
            - ما أغباك يا وليد، فاليوم و وسكي، ستنام نوم أهل الكهف.
            ألم حاد في قدميه، انتقل إلى كل عضو من أعضاء جسده، ضغط بيده على عضوه الذكري، ألمه كثيراً:
            - أتؤلم الرجولة؟ خاطبه واستمرّ ضاغطاً:
            - لا ترفع علَمك، دعه في سباته.. حين اختمرت رجولتي كنتُ أخبّئ علمي بين فخذي لئلا يفضحني أمام أمي وأختي، تركته يضمّ رأسه بملابسي الداخلية التي نزعتها وغسلتها ثم نشرتها تحت السرير، وغادرت مسرعاً إلى المدرسة، حيث وصلت متأخراً، كان علَم المدرسة مرفوعاً والأولاد تجلـّوا بالنشيد الوطني:
            موطني موطني. كنت أخفي عضوي عن والدتي استحياء، واليوم أخفي وجهي عن عضوي استحياءً.

            التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 27-08-2010, 03:11.

            تعليق

            • وفاء عبدالرزاق
              عضو الملتقى
              • 30-07-2008
              • 447

              #21
              [align=center]

              فصــــــــــل
              اكتشاف إبليس


              نحن حقيقة عارية، وهم عراةٌ بلا حقيقة .
              [/align]

              تعليق

              • وفاء عبدالرزاق
                عضو الملتقى
                • 30-07-2008
                • 447

                #22
                1

                لم تكونا على يقين حين نطقتا بكلمة الخروج من اللوحة، كان يجذبهما الغريب والقضايا التي تسمعان عنها من وليد. وجدتا نفسيهما أمام حلم جديد بمخلوقاته الغريبة، لأنهما وضعتا أمام المحك. كانت الأشياء تبدو أصغر حجماً في مخيلتهما، وكانت تلك الاستنتاجات غير مرتكزة إلى قاعدة، أو حدث أو قِبلة.
                كانت السمراء تعارض قرار الشقراء بكل قواها، تريد أن تبقى إلى جوار وليد، وكانت هانئة رغدة بما اختاره لها، كل حدودها القصوى هي أنامله،استكشافها لملامحه وانفعالاته.وقفت بدهشتها من عالم تتعرف عليه لأول مرة :
                ـ هذا يعني أننا في ورطة؟ انظري إننا بحاجة إلى قدر كبير من المعرفة لتمييز وجود العابرين، والمحلات والتساؤلات التي تشوش أفكارنا.
                فأجابتها الشقراء مكملة:
                - والبضائع المعروضة بالفاترينات، قطرات المطر، الهواء الذي يشق صدر الفضاء، أسماؤنا التي لا نعرفها.
                مدّت يدها كمن يلتقط حبات من عقد، وتابعت تجمع قطرات المطر في كفها، ارتجفت لرقصة المطر على راحة يدها، وتأملت إشارة العبور، ضوء أخضر بشكل رجل، راقبت عبور المشاة باتجاهين متعاكسين، رجل يعبر بمظلته السوداء ترافقه امرأة تأبط ذراعها، عجوز بآلته الموسيقية أخذ ركناً في الشارع، امرأة ذات شعر أجعد مصبوغ باللون الأحمر الفاقع تباعد بين فخذيها وهي ماشية وكأنها نهضت للتوّ من تحت رجل، مؤخرتان محشورتان ببنطلون الجينز، بدا كأنه مدهون عليهما.
                عبرتا مسرعتين، وصعدتا الحافلة من الجهة المقصودة. أمسك أحدهم بيد ابنه وجرّه بقوة، بينما الطفل احمرّت وجنتاه غضباً، يرتدي بنطلونا أزرق وقميصاً زهري، تعلو وجهه سمرة وشعر رأسه المتجعد أخذ شكل قبعة.
                قررت الشقراء أن تضع أول لبنة لها في شارع حياتها الجديدة، لها الحق الثاني أن تختار ما تريد، منذ هذه اللحظة هي ملك نفسها، ولا وصاية لوليد عليها. يمرّ من أمامها شكل لم تتعود عليه، يبدو رجلاً في انتصاب قامته، لكن لوزة رقبته، وصدره النافر بثديين لا تعرف من أين جاء بهما، ومساحيقه المفروشة على وجهه، أظافره الطويلة المطلية؛ جهلها التام بذلك جعلها في حيرة، فوليد لم يذكر مثل هؤلاء أمامها.
                رأت في الوقت ذاته، عند توقف الإشارة وإعلانها اللون الأحمر، سيدة تجاوزت الإشارة الحمراء راكضة باتجاهها وبيدها أوراق وقلم، أوحت إليها أنها تدوّن ما يجري وما تشاهده باللحظة والتوقيت. وقفت برهة تنظر في وجهيهما، سلـّمت: مرحباً.
                ابتسمت وغادرت، لم يصلا لمعرفة هويتها، ولماذا حيّتهما، غادرت دون أن تعرّف بنفسها.
                - هذه عادة غريبة.. قالت السمراء، فقد سمعت وليداً يقول إنّ في بلاده تسمع التحايا والسلامات في أي وقت ممن تعرفه ولا تعرفه؛ استدارت مستفسرة :
                ـ ولمَ خصّتنا بالسلام دون غيرنا؟
                ـ ربما كانت تنوي المساعدة.
                وحالما لاحظت صمتنا، استأنفت، فنحن لم نردّ على تحيتها.
                ـ أمعقول أننا في الخارج؟
                (وجّهت سؤالها للشقراء):
                - لمَ لا نختلط بالناس، نحاول أن نكون جزءاً منهم.
                فردت عليها الشقراء:
                - سأحاول أن أبدّل كل شيء، أظنك خائفة؟
                ـ أجل وكأني غريقة بعيدة عن اليابسة ولا مجداف لدي، هل تظنين أننا تسرّعنا؟.
                ـ لا، لن يخيب أملنا يا سمرائي منذ البداية، نريد أن نرى لندن، نرى عالم وليد، ألستِ تعشقينه؟ تعرّفي على عالمه.
                ـ أشعر أني أريد دخول الحمام، كما أني جائعة أيضاً.
                استغربتا رؤية رجل يرتدي دشداشة قصيرة دون الركبة بشبر، ولحيته الطويلة، وشعره الأسود الطويل، وآثار حرق وسط جبهته.
                سألت الشقراء
                - من هم هؤلاء؟
                ـ إنه واحد (ردّت السمراء).
                ـ بل انظري خلفه، إنهم سرب من الغربان السود.
                ـ سمعت وليداً مرة يحدث صديقه بالتلفون عن التطرف الديني وعن ظاهرة التزمّت والتعصب الديني التي ملأت أجواء العراق، وكان يردد بعد إغلاق الهاتف:
                - إنها الرجعة إلى الخلف.
                ـ ومن أدرانا أنه عراقي؟ فهذه ظاهرة كما سمعنا تعمّ العراق وسوريا والجزائر ومصر والمغرب وباكستان وإيران، وكل البلدان التي مازالت تترجم فواحشها وقتلها وسفكها الدماء باسم الدين، أي دين هذا؟ ألم تلاحظيه كيف التهمنا بعينيه؟ إنهم يكذبون على الله.
                وليد مثلاً يكره المومس، لكنه رسمنا مومسات، إنه يختار موديلاته في حدود أفكاره وبإمكانه أن يحلم. كم حاول معنا مراراً ووصل إلى درجة القذف، لكنه لا يقدر حتى على اختيار حلمه، لا يصنع رجولته حتى في الحلم
                ـ لمَ تذكرين وليداً بالسوء؟
                أجابتها الشقراء:
                - سأقتل ذلك البغل العاجز دون شك.. آه لو أني لستُ من بنات أفكاره، لخنقته.
                أدارت السمراء وجهها غاضبة، رجعت إلى هدوئها، وقد مرت بهما امرأة في نهاية الخمسين، كانت بثياب أنيقة، بدت كمن أنجز مهمة زمنية وتصالح مع الوقت، طلت شفتيها الغليظتين بحمرة وردية. حدث ضجيج وقعت إثره شابة في العشرينات أرضاً، صاحت امرأة سوداء البشرة، سمينة الردفين والصدر:
                - امسكوه لقد سرق حقيبتها ودفعها أرضاً.لكنه ذاب في الصراخ، وضاع صوت يطلب النجدة، كما ضاع وجهه مع حافلة اخترقت الشارع ومرّت. وأمام إحدى الحافلات تعالت أصوات رجال يهدّئون من غضب رجل تشاجر مع زوجته، كان الرجل في حالة دفاع عن النفس، لم يكن على لسانه سوى:
                كل تلك الثقة التي منحتك إياها، وتخونينني؟
                فتجيبه:
                ليس لديّ أدني علم عن ما تقوله، من أين جئت بهذا الادعاء يا ظالم؟.
                وحين انخرطت في البكاء، جاء صوته متقطعاً وعقلانياً:
                - إنه افتراض، افتراض يا عزيزتي. وأنت السبب بذلك، لأني لم أعد أحظى باهتمامك كالسابق.
                عند حافة الطريق وقف رجل عجوز يهذي، بينما آخر يكلـّم نفسه وكأنه يوجه لوماً لآخر أمامه ويخاطبه زاعقاً:
                - إنّ الملكة أعطتكم أشكالكم، وأعطتكم مفهوماً لخلق دولة، لكنها لم تعطني شكلي.
                ثم أشار بإصبعه إلى أحد المارة مهدّداً :
                -هذا تدبير، هذا تدبير.
                قالت السمراء:
                -إنه ليس بمجنون، اسمعي كلامه، إنه منطقي.
                ردّت عليها الشقراء :
                - سأخنقه في كابوسه.
                -مَن؟ هذا المعتوه؟
                - وليدك.
                - لكنه يحبك أنتِ، ويعبدك.
                - إنه يجد فيّ زهوه الإعلامي وزهوه الفني، أحبّيه أنت وانتظري ابتسامة بائسة من عينيه. إنه فريسة حياته الرتيبة وعجزه الجنسي، ماذا تتصورين، هل هو عاقل؟. إنه يصور عجزه برسم ثلاث غنيات، واحدة بقيت معه في مرسمه أتمّها قبلنا، ونحن. إنه يريد أن يؤكد لأصدقائه وللناس أنه رجل عادي وله عشيقات، ونحن دليل رجولته.
                ـ إنه إنسان ضعيف يا عزيزتي، وهذه القسوة لا يعشقها منك، فقد هفا قلبه لكل مسامات جلدك.
                ـ إنه كغيره أيتها الغجرية.
                ـ من تقصدين؟
                ـ هؤلاء الصرعى نتيجة تصفية حسابات الحكام لشعوبها، وتصفية أحزاب تراجعت وتعدّ عدها التنازلي متوهمة نصراً إيجابياً، ثم ضاعوا وضيّعونا معهم.
                ـ اتركيه لي أنا.. يكفيني حبه.
                ـ قولي بصراحة، هل تحبينه لأنه أسمر مثلك؟
                ـ هذا ما لا تعرفينه أنت، الحب لا يفرّق بين الألوان، إنه نبوءة الروح والجسد، وهذه اللغة بعيدة أنت عنها كل البعد.
                ـ حين يقترن الحب بالجسد يموت.
                ـ يا عزيزتي، العشاق الآن مأزومون بسراويلهم وليس في قلوبهم. الرجل قلبه سروال، ومنطقه سروال، وحلمه سروال.
                ـ هذا منطق من لم يجرّبه، هل بإمكانك فصل ضوء الشمعة من خيطها؟.
                ـ طبعاً لا.
                ـ إي هذا هو الحب، الضوء هو الروح والخيط هو الجسد، حين يحترقان تصير الأرض قافلة دخان.
                ـ الله يحمينا من دخانك.. فأنا جائعة، تعالي نشتري شيئاً لنأكله.
                ـ من أين لنا بالمال؟
                ـ سرقت بعض النقود من جيب وليد، أتذكرين ساعة أغمض عينيه، وقتها أخذت من جيب بنطلونه هذه الورقة. ورغبت أن أنزع هذا الفستان وأرتدي الثوب الأخضر المعلـّق في الصورة، رغبت أن أعصى رغباته، فطوال أيام وليالٍ كان يطارد جسدي، يقطـّع أوصالي ويوصلها ثانية، يمحو ويضيف. كلهم شرسون، يتلذذون بالتقطيع ابتداء من الجسد والقلب، وانتهاء بالكرامة. المهم أن يسيل لعابهم، أما كيف، فلا يهم.
                كنت أمامه طوال الوقت جسداً لم يتعرّف عليه أحد قبله، يمحوه حين يشعر بعجزه، ويضيف إليه اللون حين يشعر بقدرته في لحم نفسه بنفسه. هل تذكرين القصائد التي كان يتلوها بصوت عالٍ؟. كنت أسمعه يقول :
                - (المرأة هي الوطن، والمرأة هي حرّية).
                - أية حرّية لا تستوفي شروطها إلا بغريزة السروال؟
                - الله، الله.. أنت اليوم شقراء وحكيمة، فيلسوفة. شكراً أيها الجوع الذي صنعت من المومس فيلسوفة.

                تعليق

                • وفاء عبدالرزاق
                  عضو الملتقى
                  • 30-07-2008
                  • 447

                  #23
                  2
                  - الله، الله.. أنت اليوم شقراء وحكيمة، فيلسوفة. شكراً أيها الجوع الذي صنعت من المومس فيلسوفة.
                  دفعت شعرها الأشقر الى ظهرها، باعدت بين الزرّين الذين تركهما وليد مفتوحين، استخرجت قلم روج من جيبها، أدارت وجهها إلى زجاج واجهة محل تقف قربه، وطلت شفتيها.
                  ـ من أين حصلتِ على قلم الروج؟
                  ـ كان على الطاولة في الصالة، تركه وليد منذ أن زاره فارس عبد الودود قبل شهر. اشتراه من (برتبللو) بثلاثة جنيهات، وتركه على الطاولة، أتدرين لماذا؟ ليثبت لزائريه وهم قـلـّة أنه غير عاجز جنسياً، وأن صاحبته نسيته عنده البارحة، لقد شاهدته عندما دخل عليه صديقه بعد أسبوع من زيارة فارس، دون سابق موعد. يا ربّي لقد نسيت اسمه هذا الأشرم، هل تذكرين سمعته يقول لوليد إن شفته شُرمت من التعذيب في السجون؟.
                  - إي، لا عليك، تذكرت، اسمه محسن.
                  ـ أكملي.
                  - تظاهر أمام محسن أنه اكتشف القلم صدفة، وأبدى ارتباكه، وخبأه في غرفة نومه، بينما تغافل محسن المسكين عن ارتباك صاحبه ودخل المطبخ ليعدّ الشاي لنفسه.
                  ـ لكن هل تكفينا هذه الورقة؟ إنها بعشرة باوندات فقط؟
                  ـ لنجرّب.
                  دخلتا مقهى في بداية الشارع بعد أن عبرتا الى الجهة الأخرى، فاحت رائحة الشاي الساخن والقهوة والمعجنات والسجائر. جلست السمراء الى إحدى الطاولات، بينما تقدمت الشقراء للشراء، فاختارت قطعتين من الكيك وكوبين من الشاي. ثم مدّت يدها لتستفسر عن الباقي. اعتذر البائع الذي تمايل كأنثى، ووضع يده على صدره قائلاً:
                  Sorry, the price of cheese cake is 2.50.
                  عادت لصاحبتها مبتسمة:
                  - خذي، لا نملك غير هاتين القطعتين. كلي على مهلك لتمتلئ معدتك، وتحتفظ بالأكل لمدة أطول.
                  على بعد من طاولتهما جلس رجل يلبس نظارة رمادية الإطار، يحتسي القهوة المضغوطة. لمحته يحدّق إليها طول الوقت، ويخصّها بنظرة جذابة بين الحين والآخر حين يرفع النظارة، وما إن تستقر عيناه على نهديها حتى يرتدي النظارة ثانية، وفي إحدى المرات غمزها بطرف عينه.
                  بعد أن انتهتا من وجبتهما، خرجتا لا تعرفان إلى أين أو في أي شارع هما. اهتزّت الشقراء في وقفتها، فترجرج النهدان، ومع أول استدارة لها سمعته يسألها:
                  - هل بإمكاني أن أقدّم خدمة؟ سأكون ممتناً لو قبلتما دعوتي.
                  قطعة الكيك لم تشبع الشقراء، فابتسمت برضا، لكزتها السمراء، لكن لم تطعها وأجابته على الفور:
                  - نحن بحاجة إلى خدمة، ومثلك قليل يا سيدي، عفواً.. ما اسم هذه المنطقة؟
                  - (ماربل آرج )، هلاّ تفضلتما الى سيارتي؟
                  أجابته الشقراء :
                  - هذا أفضل، وأين سيارتك؟
                  - تلك السوداء (وأشار إلى سيارة جميلة لامعة).
                  جلست الشقراء قرب الرجل، في الكرسي الأمامي، تركت السمراء تجلس في الخلف. أعجبتها السيارة من الداخل، مقاعد مخملية رمادية اللون، خدمات لا توصف، الحواشي مذهّبة.
                  ـ لا بدّ أنك رجل ثري.. (ثم استدركت)؛ لكنك كنت تجلس في مقهى متواضع.
                  فتحت المرآة التي أمامها، وجدت السمراء قد لمعت عيناها بالدموع، وبدتا كلؤلؤتين على ساحل الرمش الأسود الكثيف. نظر هو في المرآة الأمامية، وخاطب السمراء :
                  - تبدين جميلة بالدموع. ثم انصرف عنها بلباقة العارف شغله:- ما اسمك يا شقرائي الفاتنة؟
                  ـ لا أعرف.
                  ـ وما اسم صاحبتك؟
                  ـ لا نعرف.
                  ـ هـــم.. فهمت، لا تريدان الإفصاح عن هويتكما، هذا من حقكما. أما أنا فقد تعرّفت على أميرات حقيقيات وأمراء، لا يهم إن كان الاسم حقيقياً أم.
                  قاطعته السمراء وهي تمسح دموعها :

                  -أم ماذا؟ نحن لسنا أميرات، ولا نعرف اسماً لنا؛ وهذه حقيقة.
                  ابتسم، وانطلق بسيارته مسرعاً. ثم تباطأ وهو يتطلع إلى ساقي الشقراء، وهي تراقبه بدورها حين كان يمدّ يده ببطء نحوها، فرفعت فستانها بصورة تبدو عفوية، واضعة ساقاً على ساق. امتدت يده إلى المقعد الأمامي ولامست كتفها، وراح يلعب بخصلات شعرها، ويمرّر أصابعه على رقبتها. ولما توقفوا عند الإشارة الضوئية، طلب منهما قبول دعوته قائلاً :
                  - اليوم أحتفل بعيد ميلادي، وسأكون مسروراً لو قبلتما دعوتي.
                  - لمس وجه الشقراء، التي لم تخفِ فرحتها، ولم تطلب منه التوقف عن مداعبتها، بل راحت تظهر له الموافقة الفورية، وتغريه بمزيد من المداعبة.
                  واستدارت إلى صاحبتها، التي أشارت إليها بالرفض، ثم غمزت لها. لم تترك الشقراء مجالاً للرد، وقالت:
                  - نحن موافقتان، أين تقع شقتك؟
                  - نحن متجهون إليها، إنها في (نايتسبريدج)، وهي منطقة راقية جداً، فيها أرقى المحلات وأرقى الزبائن (وغمز الشقراء).. ها قد وصلنا.
                  ـ عذراً، ما اسمك ومن أي بلد أنت؟ سألته الشقراء بغنج ظاهر.
                  ـ أنا من بلاد الله، أليست البلاد العربية من بلاد الله؟
                  (وفتح باب السيارة) :
                  - تفضلا.
                  ـ تشرّفنا بمعرفتك، المهم أنك تفهم لغتنا.
                  قالت السمراء:
                  - لكنه لا يذكرني بوليد.
                  ـ من وليد؟
                  ـ لا عليك، إنه شخص ما.. هل أعجبك شعري الأشقر، لاحظت اهتمامك به؟
                  ـ بل جمالك كله أعجبني، أنت كنز يا..
                  أجابته:- لا اسم لي.
                  ضحك.. وقال؛ فهمت، معذرة، عفوكما.
                  رافقهما إلى مدخل البناية، صعدوا إلى الطابق الثالث، الشقة (203). أدخل مفتاحه في الباب، شمّت السمراء رائحة بخور منبعثة ودخلت مع الشقراء بهدوء. علـّق الرجل مفتاحه على الطرف الأيمن لمرآة في المدخل، وفي الجانب الآخر ظهرت مرآة أخرى بإطار من الفضة الخالصة.
                  صالة واسعة بأثاث فخم، سجاد عجمي، لوحات زيتية.
                  أخذت الشقراء حريتها في التجوال داخل الشقة، كما أعطت لنفسها الحق للتدقيق في محتوياتها، سواء المطبخ والصالة وغرف النوم الثلاث. جرّبت الجلوس على الأسرّة ذات الأغطية الجذابة والثمينة، دخلت الحمّامات، تفحّصت الصابون وزجاجات العطر المتنوعة، جربتها واحدة واحدة، رشّت على جسمها خلطة من تلك العطور. دخلت إحدى غرف النوم، قرأت اسم زجاجة عطر (خلطة عربية) وبين قوسين دهن عود، ، وعند الباب أشار إلى الشقراء:
                  ـ سأوفر كل ما تحبين.. (وبحث في وجه السمراء عن سؤال، وتابع):
                  - سأحضر بيكاسو إلى هنا إذا رغبت.
                  دخل غرفة ليست بعيدة عن الصالة.. اقتربت الشقراء من السمراء وسألت:
                  - ما بالك متجهمة؟ لقد حصلنا على من يرعانا، أكل وشرب ومكان للنوم، ماذا تريدين أكثر؟
                  ـ أريد وليداً.
                  - دعي وليدك، واستمتعي بما جئنا من أجله.
                  خرج الرجل يرتدي ملابس منزلية، دشداشة عربية واسعة ذات لون بيج وقماش من النوع الفاخر.
                  ـ ها.. ماذا تفضلن على الغداء، هل تحبان الأكل اللبناني أم الإيراني أم الهندي؟
                  أجابته الشقراء:
                  - نحبّ كل شيء، هات ما يعجبك أنتَ، وستجدنا نلتهم حتى أصابعك.
                  ـ أريدك أن تلتهمي شيئاً آخر.
                  - ثم راح يسرد طلباته عبر الهاتف:
                  - ثلاثة كباب، ثلاثة تبّولة، حمص، بابا غنّوج، زيتون ومخلّل، عرايس، وأكثِرْ من الخبز.
                  - أخذ حبتين من صحن الفستق الموضوع على إحدى الطاولات الزجاجية، قشرهما وقدّم واحدة للسمراء بيد، ووضع اليد الأخرى على زندها. ثم رجع إلى الوراء قليلاً حين نفرت منه، قائلاً :
                  - اهدئي ما قصدت شيئاً.. رغبت أن أسأل إن كانت هذه أول زيارة لكما في لندن.
                  مشت الشقراء باتجاهه، وضعت يدها على صدره، وداعبت شاربيه:
                  - دعك منها، أنا أجيبك. إنها زيارتنا الأولى والأخيرة، سنبقى اثنتي عشرة ليلة بأيامها عندك، ما رأيك؟
                  ـ هذا هو مطلبي (قفز فرحا)، اتفقنا إذاً.
                  ـ فهمتك؛ اتفقنا. نحن نفهم بعضنا، ألم تقل لي في السيارة أنك رجل سياسي؟
                  ـ نعم.
                  ـ وما دخل السياسة بالدعارة؟
                  ـ ليس في الموضوع أية دعارة، لماذا تسيئين الظن؟ نحن طليقان فقط، ثم ما من فارق بين السياسة والدعارة، من حيث أنهما لفكّ الأزمات.
                  عصرت شفتيه بإصبعيها المشدودين على شكل كماشة:
                  - هل تقصد أن المصلحة من كل أحزاب الخراب، قومية، بعثية، شيوعية، شعوبية، تطرف ديني وأخلاقي، هي تطرف سراويل؟
                  ـ يا حلوتي،،
                  (وشدّها من خصرها، بينما حاولت الالتصاق بجسده، وضغطت نهديها على صدره):
                  -حلبة المصارعة بين الثور والفارس سياسة أيضاً، ففي النهاية سيكون الثور هو المغلوب حسب الخطة، والملعب واللعبة معدّة لصرعه مسبقاً. والأحزاب التي ذكرتها مجرد جعجعة وصوت عال لنشر الدعارة علناً، فلماذا اختلطت عليك الأمور؟
                  - وهو يمدّ إصبعه بين نهديها الملتصقين به، شعرت بمدى أهميتها، فراحت تزيد من عيار دلالها لتطلب ما تشاء:
                  - الليلة حفلتك، ولا أعتقد أنك تقبل أن أستقبل ضيوفك بهذا الثوب يا.. سي..
                  - ـ ناديني صابر.. اسمي صابر، شو بدك تعرفي أكثر؟ أنا من لبنان.
                  - تشرفنا يا صابر، أنت إبليس بعينه. لذلك يا عزيزي إبليس أنا أحب الأبالسة.
                  - وأنت هل تحبين العري؟ سأل السمراء، فلم تجب.
                  - وتابعت الشقراء:
                  - شكلي حلو، وقوامي جميل، لمَ أخفِه؟ لمَاذا أخفي ما وهبني إياه وليد؟
                  - مين وليد؟ عم تذكروا في الرايحة والجاية وليد؟
                  - صانعنا.
                  - عندكم خادم اسمه وليد؟
                  - لا عليك، إبليسي العزيز. مقاسي14ومقاس صاحبتي 16 .
                  - على أمرك، إي و لك تقبريني.
                  - ومثلما طلب الغداء على التلفون، اتصل على طريقته وحدّد الشكل والمقاس للملابس. فشعرت أن الفرصة مواتية، وصاحت الشقراء :
                  - لا تنسَ الحلي أيضاً؛ خواتم وأساور، والعطور أكثِـرْ منها، أحبّ رش جسدي من إصبع قدمي حتى رأسي. (ثم تذكرت وليداً الذي يعيش على مساعدات الدولة) :
                  - طز فيك، وبمنطق حزبك وسياستك يا وليد.
                  (وهزت بنطلون صابر ترقّصه).
                  ـ شو عم تعملي؟
                  ـ أمنطق سروالك. (غيّرت مشيتها وصوتها، وأضافت قليلاً من بهارات الغنج ):
                  - الوسط والسروال يعصرك منطقه، سواء بضعفه وبجبروته، وفي كلا الحالين هو ممسحة.. ممسحة ضدك.
                  - لماذا الضد؟
                  - إنه مستثنى شاذ غير محتمل التصريف.
                  - أنت أستاذة لغة إذاً؟
                  - ورماها على الأريكة مازحاً؛ استسلمتْ لرميته، تطاير ثوبها حتى وصل سرّتها. لكنها قرّرت تأجيل إرواء نظراته النهمة لما بعد الغداء، ماءت بحزن:
                  - لا تنظر إليَ هكذا، نحن غرباء حتى عن ثيابنا.
                  - لا تحوليها إلى نكد، دخلك، أبوس يدك.
                  رنّ جرس الباب، فتحه مسرعاً، دخلت سيدة ترتدي بنطلونا بحمالتين وقميصا جميلا. وقّع لها صكاً، أخذته وخرجت معتذرة عن المقاطعة:
                  - بوسة لها الشنبات، باي..
                  - وقف الشقراء بكل ثقة أمام صاحبتها، وهمست في أذنها:
                  - كوني طبيعية واستمتعي بوقتك.
                  - مع هذا؟
                  - لكني أحبه.
                  - إنه لا يستحق حبك، أنت تحبينه وهو لا يشعر بعبادتك. (إي شنو قيمتها يا وردة؟)
                  ليته يعرف أنك تتحمّلينه وتتحمّلين إلغاءه لك بسبب حبك له.. (أنا ما أريد واحدة ترافقني بعذابها)
                  ـ أنت تتكلمين باللهجة العراقية.
                  ـ هذه اللغة اللي سمعتها، كما أني صرت أعرف أحكي لبناني.

                  تعليق

                  • وفاء عبدالرزاق
                    عضو الملتقى
                    • 30-07-2008
                    • 447

                    #24
                    3
                    أخذ المساء يلتهم الوقت، بعد وجبة دسمة وقيلولة على فراش واسع مغطى بملاءات مزركشة وجميلة. صحت السمراء على صوت طرق باب الغرفة، أيقظت صاحبتها:
                    - انهضي وافتحي الباب.
                    - ببطء فتحت عينيها :
                    - الموعد اقترب، هيا لنستحم.
                    وجدت عند الباب حقيبة الملابس، سحبتها إلى الداخل، وراحت تنتقي المقاسات، هذا 16 لك، وهذا لي.
                    وكجندي ينهض مرغماً إلى ساحة التدريب، فتحت ذراعيها وتنفست بعمق، تناثر الشعر الأسود الطويل، سمعت وقع أقدام قرب الباب، فسألت صاحبتها :
                    - كيف تثقين بمثل هذا الرجل؟
                    - ـ أنا أثق بالشيطان ولا أثق به. قومي، لستُ بحاجة إلى نصيحة. قومي قسراً، سهواً، عمداً، فقط تزيّني واتركي لي الباقي. إننا في حياة أخرى، لم يعد أمامنا غير أن نلبس. اسمعي جرس الباب، لقد تهافتوا..
                    ـ لا أستطيع أن أجرجر نفسي، لستُ لغيره، إنه يقيّدني، بل عشقه يسمّرني.
                    ـ الشرقيون يدفعون أعمارهم من أجل شقراء، كل يبحث عن ما ينقصه.
                    رمت لها قرطاً فضياً
                    - جربى الحلَق، الفضة مع الشعر الأسود تسحر الرجال.
                    - لا، هذا ثقيل، أعطني الأصغر.
                    - ها.. بدأنا نلين.
                    دغدغتها :
                    - قومي، قومي.. اتركي قلبك وراءك، نحن هنا بالصدفة، مجرد حلم ولون، ولا تنسى أنه قد انتهي يوم من أيامنا.
                    - قالت السمراء :
                    - الصدفة جعلتني أمسح كرامتي من أجل مهووس بغيري.
                    - أجابتها :
                    - نحن جواري الحياة، سوف تتذكرين قولي. المرأة تمثال وجارية توضع على طاولة من ورد، وإذا لم تكن كذلك نبذها الرجل، لأنه يستعرض رجولته أمام التماثيل. ومن تريد أن تكون هي ذاتها لا شيئاً يريده هو أو تبعية لمن يحب ويفضلهم عليها، ستكون عاقبتها الطرقات.
                    سحبت الشقراء شعرها كله عن ظهرها، وجمعته في حضنها:
                    - من فرط ما نحبّ، من فرط ما نصير أو لا نصير، اتخذنا شكلا لا نعرفه علقنا نوافذنا عليه ورحنا ننتظر من يقول لنا كما قال محمود درويش:
                    - من أنتَ يا أنا؟ إنه يتساءل عن نفسه، وأنا أتساءل عن الذي يراني نفسه ويسأل: من أنتِ يا أنا؟ فأردّ عليه: أنا أنتَ يا نحن.
                    أجابتها الشقراء بلهجتها الفاترة:
                    - التقطتِ أجمل الأشعار من معتوهك، وأحببتها، حفظتها عن ظهر قلبك؛ أنت سمراء وشاعرة.
                    - جميل أن ألتقط الأجمل، لكن القبح بحاجة إلى..
                    قاطعتها:

                    - أحفظي القبح أيضاً.
                    - بل لأشفق عليه.
                    - تعالي.. إلى متى سنبقى دون أسماء؟ٍ
                    - هل يا ترى يذكرنا وليد الآن؟
                    - ألا يمكنك أن تتوقفي عن ذكر وليد لحظة؟ أرجوك استمتعي بوقتك.
                    كان صابر يدرك أنهما ترغبان بعقد صداقة، وكان يجهد نفسه ليكون جديراً بثقتهما، فلم يمارس ضغطاً عليهما في اتخاذ أي قرار يرسمه ويطلب إليهما تنفيذه. رغب في البداية أن يلعب دور المسالم، وأن يتفانى في العلاقة ليستفيد أكثر من ما يعطي. ومع ذلك بقيت السمراء تحسّ بالغربة في داخلها.
                    ـ سيداتي الحلوات.. أعتذر عن اقتحامي الغرفة والدخول دون استئذان، أرجو الاستعجال.. امتلأت الصالة بالحاضرين.
                    علم أنهما جاهزتان فأسرع باتجاههما، قادهما عن يمينه ويساره، ممسكاً السمراء من يدها، وقد لفّ ساعده على خصر الشقراء. ابتسم حزن على شفتي السمراء وكأنه يستنشق ومضة كاشفة، يبحث فيها عن وليد. تعددت ضحكات الشقراء مع الجميع، فاتجهت الأنظار إلى صابر والجميلتين، همس قائلاً:
                    - بماذا أقدّمكما، أقصد بأي اسم؟
                    ردّت السمراء :
                    - ما شأن الرجولة بالاسم؟
                    غيّر سؤاله، وحوّله إلى ابتسامة باردة. كانت الصالة مليئة بمزيج من أولئك الذين تلقّوا ثقافات خاصة في التعامل مع بنات الهوى، الأسمر والأبيض ، رجال تهدّلت كروشهم وجيوبهم، نساء اغترب فيهنّ ما تحت الخصر، شعراء، موسيقيون، وكلاء شركات، منافقون ورجال نفط. قدموا لإشباع غرائزهم الجنسية وتحليل اللحم الحرام بالاسترواح النفسي، والارتباط بالسراويل حول مأدبة عشاء وكأس وضحك فاضح.
                    قدمهما صابر على أنهما فنانتان ارتبطتا معه بصداقة قديمة، وقد جاءتا لزيارته والبقاء عدة أيام.
                    تنوّعت المقبلات وأنواع الكحول كتنوع الحضور وهوياتهم وتفاوت درجاتهم الاجتماعية. تذكّرت السمراء وليداً وهو يناقش مرة أصدقاءه حول المسرح، إذ قال:
                    - المسرح لا علاقة له بالتسلية واللهو والتهويل السياسي الدعائي، إنه مسرح الغريب المنطقي والوهمي الحقيقي، يعني خلق ضوء من كرسي خشبي.
                    وتساءلت:
                    - ما الذي سيفعله وليد، لو حضر، وكيف يصنّف هذا المسرح؟
                    قام اثنان وطلبا من السيدتين الجلوسَ على إحدى الأرائك الواسعة، قدّم أحد الجلوس كأســــــاً من الويــــسكي إلى الشقراء فقبلته دون تردد، بينما تابعت السمراء أحاديثهم وتصرفاتهم.
                    كيف يضحكون، وما الذي يضحكهم ويبهجهم، وكيف يتحاورون؛ كلهم لا يشبه كلهم.
                    تقدم رجل يتصرف بميوعة واضحة إلى السمراء، ولعب بشعرها:
                    - أحب الشعر الأسود.. ياي، ياي.. أنت بحاجة إلى نيو لوك؛ مسيو صابر أعطها لي يوماً واحداً، وسأجعلها أجمل نساء الكون.
                    - عرفت أن اسمه صابر بحق، ولم يكذب، أو ربما هو اسم مستعار كذب به على الجميع، المهم هو صابر الآن.
                    ردّ عليه صابر، وهو يصبّ لنفسه كأس فودكا:
                    - دعك منها، إنها لا تحب النيولوك أو نفخ الشفاه، إليك بالأخرى
                    وقدّمه لها :
                    - سي جورج، فنان.
                    - غالبتها ابتسامة، وبلا تفكير سألته:
                    - من أي نوع؟ فحولة فنيه أم؟
                    رفع سي جورج خصلة شعر تناثرت على جبهته:
                    - أم من.. تقبريني، وحياتك أنا من صنف أم من.
                    وضحك ضحكة هستيرية، ثم أشار إليها كمن ينكت ماء من أصابع:
                    - ياي، جميلة ووقحة، ومهضومة هالصبية.
                    أعطت السمراء لنفسها حرية الكلام، واستمرت تجادله وهي تراقب صاحبتها المنسجمة مع الجميع، وقد التفّ حولها عدد من الرجال:
                    - كل شخص بإمكانه أن يصبح فناناً في هذه الأيام، خاصــــــة في بلدكم.
                    أسهل منها ما في، لكن ليس بإمكان أي شخص أن يصبح ذكراً.
                    ضحك بعضهم، والتفتوا إليها مؤيدين. لفتت انتباهها امرأة تدخّن بشراهة، بيدها كأس من الخمر تمسكه بطرف أصابعها، بينما يلمع خاتمها الماسي بشكل ملفت. كانت جالسة على طرف كرسي، وقد أرخت جسدها، وراحت تنظر الى الجميع من طرف عينيها، ومنخارها في السقف وكأنّ الله لم يخلق غيرها.. مدّت إصبعها وحيّت به السمراء:
                    - أي ذكور يا أختي؟ لو الرجولة بالكروش والكؤوس لا سترجل العالم بأسره، الرجولة بالضمير.
                    وأشارت لعازف بدا السكر عليه :
                    - رقّصني دخلك، أحب الرقص على إيقاع ضمير مومس.
                    - نفرت السمراء من كلامها، وصاحت في وجهها :
                    - أنا لستُ مومساً، أتريدين أن أخبرك من هي المومس؟
                    تدخل صابر لتهدئة الجو، وقدّم اعتذاره للمرأة الثرية التي راحت تشدّ وسطها بغترة أحدهم، وغمزت للشقراء وهي تطقطق بأصابعها: نحن المئة، المثنى، المفرد.. قومي معي.
                    سحبت السمراء من يدها، ونزعت غترة رجل أكرش شدّت به وسط المرأة السمراء، وراحت تأمرها:
                    - هزّي، هزّي.. هذا هو الحاكم الذي يفكّ من حبل المشنقة.
                    - وتابعت تحريك مؤخرتها بيديها، لكن العزف توقف، مع استمرار ممانعة السمراء التي بدا أنها لم تزعج أحداً. غضبت المرأة الثرية منهم، وصـــرخت باحتقار للجميع:
                    - أنا أشتريكم وأشتري مئة من هذه الحثالة النكرة.
                    ورمت بأقرب مزهريـّة من الكريستال إلي رجلاً أكرش أخذ ركناً بعيداً للتدخين، فاعتدل في جلسته ضاماً ركبتيه، وهي تصيح:
                    ـ أيها الأبله، أوَ تهينني هذه الساقطة وأنت تتفرّج؟
                    كان مزيجاً من العظمة والخنوع، ابتسم لها مخبئاً كلامه بين شفتيه، فبدا كشخص عارٍ من أيامه، أو كقائد عسكري تساقطت أوسمته.
                    أومأ صابر لأحد الخدم بإحضار كعكة الحفلة، وأشار إلى عازف العود والطبل. فصدحت الموسيقى، رغم أن السيدة ما تزال تحدج السمراء ذات الرداء الأحمر بنظرات حاقدة، وارتفع الصوت.
                    (سنة حلوة يا جميل).. التفّت الكؤوس حول صابر، وارتفعت الأصوات (بصحة صابر) هَي.. هَي، سنة حلوة يا جميل.
                    وزّعت صحون الكيك المزينة حسب الأولوية والمكانة والرتب الاجتماعية، لفـّت السمراء طرف ثوبها الأحمر بين ساقيها، وشدّت صحراءها على صدرها، دارت بها خجلاً، تبني لها عشاً من كبرياء. لم تجد نفسها معهم، كانوا مثل حشرات، وهي خارج المكان، بين الأسود والأحمر، تدخل نافذة أخرى.
                    شدّها صوت عشش في روحها:
                    - ماذا لو لم يرسمني ساقطة؟ (وراحت تلوم وليداً وتعتب عليه) لماذا لم يرسمني من بلاد النفط، مثل الرعناء المخمورة وزوجها التمثال؟
                    - أيمكن أن تكون أغنيتي شرعية؟
                    - سأغنـّي يا وليد، نعم سيكون الغناء شرعياً وعُري جسدي شرعياً، ولخضعتْ كل الوجوه والرقاب إلى حقيبتي.
                    لكزتها صاحبتها :
                    - أين كنت، ما هذا الغياب؟
                    أجابتها على الفور:
                    - كنت أعيد ترتيب الأشياء، أو بالأحرى كنت أطوّعها و أختار لي شكلاً، أشعر أنني بحاجة إلى البكاء.
                    وضعت الشقراء كأسها على الطاولة الزجاجية، وبحركتها فاح عطرها الصارخ، اختارت وردة حمراء قطفتها من باقة زهور تتوسط الصالة، وضعتها في شعرها، مسّتها رائحة الورد، فتنفست عميقاً وضغطت على ساق صاحبتها لإشراكها في المتعة. تفحصت خلخالاً من الذهب الخالص الذي نفر من رجل (الوحلة) وهمست بأذن السمراء:
                    - هل تعرفين أنني سميت المغرورة (وحلة)؟
                    وكبتت ضحكة ودارت شهقتها .
                    ـ اسمعي يا صاحبتي، لا تغضبين نفسك، هنا لندن، عرض البضائع الجميلة الفاخرة، عرض الأجساد. وهنا كل من حبلت ببلدها أحبت مستشفيات لندن التي لا تعتبر الابن غير الشرعي حراماً، ولا ( البوي فرند) حراماً، وهنا لا أخ رقيب ولا زوج ولا أب، إنها الأوقات السعيدة والتجديف ضد الأحجبة المزيفة والعباءات.
                    بعد ليلة صاخبة، رمت كل منهما جسدها المتهالك على السرير، حاولت الشقراء محادثة رفيقتها لتُخرجها من وجومها: - نحن ضحايا البغاء، وضحايا فنان مخصي
                    قاطعتها :
                    - لا يا عزيزتي، لسنا ضحايا إطار لم يكتمل. كل جلساء الليلة زنازين مغلقة ، أحياء، سجناء أحرار، أوسمة ذهبية مطلية بالصدأ. نحن حقيقة عارية، وهم عُراة بلا حقيقة.. لا تتحركي، إني أسمع زحف دمه في عروقي، أجده يبحث عن القطعة التي مازالت بيضاء في فستاني، إنها سمائي الوحيدة، فغداً سيغدق علي عطايا ألوانه.
                    تحركت الشقراء متململة، وتابعت السمراء:
                    - ابقي ساكنة، إنه يمرّ قرب روحي.. إنه ابتسامة خاطفة على نافذتي.
                    - هل أغلق النافذة؟
                    - إنه هواء بارد وليس وليداً.

                    تعليق

                    • وفاء عبدالرزاق
                      عضو الملتقى
                      • 30-07-2008
                      • 447

                      #25
                      4
                      منذ أن تعرّفت على صابر ســاورها الشك بكل تصــرفاته، قلبها وعقلها لا يطاوعانها على البقاء في شقته الموبوءة. تسللت بعض خيوط الشمس من النافذة، شعرت بالدفء والصداع يوقظانها، نهضت متوجهة إلى المطبخ، فقد لمحت به صيدلية منزلية صغيرة. رأت فراش الشقراء خالياً، وهي تمشي على رؤوس أصابعها كي لا تُحدث ضجة. راودها شعور بأن صاحبتها في الحمام، لكنها سمعت صوتا من غرفة صابر، خففت من مشيتها وكأنها تبحث عن عصافير في مخبئها، صعقتها المفاجأة. اقتربت من البــاب، لصقت أذنها به بحثاً عن وضوح، تأكدت أن صديقتها في الداخل.
                      تناولت حبتين من المهدئ، ثم عادت متسللة إلى فراشها، خرجت الشقراء من غرفة صابر، فبدا بريق شعرها المبعثر لامعاً. سألتها :
                      - لماذا شعرك مبلول؟ هل أخذت حمّاماً للتو؟
                      - نعم، حمام دافئ.
                      - أنا سأدخل الحمام، لعلّ الماء والصحوة يزيلان الصداع عن رأسي.
                      غابت عشر دقائق، ثم عادت بصحوة منعشة :
                      - حمداً لله، يبدو أن مفعول المهدئ قد أخذ يسري في بدني ورأسي.
                      واستدارت إلى صاحبتها بعد أن جلست على الفراش تمشط شعرها الأسود :
                      - البارحة كنا في مهرجان، كلهم يعزفون في ناي واحد، إلا أنا وأنت لكل منا نايها الخاص.
                      - سمرائي الغالية، لا بدّ أنك انتبهت البارحة إلى الصحفي الذي تابع حركاتك، لا بل أكلتك عيناه، قال إنّ اسمه محمود.
                      بدت الدهشة على وجهها، إذ ليس من عادة مومس أن تسأل عن أسماء زبائنها، كما أن أسماءهم ليست حقيقية. حاولت جهد نفسها أن تسترجع صورته من بين الوجوه، تستعيد ملامح من احتساها مع كأسه، أهي النظرة القلقة نحو البغي؟. نعم، فقد رسمها معتوه الابنة غير الشرعية للحياة. ربما فكروا جميعاً بالطريقة التي ستقلع ملابسها كتفاحة ليس لها أنياب قبلية، أو خميرة ممنوعة تعجنها وتخبز فخذين جميلين. وجدت نفسها تتكلم، وصاحبتها صامتة تنظر لشرودها:
                      ـ رفيقتي السمراء أرجو أن تعرفي أن الحياة هي المبغى الحقيقي، والقلب ليس له وجود هذه الأيام؛ عالم رخو يستعيض عن القلب بالحجر وبالنقود.
                      ـ ماذا قلتِ؟ لست أفهم، ماذا تقصدين؟ أنا سألتك عن محمود.

                      وواصلت:
                      ـ التفاحة رسمها بهلوان مفتون بالفخذين، لذلك جعل منها خطيئة، وهو المغلوب على أمره، مسكين استجاب لغوايتها ورسا على شاطئ حياة آدمية، حياة أوحت إليه كيف ينزع عنه أسماء الملائكة ويعود كمقاتل في معركة، يلقي بجسده بين فخذين شبقين. القتال كله من أجل السقوط في حفرة معتمة؛ عفواً. لقد هذيت كثيراً، من حقي أن أصبح حكيمة، ولو للحظة واحدة، مومس وحكيمة؟
                      ـ ألم تسمعي سمرائي المثل القائل: خذ الحكمة من أفواه المجانين؟
                      لكنه لم يقل أفواه الغانيات.
                      تناثر الشعر الأسود على النهدين :
                      - هل أنت مَن سأله عن اسمه؟.أهو عبث النساء بالرجال؟
                      - بل هو صاحب المبادرة.
                      - أين نمت البارحة؟ كوني صريحة معي.
                      - بصراحة، نمت مع صابر.
                      - وعدتِ بعملة خاسرة، هل خسرت ما فوق السرة أم ما تحتها؟
                      - كلاهما.
                      ارتدت الشقراء ثوباً مشجّراً بورود بيض، وتابعت؛ السرير مملكة قانونها نهود النساء، والشاطر من يتوّج نفسه ملكاً.
                      ـ تقولين مملكة؟
                      - نعم، مملكة تتعرّى فيها الرعيّة كلما تعرّت المومس.
                      - معك حق، أحكام وقوانين سُنّت من أجل ابتسامة في مسرح عهر البارحة. كل الأثداء الراقصة ليس فيها ثدي أم ولا قلوب حقيقية، إنها قلوب من النايلون، ولا يوجد متسع للحب، لذة جنسية فقط. أنت مثلاً، رسمك وليد مومساً أعطاك الشكل، وصابر فضّ بكارتك، أتراه اكتشف أنك مازلت بكراً؟
                      - نعم، واستغرب. وزاد استغراباً عندما قلت له هذه أول مرة أنام فيها مع رجل. فقط سألني:
                      - من أنت، هل أنت من اللاتي يهربن بحجابهن وينزعنه في الطائرة وجئت تعوضين الحرمان في لندن؟
                      - لقد رأيت منهن الكثير، أم أنت مفلسة جاءت بهيئة مومس لتسترزق؟
                      ـ إذاً، أين تقع الخطيئة الآن وعلى عاتق مَن يا شقرائي ومن هو الخاطئ الأول؟. التفاحة، صابر، وليد، أنت، الضيوف كلهم بحواراتهم العقيمة واستعادتهم لما كررته النشرات الإخبارية، غثاء السياسة، غثاء الدين وغثاؤهم.،
                      ـ أنت فيلسوفة اليوم، ومن تعشق وليداً تهذي بهذيانه.
                      ـ لا، ليس هذا بهذيان. أنا البارحة (واقتربت منها مؤكدة) لا تقولي أنا مجرد لون وفكرة، أنا كيان جديد رأى البارحة الشعبَ العربي ممدداً على صينية مملوءة بالرز والمكســــرات، قوزي عربى، وكان يدور حول الصينية والمقبلات اللبنانية سمسار واحد يقود القطيع.
                      ـ خذي هذا الشال الأصفر اربطي به شعرك، ودعينا نفكر كيف نقضي وقتنا اليوم. ضعي أفكارك هذه في حقيبة وأغلقي عليها، ولنستمتع باليوم، هيا نخرج فأنا جائعة.
                      حالما خرجتا من الغرفة، وجدتا صابراً ينتظرهما على الإفطار، وخادمة مغربية تصبّ الشاي. حيّاهما قبل أن تبادرا بالتحية، وجلستا إلى طاولة الطعام . خلال الإفطار تحدث صابر عن ليلة البارحة، وبادر بقول أدهشهما :
                      - الآن أصبحت لي عائلة.
                      وانتقلت نظراته إلى الوجهين.. شكرت السمراء خادمة صابر على الشاي، وطلبت إضافة المزيد من السكر.
                      راحت الشقراء تعيد عليه ما قاله:
                      - ستصبح لك عائلة؟
                      أجاب على الفور مستدركاً استعجاله لاستدراجهما في البقاء معه:
                      - أقصد أني حُرمت من العائلة، وأنتما كعائلتي.
                      استبشرت أساريره وهو لا يزال يكتشف ردة الفعل حيال اللغم الذي فجّـره قبل قليل، مسح قطعة خبز بالزبد والمربى وقدّمها للشقراء، ثم أشار للخادمة أن تصبّ له مزيداً من الشاي والحليب، وراح يطرح أسئلة لا بدّ منها:
                      - أعتقد أن الوقت قد حان لأعرف اسميكما، وأظن أنكما من الـ..
                      - مسحت الشقراء فمها بفوطة بيضاء، وقاطعته :
                      - لم يكن لنا بلد أو تأريخ أو اسم، إننا مجرد صدفة، صدفة مرّت بذهن رجل، وعلينا الآن أن نختصر الدهر باثني عشر يوماً، أمقتنعٌ أنتَ بكلامي؟
                      - لا، والمصحف الشريف ومنزّله.
                      - أتقسم بالله؟ من حقك
                      - شو هيدا.. أنا بعرف ربي، ويمكن أعرفه أكثر من أي أحد يصلـّي عشرين ركعة في اليوم.
                      - ليش لا.. الله غفر لرابعة العدوية، ويمكن يغفر لك.
                      - والله كلام السمرة حلو، شو بدي من الدين لو ربنا فتحها بوشّي مثل رابعة.
                      خاطبته السمراء بتخابث:
                      - هل نمت جيداً البارحة؟
                      - ـ جيداً جداً، نمت نوما ما في مثله.
                      - نوم على النفط، ونوم على..
                      - نظرت إلى وجه الشقراء، وصمتت. انتفض صابر واهتزّ قليلاً، ثم رجع إلى هدأته. أما السمراء فصحّحت ما فلت من لسانها:
                      -كل الصناعات من النفط، حتى الغيوم صارت تمطر نفطاً.
                      بكثير من العناية والرقة مسحت فمها بفوطة معطرة، وأوضحت رغبتها للخادمة بفنجان من القهوة، بعد إذن السيد صابر.
                      أجابها: بكل سرور. (وراح يتحدث عن الخادمة):
                      - تأتي حسب الطلب، أتصل بها بعد كل حفلة؛ إنها مريحة وتريحني على الآخر.
                      ـ على الآخر، الآخر؟
                      ـ نعم يا شقرائي الملعونة، على آخر الآخر.. لو ما لقيت وحدة مثلك يا وردة.
                      خطر للشقراء أن تصنّف أنواع الراحة، كما أسعدها إطراء صابر لها. استمتعت بطرب لصوت فيروز، وطلبت من صابر أن لا يغير الشريط، وأن يكفّ عن البحث عن شريط آخر، فصوت فيروز أنعشها.
                      ( زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرّة).
                      قالت السمراء: أبإمكان المرء أن ينسى من يحب؟
                      أجابها صابر: إيه.. كثير.
                      ـ هذا ليس حباً، مجرد إعجاب أو جسد. الحب هنا (وضعت يدها على قلبها) هنا.. وهذا لا يُنسى.
                      - سمرائي العزيزة، يبدو أنك عاشقة، ممتلئة بالعشق؟
                      لم تجبه، بل تابعت مداعبتها لمزهرية الورد الجميل بأطراف أناملها، تشمه وتحتضنه. سحبت وردة بغصنها من المزهرية وضمّتها إلى صدرها كطفل يضبط مخاوفه، فالاحتضان احتواء مريح.
                      الشقراء التي تعرف رومانسية صاحبتها قالت بلهجة خاصة :
                      - أتحتضنين الوردة أم تحتضنك؟
                      ـ كلانا يحتضن الآخر.
                      قال صابر: يستطيع المرء أن يمتدح الحضن ويدينه في الوقت ذاته، حســب اللذة والانزعاج. بالفطرة نحب الأحضان ونحبّ تبعيتنا لها، ومن فرط الحب نتعلم الضعف، لذلك ننام مع الخدم ونضربهم كي لا يشهدوا ضعفنا.
                      - والنفط.. بعد أن نمت معه البارحة، صفعته أم صفعك؟. أعتقد أنك صُفعت مراراً كي لا تشهد ضعفه واستسلامه لك، كم مرة جعلك النفط الشبق تقذف؟ هل قذفت نفطاً خاماً أم مكرراً؟
                      ـ لشد ما تغوينني، أخافك وأخاف لسانك السليط يا شقراء. هيا، تهيئا لنقوم بنزهة جميلة. أريد أن أريكما معالم لندن، من أين ترغبان أن نبدأ؟.
                      ـ لا علم لنا بالأمكنة، تركنا لك الخيار.
                      ـ هيا إذاً.
                      سار نحو الباب معهما، وقبل إغلاقه صاح على الخادمة :
                      - تركت أجرتك على التسريحة في غرفة نومي، حين أحتاج اليك سأطلبك.
                      رغبة بمعرفة التفاصيل وأسماء الشوارع والمحطات والحدائق، تركتا لصابر العنان يتنقل بهما من مكان لآخر، شارحاً كل شاردة وواردة، قد يفوّت بعض المعلومات التي يجهلها، لكنه كان مفيداً. وأخبــرهما بما يعرف حين تجوالهم في متحف الشمع، كما شرح في الطريق الى الكاتدرائية بعض الأحداث، وحين وصلوا ساعة (Big Ben) أخبرهما أنها من أشهر معالم لندن وتقع على نهر التايمز، كما ذكر لهما عند " جسر البرج "(BridgeTower) أنه أنشئ عام 1849 وهو من أرقى الجسور في العالم.
                      تمشوا قليلاً، مسترجعين ما قام به صابر في متحف الشمع من تصرفات لطيفة، إذ عمد الى تقليد خنق الزعماء العرب وأخذ صور تذكارية قائلاً:
                      - هنا في لندن يمكن خنق أي زعيم عربى، وسأريكما كيف يشتمونهم يوم الأحد في حديقة الهايد بارك.
                      قضوا وقتاً ممتعاً، انتقلوا بعده إلى لندن آي؛ وصعدوا في الدولاب الهوائي.
                      ـ صابر أين نحن الآن؟
                      ـ يا شقرائي نحن أمام قصر الملكة، قصر "باكنجهام". تصورا عظمة ملكة بريطانيا، هي رئيسة دول الكومنولث والقائد العام للقوات المسلحة، لكنها لا تصدر أمراً إلا بناء على مشورة الحكومة، تماماً مثل بلداننا العربية (بصيغة هازئة).
                      هنا المسكن الرسمي للملكة تُفتح بوابة القصر في أوقات معينة، ويمكن للزائر رؤية المكاتب الرسمية الفخمة التي استقبلت عبر القرون المنتفعين والأثرياء. كما ترون تجمع السياح حول البوابة، انظرا.. ها هم يتوافدون منتظرين تبادل الحرس لأمكنتهم بالملابس الرسمية التقليدية، وهناك الحديقة الملكية.

                      تعليق

                      • وفاء عبدالرزاق
                        عضو الملتقى
                        • 30-07-2008
                        • 447

                        #26
                        5
                        تذكرت السمراء سجن القلعة ومشاهد الرعب والألم والموت، حيث يجذب السياح من كل أنحاء العالم، أغمضت عينيها في محاولة طرد الصورة المرعبة. وبعد أن تركوا قصر الملكة، سألت صابراً:
                        - أين نحن؟
                        ـ في ساحة بيكاديللي، هنا مركز لندن. انظري كيف تنتشر محلات بيع الهدايا التذكارية وهنا دور الحفلات الموسيقية والعرض المسرحي والنوادي الليلية.
                        قالت الشقراء: أنا جائعة يا صابر، ألا نتوقف قليلاً؟.
                        ـ سنتناول غداءنا في مكــــــــان فخم، اصبري قليلاً. ها قد وصلنا (الطرف الأغر) هنا أيضاً تــوجد المسارح ودور العرض والنوادي الليلية والمطاعم. وأشار إلى مبني المعرض الوطني قائلاً :
                        سأرافقكما لـرؤية المعرض، إنه ضخم ، ويضم ّأكثر الرســـومات براعة في العالم. كما سنزور المتحف البريطاني، إنه أقدم وأعظــم المتاحف في العالم، يضــمّ تاريخاً عالمياً يمتدّ لأكثر من مليوني سنة، ويحتوي على أكثر من 49 صالة عرض.
                        تخيلت السمراء صورتها ضمن صور المتحف، ووجهت سؤالها للشقراء؛ هل من الممكن أن نكون ضمن هذا الإبداع ، ويشار لنا بالبنان ؟ .
                        أجابتها الشقراء: من يدري.
                        ردت عليها السمراء: مادام وليد يتحلـّى بالشرف والكرامة والكبرياء، إنسي.. إنسي.
                        - ولمَ لا ( خطرت بباله بعض كلمات وأرد أن يفرد عضلاته أمامها ليتقرب إليها )
                        - ستكونين أجمل امرأة تزورها الوفود وتهز الرأس إعجابا فأنت يا صغيرتي نبع ، والفنان الذي لا يرسمك أبله .
                        أطالوا البقاء في المتحف البريطاني، حيث الحضارات الشرقية والغربية.
                        وقفت السمراء نصف ساعة أمام الآثار السومرية، بوابات وألواح ونسور مجنّحة: إنها آثار وليد، كأني أشمّ رائحتك يا وليد، كأني أقرأ كتابك بين هذه الرموز. كم أنت عظيم يا فنان سومر، أي كلية درّبتك وأي أساتذة علـّموك؟ أنت أستاذ نفسك.
                        قال صابر مبتسماً:
                        - هل تكلمين نفسك؟
                        ـ معك حق، من يرى عظمة تاريخ وحضارة سومر لا بدّ له أن يهذي ويكلـّم نفسه.
                        أضافت السمراء: الخلق والخلاق يحتاج لما هو أكبر منه، يحتاج إلى المئات بل الألوف ممن يشبهونه ويشبهون أنفسهم ليخوضوا ساعة خلق واحدة.
                        خرجوا.. قاد صابر السيارة مسرعاً:
                        - أنا بدأت أشعر بالجوع، ما رأي الحلوتين لو تناولنا الغداء، فأمامنا متسع من الوقت لرؤية معالم لندن؟ سأختار مطعم بغداد، بعدها نأخذ قسطاً من النوم، فنحن مدعوون من قبل شخص مهم الليلة.


                        ***


                        ذات صدفة وهو يكمل ثوبها الأحمر إلى حدّ الأكمام، سمعته يحاور أحد أصدقائه عبر الهاتف، فنان مهووس بالنساء مثله، استنتجت أن ذلك المحاور يحدثه عن موديلاته العاريات، وكيف أنه استمتع بأنوثة الطبقة البورجوازية، وحسد الانتعاش الاقتصادي، وكان وليد يردّ عليه : ليس الجنس الوحي الوحيد، بل الخصوصية وامتلاء الذات، يا أخي النساء هنّ الحرب والسلام.
                        لحظتها رأته كقسوة الشمس في ظهيرة قيظ، وكمن يعوم وظله في السراب.
                        في أحايين كثيرة يتشبث بقوة كاذبة يتصدى بها لضعفه ، يحاول أن يعيد له اعتباره ويراهن على أسئلة تنقذه من نفسه ،لكنه حين تخور قواه، يعود إلى ألوانه بثلاث زجاجات من البيرة ويحتسيها دفعة واحدة ، يغمض عينيه من دخان سيجارة يزفر فيه سنوات علقت بالذاكرة ويسأل لنفسه :
                        - كيف كنت شيوعياً،أكنت معارضاً لإرادتك أم لمؤسسات زائفة ؟
                        ثم يرسم في الهواء ظلا يطارد أصابعه ويرجع يتغزل بساق شقرائه أو زندها أو نهدها، أما ذات الشعر الأسود، فلا يهوي منها إلا مزج الألوان، حين تنتابه نوبة الرسم ، مما جعلها تلعن مدير السجن على عدم بتر يده الأخرى، ثم تعود تستغفر ربها طالبة له دوام الصحة والعافية.
                        في مساء ممطر، رنّ جرس الباب، كان وليد يتكوّر على نفسه ويهتزّ كطفل مذنب . لكــــــن الجرس رن عشر مرات، مما جعل وليـــــد يضجر صائحا:
                        - دخيل الله مَن؟
                        أجابه الطارق بصوت أجشّ :
                        - قلب بشري خنقه شبح الليل والمطر وقذف به على بابك.
                        ـ مرحباً، تفضل مراد، ما الذي ذكرّك بنا الليلة؟
                        ـ قلبي يابس، وجئت أطرّيه عندك.
                        ـ هل أجلب لك بيرة؟
                        ـ لا.. أحب أن أسمع شعراً، فأنا اليوم أكثر الشعراء اغتراباً.
                        ـ هل أصابتك لعنة عشق جديد؟
                        ـ بل أنا توّاق لحزن أغسل به حزني، ربما أتطبّب بما هو دائي.
                        نط ّ وليد حافياً وتناول كتاب جبران من مكتبة معـلـّقة على الحائط: اسمع ما يقوله جبران:
                        (يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، اسمعني أيها القدر الرحيم الساهر على نفوسنا التائهة. أصغ لي، فإنّي أعيش بين البشرية المشوشة).
                        مدّد مراد رجليه على الأريكة، ونام مسترخياً:
                        - الله، الله، يا جبران. أيها الإله الضائع سجّل، سجل وحشتي بسجلك ولا تستغرب إن قلت لك سئمت مسرتي، وسئمت انتظاري لها، لقد بلغ بي الكبر وكبرت عزلتي؛ لمَ لم تقرأني في سطورك وأنت الذي قلت؛ اقرأ؟
                        - شيطان وكافر؟. ما الذي دهاك؟
                        - جرعة المرارة كانت أكبر مني، كل العذاب الذي ذقته في حياتي (صمت برهة ثم تابع): نحن الشعراء تعساء الله على الأرض، حتى أحقر نقطة في الحياة تحتقرنا، وفي النهاية نموت.
                        قدم له وليد زجاجة بيرة :
                        ـ أعرف أنك ورّطت نفسك كعادتك، ألم أقل لك لا تمشِ على حبل؟
                        ـ تقصد حبل الصراط المستقيم؟ ما ذنبي إذا فُطرت على الحق وقوله وفعله؟
                        ـ ها.. انظر أطراف يدي، كم نزفت في السجن وأنت شاهد على ذلك. استمعت الى دبيب الحشرات على جسدي من أجل قيامة أخرى،من أجل أن أقول للضائعين انتبهوا، حان الوقت ، وآخر المطاف أمريكا تتربّع على صدورنا، وتقول لي صراط مستقيم، يا أخي لا صراط ولا مستقيم، آخرها محرقة.
                        ـ هذا حرام ، على مهلك يا مراد .
                        ـ أؤكد لك أني أكفّر عن ذنب الشيطان حين أحرَق مراد الذي بداخلي .
                        المسيح قال : (أنا هو خبز الحياة ) وصُلب، فكيف نحن أولاد الكلب؟ نحن مصلوبون منذ لحظة المضاجعة، وتصوّر المسكينة أمي وأمك تنتفخ بطنها ولا تدري أنها ستلد مصلوباً، نحن بحاجة إلى شريعة خاصة بالمصلوبين*
                        وهم في طريق عودتهم إلى الشقة بعد وجبة غداء دسمة ، زحفت يد صابر إلى الشعر الأشقـــــر ، تجاوزت حدودها وامتدت إلى العنق، انزلقت نحو الصدر، ظلّ الشوق مباحاً، خطّ خطاً مستقيماً، استسلمت الشقراء لمداعبته، وراح يخاطب السمراء:
                        - أعرف أن لك عناد البحر، لكن ارتدي ثوباً شفافاً، ابرزي مفاتنك ودعي شعرك يثور ثورته الغجرية. لقد اشتريت لك أغلى الملابس ، أكنت تحلمين بثوب من (فالنتينو) ، أو ساعة من (فرساتشي)، ألك حقيبة يد(بألفين باوند)؟
                        - داعب يدها :
                        - لديّ من يقدر الجمال النافر.
                        أطلق زفيراً عميقا ً وأشار بأصبعه :
                        - خُذيها نصيحة منى، اضحكي على الحياة قبل أن تضحك عليك، أنت أيتها النافرة من الضلع الأعوج، يا كل النساء بامرأة.
                        هزت رأسها استنكارا ً:
                        ـ أنت قوّاد، وأنا جميلة لنفسي وبنفسي وسأرتدي أقراطي وأساوري لأتحرّر من عقل رجل يشتهي غزو الجسد. أيها الأعور، أنتم أطلقتم على حواء لقب الضلع الأعوج، أتدري لماذا؟ لأنكم تخافونها، تخافون سجودكم تحت قدميها. حمّلتم حواء ذنب الكون، ونسيتم ضعفكم أمام الغواية.
                        دنا منها لكي يطيّب خاطرها، فنفرت:
                        - سأرتدي بإرادتي ما يحلو لي وأتجمّل لنفسي.
                        - طيب، المهمّ أن تكوني جميلة المظهر، وفاتنة.
                        قبل أن تبرحا صالة الشقة، رجاهما صابر أن تتحليا باللباقة، وأعــاد عليهما مرتين :
                        - القلوب والآذان صوب جيوبهم، فهمنا؟
                        ردّت عليه الشقراء بتوتر:
                        - أتعبتنا يا أخي بوصاياك، هل أنت ابن الشيطان؟
                        جلستا صامتتين، كمن يضع خطاً فاصلاً للشر. اخترقت الشقراء الصمت :
                        - إذا كان من تأخذنا إليه شيطانا ًمثلك فأنا أؤكد لك أني سأجعله يتوب. لا يلتقي شيطانان في مكان واحد، سأجعله يغدق علي بعطاياه لأصبح اللبوة المفضلة، وبهذا أكون قد روّضته، فيهزّ جيبه كلما اهتـزّ وسطي وأغمضت عينيّ عن خطيئـة شيطان لـه مسبحة وسجادة.
                        - كيف عرفتِ أنه شيطان بمسبحة؟.
                        - سمعت البارحة طقطقة المسابح الثمينة في سهرتك.
                        في الطابق الخامس، من إحدى العمارات الفخمة في شارع (ريجنت) قبل أن يُطرق باب الشقة رقم (105)، كان الخدم يراقبون وصول الزائرين من العين السحرية.
                        في المدخل أربع خادمات عربيات بزي موحّد، وقفن ضاحكات مهلـّلات :
                        - يا هلا.. يا هلا.
                        وعلى نحورهنّ قلائد ذهبية متشابهة، فالأزياء موحدٌة في كل شيء، الملبس والأحذية والذهب وحتى ترتيب الشعر. قادتهم إحداهن إلى الصالة، هبّت رائحة البخور وروائح المسك الطبيعي التي عجـّت في كل مكان.
                        تنبّهت السمـــــــــراء إلى السجاد الإيراني الفاخر ، أما الأخرى فأشارت إلى صاحبتها لتنظر الى ثريات صغيرة في جانبي الشقة، وثريا كبيرة مطلية بماء الذهب في السقف، وأغمضت عينيها كطفل يريد التمسّك بلعبة أغوته، كانت غايتها الاحتفاظ بمنظر الثريات المصنوعة من الكريستال الخالص. أما صابر، فقد ذاب كفصّ ملح.
                        جلستا تمسّدان الأرائك والمزهريات والتحف الثمينة، على كرسيين مصنوعين من الخشب المحفور.
                        إلى الجانب الآخر طاولة مستديرة وضع عليها ملاءة من الدانتيل الأحمر المشغول بخيوط فضية، وفوق الطاولة عُلـّقت مرآة من الفضة الخالصة.
                        كان يدور في خلد السمراء قلق يثير شكوكها لذا شعرت كأن سيفًاّ مسلطاً على رقبتها ، أحياناً تأتي الأفعال لا إرادية ، إذ لا يملك الإنسان إلا أن يشك في كل شيء.
                        على حذر من الجميع, اتخذت لها ركنا منعزلا فثمة غموض في هذا المكان . سارت الشقراء في الصالة مدققة في كل ما تقع عيناها عليه، ثم رجعت إلى مكانها مسرعة، حالما دخلت إحدى الخادمات حاملة كأسين من العصير الطازج.
                        ـ شكراً (قالتا بصوت واحد).
                        استخرجت عطراً من حقيبتها، أزاحت شعرها الأشقر عن أذنيها وعطـّرت ما تحتهما مروراً برقبتها، ثم قدّمته لصاحبتها. شكرتها السمراء، دون أن تأخذ العطر.
                        الأفكار والناس والمكان، وصوت يلمع في صدر السمراء، كل هذا جعلها معطـّلة عن التفكير..
                        ـ لم أرَ في حياتي شقة كهذه.
                        أجابتها الشقراء وعينها على ضيف وسيم :
                        ـ عزيزتي ما دخلنا غير ثلاث شقق، شقة وليد وشقة صابر وهذه الشقة، ومن خلالها دخلنا أبواب الشيوعية والرأسمالية والسمسرة.
                        أحسّت السمراء ببرودة هواء قادم من أحد الشبابيك، نهضت تستنشق بعضاً منه، واستدارت صوب صاحبتها بعد أن لعب الهواء بشعرها ، لحظتها فُتح الباب دون استئذان، فقد تعمّدت الخادمة أن تتركه مفتوحاً .
                        ـ يا حافظ، ما حد إجا؟ وين الباقين،. عفواً، السلام عليكم.
                        ـ وعليكِ السلام.( جميعا )
                        دخل الحلاق خلف المرأة، الحلاق المائع الذي رأتاه البارحة، وعلقت السمراء على مشيته، أما صابر الذي غيّر لهجته حسب هوية المتحدثين وقف مهلـّلا مرحباً بالحاضرين، كأنه صاحب الدار. بعد مضي دقائق أشار للخدم إشارة معينة، فاصطفت على الطاولة أنواع المازات ودارت كؤوس الشراب. ولدى دخول أحد المطربين وفرقته، أسرع الخدم لحمل الآلات الموسيقية عنهم، وانشغلوا بتهيئة (الميكرفونات)، فأصبح كل شيء أليفاً، المعاكسات، الكأس، الوجوه، التبغ، النساء المتبرجات، الياقوت والماس؛ كل ذلك خضع للكأس. تهيأت الفرقة الموسيقية، وأصبحت رهن الإشارة.
                        حضر الصحفي محمود، نظر إليهما بنظرة خاصة، وابتسم بوجه السمراء. وحين صافحها ترك يدها تنام في يده، وقف مذهولاً بعينيها الواسعتين ورموشهما الكثيفـــــة، فأحسّت برجفة يده ونبضه . وفجأة ساد صمت، ووقف الجميع إجلالاً لصاحب الدار، حالما قال السلام عليكم ردّ الحضور بصوت واحد :
                        - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فلما جلس جلسوا، وحين وقف هبّ أغلبهم للوقوف بجانبه، لكن لما ابتسم منحهم بركة الابتسام، وراحوا يضحكون لمزاحه السخيف.
                        - همست السمراء لصاحبتها :
                        - أهذا نوع آخر من الفراغ؟
                        - هِس، أصمتي.. هنا الحيطان لها آذان. ( ردت عليها صاحبتها بتوتر)
                        أخافتها شفته المتهدّلة، فواصلت أسئلتها :
                        - وعندما يخرجون من جلودهم، هل تسمعهم الحيطان أم تتستر عليهم؟

                        تعليق

                        • وفاء عبدالرزاق
                          عضو الملتقى
                          • 30-07-2008
                          • 447

                          #27
                          6
                          عزفت الفرقة أغنية أم كلثوم ( أراك عصي الدمع)، تمايل الجميع معها، طلب المحفوظ أن يغيروا العزف إلى أغنية راقصة. وبأمر المحفوظ رقصت النساء، وشُـدّت الأوساط، زحفت السجاجيد مع الأقدام الراقصة، أُزيحت الطاولة الوسطية الكبيرة جانباً، وتناغموا مع حركات جسد الشقراء الراقصة وموسيقاها.
                          أما الصحفي فقد اغتنم الفرصة وجلس قرب سمرائه، حيّاها، ورأى العالم كله في عينيها، نسى الكلمات، نسى الحضور، إلا حضورها ورائحتها. سألها:
                          - ما اسمك؟
                          ـ لا اسم لي.
                          ـ أهذا معقول؟
                          ـ الذي جاء بي إلى الدنيا لم يعطني اسماً.
                          ـ الحق على والديك.
                          ـ ليس لي أم ولا أب.
                          ـ عفواً لم أقصد إيذاءك، أنت يتيمة؟
                          ـ لا، لست يتيمة، كما إنني لست ابنة زوج وزوجة.
                          ـ من أنت؟ جنيّة،. (وضحك)
                          ـ بل أنا من ألوان.
                          ـ هل أعتبر كلامك مزاحاً؟
                          ـ بل جد. بصفتك صاحب قلم، هل سمعت عن فنان اسمه وليد سالم؟
                          ـ أظنني سمعت به، كم عمره؟
                          ـ في الثالثة والخمسين، هل تعرفه جيداً؟
                          ـ لا.. لماذا لم يحضر معك؟
                          ـ إنه يرفض الخضوع، إنه فنان عظيم لكنه يقولب نفسه بأفكاره ويحاصر فنه ويحاصرني معه. الفن انطلاق، تعارف. كيف تكتب عنه الصحافة، وهو لا يزال يجهل نفسه؟
                          ـ معك حق. لكن هل أنت إحدى موديلاته؟. ثم من المؤكد أنه لم يصل الى قناعة تامة بفنه، ويخشى النقد. أو ربما هو قبيح ومعقد بسبب قبحه، أعرف شاعراً قبيحاً يكره من هو أجمل منه وأشعَرُ منه فيحاربه.
                          ـ صحيح هو لا يملك غير رقم واحد؛ بنطلون واحد وقميص واحد ومعطف واحد، لكن سيد محمود الفنان لا يُقاس بشكله أو حسبه ونسبه بل بتجربته وبما يقدمه من إبداع.
                          (تولستوي) ترعرع بين الفساد وكان سكّيراً، لكنه أكبر روائي في عصره. و(بلزاك) برجوازي، أما أعماله فيقرؤها الفقراء والأغنياء. الإبداع أكبر من الطبقات الاجتماعية، إنه يخاطب وجدان الإنسان.
                          ـ يبدو أن ثقافتك عالية؟
                          ـ بل محدودة. تلقيت ثقافتي من وليد، كلما يُسقط عليَ لوناً اكتسبت منه معلومة ، لأنه يرسم بيده ولسانه وقلبه.
                          ـ والعقل؟
                          - إذا دخل العقل ساعة الخلق ما عاد إبداعاً.
                          أشار الرجل الثري لصابر أن اقترب، ووشوشه، فردّ صابر:

                          على الرحب والسعة، لكنها يا سيدي عصيّة.
                          رفع الثري حاجبه وبدا عليه السرور:
                          ـ بيدي مفتاحها، كن مطمئناً.
                          اعتراها شك مما سمعت، وزحف الدم إلى خديها، رغم ذلك بدت كمدينة محصّنة. نظرة (المحفوظ ) تلتهمها، فتشغل نفسها بمحادثة محمود. هو يسألها عن نفسها، وهي تجيبه عن وليد. تفاجأ لقولها :
                          - لم يسدّد فاتورة الماء، فالألوان تستهلك نقوده كلها.
                          تهالكت الشقراء من الرقص، ورمت بنفسها على الأريكة لاهثة. صفق لها الجميع، فقد ابتلّ جسدها بعَرق الرقص والتهمتها العيون بالشبق حتى أثارت غيرة النساء الباقيات. بعضهن كنّ زوجات، وبعضهن عشيقات، والأخريات بديلات لمغامرة فاشلة.

                          المحفوظ يومئ لخادمته ، فتنحني احتراما وتلبية لأوامره ، يهمس بإذنها فتجيب بانحناءة: أمرك سيّدي...لكنه يشارك اثنين يتحدثان عن الحب:
                          - إنّ الحب كارثة تؤذي قلب صاحبها فقط.
                          ثم يقترب من يقترب من السمراء هامساً :
                          - قوامك جميل يا سيدتي، وثوبك أيضاً.
                          - شكراً، الجمال جمال الروح والأخلاق.
                          - شعر بفسحة الأمل، اقترب منها محاولاً الالتصاق بها؛ لكن الصحفي يسبقه بتقديم بطاقته :
                          - تفضلي هنا رقم هاتفي وسأكون ممتناً لو سمحت أن أدعوك إلى أي مكان ترغبين ، هذا بعد إذن المحفوظ .
                          استدرك خطأه واعتذر من المحفوظ ، لكنه أشار إليه مطمئناً :
                          - خذ راحتك أنت في دارك .
                          اخترق تطفلهما صدغيها وضمت يديها إلى صدرها كمن يضم ما يخصه من أشياء ، شعرت ساعتها أنها الوحيدة المنسجمة مع ذاتها ورغبت مواصلة الحديث مع محمود :
                          ـ أتسمح لي بسؤال؟.
                          ـ تفضلي، أنا كلّي لك فاتنتي.
                          ـ ما الذي قادكَ إلى هذا الوكر؟
                          تلعثم وهو يحاول أن يتفادى عينها :
                          ـ طويل العمر بحاجة لمن يكتب عنه، وقد رغب أن أكتب سيرته الذاتية.
                          رأت أن لحظة الصمت أبلغ، فارتأت أن تصمت. تناولت حبتين من الفستق، قشرتهما وقدمتهما له:
                          - هل تحترم الكاتب الذي كتب روايات صدام حسين؟
                          هز كتفيه وزمّ شفتيه:
                          ـ هل لديك خبرة في كرة القدم؟ الأقدام تركل والكرة تسجل الهدف، في ملاعبنا عدد كبير من الكرات والتبعية للركل.
                          ـ إنه اعتداء على الأدب أليس ذلك يا سيدي ؟
                          استغرق يفكر، ما الذي ستقوله عنه وماذا يفعل للحياة ومتطلباتها؟. التفت يمنة فجاء وجهه بوجه امرأة قبيحة، وقال دون تردد:
                          - أعوذ بالله من شرّ ما خلق.
                          هرب منها إلى وجه السمراء من جديد، كان يستعذب نظرة عينيها، فبادرته:
                          ـ قل ما تريد، أحس أنك بحاجة للكلام.
                          ـ هل قرأتِ شعراً، وأي نوع من الشعر تفضلين؟
                          ـ سمعت من وليد شعراً كثيراً، كما إني أفضل شعر العشق لأنه ينفلت من القلب، ثم كم مـرّة أحببتَ؟
                          ـ أوه.. كثيراً.
                          ـ وتسمّي التعدّد حباً؟ القلب لا يعشق إلا مرة واحدة، وأنت لم تعشق سوى امرأة واحدة وخانتك، أليس كذلك؟
                          ـ كيف عرفتِ؟
                          ـ لأنك تخونها مع الأخريات، تخون من تتربع في صدرك، و بالتالي أنت بلا حماية، رجل قاصر، قلبك مع واحدة وجسدك مع العشرات.
                          ـ المعذرة سيدتي، أظنك عاشقة حدّ النخاع، وأعتذر إذا كان سؤالي أزعجك.
                          ـ ليــس الحب عيباً لأداريه؛ الحب أكبر من الأرض والسماء، لذا يطير قلب العــاشق في اللا حــدود، باختصار هو ميلاد وموت.
                          كان الوقت يمضي مملاً بالنسبة لها، قرب صحفي متطفّل. تسارع وقع حبات المطر على زجاج النوافذ، دنت من الشباك لتسمع صوت المطر الذي تعشقه لعشق وليد له، كانت تستمع لخفقات قلبه كيف تتناغم وحبات المطر. وكان محمود يثني بين اللحظة واللحظة على جمالها، ويخبرها أن صورتها لم تفارقه منذ البارحة، وأنه يحس كطفل بين يديها، وبعد كل كلام يدور بينهما يذكرها برقم هاتفه. وساعة تجيبه بأنها ستحاول الاتصال به، يعود لسؤالها عن اسمها ومن أين جاءت وما هو عنوان أهلها؟
                          كانت تتابع حركات صابر وهو يفرك الكأس بين يديه ككلب حول وليمة. ومع استمرار الطرب والشرب ترنّح من ترنح، وعلت أصوات الضحكات والشهقات . وامتدت في الزحمة يد إحدى الحاضرات الى جيب أحد الضيوف المهمين عند صاحب الدار وسرقت محفظته؛ كانت السمراء تراقبها كيف زحفت مثل هرّة، ولكزت محموداً لكي ينتبه إلى ما تفعله اللصة.
                          لم يكن اهتمامه بحدوث السرقة كبيراً، فقال لها:
                          - كلهم سارقون، وكلهن يسرقن ويطلبن أجراً. هنّ يسرقن الألباب والقلوب والجيوب، وهم يسرقون الأجساد.
                          غاصت الأيادي في ثريد اللحم، صوت الملاعق والشوك والمصمصة تثير اشمئزازها ، كانت تدعو الله أن ينقذها من محنتها، وكلما شعرت بعيون محفوظ السلامة تطاردها، ودم الرغبة يفور على شفتيه المتهدلتين تقززت منه ورأتهم جميعا حيوانات بقرون .
                          - نعم حيوانات بأجساد بشر .

                          تعليق

                          • وفاء عبدالرزاق
                            عضو الملتقى
                            • 30-07-2008
                            • 447

                            #28
                            7


                            انتبهت وهي تحاكي نفسها ، كل لحظة تجدها فخا جديدا ، مرّت صورة المرسم، رجل مهووس بغيرها، يبعدها صوت رجل تجشأ، عبثاً تعيد الصورة، يشدها الصوت إلى الواقع، فتبذل أقصى جهدها لتسترجع الأشياء كلها حتى أواني المطبخ. تفحّصت المكان بتفاصيله، طريقة نفثه لدخان سجائره، أزرار قميصه المفتوحة على آخرها، أصابعه الصفر من كثرة التدخين، صدره الموشوم بعلامات الحرق والتعذيب، يده المبتورة، النسيان والذكريات، الأشعار التي يرددها، سلطته على ألوانه، لحظات تغزّله بالشقراء، عاصفة صدرها المتفجرة وهي تكاد تصرخ، كل ما يمتّ لوليد بصلة تعتبرها حياتها ومماتها*
                            انتبهت للصمت، صوت الصمت يعلو، بأنفاسٍ لصيقة بها :
                            - يا الله، أين الجميع؟ لا أحد في الصالة، أين كنتُ وماذا حدث لي؟
                            - اهدئي (وضع يده على كتفها ولفّ ذراعه حولها) عزيزتي لقد أمرت الجميع بالانصراف، وأنا معك الآن.. هدّئي من روعك.
                            - أين صاحبتي؟
                            - في إحدى الغرف مع صابر.
                            راحت تتمتم: عادت لفعلتها ثانية؟
                            وضعت يديها على صدرها، ضغطتهما بقوة، برز أحد النهدين بينما الثاني احتفظ ببعض حياء :
                            - كيف لم أشعر بخروج الجميع؟
                            - حين وجدتك حالمة ولست معنا، ولم تشعري بما يجري حولك، أمـــــــرت الآخرين أن ينصرفوا بهدوء، وأنت أدرى بأوامري. حلوتي، جمالك جبار وعيناك ساحرتان، فابعدي الحزن عنهما.
                            - عفوك سيدي أنا لا أستحق إطراءك.
                            وضع يده على فخذها، ارتعشت مثل سعفة، دقات قلبها المسرعة بانت من وريد رقبتها، خاطبها:
                            ـ بالمناسبة، اشتريت إليك عقداً ماسياً، تفضلي هو إليك.
                            ـ معذرة، ما اعتدت على ارتداء الماس.
                            فاجأها برمي نفسه عليها، وحملها بين ذراعيه، وبكل قوته شدها وأحاطها، حتى ما كادت تفلت من قبضته:
                            - أنت العقد الثمين وأنت البرتقالة الناضجة، وكل النساء قشور.
                            - أدخلها غرفة نومه، ورماها على فراشه، ارتفع ثوبها إثر الرمية، فبدت ساقاها كلمعة برق.
                            - لا تخافي (أمسك بها، ونظر إليها باشتهاء) ألا تنسي؟
                            - تعالي أجعلك تنسي الدنيا، أعرف أنها المرة الأولى، لمحت ذلك في عينيك وانزوائك. سأجعلك تبلغين الذروة، أنا متمرّس في ذلك.
                            - سيدي أنا لستُ كما تعتقد.
                            - اسمعي.. سأدفع لك أي ثمن تطلبين، شرط أن تتركيني أفعل ما أريد. أنت نصيبي اليوم، لكني لن أرغمك. كم يكفيك؟ عشرة آلاف جنيه، عشرون ألفاً؟
                            - سيدي أتوسل إليك، أنا لستُ كما تريد.
                            -هل في قلبك أحد؟
                            - أجل.
                            - ويتركني صابر الملعون أدفع ثمن العقد، بنت الكلب، تعالي.. أريد استرجاع الثمن.
                            رمى جسده الثقيل عليها، ترجرج لحم كرشه ضاغطاً على بطنها، لكنها استطاعت الإفلات من قبضته. جرّها من ثوبها، فتمزّق بين يديه. أدارت مفتاح باب الغرفة، وخرجت مفزوعة، دقت باب الغرفة الثانية:
                            - صابر، اخرج يا ابن الكلب ماذا فعلت بي، قم خذني إلى البيت.
                            شهقت، بكت، ثار الشعر الغجري على هزات رأسها. خرج صابر عاري الصدر، يسحب زنّـار بنطلونه، وصاحبتها وراءه ترتدي آخر قطعة من ثيابها. صاحا بصوت واحد:
                            - ماذا دهاكِ، هل جُننتِ؟ كيف تفرّطين بهذه الفرصة؟ المحفوظ ثروة.. ثروة.
                            - أتأخذني إلى البيت الآن، أم أصرخ بأعلى صوتي في باب العمارة؟
                            - وهم في السيارة، عائدين إلى دار صابر، لم يكن على فمها غير كلام واحد تقوله:
                            - يا وليد خذني إلى ذراعك، أيها الجبان خذني ولو بجبن.
                            وضربت الشقراء بكوعها معاتبة:
                            - ماذا فعلتِ يا وقحة؟
                            - دفعت ثمن بقائنا في شقة صابر.
                            لم يردّ عليها صابر، ولم يكترث لهياجها، واكتفى بمتابعة حركاتها في المرآة، ولاحظ عدم وجود عقد في رقبتها، فسألها:
                            ـ أين العقد؟
                            ـ رميته عليه، كيف عرفت بسرّ العقد، هل كنت خلف الباب؟
                            ـ أيتها الغبية أنا من اشتراه، وأنا صاحب المبادرة، أسرار المحفوظ كلها عندي.
                            أكدتا بصوت واحد:
                            - ونحن أيضاً لنا سرنا.
                            ( نظرتا ببعض، وقالتا ببرود)؛ نحن مثل خروف يعدّ أيامه.
                            ـ آه لو أعرف سرّكما، أدفع عمري ثمناً لذلك. كيف وافقت على مرافقة امرأتين لا أعرف حتى اسميهما؟، يا لغبائي.
                            في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، بادرت الشقراء صاحبتها بالقول:
                            - من الآن سنخرج لوحدنا، هذا الصباح سنترك صابراً في البيت ونضيع في الشوارع، هيا يا سمرائي ارتدي ملابسك.
                            وفيما هي تكمل زينتها عرضت على السمراء بعض حليّها، فأخبرتها بعدم رغبتها فيها، بل قالت:
                            - أريد أن أكون حرة طليقة، ولو كان بيدي لمشيت دون ثياب.
                            علـّقت الشقراء:
                            - والله فكرة، سيأتي الزبائن بالعشرات بل المئات.
                            ـ أهذه حدود تفكيرك؟ المال فقط، ولا يهم بأية وسيلة، تتحايلين على نفسك من أجل المال؟
                            مشتا على رؤوس أصابعهما حافيتين، والأحذية تتدلـّى من أيديهما، وقرب باب الشقة امتدت يدان قويتان وجرّتهما:
                            -أيتها اللعينتان أتخرجان من دوني؟
                            -لا، لا.. وجدناك نائماً، فقررنا أن ندعك تستريح من عبئنا اليوم ونخرج وحدنا.
                            -لقد اتصل المحفوظ واعتذر، وطلب منى الاعتذار لك. لكن لا تنسي أنه وضعك نصب عينيه، وهو لا يتراجع.
                            برمت السمراء شفتيها استنكاراً :
                            - هذا شأنه، له ما يريد ولي ما أريد. ويا للزوجات المسكينات، أيعقل أن تُسلـّم أمور الدول لرجال طبول؟
                            - شقراء هل تذكرين وليداً حين صرخ بصوت عالٍ:
                            - لا فُضّ فوك يا نزار قباني؟
                            - قال صابر مستفسراً:
                            - وماذا قال نزار قباني؟
                            قال؛ الدولة منذ بداية هذا القرن تعيد تقاسم الطبلة.
                            ـ دعونا من الطبل والطبالين، لقد دعاني صديق على العشاء البارحة، وسوف تعجبكما السهرة، فيها رقص شرقي وغناء.
                            انحنت الشقراء بدلال يوحي بالموافقة، بينما السمراء صمتت.
                            ـ هل أعتبر الصمت علامة الرضا؟
                            - أجابت السمراء: فسّره كما تشاء، بشرط أن لا أدخل غرفة نوم أحد.
                            - أتحبان أن لا أرافقكما؟
                            - بل نرجوك، لنا رغبة في التصعلك.
                            - عودا مبكراً.
                            - شكراً.
                            الساعات سماء في ملح، تمطر على أرض كلها أجراس، وعلى عدد الرنين تسجل الخطوات، المدينة بسيطة وغير معقدة، وبقدر ما تقدم من هدوء واحترام الآخر تُحترم. التفاصيل لا يمكن دمجها، إذ لكل محل شاهدتاه في الشوارع خصوصيته، ولكل مقهى طرازها المميّز، وساعات النهار لا تشبه بعضها، ومن الصعب الإمساك بحالة واحدة للطقس، فمن السهل أن يتحول من المشمس إلى الغائم أو العاصف.
                            تحت مطرقة اليوم الثالث وجهان حوّلتهما لغة فنان إلى إكسير عشق وفراش، سُرّة الأرض تمشي على شكل امرأة. الحسناوات الشقر كؤوس معدّة للاحتساء، فضول العيون المتورّمة من السهر والخمر تدقق بتفاصيل الأجساد العابرة، لا فرق بين المحجبة والتي وشمت ما تحت السرة. من خريطة الحافلات في الشارع عرفتا رقم الحافلة المتجهة إلى (أجورد رود) حيث يلتقي الضدان، البياض الإنجليزي والسمار العربي.
                            العابرون مغامرة لحظة تستجدي إشارتها الخضراء..
                            الهواتف المحمولة تطرق بتهذيــــــب دوران الرأس حول نفسه. اكتشافهما لهوامش الحياة وسطورها المحشوّة بحبر يرتجف خشية أن يُكتشف زيفه، اتضح لهما ذلك في أول خطوة بعد النزول من الحافلة.
                            انطلق صمتهما الجاد في إلقاء نظراته الشهية، مثل أول استلطاف كان مشروع حب اختار قُبلة علنية ورمي تقاليده إلى الخلف ، الأحلام في بلاد الجنّيات تقطع تذاكر تجربة الحلم والفعل، بعيداً عن السماء العربية، حيث ليس من الضروري على صاحبة المبادرة أن تتفادى الخطأ.
                            كثيرات جئن لتجربة فساتين منكمشة لفرط ضيقها، فيما عباءات تعطي أرقام هواتفها النقالة، وكرديات يدفعن أطفالهن بالعربات متزينات بما لا يتناسب وزينة الصباح. أساور ذهبية جئن بها من الكويت في زمن غزو الأفاعي النهمة، مشروع لحرّية تستعطي من أجل اجترار الذات ، كراسي المقاهي خاوية بخواء من تهافتوا عليها يصرفون رواتب التقاعد عن العمل في الوزارات، طواويس بشعر أحمر.
                            محلات عربية البائع والبضاعة. دلال مصطنع وغنج مفتعل لشابات فررن من واقع ( الـ بدون ) ، يمشين بكعوب عالية وأظافر اصطناعية وعدسات ملوّنة، في محاولات اصطياد مواعيد تملأ فراغ الوجوه والأبواب المعدنية والمفاتيح الصدئة.
                            كرد، عرب، عجم، صوماليون، أوروبيون شرقيون، هنود، باكستانيون، جميعهم أعناق تتخذ لها حيزاً في هواء عاصمة من أهم عواصم العالم. عجائز تعبُّ من ثيابهنّ روائح البخور، وأطفال مرافقون، جلسوا في المقاهي المطلة على الشارع. كراس خشبية تناولت قبــل قدومها حبوب ارتفاع ضغط الدم والسكري، شعر مصبوغ بالأسود الكثيف، وأسنان مستعارة ونظارات دُبل. وأحاديث تدور حول سهرات الليل ومفعول حبوب (الفياجرا) المنقذة للرجولة الفالتة من عقالها. لفت انتباه الشقراء حديث رجلين يسعلان، قال الأصغر:
                            - في بلدنا الدولة تحافظ على سراويلنا، فأعطت أوامرها لوزارة الصحة أن تصرف (الفياجرا) بالمجان كما تصرف (الباندول).
                            - جموح عربي ترك ساحات الوغى وتفوّق على وهمه وتركه الطائرات والصواريخ تفتت لحم الأطفال، وصار يناقش فاعلية الفياجرا.
                            - سألت السمراء؛ هل سمعتِ ردّ العجوز؟
                            - نعم، يريد أن تُشاد في الساحات تماثيل لمبتكر الفياجرا.
                            - احتسى قهوته واستند على عصاه متابعاً:
                            - تخيّل يا بوفهد نصحو من النوم فنلقى التماثيل كلها منتصبة ذكورتها.
                            - أجابه صاحبه بضحكة عالية:
                            - لا، والحمام ذرق عليها.
                            - انفعلت السمراء، وفلت من فمها كلام بغير إرادة منها:
                            - هي لا تستحق غير الذروق.
                            انزوت خلف صاحبتها، مشتا مسرعتين تسترجعان بعض الأقوال عن الرجال والثراء، والتضحيات والخسارة.
                            أكدت الشقراء قائلة :
                            - والكحل العربي أيضا له دوره .

                            تعليق

                            • وفاء عبدالرزاق
                              عضو الملتقى
                              • 30-07-2008
                              • 447

                              #29
                              8
                              اقتربتا من أسرة آسيوية، زوجان وابنتهما في الثانية من العمر، بشعر أسود ناعم، وعينين بالكاد يبرق سوادهما. لعبت الشقراء بشعر الطفلة، فبادرتها الأم بابتسامة شاكرة. رغبتا في احتساء الشاي، فدخلتا مقهى فرش كراسيه على قارعة الطريق.
                              ذهبت الشقراء لشراء الشاي تاركة صاحبتها محرجة من عيون الزبائن، وسمعت صوتاً صادراً من خلفها:
                              - بو سالم.
                              - أجابه شخص بصوت أجش: -
                              - نعم.
                              - أنا أحب الحصرم، وأنت تحبه؟
                              - معك حق بو سالم، الحصرم يدك بس التي تقطفه قبل ما يمسه واحد غيرك (اقترب منه) :
                              - عندك واحد أو نجيب لك؟ت
                              - عندي نوع هندي، وطبّاخة، وتخيل التوابل الهندية الحارة.
                              - ـ أنا عندي عربية منك وفيك أحسن، ومثقفة بعد، طالبة جامعة.
                              - ـ لا خوي، عربية ما أريدها، راح تدخل في القواعد العربية وتقول لي: خبزَ يخبزُ خبّـاز.
                              - إي بس الخباز والخبز مفعول به.
                              - هنا بكافيه ديانا ، كل شيء طازج.
                              اختلفت الأحاديث وتشعبت باختلاف لغة أصحابها ولهجاتهم، وعلى مقربة منهما كان رجلان يتبادلان الأحاديث السياسية. أحدهما نحيف جداً، أبيض البشرة، شعره مائل إلى اللون الكستنائي، وعيناه عسليتان واسعتان.
                              الآخر أجعد الشعر، أكرش حنطي، يتصفح العناوين الرئيسية في جريدة. وضع الجريدة جانباً وراح يسأل صاحبه:
                              - فاضل، هل تريد شيئاً مع القهوة؟
                              - بس قهوة من فضلك.
                              - ألا تريد فطيرة محشوة بالتفاح؟ (وغمز له مشيراً للحلوتين) الفطائر حلوة وشهية اليوم.
                              - وهو كذلك يا طالب، فطيرة بالتفاح .ومشـّط شعره المتجعد بإصبعه.
                              جلست الشقراء تسترق السمع، وتطيل النظر بحثاً عن فريسة، مزهوّة بجمالها الذي لفت انتباه الجميع، بينما السمراء مدّت رقبتها لقراءة العنوان الرئيسي في الجريدة بيد طالب ،اكتشاف مقبرة جماعية جديدة .
                              أغمضت عينيها، وفي صدرها صراخ كصراخ وليد، وهذيان غاضب كهذيانه، وعـّلقت قائلة:
                              - في كل شبر قصّابون يكتبون بحبر البَـلَه، وفي كل نشيد صباحي تأريخ عفن.
                              - لكزتها صاحبتها:
                              - خير إن شا الله، صرنا مثل وليد مجانين؟
                              - انتبهت إلى كوب الشاي وجدته بارداً، وصحن الفطيرتين فارغا:-
                              ـ هنيئاً، وبألف عافية.
                              ـ إي شنو أسوّي، أنت تهذين بمثالياتك ومعدتي تهذي من الجوع، سكّـتها بالفطيرتين.
                              ـ الجماعة غاروا منّـا، فاشتروا فطائر بالتفاح.
                              ـ يا غبية، هذا غزل على الطريقة العراقية.
                              ـ يبدو أنهما مثقفان، فقد تحدثا في أمور ثقافية وسياسية.
                              ـ حبيبتي، الرجل العراقي مِن يريد يفرد عضلاته يحكي في الثقافة، ومن يريد يغازل تقرقر بطنه.لا أحد يسأل عن البسمة التي تعصر الروح ، لا عَرَق في جلد الرجال ليعرقوا خجلا ، ( صمتت برهة ):
                              - أكملي حديثك ، هل ترغبين بشيء خاص بك ؟
                              ـ أرغب أن أنام على حصير مفروش على حافة النهر لأشعر باشتهاء وليد، وأن أجلس القرفصاء تحت جذع نخلة، وأدخل بيتهم وأجد أمه خبأت عشاءه في المطبخ وغطته بصينية معدنية، أدخل خلسة أكتشف مكان (الكليجة ) المخبأة للعيد، وأشترى ربع عرَق؛ وأسكر على السطح، وأقرأ ديوان محمود درويش:
                              ( لماذا تركت الحصان وحيداً ).
                              ـ ذبحتِـنا بمحمود درويش ووليد وأشعاره، و أدونيس.
                              ـ أعشقهما كعشقي لوليد، اسمعي ماذا يقول، سمعته وهو يرسمنا يردد:
                              أغلقوا المشهد وانتصروا
                              عبروا أمسنا كله
                              غيروا جرس الوقت وانتصروا .
                              هذا الشاعر خلق للزمن العربي كله.
                              تساءل طالب وهو يتصفح الجريدة :
                              - وين كانت أمريكا عن المقابر الجماعية؟ معقول ما تدري عيني؟. والله غمضت عنها مثل ما غمضت عن حلبـﭼـة والأنفال وانتفاضة الجنوب.
                              بادره بالرد فاضل :
                              - عيني أفاعي وأكلت بعضها. كش ملك، حط ملك جديد ، عساهم نارهم تاكل حطبهم.
                              ـ أخ لوما الشعب أكل خرا، لكن ما يخالف احنا نرجعه لحلوقهم هالزمرة الطاغية وأتباعها.
                              قالت الشقراء:
                              - علينا أن نسرع يا سمرائي، الحديث صار خرائي، وشكلهم مفلسين.
                              عبر الشارع باتجاه المقهى رجل حيّوه من بعيد باسم طاهر، بدا كمن امتلأ قلبه بمعاناة جديدة ، سحب كرسياً وجلس قرب فاضل، ثم حدثه بطريقة إياك اعني واسمعي يا جارة :
                              ـ هذا الجمر كله يمّـك ووجهك أصفر؟.
                              رغبت الشقراء في المغازلة، أعطت فرصة لطاهر أن يتحدث:
                              ـ ما اسم الحلوتين.
                              ـ لا نعرف (بصوت واحد).
                              ـ أهذه سياسة؟ (وردّ على سؤاله بنفسه) :
                              - ولمَ لا، فالسياسة صارت تشريب .
                              مدّ بوزه وفتح منخاره مستنشقاً عطر الشقراء، تأوّه كمن يلح عليه جرح قديم :
                              - لا تحتاري سيدتي، شمس وفجر، ما رأيكما بهذين اْلاسمين ؟ (وواصل) جميلتي:
                              - الاسم غير مهم، المهم هو الفعل. أنت شمس، والسمراء فجر، اتفقنا؟ حبوبتي السمراء أنت تسوين مليون مونيكا، ولو شايفك (بوش) ما دخل بغداد.
                              سحب فاضل قدمه العالقة تحت الكرسي:
                              - يو.. لعد فلوس نفط العراق وين راحت، على القوّادين والقصور والمونيكات، وهات أبصم بالعشرة.
                              ترك طالب الجريدة التي قلبها على الصفحة الثقافية، وشارك صاحبيه قائلاً:
                              -لا تستهينوا بالنساء، دساتير وحياة بأكملها أعيدت صياغتها بسبب النساء.
                              - رعش بدن السمراء لصورة نساء عراقيات أمام أكداس من العظام، شبكت يديها بتوتر، وطلبت من صديقتها الخروج.
                              ودعتا رفقة المقهى، وذابتا في ظهيرة الوقت. لعبت الريح بثوب شمس، تلصص أشيب على ساقيها، كما لم تنس الأخرى فمرّت بشعرها وعبثت بغرّتها.
                              ـ هل ترغبين في الاستمرار بجولتنا يا فجر؟
                              ـ ها هي الحافلة وصلت أريد العودة.
                              صعدتا إلى الطابق الثاني، وجدتا الكرسي الأمامي فارغاً، فجلستا باتجاه الزجاج. سألت الشقراء:
                              - لماذا الصمت؟
                              ـ أحاول أن أصرّف لغوياً اسم أمريكا، مثلاً كلمة كرّ، تعني رجع الفارس إلى شوط القتال، فهو كرّار. ثم أم ، اعتبرت نفسها أم العالم. ولو صرّفنا كلمة (نيويورك) فالمصيبة واقعة بلا جدال، فهي من تحت الخصر، مثلاً ( في تقديم الحروف وتأخيرها يصبح الاسم ورك ، ومن الورك تتشعب أمريكا كلها هل أكمل؟
                              ـ كفاك يا فجر، ألم أقل لك إن العهر أصل الأشياء؟
                              حال وصولهما شقة صابر، وجدتاه منتظراً وجائعاً، فرحب بوصولهما:
                              - جئتما في الوقت المناسب، أنا جائع، خذي هذا الرقم واطلبي ما يروق لك من مطعم (السلطان ) يا شقرائي.
                              التفتت إليه؛ اسمي شمس، وصاحبتي فجر.
                              - أخيراً، أخيراً.. عرفت الاسمين و إن شاء الله حقيقيين.
                              أجابتا : غير مهم، كل شيء في عالمكم غير حقيقي.

                              تعليق

                              • وفاء عبدالرزاق
                                عضو الملتقى
                                • 30-07-2008
                                • 447

                                #30
                                فصــــــــــل
                                عودة السماء إلى أهلها

                                تعليق

                                يعمل...
                                X