رواية السماء تعود الى اهلها / وفاء عبدالرزاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • وفاء عبدالرزاق
    عضو الملتقى
    • 30-07-2008
    • 447

    #31


    أوراق الحرب


    تلعب بذكاء


    والغامضُ مؤيدٌ


    لا لزوم للتسرّع


    أيها الحلم الأصفر .


    -------------------------------------------------------------------------


    أنا طريقٌ تصغي في صمت الليل


    إلى خطأ الذكريات



    طاغور
    التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 27-08-2010, 23:24.

    تعليق

    • وفاء عبدالرزاق
      عضو الملتقى
      • 30-07-2008
      • 447

      #32
      1
      منذ تلك الليلة التي رجع فيها وليد إلى البيت متأففاً، يدخن سيجارة إثر سيجارة، ثم يرمي أعقاب السجائر على الأرض، يفتح الشباك ويقف طويلاً، يتصرف كطفل مجنون في وسط الصالة، ورغبةٌ مرسومة على وجهها لمعرفة نوع الهدية التي تركها على الأريكة حال عودته من لقاء صديق عربي وطلب لقاءه في مكان يختاره قريب من مسكنه.
      أصابها هوس معرفة ما بداخل علبة مغلفة بغلاف فضي، كرد لصداقة قديمة وبعمق تلك الصداقة راح وليد يفتح العلبة بمودة ، أحسّت بطعنة في صدرها لدى رؤية الخنجر، رغم جماله لكنه متنكر بزيّ الموت المرصع بحجرين كبيرين من الفيروز، ساعتها هزّ وليد رأسه ورماه على الأريكة قائلاً:
      - ابن الكلب ألم يجد غير الخنجر كذكرى أو عربون لصداقتنا القديمة، كنت أفضـّل حفنة من تمر، أو قليلاً من تراب، هما أثمن عندي من خنجره الفضي.
      وقتها رغبت أن تنزع أيامها وترمي بثوبها الأحمر عليه لتبلـّه بالحقيقة الظامئة ، لكنه وقف في مكانه المعتاد، وبحرارة من شق جرحه بسكين حادة غمس فرشاته في اللون الأحمر، وراح يثنّي ثوبها .
      وجدته يرسم بالمقلوب ويردّد عربدة اعتادت عليها، لكنّ ما حيرها اختياره لثوبها تلك الليلة دون الشقراء، وكلما وضع لمسة من لمساته تناثر هذيانه في أرجاء المكان:
      - برج الثور، يرفع فخذيه قبل أن ينطح، أما برج العقرب فيمتص ما علق بالأرض من دم، بينما برج الميزان يزن الجرح بالجرح ، ليأتي دور برج الدلو ويمارس لعبته في سقي الأوجاع بحثا عن موتى في البيوت العاقر .
      كان يتوجب عليها النظر في التلفاز بعينين وقلبين وعقلين، لتستوعب ما يحدث.تمنت لو لم يرسم لها وليد عيوناً كي لا ترى التلفاز ينقل حالات النهب، مستشفيات بأكملها تـُسرق، امتزج العرق بالدم، والناهبون يتنقلون في المتحف العراقي بكل حرية.
      تمنّت أن تقطع يدها وتضعها بدل يد وليد المبتورة، وأن تخنق من ساهم ببترها، معتقدة أن الوقت قد حان لاستخدام يديه لمحو ورسم ما تجاهله البؤس.
      - أما كان بوسع المنسحبين الاحتفاظ بقليل من الشرف؟
      كرّر سؤاله وكررته معه في قلبها وعقلها، وهو يصيح :
      - ليت يدي تطاوعني وليت الوقت المقلوب يعتدل، أهذا انتقام الأهوار لعطشها؟ أم انتقام خياشيم الأسماك المخنوقة؟
      الدكاكين، البيوت، القبور، الذين ذهبوا ولم يرجعوا؟ لا أريد انتقامك أيتها اليد المبتورة، كنت أرغب أن تحصدي من قطعوك فقط، لا أن يؤخذ الشعب بجريرة الملك.
      لكن لا.. لكل ثورة بركان ولكل بركان نار، ومن النار تعود السماء إلى أهلها، ولكي تعود إلى أهلها لا بدّ من ثمن.
      علينا أن نستعدّ منذ الليلة، ولن نبقى عائمين بعد الآن، والشاطر من يغتنـــم الفرصة، وإن جاءت من يد عدو، المهم كيف نكمل الصورة. لقد انقلبت الكراسي على قفاها، وبانت عوراتها المخصية.
      راح إلى ألوانه، وجلس يلعب بفرشاة صغيرة، يلفّها حول دائرة وهمية، غمسها في اللون أكثر من ثلاثين مرة، ومسحها. استخرج علبة مبيد للحشرات، ورش الغرفة. دنا من لوحته كأنه في حالة تقبيل:
      - خيرٌ لي أن أكلمكما، أحقاً أيها الرسم المشلول، أحقاً جاءتك العاصفة؟ أم مازلت مجرد علبة صابون تخاف الماء وتخاف المطر؟
      سمع صوتاً يناديه:
      - لا تشك بالأسئلة.
      فتح ذراعه مذعوراً:
      - جلجامش لم يصادق أسئلته، لذا سرقته الحية.
      هزّ رأسه :
      - ما بك يا وليد، هل أصابك هوس أم مسّ من الجنون؟. لماذا كلما ضاقت بك الأرض كلمت نفسك ؟ قلبك بحيرة فاغتنمه ولا تيأس .
      تمنّت أن تشتعل بحرائقه، تدخل الحمّام معه، تفتح الدش على آخره. جسدان تحرقهما الرغبة، هبط عليها سحر حلمها فشعرت به يلف شعرها المبلـّل على خصره ويعصرها بين ذراعيه، لم يفصل بينهما غير النبض. أثارته خصلة متمردة من شعرها، مسكها بيده وداعب بها نهديها. وحين صحت وجدت فرشاته بلونها الأسود تفصل بين نهديها، رغبة في تحويل الحلم إلى قرار.

      إنها اللوحة الأخيرة ويكتمل المعرض، رقمكِ ( ثلاثة وخمسون) ، أنتِ إله قلبي وأنا طفلك، ستعودين لي وبك أخترق حاجز الإعاقة. يد واحدة، ليكن، فقط أكملك، أما تحدّى بيتهوفن الصمم في سيمفونيته التاسعة؟*
      صحت الشقراء من نومها، مدّت ذراعيها على آخرهما وتثاءبت:
      - أنت صاحية؟ بماذا كنت تفكرين، بفنانكِ؟ أقسم أنك معتوهة مثله، سوف يرتمي بأحضاني ساعة عودتنا، وسيفتح منخاره ليشمّ عطري حتى يختنق به ويتركك ضائعة في حبك العاجز. أنا أكرهه وأحقد عليه وعلى أصباغه، إنه نصف رجل لا تنسيْ ذلك.
      - العجز لا يعوق الرجال، وهو رجل مبدع، مثل غويا؛ الفنان الذي هرم وضعفت عيناه، كان يسمع حفيف الفرشاة وهي تحتك بسطح اللوحة، ومن بصيص صغير كان يرسم. من يدري، ربما سيتحدث التاريخ عن وليد،. ألم تسمعيه وهو يردّد مقولة بيكاسو (يجب أن تُفقأ عين الفنان، ليرى من بصيرته ) ليس من السهل أن يغير المرء قناعاته.
      كان الأمر بالنسبة إليها بمثابة باب موصد، لكنها رغم ذلك فرحة لأنها تتحدث عنه كثيراً، كانت تسمع حتى قرقرة بطنه وهو يكمل رسم وجهها وتنفعل معه حين ينفعل، وتفرح وقت فرحه وتحزن لحزنه.
      حين احتدّ النقاش بينهما سمعتا طرق باب الغرفة:
      - هيا، كونا جاهزتين، إنها الثامنة مساء ولدينا نزهة من العمر.
      - فتحت فجر دولاب ملابسها، وجدت فستانها الأحمر معلقاً، شمّته ومرّرت يدها عليه. سحبتها شمس بقوة:
      - كفي عن رائحة مجنونك (ومازحتها) أنت مجنونة من نوع آخر، هل سال لعاب نصفك الأسفل؟
      - أنت وقحة، وقحة لا تعرف الحب. تعالي، هل أنت راضية عن اسمك؟
      - لقد سألتني مراراً السؤال نفسه، وأردّ عليك بالجواب نفسه:
      - نعم راضية، أحسن من لا شيء، المعتوه خاصتك لم يعرّفنا باسم.
      انضمّ إليهما صابر بصوته العالي، وبمزحته الماجنة والفاضحة ما بين السراويل. ولما شاهد فجراً متذمرة، مسكها من كتفها قائلاً :
      - إنها المفتاح لباب الثراء. ثم جلس على سرير الشقراء:
      - ماذا لو حكيت لكما عن حادثة المطعم؟ هل ترغبين بذلك يا سمرائي؟
      ـ قل لي فجر، ألم نقل أصبح لنا اسمان.. ثم إذا كان الحديث عن فخذيك فلا أريده.
      - أخذ شمساً بين يديه، قبّلها قبلة طويلة، وعضّ شفتها السفلى.. فلتت من بين يديه هائجة :
      - يا ابن الكلب، أوجعتني بوحشيتك.
      راحت تنظر إليه بعينين غاضبتين، وتكمل ارتداء ملابسها.
      بادرته فجر بسؤال حيّرها :
      - لماذا سمّاك أهلك صابراً، وأنت عجول طيب وحقير، ودود وحاقد، تحمل بداخلك عدداً من المتناقضات؟
      شابت وجهه حمرة، وشعر بانقباض في صدره، لكنه قرر التظاهر باللامبالاة:
      - يولد الطفل وهو لا يعرف إن كان أبواه صالحين أم جزّارين، وأبي من الصنف الثاني، من الذين يكسرون الكؤوس والأباريق على رؤوس أطفالهم.
      - في السنة الأولي وأنا رضيع في حضن أمي، شجّ رأسي (رفع شعره ليريهما الأثر) أبٌ لا نعرف سرّه، يغيب بالأيام والأسابيع لا نعرف وجهته وماذا يملك. كلما عاد إلى البيت بعد غياب، عربد وشتم وأمر ونهى، وما على أمي غير السمع والطاعة. يتيمة زوّجها عمّها من ابنه ليصل الرحم ويحافظ عليها بعد موته، وهو لا يدري أنه وهبها إلى أكبر شرير. وللأسف الشديد، مات عمها بعد زواجها من أبي بثلاثة أشهر، وتركها بين مخالب زوج لا يحبها.
      سمعت أمي من إحدى الجارات أن له حبيبة في بيروت، ونحن نعيش في جنوبي لبنان، وجدّي أرغمه على زواج لم يرضَه. فأبي كان وسيماً وجميل الملامح، وكان جمال أمي أقل من العادي ولم تكن من حاملات الشهادات لتعمل وتنفق على نفسها. أخذها عمّها بعد وفاة والديها في الحرب الأهلية اللبنانية، وربّاها وهي ابنة ثلاث سنوات.
      كان بائع خضار، لديه سبعة أطفال، خمسة ذكور وبنتان. وزّع كل صبي في شارع، ليجد له مهنة، سباك، قهوجي، خياط وما شابه ذلك.
      أربعة من أولاده استمروا في ذلك، إلا البكر تمرّد على الشارع والعمل مع أبيه، واتخذ وسيلته في العيش واختيار قراراته.
      كان يأتي آخر النهار بجيوب ممتلئة، ويضع المال أمام والديه. لا يعلمان من أين جاء بالمال، ويشكّان في مصـــــدره، ولذا قرّر جدي تزويجه حين بلغ العشرين، متوقعاً أنه سيعقل ويعرف قيمة الأسرة حين يرزق بطفل. وكانت أمي الضحية، خصوصاً أنه قرر الانفصال عن بيت أبيه، واختار لها داراً بعيدة عن دار أهله. فعاشت وحدها في أيام غيبته، صبية في الرابعة عشرة بين جدران ووحدة، حتى رزقها الله بي.

      تعليق

      • وفاء عبدالرزاق
        عضو الملتقى
        • 30-07-2008
        • 447

        #33
        2
        لطالما سمعتها تشكر الله على هذه النعمة، فقد وهبها من يؤنس وحدتها ويعوّض أيامها الخاسرة. لم أتذكر يوماً أنه قبّلني أو ضمني إلى صدره، ولم أسمع منه إلا مقولة واحدة:
        - يا ابن اللحظة الخطأ .
        كان المصروف الذي يتركه يكفي لعيش كفاف، ربما كان ينتقم من أبيه بنا. وفي ذات يوم غاب، ولم يعد.
        عشت مع أمي، تسحقنا الأقدار، حتى حقدت على الآباء الذين كنت أراهم يعبرون الشوارع ممسكين بأيدي أولادهم، وحقدت على ملح الدمع.
        لم أملك جسدي كطفل، وقررت أن أركن الطفولة جانباً وأعول أمي وأتكفـّل بنفسي. فعملت عند صاحب كراج لتصليح السيارات، وافق على إيوائي فور أن شاهدني. علّمني كيف يصبغ الزيت بنطلوني الوحيد، وكيف تتقرّح أصابعي من تلميع السيارات .
        كما عوّدني أن يترك سائله المنوي يسح على مؤخرتي. تحملت إيقاع حياة أقسى من الحياة مع أبي، فقط لتأكل أمي.
        كم تمنيت أن يعود إلى البيت ويشبعني ضرباً، كلما دافعت عن أمي، وأن يمســـــــح السائل المنوي عن خسارتي. ثم قررت ترك الكراج بحثاً عن عمل آخر، غير أنّ مرض أمي المفاجئ جعلني أنسى طفولتي وأتركها تحت حصار رجل شاذ. بقيت سنتيــن حتى هبّت الرياح العاتية، وقت عودتي من العمل وجدت أمي جثة هامدة.
        ضاقت بي السُبل، طفل لا يملك مالاً يكفي لدفن والدته، وتركت رحمة الجيران تقوم بدورها، فدُفنت أمي بتبرّع الجميع.
        يومها تكسّر الزمان على ظهري، ولم أرغب في البقاء بالدار. دفعت لصاحبها قسطاً متبقياً علي، وتركت قدمي للطرقات.
        لطالما تحدثت مع الشارع كرجل لرجل، أسأله من أنت؟ فيجيبني : - أسكت أيها الناقص.
        وكان التصعلك أرحم من رجلين، واحد سرق طفولتي، والآخر استعبدني وحقد على اليوم الوحيد الذي نام به مع أمي.
        دخلت بيوت دعارة، نمت مع قوّادين، مارست كل الطرق غير الشرعية في تحصيل المال، وفي أي طريق أمشيه أحقد أكثر.
        لم ترغب بسماع المزيد من الحزن، نهضت لتمشط شعرها الأسود، رفعته ولفـّته على شكل كعكة من الخلف.
        ناداها:
        - اتركيه على سجيته، أكثر ما يثير الرجل في المرأة جنونها، من شعرها إلى الفراش، وشعرك الأسود المجنون جنني.
        استدارت إليه وتركت شعرها على وضعيته:
        - هل تنتقم من الأثرياء، أم تمتصهم كما امتص الشارع ؟
        - أغلبهم سيدتي مجرد أجساد ترتدي أكاذيبها، تشتري لعريها من أغلى الماركات العالمية، غالٍ من أجل الرخيص، وكلما رخص الجسد غلا الثوب. هم سماسرة حكومات، عبيد كراسي، وأنا أستعبدهم بتعففهم المصطنع.
        أما تخفـّيهم تحت عباءة الدين والحلال والحرام وعشرة آلاف يجوز ومائة ألف لا يجوز يجوّزونه من أجل متعتهم، فهو لصوصية حتى على الدين والفنادق الفخمة.
        إيه.. سأنتظركما في الصالة، ريثما تكملان زينتكما.
        ـ لمَ أنتِ حزينة يا فجر؟ سألت شمس.
        ـ هل لكل الزناة قصص وأساليب جعلتهم يطرقون أبواب الخطأ؟
        أجابتها شمس، وقد ارتدت ثلاثة خواتم متقاربة الألوان، وقميصاً أزرق اللون، وتدلـّت من عنقها قلادة ذات فص أزرق:
        - لكل الخطايا أسباب تكتشف من خلالها الحياة، وإن تغيّرت الأسماء والأمكنة، تعدّدت الأسباب والزنا واحد.
        اختلطت الأحاديث بين الجد والمزاح، وصابر يمرّ بهما في شوارع لندن قاصداً مكاناً معيناً. وبينما كان الكلام ثنائياً بين صابر وشمس، كانت فجر مغلفة بصمتها، وخدشت سمعها نكتة فاضحة، فانبعث صوتها مبحوحاً، حاولت تغيير مجرى الحديث بسؤال:
        - صابر، لمْ تعرّفنا على جيرانك، لماذا لم تشركهم معنا في سهرتنا؟
        - في الغرب لا توجد مساحة كبيرة للعلاقات، ونحن سكارى ثقال، إذا لم تجد لك حاجة لدى أحد فانسَهُ. هنا كلٌ صاحب نفسه وجار نفسه، والسكر فاكهة الولائم؛ أحمد الله أني لا أملك شهامة لتحترق في الطرقات. سأركن السيارة هنا، ونأخذها سيرا على الأقدام، أريد أن أريكما منطقة (سوهو ) شارع الشبق البشري، أقسم لكما بحياة من نجا من فخ الأفخاذ، الرواية الوحيدة التي قرأتها هي (الضياع في سوهو ) لكولن ولسن.
        رجعوا إلى السيارة بعد مرور عابر في سوهو، بسبب موعد لم يفصح صابر عنه، وكان بين اللحظة والأخرى ينظر في وجه السمراء من مرآته، ويدور سؤال في خلده، عرفت أن لديه ما يريد قوله، واستوضحت منه :
        - هيا، هاتِ ما بحوزتك، ألديك سؤال؟
        ـ نعم، ما يحيّرني جمعك بين الثقافة والتعرّي.
        أجابته متبرّمة:
        - افتراضك بأني مومس في محله، وأنا مومس بغير إرادتي، ولكن جئت مع رفيقتي بإرادتي رغبةً في التعرف على دنياكم، وأن أرى الحياة وجهاً لوجه.
        - وهل عرفتها؟
        - نعم وعرفت لماذا انزوى وليد كي لا يبلـّله ماؤكم العكر.
        - إنها سنّة الحياة، ومَن ذلك المبجّل الذي منحك صفة المومس؟ وهل مازلت عبد اختياره؟ حتى الروح عزيزتي عبدة لجسدها، كلاهما عبد للآخر، وكلاهما سجين للآخر.

        فتحت الشقراء عينيها الواسعتين مستغربة:
        - الله الله، صابر اليوم فيلسوف.
        - ـ ولمَ الاستغراب، أنا حقاً فيلسوف، أحياناً الحشرة تفلسف قرصتها هكذا (وقرصها في فخذها).
        - رفعت يده بقوّة، وقرصته في كفـّه :
        - أيها الوقح ألم تتكاشف ونفسك في المرآة مرة؟
        - لستُ بحاجة لذلك فأنا قوّاد علناً لا أملك وجهين.
        - هل ستأخذنا لمطعم؟ أقصد نحن مدعوون للعشاء؟
        - أجابها بتلكؤ؛ نحن.. نحن.. مـ..
        - نحن ماذا؟ وأين ستأخذنا؟.
        - طلب منها الهدوء؛ الحياة خُذ وهات، وموهبتك يا ساحرة الرجال في إطفاء نارهم.
        - وأين سنذهب؟.
        - في دار محفوظ السلامة؟ (سألته السمراء).
        - بل رجل آخر (وأقسم أنه شريف وصاحب أسرة، ويجب أن يتمّ ذلك بسرّية).
        - هل لي أن أعرف عنه شيئاً؟
        - إنه هادئ الطباع وخفيف الظل، كما لم يكن زير نساء. إنه يختار من تدخل قلبه ومن يشعر بهواها يأخذ عرشا في صدره.
        - هذا احتيال على الحب، هل أحبّني؟
        - تصوريها كما تشائين، وصدقيني لو لم يقع في حبك لما طلب مني.
        لم يعجب السمراء التطاول على الحب، فردّت عليه:
        - كيف يكون الحب في خدمة الساقطين؟ وأين سأذهب أنا؟
        - سنتعشى أنا وأنت، ثم نرجع إلى شقتي.
        - لا أرغب بالعشاء، عُد إلى البيت مباشرة.
        - وهذا أفضل، لك ما تشائين.
        في الطريق شبّت نار قلبها، بعد أن أوصلوا الشقراء إلى شقة لا تعرف رقمها، في شارع عرفت اسمه من خلال لافتة مكتوب عليها اسم (بيكر ستريت ).
        حيثما تسقط عيناها على مكان، تجده فيه، إنه مختبئ تحت جفنيها، يطرق رئتيها فتشعر به يتخلل أنفاسها.
        قرّر صابر اختراق صمتها:
        - تملكين عينين كعيني أمي.
        - يعني تجد فيّ أمك، وهذا يطمئن.
        وقت وصولها شقة صابر، أسرعت إلى الغرفة وأغلقت الباب، بينما صابر أعدّ كأساً من الويسكي ووضع أمامه صحناً فيه القليل من الجبن الأبيض والزيتون.

        تعليق

        • وفاء عبدالرزاق
          عضو الملتقى
          • 30-07-2008
          • 447

          #34
          3
          ارتدت قميص نوم أحمرَ بتول أسود، وتمددت على السرير. وجدت نفسها محاصــرة بسكنات وحركات وليد، وأحاديث الأثرياء السمجة. تعجّبــت من عدم مللهــم من مناقشــات وأحاديث متكررة حول أسماء السيارات وأنواع الهواتف النقالة وماركــــات الساعات الذهبية والماسية. استرجعت ذاكرة المعرض الوطــني وعشرات الصور، للحروب والملوك والنساء، وتمنّت أن تجد صورة لمدينة الناصرية، رجعت إلى صالة وليد ووقفته الطويلة أمام صورة ملكة سومرية.
          لطالما غارت من الصورة شبعاد، هذه الصورة التي كانت جواز سفره عبر الأماكن والطرقات ولصقها على صدره، رفض أن يراها شرطة مطار هيثرو، كي لا يتركوها تطلب اللجوء معه. في الغربة نال جواز سفر بريطانياً، وبقيت لصيقة صدره ، له وحده. نهضت من الفراش و حدثت نفسها في المرآة:
          - يا عابسة الوجه، لا أحد يتحدث معك أو يصل إليك.
          دخل عليها صابر ثملاً:
          - أنا من سيتحدث معك ويصلك (داعب رقبتها) ها أنت تجدين مَن يثيرك.
          - لا تثيرني الكلاب.
          ضربها على وجهها:
          - أتنعتينني بالكلب؟ طـُهرك المصطنع لا يعبر على صابر الذي بيده مفاتيح النساء.
          جرّها بقوة وأمطرها قـُبلاً، ثم طرحها على السرير، وكفرس عنيد صعب الترويض أفلتت من بين يديه. لحقها إلى الصالة حين هربت:
          - لن تنالي جائزة نوبل للطهر.
          ولحظة حاصرها بين الحائط وصــــــدره الضخم، ضربته بالمزهرية على رأسه، وهرعت ترتدي ملابسها. خرجت مسرعة، ثم تذكرت حقيبة يدها حيث وضعت فيها نقوداً أخذتها من شمس، وضعت الحقيبة على كتفها، وخرجت مسرعة، لم يخفها دمه الذي سال على وجهه، كان همّها الإفلات من قبضته.
          مشت نصف ساعة تاركة جسدها وروحها للتيه، لا تعرف أي اتجاه تقصد. وقفت تستطلع الحافلات، وحين وقفت الحافلة رقم (7) صعدت، وجدت كرسياً فارغاً قرب امرأة سمراء ذات شعر قصير ونظارة طبية، جلست قربها، لم تعرف ما إذا كانت الحافلة ذاهبة أم راجعة. فتحت حقيبة يدها واستخرجت منديلاً مسحت به عينيها الدامعتين، بادرتها المرأة قائلة:
          - الحياة يا ابنتي غالية وقصيرة، لا نضيّعها بالدموع.
          - ـ معك حق يا خالة، إنّ أيامي معدودات.
          ردّت عليها مبتسمة:
          - وغداً يومك الخامس.
          لم تنتبه لكلامها، كانت مشغولة بكيفية قضاء الليلة وغربتها. وقفت الحافلة، صعد ركاب ونزل مثلهم، وجدت المرأة تسألها:
          - لا تملكين مكانا تذهبين إليه أليس كذلك؟
          - وكيف عرفتِ يا خالة؟
          - أعرف.. ها قد وصلنا إلى (كوينزوي)؛ وبيتي قريب، وأعتقد أنك تفضلين المبيت مع امرأة لا مع رجل يعتدي عليك.
          - بالله عليك يا خالة هل أنت ساحرة، كيف تعرفين أشياء عني؟
          - لا عليك.
          وقدّمت نفسها إليه:
          - اسمي راوية.
          قاطعتها السمراء :
          - لا تسأليني عن اسمي، لأن اسمي مستعار ولا أعرف لي اسماً حقيقياً.
          - أعرف يا ابنتي، كما أعرف أن لا اسم لرفيقتك التي تنام مع رجل ، يحب أن يتعرّى أمام غانية تجلده بالسوط وتضربه بعنف حتى يشعر بلذة الفراش.
          - لكنها لم ترجع بعد، كيف عرفت أنها مع خنزير بهيئة رجل؟
          - وأعرف متى ستعودان لوليد.
          - أنت صديقة وليد إذاً.. لا بل أنت شبعاد، نعم إنك تشبهينها.
          - لا لستُ هي بل إحدى بناتها. هيا انزلي، لقد وصلنا.
          - نزلت مع السيدة فرحة بالصدفة الجميلة، مشت قربها كطائر مثقل الجناحين، جاهدت لكي تسأل، لكن السيدة قاطعتها:
          - أعرف ما يدور بخلدك، وكل ما تحملينه من أفكار كتبتُه مسبقاً، كما إني مَن خلط الألوان. تفضلي.
          أدارت مفتاح باب الشقة.. إنها شقة متواضعة لكنها تجمع صمت حقائبي وحقائب أصدقائي.
          توزّعت نظراتها بين جدران الشقة الضيقة والأريكة البسيطة، ثم اقتربت من مكتبة صغيرة رُصفت فيها كتب ومجلات عربية، طاولة صغيرة تتوسط الصالة وضعت عليها جريدة اليوم، وفنجان قهوة جفـّت بقاياها.
          حالما دخلت السيدة غرفتها، فتحت النافذة لتبديل هواء الغرفة، كان الشباك يطلّ على الشارع العام، فرأت المطاعم العربية والصينية لم تُغلق بعد. تذكرت أنها لم تسأل رفيقتها في ما إذا كانت جائعة، وخرجت تحمل بيدها ملاءة وسادة:
          - هنا ستنامين، فأنا لا أملك غير هذه الأريكة، حين نفتحها ستصبح سريراً.
          ثم استدارت:
          - لا بدّ أنك جائعة.
          - لا سيدتي، لست جائعة، وشكراً على كرمك.
          - إذاً كوب شاي مع فطيرة.
          دخلت إلى المطبخ المفتوح على الصالون:
          - يا ابنتي، ما يؤلمك هو عشقك لرجل لا يحبك.
          - آ..ه، أيتها الساحرة كيف عرفتِ أني أحبه؟ ثم ما هذا الاسم الذي ذكرتِه؟ من عيناء؟

          - اسمك، واسم رفيقتك ذكرى كما إني لست بساحرة، أنا فقط أرافق أبنائي وأحاورهم.
          - هل أبناؤك معكِ؟
          - بل أنا كاتبة والكتابة قدري، وأنا من فعل الكاتبة الحقيقية. وكيفما يجيء شيطان الكتابة إليها ترسم أقدارنا على الورق، هكذا رغبتْ. وكما صنعك وليد، صنعتني هي؛ لا بل صنعتنا كلنا، واسمك في روايتها هكذا، والعيناء هي واسعة العين في سواد.
          ابتهجت عيناء لاحتضان السيدة لها، وللألفة التي تولّدت بينهما، وشعرت ببصيص ضوء يبعدها عن خوفها من الاغتصاب. احتست الشاي على مهلها، مستأنسة بالأحاديث الجميلة، يشدها هدوء السيدة ووقارها، وكانت راوية تحاور روحها من الداخل. سمعتا صوت مطر يطرق بأناة على الشبابيك، لامست الحيرة قلبها، ماذا ستقول للسيدة وكيف ستشكرها على طيبتها وحسن تعاملها معها. أمام أفكارها كان الإفصاح عن ما يدور بخلدها يشوبه الخجل، خانتها عفوية الأسئلة ولعنة نشرة الأخبار.
          أغمضت السيدة عينيها، حالما فتحت التلفاز، هاربة من صور الأشلاء والدماء الملتصقة بالتراب وعلى الجدران. ثم راحتا تتابعان منظر الحزن المرسوم مسبقاً، وكمن تورّط بواقع حالك دمدمت، وعيناء تسمع وتنوح كطير مستفزّ، سمعت السيدة تتذمر:
          - الحرب دمّرت العراق، الحرب ومن ساهم فيها وشارك وخطط وتخاذل، كلهم لصوص يسرقون عنفوان العراقي. أية لعنة حلـّت على شعب العراق، أية لعنة، سُحقنا برحى قائد مجرم وحزب استخدم لصوصيته لامتصاص دمائنا وقوت الشعب ولقمة عيشه، وها هم يمرّون دون عقاب. مجرد تغيير الكراسي، والذين قبضوا الدولارات مازالوا يضحكون على ذقونهم، ونحن نترقب ماءً من وجوه صُفر.
          لم يعد ذلك الهدوء الذي رأته عيناء في وجه السيدة، يترجم وقارها، بل أصبحت كطير مشنوق من جناحيه، بدت كمن يكون بحاجة إلى أذرع تلفّ بها ضياع لحظة فلتت من زمامها. وقفت، ثم جلست جلسة مرتبك مهجور، وعادت لوقفتها ثانية. كانت تشعر باختناق، فنزعت جاكيتها المصنوع من الصوف المنسوج نسجاً ناعماً، فبدا كأنه من الحرير، ورغم هذا يزعجها. ثم واصلت قلقها، خلعت جوربيها السوداويين، دخلت الحمّام، وغسلت وجهها بماء بارد.
          عادت تلملم بعضها، وتسوّر نفسها بشيء مفقود. فوجدت عيناء قد أغلقت التلفاز، وجلست تنتظرها للخروج من توتر شاب لحظتهما. أمسكت بيد السيدة راوية:
          - على أن أجلب لك عصيراً، هل في الثلاجة عصير؟
          - اطمئني يا ابنتي أنا بخير، ولا بدّ أن نحصن أنفسنا من واقع عفن، ولكن أخبريني هل سمعت أن الأرواح المعذبة تتلاقى؟
          - أجل، وكم أنا سعيدة بلقاء مثل هذا. فأنت تقطرين أمومة، ولطالما حلمتُ أن تكون لي أم.
          - والله لم أذكر أني مررتُ بحلمك، كما لم تدوّنه الروائية على سطر، يبدو أنك تمرّدت علينا.
          لم تكن عيناء في حالة خسارة، فبتعرّفها على راوية ملكت خيطاً من الحياة المفقودة، وسيكون لها من يسمعها أو يقودها باتجاه أسئلتها، ويردّ ولو على بعــــض جوانب التساؤل؛ لمـــــاذا اختير لها أن تكون مومساً بثوب
          عذرية؟ ولماذا تركوها لرجل بيد واحدة؟ واللوحة الثالثة والخمسون، أهي اكتمال معرضه أم خسرانه؟ مَن دفعها باتجاه الحب، هذه السيدة أم وليد، أم الروائية الحقيقية؟ ولماذا تلعب الكاتبة بمصائرنا وتضعنا في مكان لسنا في حاجته، ثم تنقلنا إلى مكان آخر؟ أنحن مخيّرون أم مسيّرون؟ ومن أعطاها الحق بذلك؟. وذكرى، أهي شمس أم ذكرى؟ حتى أسماؤنا لا خيار لنا فيها، مَن نحن إذاً؟ وصابر الرجل الرخام هل مات أم أفاق من الصدمة؟
          في بيت صابر كان يعذّبها الصدق والشرف، وفي بيت وليد عذبها الحب وعذريتها والغيرة، في بيت الأثرياء لم تجد مكاناً لها. أسئلة كثيرة تصدعها، بينما راوية تراقبها وتعرف سرّ اضطرابها، تعرف أنّ لعيناء رغبةً في البقاء معها كل أيامها الباقية وستعطيها الفرصة لتعلن عن رغبتها، كما تعرف أن حياء عيناء يمنعها.

          تعليق

          • وفاء عبدالرزاق
            عضو الملتقى
            • 30-07-2008
            • 447

            #35
            4
            لفرط قلق عيناء، راحت تنقر بأظافر يدها على طاولة خشبية قرب الأريكة، وعيناها مسمّرتان على صورة معلقة على الجدار. ولمعرفة تفاصيل أكثر عن صاحبتها قرّرت أن تكسر حصار الصمت:
            - تبدين صبيّة في الصورة، لا بدّ أنك كنتِ في الثلاثين؟
            - بل هي قبل أربع سنوات، وفي سنتي الأربعين.
            - لكن..
            - أعرف ما تريدين قوله، إنه فعل الزمن العنكبوت.
            - من فضلك سيدتي، نسمع إشاعات تقول إنّ لدى صدام ممرات سرية في قصوره، هل هذا صحيح؟
            - أبداً، لقد دخل الأمريكان كل قصوره، ولم يجدوا غير معالم البذخ وصوره
            المتسمرة على الجدران.
            - من سيكون الرئيس القادم؟
            - الله أعلم والسيادة العليا، من يبصم بالعشرة ستكون له الأولوية.
            - هل لي أن أسألك سؤالاً شخصياً؟
            - سلي ما تشائين.
            - تقولين إنك كاتبة، هذا يعني أن بمقدورك العيش بوضع أفضل مما أنت عليه.
            - الأدب، الشاطئ الوحيد الذي كلما وصلتِ إليه أبعدكِ عنه لتبقي لاهثة وراءه، وعندما تقتربين منه يكرمك بفقره. ولأني أكتب بخمر القلب وألتصق بالنفس الخرساء، أرسم ملامح الروح، والذي يكتب بطريقتي لا يساوم. وما أقذر الساحة الثقافية، لا تتخيلين بشاعتها.
            - الحياة أخذ وعطاء سيدتي.
            - نعم أنا معك، لكن بكم كيلو الشرف ومن يشتري؟
            - هذه جريمة، وتهمة لا تعمم على الجميع.
            -الأبشع يا ابنتي أنّ مَن يتبنّون الثقافة ويدافعون عنها هم سبب البليّـة.
            - عذركِ لسؤال قد أحرجك فيه: هل لديك زوج وأولاد؟ أراك تعيشين وحدك.
            - كان لي زوج، ورأيته البارحة في المنام ينزع عني ثيابي الممزقة، يخيطها ثم يمزقها ثانية، بعد أن يُلبسني إياها ويمرّر يديه على جسدي كله، وكان لي ابن أيضاً، شجرة اقتلعت من جذورها، هل سمعت بمثل ِمن خرج ولم يعُـد؟
            - فهمت.. فهمت.
            -لقد أطلقت على العراق اسم جبّار بعد أن عرفت لماذا يكثر في بلدنا اسم كهذا، ولو لم يكن هذا الشعب جباراً لما تحمّل الجبابرة على مرّ العصور، وخاصة رئيسنا الأخير، خليط من (ستالين وهتلر وجنكيز خان) ومصاصي الدماء.
            - أيحق لكل فرد أن يطلب رئيسه القادم؟
            - اسمعي يا غاليتي، هناك مقولة لـ (ستالين)؛؛ (السؤال المهم؛ ليس من يحق له التصويت، بل من يجمع الأصوات).
            - أنا شخصيا لا أثق بالسواد والذين يعتمرون العمائم السود ، الأيام كفيلة بان تريك صدق ما أخافه ، والخوف الحقيقي يا ابنتي ليس ممن يحكم ومن يأتي بعده بل من الذين يحكمون العراق باسم من ينصبوهم علينا حكاما ً، وأعداء العراق كثيرون والطامعون أكثر ، وإذا عرض التلفاز عشرات المقابر الجماعية سيعرض المئات في السنين القادمة. والآن دعينا من السياسة، ولنطمئن على ذكرى. أعتقد أنّ لديك رقم هاتفها الجوال، قومي يا ابنتي واتصلي بها.. ولو أنها..
            - وقفت مرتبكة من توجّس السيدة، وقاطعتها قائلة:
            - ولو ماذا؟. هل أصابها مكروه، أتعرفين ما يجري لها الآن؟
            - كادت راوية أن تردّ بالإيجاب، لولا أنها تداركت أمرها:
            - لا، لا علم لي بما يجري. اتصلي فقط، كما أني أريد الاستحمام.
            - سيدة راوية ، اعرف ان الكتاب يتنبئون وأخشى يتحقق ما تخافينه .
            جاءت فكرة الحمّام في الوقت المناسب، فدخلت تاركة عيناء في الصالة. وحالمــــا شاهدتها تدير قرص التلفـــون ابتسمت، وواصلت عدم اكتراثها بما يدور، خاصة وأنها كررت محاولاتها والهاتف لا يجيب، ووجدت نفسها تلقي اللوم على صابر وصحبته وعلى وليد أيضا.
            حالما تراءت لها صورة ذكرى تحت رجل يضاجعها، لعنت الشيطان وتعوّذت من كل شيطان رجيم؛. دفعها القلق على ذكرى لإعادة الكرّة، فقامت متوترة، وكررت الأرقام ذاتها، صمتت لحظة، وتسمّرت في مكانها.. خجلت من ما سمعته من فحيح وشخير وسباب. فقد كانت ذكرى في وضع تكره فيه من يقاطعها، ففتحت الهاتف ولم تغلقه. وظلّ صوتها يخترق عيناء وتساؤلها:
            - ماذا لو سمعت السيدة؟
            خرجت السيدة من الحمام تفرك شعرها المبلول بمنشفة بيضاء، وبدل أن تسألها عن ذكرى طلبت منها الخلود إلى النوم. وكعارفة بالخبايا، فتحت دولاب ملابسها، واستخرجت منه قميص نوم وقدّمته لها:
            - أنت بحاجة إلى النوم.
            دخلت فراشها بعد أن جدلت شعرها جديلة واحدة، وتظاهرت بنعاس مفاجئ.
            كانت الغرفة بضوئها الخافت تثير النعاس، فقررت عيناء أن تخلص نفســها من شوائب اليوم، وأن تترك لأهدابها حرية العناق. ورغم فتور أجفانها لاحظت تقـلـّب السيدة في الفراش، كأنها تتقلـّب بين سكاكين، ثمة ما يفصلهــا عن فرحها أو يبعدها عن مقصــودها، فهي كلما غمض لها جفن تحركت متقلبــة على الجانب الآخر، منقادة إلى شيء بداخلها يفككها ويدمرها، ثم يعيد ترميم أوصالها، ثم يدفعها ثانية باتجاه التدمير.
            قررت أن تقطع عليها سلسلة لا تربطها بإضاءة غير الوهم واستنارته:
            - سيدة راوية، هل تخاف السكين؟
            - ردت عليها وعيناها مسمّرتان في السقف:
            - بل أنا من أسألك كيف يصبح الحلم عدوّاً؟ وهل له علاقة تآمرية مع الواقع؟ ومن يكون البادئ؟
            وواصلت الحديث:
            -الليل يا ابنتي يصهرنا بعناد ويفتّتنا، بينما نحن نذوب تحت سذاجة القلب، آمالنا كثبان رملية من أول رعشة للهواء تلاحق بعضها هاربة من التصاقها.
            في سكرة النوم والصحو أجابت عيناء:
            - كم أنت جميلة ورقيقة يا خالة، تصبحين على خير.
            - أجابتها راوية:
            - لن أكون جميلة إلا إذا عادت سمائي لي.
            - ألم تعُـد بعد؟
            - بل عادت، ولكن مشوّشة كما لو كانت سفينة سوداء تغرق في قلوبنا.
            ***

            عندما سألت راوية عن سرّ الحزن الدفين في عيني (ود)؛ حين تعرّفت عليها لأول مرة في حديقة (هايد بارك) ، أجابتها دون أن تكلف نفسها عناء الكتمان. حين تحدثت كان الغضب ينقضّ عليها انقضاض الصاعقة، فردت عليها بنبرة لا تخلو من التهكم، ولشدة ارتعاش الحزن التي تخنق صوتها، سحبت نفَساً عميقاً واقتربت من راوية:
            - خالة لقد رضعت الحزن، بل نشأت معه.
            وحالما رأت اهتمام راوية بمعرفة التفاصيل، والتي احتوتها بأمومة الصوت واللمسة، شعرت بأنها تبحث عن ذاتها قرب امرأة لا تعرفها، أو قد تصل معها إلى النهر الذي تريد أن تغرف منه؛ فقط للارتواء أو الاغتسال من قذرات حوّلت أمانيها إلى فوضى، فما الذي تبوح به وما الذي تكتمه؟
            - أتخبرها عن قسوة وحشية جعلتها تركن الى زاوية من زوايا الحياة؟ أنها امرأة لها خطوات تتقارب على افتراق؟
            - فانطلقت تشد بعضها على بعض، واقتربت من السيدة حتى كادت تلتصق بها :
            - لقد أصابني الخسران، فكيف لي أن أسرد خسارتي؟
            - كانت السيدة تبغي الاحتفاظ بقليل من زرقة السماء، حين كوّرت بصرها لاكتشاف زرقة تهرب من بين غيمات. ثم كفّت عن محاولتها وقت مرور ثلاث نسوة يرتدين العباءات الخليجية، اكتفت بتحرش دمعة بعيني ود؛ وبنظرة من طفل تدفعه أمه في عربة، ظلّلت غرته الشقراء عينيه، غادرتها الطفولة خاطفة.
            استرجعت جلستها الوقور على المسطبة، كان الهواء ينطوي على أجنحة الطيور والعصافير، استبعدت توتراً اعتراها، خضخضت صوتها وجعلته يختصر الكلام:
            - يا ابنتي كلنا ضحايا الخسران. هل حصل أن قاتلك قلبك، أن نهبك جسدك؟
            اعتراهما صمت للحظات، ثم استطردت السيدة:
            - على شمعة الظلمة تنطوي خسارتنا الشخصية؛ احكي، احكي لي.. وأريحي نفسك.

            تعليق

            • وفاء عبدالرزاق
              عضو الملتقى
              • 30-07-2008
              • 447

              #36
              5
              كانت الانفعالات كمفاتيح تطرق أبواب التذكر، تصبب العرق من جبهة ود، رغم برودة الطقس المنعشة والهواء العابث بشعرها، كانت تنقطع وتعالج توترها بشجاعة تعيد بها ما فقدته من معانٍ وكلمات معبّرة، كما كانت تخونها شجاعتها كثيراً.
              ـ زوّجني أخي وأنا في السادسة عشرة، نزولاً عند رغبة زوجته التي جاهدت للتخلـّص مني بحجة الحصار الاقتصادي على العراق وضيق اليد والعوز، ولأنهم أسرة كبيرة مؤلفة من أخي وزوجته وستة أولاد، فالخلاص منى أصبح أمراً لازماً.
              ساعتها فقدت ذاتي وشربت مرض الأيام، بعد أن شربت اليتم. فقد مات والدي وأنا في السنة الثانية، كما أني ابنة الزوجة الثانية، وأخي من أبي هو الذي تولـّي رعايتي حتى زوّجني.
              في أسرتي الجديدة المكونة من زوجي البالغ أربعة وخمســـين عاماً، وأخته التي تصغره بسنتين ولم تتزوج، وأمه البدينة، عشت كما كنت في بيت أخي محاصرة بين الأوامر والتوبيخ وجهد الأعمال المنزلية، وفي الليل جهد الفراش.
              جسد قتيل وروح مشنوقة، تحت ثقل رجل كل همّـه متعته وتكبّره علي.
              لم أعرف من أي عجينة صُنع زوجي، كان يصنع مني قوساً يصوبني به، فأتيه بين روح معذّبة وجسد لا مشاعر فيه. إذا سمع لي صوتاً يخنقه، فكيف إذا لم أملك صوتي يوماً؟ إنه مجرد هيكل آدمي، أو جرذ ذليل قرب أمه.
              وذات يوم أزحت النقاب عن وجهي، وجمعت أحبالي الصوتية كلها، وصرخت.. صرخت بجنون وبشكل هستيري متواصل، امرأة ما تزال قريبة من سن المراهقة، مخذولة في صوتها وإنسانيتها، لذا جاءت صرختي مجنونة. لم أرَ أحداً أمامي، ولم أسمع صوتاً سوى صوت داخلي.
              فقدت السيطرة على نفسي، كسّرت كل ما وجدته أمامي، وجدتني على قارعة الطريق بثوب النوم. سمعت أمه تناديه:
              - خُذها إلى أهلها ولا تعُد بها أبداً، طلـّقها وأنا أزوّجك أجمل منها وأحسن منها.
              عدت وحيدة إلى غرفة صغيرة شحيحة الملاءات والأغطية، ليلتها ضربني أخي، وعضّتني زوجته، حتى تورّم جسدي وازرق، وفي الصباح عدت إلى وضعي السابق من كنس وتنظيف وطبخ ورعاية لأولاد أخي. كل ما حولي كان قاسياً، الأهل، الجيران، الشارع، الحصار الاقتصادي واليتم ونظرات الجارات وهمساتهن وهنّ يعلكن عِرضي وشرفي. قالت إحداهن مرة:
              - ستر عليها لمدة، احتراماً لأخيها، ثم أعادها، إنه رجل شريف.
              وقالت أخرى:
              - نعم، هكذا يتصرّف ابن الأصول.
              اعتدت البكاء في وحدتي، ولا أحد يربّت على كتفي أو يمسح دمعتي، فقد قرّرت أن أشرب الدموع كي لا أعطي أحداً فرصة الشماتة بي. وكم تمنيت أن تكون أمي قريبة منذ أن بلغت العاشرة، إذ كنت أسمع إحدى البنات في مثل عمري وقت فاجأتهن الدورة الشهرية تروي أنها حين رمت ثوبها المبقّع بالدم في حضن أمها، قبّلتها وعانقتها وقالت لها إنها صارت ناضجة، ووضعت في يديها قبضتين من الرز ومثلهما من السكر، وأعطتها لإحدى الفقيرات.
              كنتُ أشبع جوع أذني بالاستماع لأحاديثهن، وأتمنى أن أعمل مثلهن، لكن الخوف جعلني أنزوي في غرفتي، وثيابي المبقعة بالدم كانت تهزأ مني يوم بلغت. ووجدتُني موزعة بين ضفتين لا تلتقيان، لجأت إلى الأرصفة وطويت جسدي النحيل بملاءة ونمت. عندما بدأ صدري يتكور، سمعت أخي يقول لزوجته؛ لا بدّ من تزويجها، البنت تكبر في بيت زوجها لا في بيت أهلها.
              جلستُ في الليالي أخاطب ظلـّي الذي أخذ حجماً أكبر مني: -- كن قوياً لتعدّ نفسك بنفسك.
              فيهزّ الظل رأسه مؤيداً، وتصبح أرضي هي سمائي، أبتعد وأقترب فأجد نفسي في بئر سحيقة.
              لذا فرحت بأول عريــــس جاء لخطبتي، لم تكن أمي على حافة البئر لتنقذني،
              ولم تكن أضلاعي قاسية بعد، كنت لا أعرف غير الخوف الذي جعلني أرجو أن يكون الزواج منقذي.
              في بيت غريب علي، وفي ليلة عرسي شربت قهوتي مُرّة، اغتصبني الوحش سبع مرات، شاهدت حبلي السرّي يلتف حولي ويرميني في البئر. لم أدافع عن نفسي، كنت كقطعة نقود معدنية، باردة وثمينة ومستسلمة له، وهو يمزّقني بسعادة وتلذّذ. لم أدافع عن طفلة لم تكتمل سنتها السادسة عشرة، كما لم أجد لها شبراً نظيفاً تقف عليه. امتصّ رحيق أنوثتي وتركني يعصرني ريق الحياة المرّ، لم يترك لي حلماً ولو بحجم الظفر، صباحاً أدخل ظلامي مع أخواته الأربع وأمه السمينة، وليلاً أدخل باب هتكي.
              في بيت أخي حين عدت إليه وأنا امرأة، أصبح خبزي جائعاً وأنيني أكثر جوعاً. لأول مرة أتعرّف على جسدي وأجده ناضجاً، أين كنت عنه كل هذا الوقت؟ في المرآة كان جسدي يصرخ:
              - أحسن رجل يتمنّاك.
              أداعبه ليهدأ، لكنه لم يهدأ ولم يترك لي مجالاً للاختيار. صرت أخرج متعمّدة لشراء حاجيات زوجة أخي التي أثقلها الحمل السابع، وأتشبّع بالعيون والأصوات المشبّعة بالغزل والإعجاب، بصدري وزندي وشعري ومؤخرتي المتكوّرة.
              رحت أجلس لساعات قرب النافذة، ومن يوم ليوم تعلمت كيف أصطاد فريستي. وذات وقت وأنا في السوق أتبضّع شعرت برجل يمشي إثري، وسمعت كلماته تدلـلني، والتي لم أسمع مثلها من قبل ولم أتعوّد على إطراء يختصر سرابي.
              كان للحياة دورها، ولزوجي وأخي وزوجته نواقيس تدقّ في رأسي. لذا قررت النفاذ بجلدي، تجاوبت معه، بل جئت مسرعة من أول دعوة. إنه أحد رجال البدو الذين حبتهم بركة الرئيس بالثراء المفاجئ، عطايا مرتزقة كبار لصغار المرتزقة. قال لي إن لديه بيتاً في بلد عربي وسيأخذني هناك تحسباً من عيون زوجته، عيون جيّرتها لحسابها. مضيت خلفه أبحث عن خلاصي، واعدته سراً دون علم أحد، وهربت معه.
              مرة أخرى تفلت مني المراهقة، أرقص في الثراء نصف فراشة ونصف حجر، ومن ظلام لأخيه. لم يسلمني أي مال في يدي، لكنه كان كريماً معي، يأخذني إلى السوق وأختار ما أريد، كل ما أريد يكون بين يدي. لم تغوِني الثياب، بل رحت أكتنز لساعة عجفاء بزمن أشد عجفاً وأثقل، فاشتريت أكثر القلائد وزناً وأخلصها ذهباً، وأغلى الساعات ثمناً. لم يعقد على كزوجة شرعية، بل تركني كشجرة مثمرة يهزّ ثمرها متى شاء، ويهيئ شراباً لسيده الذي يهاتفه من العراق.
              هو يأكل وأنا أشتري الأساور والخواتم، يهتز جذعي عاشرة ومائة لسادة أعلى رتبة من سادتها الأوائل، وعدد الساعات في حقيبتي يتضخم. هزّ الجذع من صنع الرجال وشهواتهم، وهم من أطلق على من تهزّ وسطها تحت شخيرهم اسم الزانية، ليستمتعوا بطعم الخيانة خارج عش الزوجية.
              في ذاك البلد أضعت طريق الرجوع، خلعتُ صبيّة كنتُها، وارتديت امرأة أخرى شارف عمرها على العشرين، جسدها اختاره القدر ليكون ضحية سلطة عاهرة وزوج وأخ أكثر عهراً من سلطته. الشجرة الوحيدة في الشارع تتعرّض للنهب، وبعدد أشجار العراق وتموره نُهِبت باطمئنان خلف زجاج النوافذ.
              تغيّرت طباعي، أصبحت شرسة لا أخاف أحداً، حاضري وغدي وأمسي كله فراش. كل واحد يعبر بوابات القصر يعطيني اسماً، كل حسب نظرته لجسدي، وتتفاوت العطايا حسب تفاوت الثراء، فمن وليمة إلى وليمة ومن بلد إلى بلد، ومن حقيبة إلى حقيبة، البلد في حصار. وإثر حصارهم قررت الهرب مع رجل من صنفهم، هو الذي أخبرني ساعة سكره أن له فندقاً وقصراً وأموالاً لا تحصى في لندن، كما أن هناك كثيراً من نساء لا يملكن غير شرف المال يتعرضن له ويشاركنه في أعماله التجارية، وأنه يتخفى خلف أسمائهن هروباً من الضرائب.
              دون علم صاحبنا، هربنا بالموعد الذي قررته شركة الطيران.
              من الغريب أني في لندن لم أحنّ لأحد، ولم أتذكر أحداً. فقط كنت كالنمرة بين رجال متنكرين بأسماء مستعارة وعصابات بجوازات مزيفة وأموال مهرّبة بأسماء شركات وهمية. طلبت منه أن يعقد على، والأغرب أنه وافق بسرعة قائلاً:
              - أحب المضاجعة شرعية.
              ضحكت بصوت اهتزّت عليه الستائر والنوافذ، سمعته يتردد على الجدران ويتجول بين أثاث البيت الفاخرة، قلت له:-مضاجعة شرعية، ونومك غير الشرعي معي ماذا تسميه؟
              قال لي:
              - تهيئة للشرعية.
              - قررت الانتقام منه، وعوضاً عن ثلاثة رجال خذلوني بشرعية التفسخ وشرعية نخاسة تلقح بعضها، ولكن بتريث. فبعد حصولي على إقامة دائمة، القانون هنا يحميني، فأنا في بلد القانون ولستُ في بلد انتهاك القوانين؛ وقفت قبالته متحدية: --- النهر والصحراء لا يلتقيان.
              ردّ بكل برود:
              - أنت النهر وأنا الصحراء. هــ.. هـ..
              قلت:- بل أنا الاثنان. الصحراء يجب أن أنزعها كما أنزع ثوبي هذا، وخلعت ثوبي أمامه.
              قال لي:
              -ما أجمل النهر عارياً، نهرٌ بض ممتلئ.
              وراح يعضني في كل مكان:
              - أيها النهر، أيها النهر، تعال لأضاجعك فقد ضاجعت الأرض قبلك، عما قريب ستشيخ وأرميك للكلاب.
              حاولت الإفلات من قبضته:
              - هل تعتقد أنكم باقون حتى يشيخ نهري؟ إنّ غداً لناظره قريب.
              - تعمّداً بتُّ أخلق المشاجرات وأستفزّه ليضربني. لكنه يجلدني ببروده، ويتكرر مشهد البرود كلما عادت المشاجرة. كنت أسرق كل ما تقع عليه عيني وما أجد له وزناً وثمناً، وأخبّئه عند إحدى الخادمات لتأخذه إلى دارها بعد ذلك. خادمة إثيوبية وشابة مثلي، تعاطفــــــت معي حين عرفت بحكايتي، وهي التي علـّمتني حقوقي وفتحت عينيّ على حيَل الحياة؛ ورحنا ننفذ ما نخططه معاً.
              حدث ما اتفقنا عليه؛ لقد اتصلت به الخادمة ذات مرة في مكتبه وأخبرته أني مع شخص آخر في غرفته، فشكرها على فعلتها.
              ولم تمض غير لحظات قبل حضوره إلى البيت، حيث اتفقتُ معها أن نظهر كأننا نحاول المداراة أمامه، وأن تتأسف له وأنها أخطأت بالتبليغ، وتطرق رأسها رافضة أن تريني وجهها، وإشارة منها إلى أنها محقـة لكنها تتراجع خوفاً منى.
              دخل مهرولاً نحو غرفة نومي، فوجدني أعدّل زينتي وأرشّ عطري، وكان الشرر يتطاير من عينيه، لم أنظر إليه كشخص محترم، بل رحت أرمقه بطرف عيني، متذكرة قفر الحياة التي عشتها، وفتحت شهيتي للمشاجرة.
              منذ تلك اللحظة وأنا أشمّ العفونة كلما التقيت برجل، لعنت أخي الذي ضمني إلى مزابل الحياة. وأخذت أحدثه بلهجة حادة؛ لماذا تنظر إلى بهذه النظرة الغاضبة؟. وتمتمت؛ أنا لا أحبك، رافعة صوتي قليلاً بحيث يسمعنى.
              ـ ماذا قلتِ؟
              ـ لم أقل شيئاً.
              ـ بل قلتِ لا أحبك.
              تحبين مَن إذاً أيتها العاهرة؟ ومَن كان على سريري معك؟.
              ـ أياً كان، هو أشرف منك.
              وقفت وقفــــــة العارف بنفسه، ودفعته إلى الحائط، فانهال على ضرباً حتى أدماني. اتصلت الخادمة بالشرطة، التي أتت لتقبض عليه بالجرم المشهود. وشرحتُ لهم أنه مجنون يضربني كل ليلة قبل أن ينام معي، لذا قررت الانفصال عنه، ولم أعد أحتمل؛ وأيّـدتني الخادمة بأنها شاهدة على جرائمه.
              من ساعتها غيّرت نمط حياتي، وخلعت عني رجسهم لأعود إلى إنسانيتي. أقرّت لي المحكمة بشقة استقطعوها من أملاكه، رغم توقعاتي الخائبة بنيل أكثر من شقة. وبدلاً من حصولي على نصف أمواله وأملاكه، حصلت على الشقة وقليل من المال، وما أزال أجهل أين ذهبت الأموال والأملاك، فابن الكلب سجل تصريحاً بامتلاك شقتين فقط وبعض المال، أعطتني المحكمة نصفهما، وكانت الأملاك والأموال الأخرى كلها مسجلة بغير اسمه، تحسباً لمثل ما حصل وغيره. وكما طرد الخادمة، طردني مع شقته*

              تعليق

              • وفاء عبدالرزاق
                عضو الملتقى
                • 30-07-2008
                • 447

                #37
                6
                أفاقت عيناء باكراً، فتحت ذراعيها على آخرهما، ومسحت عنها غشاوة النعاس. لاحظت أن السيدة بالكاد تجرجر خيط النوم إلى جفنيها، محدقة للاشيء في سقف الغرفة، كأنها منغلقة على ذاتها.
                قرأت عيناء في جو الغرفة الهادئ ضفة جديدة، ومساحة للطمأنينة. شعرت أنها بحاجة إلى الكلام، وتشكلت ذكريات وليد كحبات العنب الرطبة. ذكريات وصمت، أصباغ وثرثرة، أزرار على فستان أحمر، طفولة. وحركاته، معرضه وخلاصه، الارتياح والدفء إلى جواره، إطلاقه شرارات الإبداع، إلغاؤه لها، كل خطوة يخطوها، وخفة دمه؛ الحاضر والماضي يأخذان شكل الانتظار، وقد تراكمت الأحداث والعناصر والموضوعات والصور.
                أدارت عينيها في أرجاء المكان، صالة مفتوحة على ركن اتخذ شكل غرفة، وفسحة صُفّت فيها أواني المطبخ وغسالة صغيرة وطباخ صغير، فتشكلت الفسحة على هيئة مطبخ. انتبهت لصورة وضعتها راوية قرب السرير، رجل وسيم يقف قربها واضعاً يديه على كتفها بحنان، وراوية جالسة على كرسي خشبي في حضنها طفل صغير، ولها وجه دمّرته الخيبة وأحزان العطش.
                نهضت عن الأريكة والشمس تنعكس عن ذكرياتها، تطلعت في الصورة ملياً، أعادتها إلى مكانها واستدارت لتدخل الحمام. وكمن استذكر شيئاً، رجعت إلى الصورة ثانية، حاولت مسحها وتنظيفها، لا بدّ أن السيدة تنظفها في اليوم عشرات المرات. الولد يشبه السيدة، الأنف الصغير نفسه، ونفس الشعر واستدارة الوجه، سبحان الله فالق البذرة. دخلت الحمام وأخذت دشاً دافئاً، مسحت وجهها وشعرها بالفوطة، توقفت قليلاً، ثم واصلت حركاتها تحاول كشف سرّ السيدة.
                كانت تتلمس موسيقاها من الداخل، إنسانة مثقفة وقارئة جيدة، هذا واضح من مكتبتها ومنطقها، اللون الفضي على شعرها زادها وقاراً رغم أن وقته لم يحن، سلوكها، تفاصيل وجهها، مشيتها وابتسامتها، تفردها بأنوثة ذات عمق خاص بها وحدها.
                أعدت عيناء كوبين من الشاي، وجلست قرب صورة امرأة تحبسها جدران متقاربة، تمّ اعتبارها شقة، لو قارنت بينها وبين ببيوت العراق لما زادت عن اعتبارها ركناً في مطبخ. شدّها عنوان كتاب تناولته من المكتبة وجلست لتقرأ.
                أخذت تتصفح الكتاب بهدوء، خوفاً على غفوة خطفتها راوية وتمـدّدت معها هاربة من ثقل شيء سهّرها حتى الصباح. رشفت من الفنجان، سقطت قطرة منه .
                على صحائفه
                غرق الفجر ومات
                في غبار الصلوات
                لكن في التخمين
                في خطرات البال
                يصعد من آبار الطين
                وجه الأطفال.
                كم تحب السيدة هذا الشاعر، أرجعت الكتاب إلى مكانه، ثم أعادته لتقرأ آخر السطور منه؛ (هل الحب وحده مكان لأنانية الموت؛ وماذا أسمّيك يا موت)؟
                راقت لها التساؤلات، أعادت الكتاب إلى مكانه، رأت كتباً كثيرة للشاعر نفسه. المجموعتان الشعريتان وكتابان باللون الأسود والرصاصي (أمس المكان الآن)؛ كتاب الحصار، أول الجسد آخر البحر، تنبأ أيها الأعمى، الثابت والمتحول بأربعة أجزاء، أغاني مهيار الدمشقي. فتحت كتاب (أول الجسد آخر البحر).
                لا يتوقف جسدها عن تغيير حدوده وتوسيعها
                لا يقين لها إلا في نرد الحبّ.
                في هذه اللحظة أفاقت السيدة، أبعدت عنها نوماً لم تقبض عليه جيداً:
                - عمت صباحاً يا عيناء.
                - صباحك بألف خير، عيناك متورّمتان سيدتي؟
                - لم أنم البارحة.
                - ما الذي أرّقك؟
                - وجه امرأة.
                - أتراه وجهي؟
                - الوجوه كثيرة بكثرة المآسي.
                - رفعت عيناء صوتها لتسمعه السيدة من خلال الدش:
                - أتحبين أدونيس إلى هذا الحد؟
                - جاء الصوت مخفيا هادئا .
                - إنه عالمي، أركن إليه في فرحي ووجعي، إنه شاعري المفضل؛ اسمعي يا عيناء:
                - نعم.
                - هذا الشاعر نبي عصره، افتحي التلفاز من فضلك، نريد أن نعرف أخبار الدنيا.
                المذيع في النشرة الإخبارية:
                - في الساعة السابعة من صباح اليوم، انفجرت سيارة مفخخة قرب مدرسة للأطفال راح ضحيتها عشرة أطفال وثلاث نساء ورجلان.
                - تناثر الماء من شعرها، فقد خرجت مسرعة وأغلقت التلفاز .
                - ما أقبح رسالة الصباح. يا إله الأطفال، جاءتك أفضل هدية ترفرف بنقائها.
                سرى في عمودها الفقري برد طاعن، وهاجس خضّها ورجّها رجاً. دارت حول نفسها محمومة، تخلق افتراضات لا وجود لها:
                - ماذا لو انقلبت الدنيا الآن؟
                أجابتها عيناء:
                - إنها مقلوبة. وها هو الله يرينا الآخرة بالتقسيط وينذرنا بدنوّ الساعة، لكن مَن يتعظ؟
                - لفت شعرها إلى الخلف، وكضفة بلا قرار جاهدت لتجعل عيناء مبتسمة، تصنّعت الابتسام:
                - ها، قولي لي أين تحبين الذهاب؟ هل ترغبين بزيارة المواقع التي أخذك إليها صابر مع ذكرى؟ أظنك لم ترغبي في سوهو، أعتقد أنه حدثك عن كولن ولسن ورواية (ضياع في سوهو)؟
                - يا سيدتي كلٌ له ضياعه وسوهوه، فأنا ضعت مع وليد.
                - أجابتها السيدة :
                - وأنا ضعت في الحياة.
                - صحيح واعذريني لتطفلي، يبدو أنك تحملين على أكتافك حطام الدنيا، فما سرّ ابتسامتك الحزينة؟ ومن الطفل الذي في حضنك في الصورة؟ إن كان ابنك فأين هو الآن؟
                - على هونك، كيف أجيب على أسئلتك دفعة واحدة؟
                فرّ قلب السيدة من مكانه، اقتربت منها عيناء محدقة في عينيها:
                - تبدوان أحسن الآن.
                - من؟
                - عيناكِ، ألا تخبرينني عن المرأة التي أرّقتك طوال الليل؟
                - الليلة سأقصّ عليك حكايتها، هذا إذا رغبت أن يغادرك النوم.
                - وأحبّ أن أسمع عنك أيضاً، اذا سمحت بذلك سيدة راوية .
                فتحت الثلاجة، وتناولت منها تفاحة، راحت تقضمها بشهية، والسيدة تخاطبها قائلة:
                - البحث عن مصداقية نشرات الأخبار في المحطات العربية خطوة محصورة بين اتجاهين، قنوات تزوّر الحقائق بقدر عدد الدولارات المدفوعة، وقنوات تقودها نعرة طائفية، ونحن عاجزون حيال ما يدور حولنا.
                تذكرت ذكرى، وطلبت من عيناء الاتصال بها وإخبارها عن مكانها، وإلا أصابها القلق، فأجابتها :-
                - مازال الوقت مبكراً، فبعد سهرتها الماجنة ستصحو الساعة الثانية أو الثالثة ظهراً.
                أرادت السيدة أن تمتحن رغبتها:
                - هل أنت راغبة في العودة إلى بيت صابر؟
                - أعوذ بالله، لن أرجع حتى أكمل عدّتي في بيتك، أبداً.. من بيتك إلى بيت وليد.
                - عدّتك، هل أنت مطلّقة؟
                - أقصد مدتي خارج الإطار، تريدين التوضيح أكثر؟
                - شكراً أنا أعرف التفاصيل.
                ارتدي ملابسك لنتجوّل قليلاً، أرغب في شراء جريدة وقراءتها في مقهى قريب.

                تعليق

                • وفاء عبدالرزاق
                  عضو الملتقى
                  • 30-07-2008
                  • 447

                  #38
                  7
                  في الطريق، غيّرت عيناء رأيها ورغبت في تواصل السير، رغم ما قالته السيدة عن تصفّح الجريدة على مهل في مقهى، بقيت تتصفح العناوين الرئيسية كشخص هارب من إشارات إضاءة العبور، تقرأ عنواناً وتترك ثلاثة، المشي بحركات روتينية، تقود جسداً لا يتجرأ في تحديد اتجاه، أي اتجاه فيه ما يحوّل الغياب الى منعطف محدد، بعيداً عن خارطة الغربة ووقاحة انتظار مشئوم.
                  بعض الجُمل لا تعني لها شيئاً، لكنها كانت تطيل الوقوف أمام جملة واهية أو شيء يُفلت من حبل الكلمات التي تلتف عليها. بدأت من آخر صفحة أهملت اشتعال قلبها في زاوية الأبراج. برج الدلو، تعرف مسبقاً أن صاحبه غير محظوظ، وأنه عاطفي وذو شأن. وعلى حذر من خوفها قلبت الجريدة إلى الصفحة الأولى، كان الموت بين سطورها وعلى حبرها.
                  مدّت عيناء رقبتها، وأربعة أقدام تقود امرأتين إلى مقطوعة غنائية دون عنوان، عزف ثنائي، استغراب عيناء من حماية دولة عربية لمرؤوسين سابقين في الدولة.

                  ـ لا تستغربي، حين قلت البعثيين ،أقصد من تلوثوا بدمائنا الشريفة وليس كل البعثيين..هم الآن يتجوّلون بكامل حريتهم وبتقدير من الدول الحامية، وهذا ما قصده (الشيرازي)؛ حين قال:
                  - ما معنى الإحسان للمسيئين؟
                  - أنا أعتقد أن الذي يساهم في إيواء المجرمين، يقع عليه ذنــــب المشاركة في الجريمة. ويعني أنهم معترفون بعدم أحقية الإنسان العراقي بكرامته، نحن يا ابنتي في زنا كوني، و المسئولون عن الزنا نعامات تخبئ رؤوسها في الرمال تاركة مؤخراتها للريح ، ألم أقل إننا في زنا كوني.
                  ـ وأنا أعيش في سجن يكونني نقطة تافهة، سجنت قلبي مع رجل يعتبر كلمة أحبك؛ نوعاً من تنازل الرجولة. مهما توسعت الشوارع برقعتها الخضراء، تبقى في عيني أضيق من خُرم الإبرة، مادمت لست معه.
                  ـ أنت مجرد وهم من أوهامه، وأنتما الاثنتان فكرة، مجرد فكرة. وعليك أن تفهمي ذلك، فكرة وكلمات.
                  ـ نحن فكرة مَن؟ الكاتبة أم الرسام؟ ولمَ تتلاعب بمصيرنا؟
                  ـ لا تقلقي، أنا أيضاً فكرة.
                  وضعت عيناء يدها على جبين السيدة:
                  - يبدو أن سهرك البارحة أصابك بحمّى.
                  - لست أهذي، وما أقوله حقيقة، كلنا ندور في عقارب ساعتها، ومتى تلاحمت تلك العقارب أغلقت الكتاب وأنهت الرواية.
                  - تبدين غامضة اليوم، ولمَ أنتِ على علم؟ ولماذا اختصتك بالذات؟
                  - أنا مرآة نفسها، وخلجات صدرها.
                  - هل كل الروايات فيها من كُـتّابها؟
                  - الكثير.. وإلا أصبحت مجرد حشو معلومات.
                  - هل تعرفين شكل الخاتمة؟
                  - لقد بدأت عملها من نقطة قريبة إلى الخاتمة.
                  - هذا شيء مغرٍ.
                  تصادمت الرغبات في روح عيناء حول معرفة نهاية حبها، هل سيقره وليد ويقبل به؟ هل أكوام الألم التي سبّبها لها ستستفزّه لمعرفة أي حب أحبّته؟ لمحت في وجه السيدة شيئاً من الاصفرار:
                  ـ ما بك يا سيدة راوية؟
                  ـ أرغب في العودة إلى الدار، أحب أن أختلي بنفسي.
                  ـ لاحظت أنك ترغبين في الوحدة، هل لديك أصدقاء؟
                  ـ حال عودتنا ذكريني أسمعك أغنية نقلتها عن كتاب للشاعر (ج. ج. غنج)؛ اسمها أناشيد من الحياة.
                  ـ لا أستطيع الانتظار، ماذا تقول الأغنية؟
                  ـ اسمعي:
                  صديقي الطبيب جعلني مريضاً
                  صديقي المحامي جعلني أفكر
                  أفضل أصدقائي قام بخدعته القديمة
                  ولهذا صرت أبحر منفرداً ضدّ العاصفة.
                  ـ يا..ه، ما أروعها من كلمات.
                  نزل المطر خفيفاً لدى انعطافهما يميناً باتجاه الشارع الآخر، انتشت راوية، لها عشق خاص للمطر. منذ أن كانت طفلة تحادثه، تسمع لغته، لعبه على الأشجار والجدران والحشائش، ترنيم شجيرات صغيرة (أتعرفين أي حزن يبعث المطر؟؛). ومثل من يتفحّص شيئاً عثر عليه للتو، قالت:
                  - أسرعي، لا بدّ من الاختلاء.
                  بدت متعثرة الكلمات، تغيّرت بشكل مفاجئ، لاحت عليها إشارات غريبة وأصبحت كخيمة بلا أوتاد، شيء ما شدها إليه بقوة، أخفت وجهها بيديها، كطفل جرّوه من حضن أمه، صارت تخاف العيون؛ ثوبي، ثوبي، أين ثوبي؟
                  ـ نحن في الشارع سيدتي، وعلى عتبات العمارة، سندخل.
                  ـ ثوبي، ثوبي، ألم أقل لك أسرعي؟
                  فتحت باب الشقة بقوة، وجدت عند المدخل رسالة، قرأتها بيدين راجفتين، مرفق مع الرسالة صك باسمها،
                  ـ انظري يا عيناء، (رجفت شفتاها كأنها تلمّ الكلام لـمّاً) في بريطانيا إذا نسيت حقك، تذكرك به الدولة وتقدمه لك ولو بعد حين، وباعتذار عن التأخير. فكيف ستعتذر لنا دولنا على ضياع إنسانيتنا؟
                  ـ سيدتي، اهدئي. هذه رسالة ثانية لك.
                  ـ ابتعدي عني (وقرأت عنوان الرسالة من الخلف). إياك الاقتراب مني.. (دخلت الغرفة زاعقة) ، أغلقي الباب، أطفئي النور، أطفئيه بسرعة.
                  أخافها تصرف السيدة، يداها تشيران إلى لا شيء، وعيناها شاردتان، لا تدري ما دهاها. طرقت الباب؛ هل أطلب لك طبيباً؟ (لا جواب) هل تتناولين أدوية معينة؟ قولي أين تضعينها، وأنا أحضرها.. (لا جواب).
                  أرادت أن تسمع شيئاً يطمئنها، وقفت خلف الباب حائرة، سكنت، تحوّلت إلى نهر من العواطف. وقفت على حين غرّة، الحاضر شائخ، والماضي لحظة عابرة. تمدّدت على الأريكة، تكوّمت حـــول روحها وتشبثت بها، علـّها تعثر لديها على قوة تستنجد بها، تكررت حالتها بين الانكماش والرجفة والوقوف. تعدّى النهار حدود النصف، ولا جواب من راوية. فاتخذت عيناء قراراً بتحدّي خوفها، إذ لا بدّ من مساعدة هذه المرأة الجميلة. اقتحمت تردّدها، وطرقت الباب:
                  - ست راوية، لقد حلّ المساء، ألستِ بحاجة إلى شيء؟
                  - لا، شكراً، سأحاول دخول الحمام.
                  نطـّت من الفرحة حالما سمعت الصوت، وحمدت الله لكونها بخير، تنفست الصعداء وجلست خائرة القوى لفرط الفرحة.
                  لم تمر سوى لحظات، وإذا بالسيدة تفتح الباب حاملة بيدها ملابسها، راقبت دخولها الحمام، وتابعت خرير الماء المتدفق من الدش. مضى ربع ساعة، دون أن تسمع حراكاً، ربع ساعة آخر مضى وما يزال صوت الماء وحده، وتبعته دقائق، كادت تنهض بعدها لفتح الباب، لكن صوت الماء توقف.
                  خرجت راوية، أرادت عيناء الإمساك بطرف حديث، فلم تظهر أمامها نقطة أو فاصلة. البداية ضالة، وصياغة الكلمات انتهت إلى أبجدية غير معروفة.
                  اللجوء إلى زاوية الصمت غير مستحب في ساعة مثل هذه.
                  جلستا قريبتين من بعضهما، معزولتين في ألمهما. عقارب الساعة تهرب من العاشرة مساء، والسيدة جالسة على كرسي من الصمت، شربت شاياً وأكلت سندويشاً أعدته عيناء، وأشباح ذكرى عقيمة تمرّ، تسفو الريح بامرأة وتقلع أوتادها المرتكزة.
                  تنفّست عميقاً ثلاث مرات، تلتها ثلاث أخر، عادت لصفاء عابر كهدوء موجة من هياج بحرها. هدوء القلـِق المرتاب، أغمضت عينيها، وصدرها يعلو ويهبط كحمامة تبني عشاً على حائط قديم، ثم فتحتهما بابتسامة متسائلة:
                  - أين وضعت الرسالة الثانية؟
                  - قفزت عيناء فرحة :
                  - حمداً لله على سلامتك.
                  وناولتها الرسالة المخبأة في مزهرية فارغة قرب التلفزيون:
                  - ممّن سيدتي هذه الرسالة؟ هل هي من شخص محب؟
                  - بل من طبيب.
                  - أتشكين من شيء؟
                  - صحتي جيدة، أنا حديد، انظري (وفردت طولها) حديد، ولكن أصبح كالنملة حين تعاودني النوبة.
                  - ـ أية نوبة؟
                  - إنها حكاية قديمة لا أريد إزعاجك بها.
                  - بل ستقصّينها علي كلها الليلة.
                  - حكايتي، أم حكاية السيدة التي زارتني البارحة وأرّقتني؟ الحكايات كثيرة.
                  صمتت لتتذكر شيئاً.
                  - .. آ.. آ.. اليوم الاثنين، وغداً لنا مجلس ثقافي.
                  - أين؟ أتأخذينني معك؟
                  - هنا، في شقتي المتواضعة.
                  - وأين سيجلسون وكيف؟
                  - في أي مكان، على الأريكة، على الأرض، يقف واحد ويجلس غيره بالتناوب. المهم أن نكون مع بعض، ويكون لنا حوار وموضوع.
                  لم تشأ إزعاج السيدة بالأسئلة، خشيت عليها من نسمة الليل، فأغلقت النافذة، وجلست قربها مقرفصة، تنظر الى التلفاز، وتعبث بـ(الريموت كونترول)؛ علـّها تجد ما يسلـّيها. انبسطت أساريرها لسؤال السيدة عن ذكرى:
                  - هل اتصلت بذكرى؟
                  - أجل، وهي مطمئنة علي بعد أن وصفتك لها. وقالت لي لقد وجدت ضالـّتك، أما أنا فوجدت من أنتقم منهم وأجعلهم يركعون تحت قدمي، بل يلعقون أصابعي، و بالتفال أمسح صلعاتهم وهم ويتلمظون، وأسرق منهم ما أريد؛ المال، الشرف، الرفعة، الكذب، الحقيقة. وقد اعتذرت لي لأنها لم تجد حقيقة لديهم، كلهم مجرد خدعة.
                  - هل اتفقتما على شيء؟
                  - رجتني أن أسألك السماح لها بزيارتك يوماً.
                  - لا يا ابنتي، دعيها تقضي أوقاتها كيفما تشاء بعيداً عن بيتي.
                  - أعرف، أعرف السبب سيدتي، ولكن لماذا وافقت على لجوئي إليك؟
                  - أنت لستِ بزانية، أنت ظل وألوان وهوس فنان لا يكتمل نضوجه الفني إلا بالزنا.
                  - وهي مثلي لا ذنب لها، كما إنك توجهين تهمة للفنانين.
                  - ما قصدت طعن أحد، بل الواقع هو الصحيح في الزمن المقلوب، ولو لم يرسمها وليد لرسمها غيره. ثم ما سرّ وليدك؟ ألم تسالي نفسك عن سبب تأجيل معرضه إلى حين اكتمال صورتكما؟
                  - لا علم لديّ.
                  - لأنه لا يكتمل فنه ولا ينضج إلا بامرأة، وامرأة مثل ذكرى. ألم يعشقها ويتركك تتعذبين؟ ألم يتلذّذ بأشجانك الموؤدة؟
                  - الشرف والحب بين يديه، وعيناه على الحرام.
                  - كل ممنوع مرغوب، ولا تنسي أنه رسمني زانية.
                  - أي ممنوع، في شريعة الرجال كل شيء محلـّل. أنا رجل إذاً من حقي معاشرة من أريد. أنا رجل يحل لي النظر في وجه كل امرأة. أنا رجل لو علا صوتي لا ريب في ذلك. وتطول قائمة الأنا والمحلـّلات، وأحبّ أن أجيبك على الشق الثاني من سؤالك:
                  - أدخلتك بيتي لكونك ضحية حبك والشكل الذي أعطاك إياه وليد، فلا جرم لك فيه، كنت فقط لاكتمال لوحة الزنا.
                  - معذرة، أنا لا أفهم كل كلام الأدباء، دائماً يفلسفون الأمور ويعطونها أبعاداً وتأويلات يصعب على فهمها.
                  سألت عيناء عن ديوان للشاعر مقبول رسول:
                  - أعتقد أنه صديقك، رأيت عليه إهداء خاصاً لك.
                  أجابتها راوية:
                  - وسيأتي غداً، في مجلسنا ستجدين المتواضــــــــــع والمغرور. أما مقبول فيشطب كل الشعراء لأنهم في رأيه شويعرون، وهو ربّ الشعر.

                  تعليق

                  • وفاء عبدالرزاق
                    عضو الملتقى
                    • 30-07-2008
                    • 447

                    #39
                    8
                    سبح الليل فوق الشبابيك، تسلـّل الى أشيائهم الصغيرة، رسم ظلـّه على صورة تجمّع عائلة صغيرة، رائحة الوقت المتعب طرقت باب حقولهم، بين لحظة وأخرى تخرج من دواليب السيدة حكايات بعيدة بثيابها القديمة، وحكايات لمـّا تزل تحوك ثيابها، نهار أحب شتاءه وبين خريف وصيف كتبت جملاً لم يفهمها الوقت، فداس عليها وعبر كضوء محطات خانتها القـطـُر.
                    دموع تخوفت من جفونها، على أذرع الليل الأخطبوطية، قمر باهت يمارس تلصصه من بين فتحات الستارة، لا شيء يعنيه غير تفاصيل الشكوى ومناجاتها لإنسانية مبتورة، ويعود إلى مخبئه بهدوء.
                    لاحظت السيدة متابعة عيناء بشغف لكتاب بين يديها، فأرادت معرفة ما تقرؤه عيناء.
                    ـ ماذا تقرئين يا عيناء؟
                    ـ اعذريني عن فضولي، قرأت شيئاً من مخطوطة أظنّها لك.
                    ـ هل تبدأ من سبح الليل فوق الشبابيك؟
                    ـ هي كذلك.
                    ـ استمتعي بها واعذريني، أرغب في اللجوء الى الفراش. إذا رغبتِ مشاركتي السرير، لا مانع، فيه متسع يكفي اثنتين.
                    واصلت عيناء القراءة وهي ماشية، ووقفت قرب السرير. شدها مقطع جميل، بينما السيـــدة رمت جسداً رجرجته غربته وهدّته الوحدة، وكرّرت أربع مرات مقطعاً شعرياً لمحمود درويش؛ (لم يبق في تاريخ بلدي ما يدل على حضوري أو غيابي ).
                    تحشرجت عبرات في صدرها، وواصلت بصوت متهدج: ويواصلون البحث عن قبري. ثم وجهت كلامها لعيناء:
                    - تخيّلي، الجميع اتفقوا على موتنا. ألا يكفي أرض العراق ما شربته من دم على مرّ العصور؟ والله لو فيهم ذرة شرف لهابوا منظر الأطفال المدفونين مع لعَبهم، أطفال دُفنوا أحياء، أي حساب وعقاب نطلبه لمجرمين مارسوا شذوذهم الأخلاقي؟
                    ـ أنا يا سيدة راوية أعتبر الأحزاب العراقية قد ساهمت بصمتها في انهيار العراق، ثم أين كانت ولماذا لم تتحرك أمريكا من قبل؟
                    ـ العراق مثل بطن الأم، تنجب الصالح والطالح، البيئة العراقية مصدر حركات إصلاحية تنحو نحو المساواة منذ زمن، مثل (حركة بابك الخرّمي، ثورة الزنج، الحركة القرمطية، المعتزلة الداعية لحرية الفكر، إخوان الصفا بأفكارهم الإبداعية، أهل الحق ) والقائمة تطول حتى عصر قريب. لكن أسلافنا مجّدوا أسطورة الرجل الواحد، واليوم تفنّنوا بتشريدنا، لنبقى نثر أحزاب تلاحق ذاكرتها وتبتكر لها ذرائع تبقيها حية.
                    مسكت عيناء من كتفها، ودنت منها حتى راحت تشم أنفاسها:
                    - ثقي لو كان لدينا ما يكــفي من الوعـــــي لأدركنا وهم الأحزاب، هم مجرد حشو في معدن الحرية الوهمية. لو غربلتهم لوصلت الى نتيجة مرعبة، الشعب دائماً ضحية تطرفهم السياسي والديني وغبائهم المتذاكي، والحياة مجرد محطة وصفارة قطار تعرّت عرباته.
                    وضعت عيناء المخطوطة أرضاً، واعتدلت في جلستها:
                    ـ سيدة راوية ما رأيك بالتطرف الديني؟
                    ـ أنا شخصياً أمثل الحالة برجل مجذوم بُترت ذراعه بينما الأخرى تهرشها الحكّة، تمزقه من الداخل ولا يقوى على لمسها، بين وقت وآخر يحطّ ذباب على جسده، يتلذّذ بدبيب النمل ويستأنس بهرش الذباب، ينثر جسده قشوراً ودماً، ينتابه شعور القرف. كل ما يملكه هو البصق على خياله وتوسله بالذباب هيا، أهرش.. أهرش؛. هل فهمت قصدي؟. من أين جاء الذباب، أية ريح حملته؟ أي أيادٍ هيأته للهرش؟
                    أياد صديقة بثوب عدو، أياد عدوة بثوب صديق، أو أياد استدرجته لتغلق بوجهه باب الحياة، لا تستغربي يوماً إذا رأيت إعلاناً في التلفزيون أو دعاية عن أظافر للهرش.
                    ـ آراؤك أعجبتني وطريقة وصفك للأشياء، ألا تنشرينها في الصحف أو تطبعينها ككتب؟
                    ـ عزيزتي كتبت كثيراً وقرأت الأكثر، ولا شيء مما كتبته أو قرأته أعاد لي كرامتي. اسمعي قرأت مرة شعراً يصف زعماءنا، وتنطبق القصيدة كلها عليهم، وخاصة مجنون العراق.
                    قضى أوقات جنونية خلقت منه بطلاً
                    إلا أنه في النهاية
                    كان ضحية جنونه
                    وهذا ما جعله البطل.
                    ـ أنت مولعة بالشعر، هل توقفت عند أحد غير أدونيس؟
                    ـ تعجبني تساؤلات محمود درويش.
                    (يا موت هل هذا هو التأريخ )؟
                    ـ لم أسمع بشارع أو مدرسة سُميت باسمه، ألا يستحق ذلك؟
                    ـ بل يستحقها وأكثر، لكن عندما يموت. أما وهو حي فالشوارع والمدارس والقاعات الثقافية تُسمى باسم حكامها.
                    ـ إي والله سمعت وليداً يقول العراق بلد الرشيد.
                    ـ ومن قال إن الرشيد عراقي ليُنسب العراق إليه؟ الشوارع يجب أن تسمي بأسماء أبنائها، من كدحوا وجاعوا وتاهوا فيها، هم سلالة سومر وأور. هل نسمّي الخليفة عبد الرحمن الداخل اسبانياً، وهل نُسبت اسبانيا له؟ لذا أحب تساؤلات درويش لأنها تفيض فيّ تساؤلات أكبر وأوسع. إمبراطورية امتلكت الأرض، قسمت الحياة لسنين وشهور، اكتشفت الكتابة والفلك.. و.. ننسبها ببساطة لبدوي قادم من الصحراء؟ بدوي غازٍ؟ أليست هذه كذبة التاريخ؟ ثم من يدري ربما سيقال في الغد:
                    العراق بلد بوش؛ وسيصدق الجيل القادم اللعبة، ويقرأ الأطفال في المدارس عن بوش العظيم الذي حمى الإسلام وصلـى وحج، وعاد يطوف حول جواريه يمارس شريعة ما ملكت أيمانه مدافعاً عن حرية الإنسان وكرامته.. هذا التاريخ المبرقع.
                    الوقت يمرّ كما تمرّ لحظة المواجهة مسرعة على رقاص ساعة دون حواس، بعيداً عن استدراك الكفاية من دم لم يتحمل ضجته والتصق بالتراب، لم يعد بمستطاعه أن يتحول إلى أمنية بين أسنان مهشمة.
                    الانفعالات وإن جاءت متوترة، وقفت مريرة مخدوعة بين الحقيقي والمزيف، مرةً بحجة غسل العار، ومرة خانها شرف من صدّر الغجريات الى الخليج على دفعات من سفن الكرامة المحملة بأعضاء البترول التناسلية.
                    كانت السيدة تتأمل عيناء وهي تنتقل من فكرة لفكرة، مفضلة حديث راوية وصياغتها الجميلة، إذ وجدت في حديثها نصاً أدبياً يمسّ أوتار قلبها، وهي تطيل النظر في وجهها كتلميذ قُدم إليه شرابٌ مرٌ وحلوٌ في وقت واحد. لم تكد تنهض السيدة راوية لتسترجع جلستها على الفراش حتى تململت وتأففت، ثم استرجعت حكاية مرّ عليها وقت طويل، لكن فضول عيناء لمعرفة سبب صمت السيدة وعزلتها قطع حديث السيدة من لحظة بدايته:
                    ـ سيدة راوية، لماذا تفضلين الصمت في جلوسك؟
                    أجابتها:
                    - يقول (طاغور):
                    (أنا طريق تصغي في صمت الليل إلى خطأ الذكريات).
                    وأنا أصغي لنفسي، الصمت ليس ضعفاً أبداً، إنه اكتشاف للحقائق، وساعة التأمل هي صفاء الاكتشاف.
                    ـ لم أسمــــع وليداً يذكر مثـــــل كلامك، بل كان يهــــذي دون صمت، وأنت تفلسفين الصمت؛ هذا غير معقول.
                    ـ بل فلسف على طريقته.
                    ـ كيف؟
                    ـ هل تذكرين مرة حين توجه إلى لوحة بيضاء لم تنقرها ريشته، وصفعها كمن يصفع مذنباً وقال لها؛ البياض عار؛ ثم خلط مزيجاً من ألوان دون تحديد، وراح يرعد؟ كان يكره البياض.
                    ـ هل معنى هذا أن وليداً فلسف البياض؟
                    ـ أبداً يا ابنتي، بل يخافه، لأن البياض هو القاضي الوحيد الذي يكتشف عجز الرجال ويقاضيهم. أنا مثلاً أحب لوحة بيضاء دون إطار أو لون وأرغب أن تتوسط المعرض، أي معرض، لأنها لا تتواطأ مع أسئلة الزائرين للمعارض الفنية. ومن يقف أمامها مستفسراً، يحاول سرقة سره هو واكتشاف اعتذاره لنفسه أمام الصفاء.
                    ـ لم أفهم سيدة راوية.
                    ـ إنها فلسفة البياض الصحيح في المعارض الخطأ، على فكرة متى سيكون معرض وليد؟
                    قال لي ولشقرائه يوم تركناه بأنه اتفق على أن يكون معرضه بعد ثلاثة عشر يوما ، ولا تزال في ثيابنا مساحات بحاجة إلى ريشته .
                    سيدة راوية ، أرجو أن تقبلي توسلي وتضرّعي .
                    - على ماذا ؟
                    - أتوسل أن تحكي حكايتك الليلة أو ليلة الغد.
                    ومثل ليل فقد حلمه الأبيض التفتت السيدة يائسة :
                    - غداً سأكون متعبة، ففي الصباح لي موعد مع طبيبي النفسي وسأرجع منه مرهقة الأعصاب، ولا أدري كيف سيكون مزاجي،
                    لو وجدتني متوترة لا تخاطبيني ولا تستفزيني، أنا سأكلمك من تلقاء نفسي. أما عصراً ، فلنا جلستنا الثقافية .
                    - وماذا ستقرؤون فيها ؟
                    - أحيانا نقرأ أشعارنا ونناقشها، وأحياناً يأتي أحدهم بديوان أو رواية ونقرؤها ونستعيد أجمل الأشياء في مناقشتها.
                    ألا تتكلمون بالسياسة ؟
                    - اتفقنا جميعا على أن نترك يوماً أو ساعات للروح ولمتعة النفس.
                    كلنا بحاجة لذلك ، لذا وافق الجميع على هذا الطرح .
                    لازمت صمتها وتركت عيناء حائرة بين سؤال يدور في خلدها ، وأسئلة تلحّ عليها فتكتمها . وحين رأت عيناء أن السيدة مستغرقة في صمتها ، قررت هي بدورها الصمت .

                    تعليق

                    • وفاء عبدالرزاق
                      عضو الملتقى
                      • 30-07-2008
                      • 447

                      #40
                      9
                      حين أفاقت في الصباح ، لم تجد السيدة ، بحثت عن حقيبتها اليدوية فوجدت مكانها فارغا ، تطلعت لساعة يدها ، كانت تشير إلى التاسعة والنصف ، فاستدركت إن السيدة مع طبيبها .
                      بعد اغتسال واحتساء فنجانين من القهوة، ورغبة منها في مسايرة جلساء اليوم، حاولت قراءة بعض المقتطفات من الكتب، اقلها تفهم بعض ما يدور في الجلســـــة، فشرعت في حفظ بعض عناوين الكتب والمقدمات لكتب أخرى حتى مضى من الوقت ثلاث ساعات في انتظار عودة السيدة.
                      ذرعت المكان جيئة وذهابا ً، رددت أبياتاً من الشعر في محاولة حفظها كي لا تبدو بلهاء في الجلسة، توقفت أمام المرآة، صادفتها امرأة أخرى، رفعت خصلة من شعرها متدلية على جبينها وزمّت شفتيها :
                      - من أنت ؟ مسحت المرآة بكم قميصها .
                      - لستِ جرسا ً، أنت مجهولة ، راحلة أم مرحلـّة ؟
                      -من أنتِ؟ هزت إصبع يدها اليمنى كمن يحذ ّر من شيء:
                      -أنتِ سؤال بلا جواب.
                      سمعت صوت المفتاح يدور، وقبضة الباب تتحرك، دخلت راوية مرددة كلام عيناء الذي سمعته وهي عند الباب ؟
                      أية أسئلة تريدين؟ لا تخاطبي المرآة ثانية، إنها خرساء، فانا قبلك سألتها ولم تجبني .
                      عمّن كنت تبحثين ؟ أنت كاتبة وشاعرة وتعرفين نفسك جيداً ، أما أنا فلست أدري من أكون ، أنا أنا مجرد لون يا سيدة راوية .
                      وضعت السيدة كيساً من الفاكهة والخضار ، وبضعة أكياس من الفستق والجوز والكازو ، غسلت خيارة وناولتها لعيناء ، وطلبت منها وضع دواء جلبته معها قرب السرير .
                      -ما هذا ؟ أهو دواؤك الجديد؟
                      -دعك منها، إنها أقراص لمنع .. لمنع ( ولم تكمل )
                      تناولت عيناء الخيــــارة وقضمت منها قطعة كبيرة وراحت تلوكها على عجل ، وهي تتطلع لكيس الدواء وابتسامة على فمها ؟
                      ـ لمنع الحمل؟
                      رفعت كم قميصها بعض الشيء ، تنفست بعمق كمن يشهق :
                      ـ هل سمعت بحبوب منع الوطن؟
                      وضعت يدها فوق صدرها ، عيناء يا بنت :
                      - هذه الحبوب نتعاطاها لننسى هذا (وأشارت إلى قلبها) وكي لا نلتحم به.
                      - لم ترتبك النظرات ولم تهدأ ، بل أرادت التجرؤ على الأسئلة، ثم ضاعت بين محاولة السيدة تلافي أي سؤال وطلبها تهيئة الجلسة، وكانت يداها ترتجفان. سألتها عيناء ما إذا كانت بحاجة إلى تناول الدواء، شكرتها وأوضحت لعيناء:
                      - أنا أسمّي هذا الدواء دواء التصبير ويصفونه (للـدبرشن) أقصد التوتر العصبي، وما هو إلا مهدئ للجسد.
                      - تظل الروح تحوم حوله، تبصق على بلاهته وسكونه، وتحترق منه وفيه. تقف بالطريق المعاكس له، روح زوبعة في سجن مهدود ثم تحترق وحدها.
                      ـ لو كان كل الناس مثلك سيدة راوية لاحترقوا، أنت عاطفية زيادة عن اللزوم.
                      ـ وهذا ما يذبحني.
                      تشاركتا في إعداد وجبة غداء سريعة. السيدة تتذكر أشياء تشعرها بألمها فتغير ملامحها، وتحاول إخفاء الألــــم. أما عيناء، فأعدت بشكل جميل جلسة العصر، ووضعت المكسرات في أوانٍ صغيرة، ثم خطر ببالها أن تسأل السيدة عن عمل كتابي سابق لها، وفرحت بردّ السيدة أنها ستهديها نسخة من روايتها المطبوعة بعنوان (أقصي الجنون الفراغ يهذي ).
                      ـ أهي لك؟
                      ـ إنها لي وللسيدة التي أخبرتك عنها.
                      تحاول عيناء الاستذكار.. آ.. آ.. الروائية التي ستُنهي حكايتنا، أظنّك قلتِ لي مرة إنّ خاتمتنا ستكون في المعرض.
                      ـ سنرى ما يحصل، لا تستعجلي الأمور. بقي لديك أربعة أيام، ومازال لدينا متسع من الوقت للخوض في تفاصيل كثيرة.
                      ـ هل يعون ما يفعلون؟
                      ـ مَن يا عيناء؟
                      ـ انظري.
                      أشارت إلى اثنين يتشاجران بعد نقاش حاد، أحدهما يصف الآخر بالملحد والمضلـّل.
                      ـ ألم أقل لك اتركي التلفاز؟،
                      ـ لكن الله يقول : (ولا تنابزوا بالألقاب ) ويقول: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).
                      ـ يا ابنتي هذا الفسوق بعد الفسوق، دعك منهم، واقرئي الرواية. اقرئيها دون أسئلة، لأني أرغب في قراءة عميقة لموضوع سنتناوله اليوم.
                      ـ تفضلي، ولكن..
                      ـ نعم، ولكن.. قرأت عليه إهداء جميلاً من الكاتبة الى قارئة مجهولة لمَ، أهو لكِ؟
                      ـ ربما قصدت الى قارئة ستجد ذاتها ضمن العمل، واصمتي. أرجوك..
                      لطمت فمها بكفّها، وخرجت فقاعات هواء ليس لها سؤال، تركت الصمت يأخذ مساحته في المكان.
                      خطرت ذكرى على بال عيناء، فاستعجلت نفسها ورددت الأرقام بصوت عال، ثم أغلقت الخط مفكرة ، ما الذي ستقوله لذكرى ، الراغبة في زيارة السيدة، كما إنها تعرف مسبقاً ردّ السيدة عليها حين تخبرها برغبتها، وستقول لها إنك مجرد فكرة. سمعتها منها مراراً؛ أنت لست حقيقية، أيامك معدودة. والمرأة التي تكون مجرد فكرة طارئة، هل تستخفّ بالحياة أم الحياة تستخف بها ؟
                      تمنّت أن تقتل وليداً وتقتل نفسها، فقد نفّذت له رغبته وأصبحت نسخة منه (كوبي)، تنطق بلسانه، تفكر بعقله، وترغب برغائبه. وهي من تكون؟ ماذا تحب، ماذا تكره، كيف ترغب أن تكون؟ ما الذي يبكيها ويفرحها؟ إصلاحها، عطبها، من له ومن يحويه؟ وهي ظل لرجل مهووس بغيرها.
                      أعادت التلفون إلى الطاولة، وحاولت استرجاع بدايتها، ومن البداية أرادت أن تعرف نهايتها؛ أعليها أن تستعد لحزن جديد؟ السيدة منهمكة بقراءتها، وهي تحاول الابتعاد عن وهمها حادثتها محادثة العارف بما يجول بخاطرها :
                      - أجل، أجل، أيامك معدودات. واتصلت بذكرى.
                      رجعت إلى الهاتف ثانية تلبية لطلب السيدة :
                      - ذكرى اشتقت إليك.
                      واستمعت لحديث طويل عن لقاءاتها مع الأثرياء ومغامراتها.
                      ـ لا تنسى يا ذكرى،. أيامنا الباقية أربعة فقط.
                      ـ أين سنلتقي في آخر يوم؟
                      سمعت وتكلمت، وأيدت معرفتها للمكان والزمان؛ اتفقنا إذاً.
                      ساعة ونصف من الخصوصية التي لا تفي بغرضها، استماع لثرثرة عاهرة لا يجدي ولا ينفع. ضجرت السيدة، فالصوت يقطع عليها تسلسل أفكارها. استدركت عيناء الموقف:
                      - سأتصل بك لاحقاً.
                      بعد انتهاء المكالمة وجدت في عيون السيدة رغبة في الاستفسار عن ذكرى، فقالت لها قبل أن تسأل:
                      - هذه المرأة عدوّة نفسها.
                      ـ كيف؟
                      ـ إنها تجري وراء غزوها للجيوب والعقول. والغزو هو الغزو سيدة راوية، لقد تعدّدت الأسباب والغزو واحد. لقد حكت لي حكايات تقشعر لها الأبدان، تحدثت عن الجنس دون حشمة، ما شأني أنا بالطريقة التي تمارس بها الجنس مع عشاقها، وأعتقد أن من يضع سرّه في غرفة في فندق أو شقة مفروشة، يترك سريره في البيت مشاعاً.
                      ـ حكيمة عيناء، رغم قصر تجربتك في الحياة.
                      ـ حكمة العورات لا تحتاج إلى تجربة، لكن لماذا نسمّيها عورات، الله وضع سرّ الحياة فيها؟
                      كلما زاد تعلّقها بالسيدة راوية، شعرت بشوق وألم موجع في الوقت نفسه، تحاول استفزاز السيدة للتمتع بحديثها الجميل الذي لا يخلو من فلسفة وحزن وسعة معرفة، وفي كل لحظة تقاطع السيدة التي رغبت في استمرارها بالقراءة:
                      ـ لم تجيبيني سيدتي، ما هو رأيك بأن الله وضع سر الحياة في العورات ونحن نخجل من ذكرها؟
                      ـ الله جعل الكون كله قائماً على ثنائيات الأشياء، وباكتمالها دون نقص من أحد يستقيم الكون. هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ، يذكرنا بوحدة الإنسانية وتكاملها (وخلقنا من كل زوجين اثنين)؛ جمع المتناقضات جسدياً ليكتملا، وباكتمالهما تتوحد الحياة.
                      حمدت عيناء ربها وشكرته على حفظها، فقد وهبها قوة لتصون نفسها من سوء الحياة رغم مغرياتها. حياة محدودة ابتدأت بشكل الزنا ورأته أمامها، تأرجحت بفرحتها، وشعرت بأهمية الوقار والعفة، وأهمية الحب الحقيقي، فقد اختارت البقاء قربه.
                      الإلغاء إن جاء من حبيب يصبح كالهياج المزدهر بألمه، يتّزن ويترنح ويئنّ في آن واحد، انصياع جميل بابتهاجه الفوضوي، الأصوات المحفورة في الذاكرة تصبح بضبابياتها مجرد وهم في حضور صورة الحبيب.

                      تعليق

                      • وفاء عبدالرزاق
                        عضو الملتقى
                        • 30-07-2008
                        • 447

                        #41
                        10
                        ليل راوية يطول ، تتدافـــع ساعاته المظلمة وتحتدم،بقيت السيدة بأنينها، تتقلب وتتحرك باتجاهين، تتنفس بعمق وتسند ظهرها إلى الحائط وتفرد صدرها. يتحرك نهداها الطائشان بخبث تحت قميصها البنّي، تفرك شعرها وتمرّر أصابعها من خلال خصلاته الناعمة، وحين تتكلم مع عيناء تخرج كلماتها مبحوحة لعمق صمتها واستغراقها في القراءة.
                        خرجت من فمها كلمات معسولة بإعجابها مما قرأته:
                        - الله، ما أروعك يا جلال الدين الرومي، اسمعي عيناء ماذا يقول:
                        - (إن الله يهب جناحين لمن تخلى عن حصاد الجسد ).
                        - استعدي لجلسة اليوم، هيا لنغيّر ملابسنا.
                        ارتدت راوية جاكيتا مقلماً من جهة واحدة في الصدر بأقلام بيضاء رفيعة، كما ارتدت تحته ثوبا بسيطا، ومشطت شعرها كالمعهود، إذ سحبته إلى الوراء وجمعته بـ" بمشبك" خاص للشعر. أما عيناء التي خرجت من بيت صابر بثوبها الذي عليها، شاركت السيدة ثيابها الوقورة وإن بدت عريضة عليها قليلاً، كما أظهرتها أكبر من عمرها الفتي. أخذت تضفر شعرها ضفيرة واحدة، جعلتها تتدلّى على صدرها، وكرّرت شكواها من الشعر الطويل.
                        كانت شكواها حجة واهية لتدخل إلى بداية سؤال :
                        - ألا يزعجك الضيوف؟ خاصة شجارهم ونقاشهم، وقد أخبرتني بأنه ينتهي إلى خصام أحياناً، لولا تدخلكم؟
                        - لولا الضيوف لكانت البيوت قبراً؛ هكذا يقول جبران. وضيوف الأدب هم ضيوف الروح، إني أكره الحياة التي ليس فيها أديب أو شاعر.
                        - كلهم فقر وعوز مثل وليد، حبيبي صورة مصغرة من جمع الأدباء.
                        - لا تتكلمي عنهم هكذا. خُذي مثلاً تلك الشجرة التي عودتني أن أقف أمامها كل صباح، انظري.. أليست خضراء زاهية بلونها الأبيض، تستشفّ من النهار صفاءه ومن الليل حكمته.
                        - بلى والله لقد أغوتني حال دخولي.
                        - هكذا هم أهل الإبداع، يتألمون وتبتئس قلوبهم،، لتزهو سماؤهم في عيون القارئ كما الشجرة تماماً. هل جرّب أحد أن يسأل الشجرة عن انفعالاتها، أوجاعها مع الريح، آلامها مع البرد، شعورها ساعة تورّدها؟. أبداً، لا لشيء، إننا لم نتعوّد على سؤال أنفسنا أولاً. أنا شخصياً أسأل الورود، أقف أمامها أغازل جمالها. علاقتي معها تثير استغراب صديقاتي، علاقتي مع الطبيعة والله علاقة خاصة لا يصلها الإنسان العادي.
                        لطالما ضحكت علي إحدى الصديقات وهي تشاهدني أحدث نفسي، وتسألني: ما بك يا راوية؟ فأجيبها: لا شيء، كنتُ أحدث الله، أو كنت أسأل وردة. أغضب غضباً شديداً لقطع الزهور من أغصانها.
                        ـ أنت غريبة الأطوار،. وليت الناس جميعاً بمثل شفافيتك.

                        تغيّر الهدوء إلى ضجيج، الكثير من الأخبار عن الأحوال الخاصة، والكثير من الانفعالات، تخمة الأخبار السياسية الجرداء جعلتهم يبتعدون عن تفاصيلها المتفككة. جلس اثنان منهم على الأرض متخذين من كرسي خشبي مسنداً لهما، إذ تركا الكرسي لضيفة أخرى شاركتهم بساطة اللبس والشعر وحسن الخلق.
                        بعد طرقـــــات خافتة يضرب الإيقــــــــاع ويحول المكان إلى قيامة، تعدّدت الوجوه، واهتزّت الأيدي مصافحة عيناء، حيث أثار جمالها الحضور. كل ما تعرفه أنهم أصدقاء للسيدة راوية، فلا بدّ أنهم أدباء، شاعر على حافة بئر ينسج كلمته، أو كاتب ضاق بجسده فراح يبحث عنه مثل تأريخ مهجور. كانوا سبعة رجال وامرأتين، وكانت عيناء تنظر نظرة حائرة غير قادرة على التحرّر وفكّ لغز مصطلحات غريبة عليها، وكأنها في اتساع غير قادرة على لملمة جناحيها فيه.
                        ثلاث ساعات خافت فيها عيناء من ظلها، إذ لم تسمع عن ظل يواجه صاحبه، وكانت تخاطب نفسها وكان الظل يستهزئ منها:
                        - أنت مجرد ظل عابر.
                        لم ترَه يشبهها أو يأخذ هيئتها، كان انكساره على الحائط كعملاق. ظلّت غارقة معه، لولا انتباهها لشاعر توسّط المكان وراح ينشد :
                        هل أختار بابي الأخيرَ؟
                        أنا مسمار نفسي
                        علـّق عليّ حوائجي البسيطة
                        باحثاً عن جدار
                        أنا مَن فرّت يداه منه
                        كيف أكتب بما لا يصدّقني به أحد؟
                        علا التصفيق وأطرقت الرؤوس وتنهّدت الصدور، بعد حدوث تصادم في الأمنيات وتلاحم حلمٍ بصدور فرغت من فرط ما تمنّته. وبقي السؤال الوحيد يدور في خوائها.. غــــادروا مودعين بابتسامة، كفكفت السيدة راوية عبثهم، ولملمت أعقاب سجائرهم المتناثرة. ساعدتها عيناء بغسل الصحون والمنفضات، جرحت عيناء إصبعها وهي تغسل قدحاً كُسرت حافته. لفّته بورق التنظيف وعصرته.
                        لكن السيدة طلبت منها أن تضع عليه شريطاً من البلاستر، كما رجتها رمي القدح في صندوق الزبالة. وبهدوئها المعهود، ومثل قطعة حلوى رُشّ عليها ماءٌ مرٌ، جلست على كرسي في المطبخ تتأمل عيناء وتسألها:
                        - هل استعذبت الجلسة، أم صعبت عليك حواراتهم؟
                        - أجابتها عيناء وهي تربط إصبعها المجروح
                        - نعم، ولا. وهذا الشاعر مزّقت قلبي قصيدته.
                        - هذه ليست قصيدته، إنه يحفظها ويردّدها في كل جلسة.
                        - لمن هي؟
                        - للكاتبة التي ستطبق الجدران علينا، إنها امرأة صموت ومتفجّرة في الوقت ذاته.
                        - توقعت أنها قصيدته، ومن تكون الكاتبة هل تعرفين اسمها؟
                        ابتسمت راوية وراحت تسترجع مشهد الشاعر كيف وقف كأنه يعزف معزوفته، تلفّظ القصيدة وكأنها خبزة طازجة خرجت للتو.
                        سحبت راوية كتاباً لكولن ولسن (الفن واللافن) قائلة:
                        - ستجدين الجواب هنا.
                        ـ أنا في حاجة لعمر جديد كي أتعايش معكم سيدة راوية.
                        مسحت قطرات ماء عالقة على الطاولة وقالت لها:
                        - في هذا الكتاب ستجدين أن الأدب الحقيقي هو حبس دهر في عبارة. سأعدّ طعاماً بسيطاً، هل تشاركينني؟
                        - بكل سرور، فأنا جائعة. وأتمنى بعد إنهاء الطعام واستراحة بسيطة أن نبدأ من حكايتك سيدتي، هل تمانعين؟
                        - لا أمانع. بالمناسبة، حين كنت خارج المنزل أخبرتني ذكرى عند مكالمتي أن محموداً الصحفي يسأل عني دائماً ولم تخبره عن حكايتي؛ لماذا لم أجده بين أصحابك؟
                        ـ سمعت عنه ولم أختلط به، له جلساته ولي جلسائي. يقول إمرسون:
                        - ( الأخلاق الحسنة هي بعض تضحيات بسيطة). لكن المعادلة مع محمود تختلف، فالأخلاق السيئة تبدأ من تضحيات بسيطة، ثم تكبر وتتسع الهوّة إلى أن تصل الكرامة ، ومثل هؤلاء لا يدخلون بيتي.
                        ـ أنت تذكرينني بوليد، أنتم الموهوبون الحقيقيون. أما الوصوليون أمثال محمود، فهم.

                        ـ هم في المرتبة الأمامية، ونحن في آخر الركب؛ أمرٌ مذهل أليس كذلك؟
                        رغبة بالاستماع، وعودة لمتاعٍ قديم تركته راوية في صرّة قماش أزرق، استخدمته غطاء لرأسها وهي بين جدران السجن.. كان الحاضر يستطيل ويمدّ رقبته لماضيه.

                        تعليق

                        • وفاء عبدالرزاق
                          عضو الملتقى
                          • 30-07-2008
                          • 447

                          #42
                          فصــــــــل
                          بحر يتسع في إصبع

                          التلفاز إسفنج يمتصّ طالع الحقيقة .

                          تعليق

                          • وفاء عبدالرزاق
                            عضو الملتقى
                            • 30-07-2008
                            • 447

                            #43
                            1
                            من الجميل أن تحطّ بي قطاراتي في محطات قديمة، وأن يكون بمقدوري استرجاع صيف جميل، وبالأخصّ يوم الأربعاء. لم يكن إحساساً عادياً، إذ بقدر ما سبّب لي من ألم شديد، كان جميلاً. فقد قرّر جنيني أن يرى الدنيا، فجاء نابضاً بالحياة، والحياة لم تكن عاجزة عن سحب أغطيتها الجميلة لتدثرني بعد ولادة قيصرية.
                            رحت أتأمل بعد صمودي أصابعه النحيلة، وعينيه الواسعتين اللتين كحلتهما أمي بكحل عربي فبدتا نصف وجهه. وكان عمري يمازح السنة الثامنة عشرة، كأمنية تبحث عن نفسها في أغنية جميلة.

                            كان ذلك يوم الأربعاء الموافق 15/3/1980 وفي وقت أخذت الأشياء التافهة تطفو كما لو أنّ المواعيد كلها اتفقت معها على أن يبقى الخزي إطاراً للحظات التي نعيشها واللحظات القادمة. وكنت ألجأ إلى صغيري (فارس)، كلما كثرت الجراح والتحمت مع بعضها، بقيت العيون الضالة لا تفهم الواقع المعكوس على زجاج النوافذ ، فتتحول الأماني الى ضياع.
                            وقبل أن تكبر يداه الرقيقتان وترسما في حبوهما صورة لكفّ صغير على أرض، سبقهما الموت وأصبحت النخيل جاهزة للحرق.
                            الثمانينات نمت عميقاً في أحاسيسنا، في الحرب مع إيران من أجل اللا جدوى، ومن أجل صياغة اسم للطغاة. تلك الخيبة التي ضيّعت أبناءنا دون جدوى، ودون جدوى سجلنا فيها نصراً للهزيمة، وفصّلنا ثياباً سوداً لوالدات الحزن المنقاد إلى الشظايا والحرق فوق دبابات القتال.
                            فما كاد ولدي فارس يستوضح معنى الأوطان ويشرح لي أن الوطن ما يثيره ذلك الشيء الجميل في أرواحنا من صفاء نحافظ عليه قدر حبنا أرواحنا، وليس الوطن ما نجده على الخارطة.
                            ما كاد يضع صورة لوطنه ويفهم أن اللعبة أكبر من طفولته التي لم تردّد قطّ ما كان يردّده تلاميذ الفصل من عاش القائد المنتصر؛ لأنه استوعب ما نتجادل به في البيت وما نطمح إليه من فكّ لغز الازدواجية التي يعيش فيها طلاب المدارس بين ما يلقَّنون في الفصول المدرسية وقناعات ذويهم، حتى أصبحت الجهات الأربع منافيا لا تستوعب جثث العائدين من الجبهة بعد فضّ الحرب، كما لم يعد الماء قادراً على قراءة ما كتبناه على ضفاف الأنهر في طفولتنا.
                            كان التهجير والترهيب عنواناً لكل الآلام المتغضنة، وأشرعة الرحيل ترسو بأبناء الوطن خارج الوطن، إضافة إلى طرد ما يتراوح بين خمسة عشر ألف شخص وعشرين ألف من الشيعة خارج العراق، واعتقال الآلاف وتعذيبهم وإعدامهم. وحين لم يحقق الرئيس المغرور من حربه شيئاً غير نصره الفاشل، قرّر التوجه الى الكويت عام 1990، فانتهى إلى حرب خاسرة وانسحاب الجيش المهزوم عام 1991، مازال كابوسها يخيم على صدور الشعب وأبنائه الأحرار.
                            كان الجنوب شاهداً على العصر، وسيداً شامخاً برفضه، والرصاص الذي ينصبّ على رؤوس أبناء الشعب الثائر رصاصاً من أرض العراق، ورصاصاً أمريكياً من سماء العراق.
                            كنت وزوجي نتعثر ببقايا جثث، ندفن أصابع وأيادي مبتورة حفظاً لكرامة الإنسان، وكان وقوفنا مع أبناء العراق محاطاً بالريبة والترقّب من جانب أزلام السلطة، الذين توزّعوا في أرغفة الخبز بين الماء والعجين. حصل ذلك اليوم ما توقعته، يوم كئيب صدمني.
                            خرج زوجي ومعه ولدي ليوصله إلى المدرسة، ولم يعودا. كما خرج كثيرون مثلهما، دون عودة معلومة أو مصير معروف. بعد أن صادروا كل أملاكنا، بيتنا وبناية في شارع الوطني ومزرعة تقع على شطّ العرب ومكتب زوجي، رموني في السجن بحجة أني لم أكتب شعراً يمجّد الرئيس، كما فعل كثير من الشعراء المدلّلين والذين حازوا على البيوت والسيارات والبعثات إلى الخارج للدراسة.
                            شعراء عابرون انتشرت قصائدهم وأغانيهم كما تنتشر المزبلة، وهم الآن كالخراف مأمأة باسم الشعب العراقي، وباسم العراق يتسترون على ماضيهم مثل النعام، وهم لا يدركون أو يدركون ويتجاهلون أنهم معروفون لدى الجميع.
                            نرجع إلى وضعي في السجن ، هل تعبتِ يا عيناء؟
                            ـ أبداً سيدة راوية، أكملي، كلّي آذان صاغية.
                            ـ كان حلم لقائي بولدي وزوجي هو خبزي في زنزانة ضيقة.
                            لا أدري كم من الوقت استغرقنا حين اقتادونا من البصرة إلى بغداد، ونحن جمع من النساء والأطفال المقيدين. الأطفال أعياهم البكاء والخوف من شرطيين احمرّت عيونهما من البحلقة على النساء، واهتزاز أثدائهنّ باهتزاز السيارة.
                            هل الأوطان تقود أبناءها مشحونين كالنعاج؟ تعلو وتهبط أجسادهم وفق سرعة السائق وبطئه؟
                            لم أعرف في أي وطن كنا، كنت ابحث عن وطن عاصم لي وأحلم بوطن.
                            كل ما أعرفه أنهم أدخلونا جميعاً في مكان مظلم، أو هكذا شاهدناه من خلال عيوننا المعصوبة. الأيدي مقيدة ومثلها الأرجل، والعرق يصب بتصبب الخوف في قلوبنا، خوفاً من المجهول المعروف. كنت أتعرّف على الأطفال من حركة أجسادهم الصغيرة المتباطئة، وأتحسس شهقات الأمهات تستبيح جسدي المنهك.
                            أما الشتائم البذيئة، فلم تُبقِ لنا عِرضاً أو شرفاً أو كرامة؛ في رأيهم كلنا زُناة مادمنا ضدّهم وضد القائد، كلنا نساء قحاب من وجهة نظر عفّتهم التي تشوّه أبناء الأرض العراقية وتغتصب صغارها.
                            لست أدري لمَ اختاروا الاغتصاب الجماعي، فلم نميّز بين صرخات الأطفال والنساء. وأي أم لها قدرة شمّ رائحة شهواتهم والإصغاء لنزواتهم، دون أن تعرف أي الأطفال ابنها وأي الصرخات لطفل أمْ امرأة.
                            كل أم ميّزت طفلها شعرت بالعراق يتمزق بين أصابع شرطة وسجّانين قساة، ساح منيهم على أجساد طاهرة أرداها الرصاص. فقد تطايرت أصوات الرصاص مختلطة بالصرخات، وهدأت، بينما نساء معصوبات الأعين مقيدات إلى مقاعد ممتلئة بالمسامير.
                            كان الأطفال المفتاح الأول لأبوابنا، أحدهم كان في الثالثة عشرة، حققوا معه بحضورنا، كنا أكثر من عشر نساء، عرفت عددهن من تعدّد نبرات الأصوات. أما الأطفال فلم أستطع إحصاء عددهم، لكن ابن الثالثة عشرة ميّزته من خشونة صوته. سألوه عن إخوته في الخارج، كيف وأين ومتى ولماذا؟ وجسد الطفل ينوء بحمل أسئلة لا يعرف أجوبتها، بينما الصفعات تشتد حتى يغطّ في غيبوبة إثر ضربة قوية.
                            سقط نتيجة الضرب أرضاً، فعمدوا إلى رشّه بالماء، لما صحا علّقوه من قدميه، وضربوه على ركبتيه بالعصيّ.
                            كان إصرارهم على تعذيبه بحضورنا دعوة تخويف للجسد الذي سيعلّق بعده، وسمعنا صرخة قوية صدرت عنه، ثم ضحكة أقوى أطلقها معتوه يتلذّذ بالعذاب قائلاً: ها قد قطعنا عضوه الذكري*
                            تصوّري يا عيناء كم العالم صغير، فقد تعرّفت إلى أخيه وعلمت أنه بعد سقوط الطاغية استطاع أن يأتي به إلى السويد حيث يقيم الأخ، وتكفلت الدولة السويدية بعلاجه في أرقى المستشفيات وخصّصت له مرافقين؛ إنها الإنسانية المفقودة في أوطاننا. كما عرفت أنه بدأ يتماثل للشفاء، وصار يمشي، لكن ببطء.
                            فأي أرض تزلزل أبناءها وتسلّمهم لشبح الموت؟. أهي خطيئة الأرض، أم خطيئة الحكام الفاشلين؟ أم خطيئتنا نحن بتقديسنا لها.

                            ***

                            تعليق

                            • وفاء عبدالرزاق
                              عضو الملتقى
                              • 30-07-2008
                              • 447

                              #44
                              2
                              في حرب الخليج الثانية، عاش الوطن بلا وطن. بتنا نسفّ أوجاعنا كما تسفي الريحُ الرمالَ، خوفاً من حفرة حلم نقع فيها، وحذراً من اتجاه قلب نتعلّق به. أما (عيون المها بين الرصافة والجسر)؛ فقد أتلفتها خيوط العنكبوت والطائرات العاشقة لأجساد أبنائنا. فقد عبر أبو نؤاس؛ على عكازه، باحثاً عن ذاكرة قديمة، أو خمّـارة.
                              بسطت عنقي على وسادة رثة، وجدفت عكس تيار غرفة ضيقة امتلأت بنساء عزل، تدثرنا بدمائنا وصدى صرخات الأطفال الممزّقة أحشاؤهم ، فقد فصلوا الأطفال الذين مازالوا على قيد الحياة عن أمهاتهم. بتنا ليلتين نلامس حطامنا، إذ لا كلام في كأس الكلام، لكننا سكرنا بخمر معاناتنا.
                              أما أنا فقد خبأت حزني بين جدران صدري، وتركت صدري يستغيث:
                              - ماذا فعلوا بك يا ولدي؟ هل رموا فوقك زبالاتهم؟
                              ويتسارع إيقاع قلبي:
                              - ماذا لو اغتصبوك وأنت مقيّد؟ ماذا سأقول لأجيالنا القادمة؟
                              كي أشرح لهم لا بدّ أن أقرأ التأريخ بنظرة اكتشاف، بادئة من أول شريعة للقتل، إلى آخر حصار للهوية.
                              أعطيت نفسي تجلّدها، ورحت أهدئ روع فتاة في الثامنة عشرة، أكلت الأحاديث دموعنا وشربت ما تبقى في مآقينا. لاحت أمامي خارطة الوطن العربي، أسرجت حصاناً خشبياً ورحت أفلّي شعراته من القمل.
                              دار الحديث بيننا حول مدرّسي مادة التأريخ الذين حشوا عقولنا بخرافة أبطالهم وغزواتهم الموهومة، خنازير مثل أسراب الجراد والذباب.
                              ازداد سعال إحدى النساء، فقد كانت مصابة بمرض الربو، تشهق وتستنجد بنا. صرخنا جميعاً على حارس قريب من زنزانتنا، وبعد جهد وتوسّل أخذها إلى الطبيب، لكنها لم تعُد*
                              ـ هل ماتت؟
                              ـ أظنّ أنهم تركوها تختنق حتى الموت.
                              ـ كل هذا وأنتم في بغداد؟
                              ـ نعم. في بغداد الرشيد. مازال الشرف يقود هودجنا، ويقودنا إلى سرير تلو الآخر.

                              ***

                              قادونا ذات يوم إلى ساحة مسوّرة بسور عالٍ ومحاطة بـالشراك حيث جرّوا فيها إحدى النساء، وربطوا كل رِجْل بسيارة، وانطلقت السيارتان متباعدتين، فتناثرت الأشلاء والدماء.
                              أدخلونا بعدها في غرفة زجاجية، يتوسط الغرفة حوض حمام كبير، بانيو، وضعوا فيه الأسيد.
                              سحبوا فتاة في الثامنة عشر ربيعاً، وأخذوا يغطّسونها ابتداء من قدميها بالتدرّج حتى رأسها، ثم أرجعونا إلى مكاننا في الزنزانة.
                              ـ هل نمتم سيدة راوية تلك الليلة؟
                              ـ ومن أين يأتي النوم، ورائحة الدم ـ والله، أقسم ألف مرة بالله إلى الآن مازالت في أنفي. سأذكر لك أن كل شيء بعيد عن العراق يعيدنا إليه، شئنا أم أبينا.
                              ـ هذا لأنك كاتبة وحساسة جداً.
                              ـ ما يحدث لي قد يحدث لكل الناس.
                              تصوّري، كنت أتجول مرة في "الـناشينال ﮔالري"؛ تعرّفت على رجل انجليزي، دارت أحاديث بيننا، في البداية لم يعرّفني بنفسه، فرحت أتفاخر أمامه بما لديّ من معلومات، فقلت له:
                              - هذا المكان يحتوي على أهم اللوحات. فهزّ رأسه مبتسماً، ثم رحنا نتجوّل، نقف مبهورين ببراعة الرسامين، حدثته باللغة الإنجليزية ولكن بلكنة العربي؛ هل تستهويك صور المرأة أم الحروب؟ فردّ علي:
                              - وأي نوع من الرسم تفضلين؟
                              - أولت أن أهرب من سؤاله، واستعرضت عضلاتي بمعلومة قرأتها عن (ليونارد دافنشي ) حين وضع لمساته الأخيرة في لوحة (الجيوكندا ) وكيف تناول القلم بيده وكتب في كراسة مذكراته (إن جميع الحواس تتمنى أن تلتهم صاحبة هذه اللوحة، وخاصة هذا الفم الرشيق الذي يشتهي كل جسد أن يكون له مثله).
                              - أكمل لي معلومتي بأن اللوحة استغرقت معه أربع سنوات، كان يدعو دافنشي أصدقاءه الموسيقيين والمهرّجين لرسم البهجة في نفس "موناليزا" أثناء جلوسها، لذا ظلت عالقة بشفتيها أجمل وأشهر ابتسامة. وقفنا عند لوحة امرأة عارية ،وراح يشرح لي كيف رسم (روبنز ) النساء العاريات والبدينات، وقال إنه يفرز من خلالهن رغباته الحيوانية المكبوتة، وإن الإحساس بالجنس هو الدافع الرئيسي وراء ذلك، رغم ما يدّعيه بعضهم من أن البدانة دليل الرخاء والخصوبة.
                              - فتذكرت التماثيل السومرية ولوحة فينوس وحولها أشكال من الفاكهة الشهية والخبز، بينما (مارس ) إله الحرب ينظر إليها شزراً.
                              لعنت وقتها كل مدرسي الفن في بلادنا، إذ لم نتعلم من خلالهم كيفية تذوّق اللوحة. وكيف يتمّ لنا ذلك، ودروس الفن يستولي عليها مدرسو الرياضيات والإنجليزي.
                              ـ شطحتِ سيدة راوية وابتعدت عن الموضوع كلياً، هل هذه رغبة منك في إعطائي جرعة هدوء بعد ما سمعته عن السجن والتعذيب؟
                              ـ بل لكل حادثة حديث. وكلامنا عن العري أعادني إلى عرينا الجماعي، أمام المغتصبين. دوائر زرقاء وطعنات، ترسم نقصها على أجسادنا.

                              ***



                              حين مرّت الظهيرة، كنا منفصلين عن بشريتنا أو بالأحرى شكلنا غدا لا يشبه البشر. تورّمت العيون ونزفت الأنوف والمؤخرات، وكلّت مقاومتنا حيث تجمّع السائل الكريه على أجسادنا كطفيليات. حاولت إقناع نفسي بقدرة فوق قدرات الأنوثة، وتذكرت ما كان يردد أبي علي:
                              - لا تجعلين أي شيء في الدنيا يستعبدك .
                              كانت صورة ابني تمرّ أمامي، و زوجي يضيء في داخلي إنسانة جديدة، إنسانة بعيدة عن المساومات لا يذلّها أي ظرف. وقف أمامي وقفته المعهودة بشموخ وكبرياء، كبرياء المتواضع، وشموخ العارف، مسكني من يدي، نهضت دون ألم وكأني شُفيت من تدرّني وعافتني لمسته. قال لي:
                              - أنا لا أملك وجهاً للمساومة، أنا لا أعرف غير كلمة واحدة طُز فيكم .
                              ورحت أردّد بصوت عال:
                              - لستُ مَن تساوم، لستُ من تساوم*
                              حين صحوت من عُرينا الجماعي، وجدت نفسي ما أزال في المعرض، وأن الرجل الذي رافقني ينظر في وجهي. فقد تركني أسرح في أفكاري و آخذ راحتي في التجوال، وبهدوئه الرصين سألني :
                              - هل عُدت إلينا؟ لقد غبت طويلاً، هل وصلت إلى نهريّ (ايوفريتس وتايغرس ).
                              تعجبت لفراسته ومعرفته هويتي، حين سألته عن ذلك أجابني أنه يعرف الناس من ملامح وجوههم ومن سلوكهم، وأنه عارف بثقافة العراقي وأصوله الحضارية التي ينهل منها في تعامله مع واقعه الثقافي أو الإنساني.
                              فقلت له :
                              - هل وجدتَ كل ذلك فيّ؟
                              - أجابني مؤكداً ، وقضينا وقتاً فنياً وثقافياً جميلاً.
                              حين تواعدنا، قال لي إنه سيجلب لي كتباً عن الثقافة الفنية، إذا تسنى لنا لقاء آخر، وسيعلّمني دراسة اللوحة. وذكر لي اسمه الدكتور ( وليم توماس) أستاذ في النقد الفني .
                              رغبت في المشي على ضفة نهر التايمز، ثم قصدت مسطبة على النهر في الجانب الآخر من" لندن آي" ، وجلست قبالتها أستمتع بالنهر.
                              حالما شممت رائحة مائه، رجعت إلى أول يوم وطأت قدماي أرض لندن، حيث كان وصولي إليها شتاء، وبالتحديد في الشهر الثالث. فقد شعرت وقتها أن المطر يتلصص على تخوّفي من انزلاق قدمي في الشارع الممطر، كما اعتقدت أن كل شيء في الشارع يحاول استجوابي أو مراقبتي ورصد تحركاتي.
                              لما حل الربيع، وبعد أن شعرت باطمئنان تجاه ما حولي، احتضنت الطبيعة فأنا أعشقها، ورحت أحاكي أزهارها. كما عتبت عليها لأنها لم تمرّ بالقصب والبردي، ولم تأتني بأشجار السدر وتهدني قليلاً من جذع نخلة.

                              تعليق

                              • وفاء عبدالرزاق
                                عضو الملتقى
                                • 30-07-2008
                                • 447

                                #45
                                3
                                راقتني قطرات الندى الملتصقة بورود بيضاء، ففاضت عيناي بالدموع، وأخرجت من حقيبة يدي ورقة وقلماً، وتركت إلهام الشعر يسترسل:
                                أيتها الطالعة مني
                                الداخلة إليّ
                                القمر في يديك غيمة
                                خُذي أفراس تعبي
                                وخوضي ماءك
                                أنت الصامتة الغامضة النطق
                                لي في دفترك بعض طفل
                                مثل عودتك في المرايا
                                ينتظر وجهك
                                أعطهِ أسماءك
                                أو اشهدي بأنكِ القطرة الحانية
                                الماء يظمأ أيضاً
                                كقيثارة نبي
                                حين تضيق بها التوبة.
                                لست أدري حين بكيت بعد انتهائي من قصيدتي إن كنت في حالة بتر المرض من ذاكرتي، أم أعالج المكان بالمكان، أم كنت في حالة اكتشاف للأماني؟


                                ***


                                سيطرت علي بعدها حالة السجن، حيث النار تعوم في قلوبنا، والأرض القذرة تحضن ما تشاء من أجسادنا وتترك من ليس له مكان، فقد كنا نتبادل الأمكنة، يقرفص بعضنا لمدة ثلاث ساعات أو أربع، تتقلص عضلات أرجلنا وتتورم، لينام بعضنا، وتتوالى الأدوار.
                                كان المكان يرضع دماءنا، وكنا نتقاسم القوة ويشدّ القوي منا الضعيف. لم نكن نعرف بأية لحظة ستمتد لنا يد جلاد، ليلاً، فجراً، ظهراً، لا يهمّ؛ ما يهمّ هو إقلاق راحتنا وأن لا يغمض لنا جفن. كما لم أكن أعرف أنّ لليل لساناً، يتحدث معنا في كثير من الأحايين ليخفف من آلامنا.
                                صادقته وأخذته الفارس والفرس، وعلقت عليه ذكرياتي، يعطيني ما لديه وأعطيه أفكاراً ساهرة، وكثيراً ما كنت أشعر بيديه وهما تهدهدانني، كما أخذته غطاء وسريراً.
                                حبلت ثلاث نساء*
                                ـ هذا يعني سيدة راوية، أنكم بقيتم مدة طويلة في بغداد؟
                                ـ ستة أشهر لا نعرف بالضبط أين نحن، كل ما نعرف أننا في بغداد، وربما كنا في مكان آخر وهكذا يوحى إلينا.

                                ***

                                مرّت أيام عصيبة، وذات جمعة وقف أمام زنزانتنا رجل طويل مزهوّاً ببدلته الخاكيّة، صمت برهة وراح يمشي في الممر، تتجول نظراته من زنزانة إلى زنزانة، ممسكاً بعصاه ذات القبضة الحديدية، استشاط غضباً لصوت فتاة تجرأت عليه وأهانته.
                                كانت زنزانتها لصيقة لزنزانتنا، اقتربت من شباك صغير سمحوا لنا بشم الهواء من خلاله، وأسمعته ما بخاطرها من حقد عليهم. أمر الحارس بإحضارها إليه، سحبها من شعرها وجرّها وهي تشتم وتبصق عليهم. وذهبت ولم تعد، طبقت القاعدة التي وضعت للمتمردين لديهم، والمتمرّد لديهم هو من يعلو صوته. كدت أصرخ أنا الأخرى حين شاهدته يمرّغ أنفها ووجهها كله في قاع الممر، ثم يسحقه بحذائه، لولا أن سحبتني إحدى النزيلات التي كانت في السجن قبلنا، وكانت أكثر تعقّلاً مني، أو بالأحرى أصيبت بالبكم إثر تعذيبها.
                                - قالت إحدى النساء؛ إنهم يترجمون الزمن المرّ.
                                صرخت بأعلى صوتي؛ وما دخل الزمن بالنكرات. نطّت أخرى تئنّ من جرح الليلة الفائتة، ورمت بنفسها علي. لست أدري من أين اكتسبت تلك القوة وهي الخاوية الجسد؟ ربما التحدي أو خوفها على من عقوبة لا نعرف كيف سيكون شرّها.،. وألجمت فمي كي لا أكمل، أشارت بإيماءات جاهدت للوصول إلى فهمها:
                                - ما مررت به البارحة لا أحبّ أن تمرّ به أية واحدة منكن*
                                - وما هي حكايتها ست راوية؟ من المؤكد أنكم تسامرتم بحكاياتكم المريرة.
                                - القصص كثيرة، بسبب أو دون سبب.

                                ***


                                هذه امرأة شابة لها طفلة عمرها ثلاث سنوات، وزوجها ينتمي الى حزب الدعوة الإسلامي. دخلوا بيتهم واعتقلوا الزوج، ثم سكنوا معها في البيت، أي أحد يدخل دارهم كانوا يعتقلونه. حاول أخوها الاطمئنان عليها، حينما كانت تنظر من الشباك فأشارت له بعينها أن لا تحاول الدخول. عرف الإشارة وهرب مسرعاً،وفهم المراقبون إشارتها، فاعتقلوها مع ابنتها الصغيرة.لقد عذبوها بالكهرباء، لكي ينتزعوا منها الاعتراف بمكان وجود أخيها.
                                حين رموها معنا آخر النهار، شاهدنا البقع الزرق والتغضن يملأ جسدها، ورغم قوة صمودها، عادت إلينا ذات يوم من التعذيب بلهاء لا حراك فيها سوى نظرات تائهة، كانت تهذي كأخرس يجاهد للوصول إلى كلمة. فقد اغتصبوا طفلتها الصغيرة أمامها، وقطّعوها بعد ذلك بالسكين، كلما قطعوا يداً أو رجلاً رموها في حضنها. لم يذبحوا الطفلة دفعة واحدة، بل جعلوا صراخها يملأ قلب الأم ويرجف أوصالها. وآخر لحظة شقّوا بطنها ومسحوا وجه المرأة بأحشاء الطفلة. هل شاهدتِ قسوة في الكون كله مثل هذه القسوة؟
                                أصيبت المرأة بعدها بالبكم والبلَه، وأصبحت مجرّد جسد وعيون تنظر إلى اللا مكان*
                                ـ وأنتِ هل سمعك أحد وقت صرخت؟
                                ـ من سوء حظي، سمعني حارس آخر، ذو شنب طويل، عريض الكتفين، بسمرة داكنة وشعر أسود، أكرش وقصير القامة، تهدّل حزامه من تحت كرشه فبدت بدنه كروية.

                                ***

                                زعق بأعلى صوته:
                                - من هذه القحبة؟. صمتت الزنازين، وردد الصدى قحـ..ـبــ..ـبـ.. ـه. لكنه بحكم تمرّسه عرف مصدر الصوت، وبما أن الاعتراف ليس من شيمنا، قادونا جميعاً إلى قاعة صغيرة ذات جدران من الاسمنت، وسدّوا الباب علينا، بعدها لم نشعر بما حدث لنا. كل ما نذكره أن العصيّ دخلت مؤخراتنا، وأن الأحزمة الجلدية استقرت على أثدائنا وتوغّلت في اللحم.
                                في نفس الليلة توفيت طفلة صغيرة بحضن أمها سمعتها تستغيث بالحارس كي يأخذ الطفلة ليدفنها ، بعد أن توسلت وبكت اخذ الطفلة الميتة ورماها في سطل الزبل، بقيت الطفلة يومين حتى عبّت الرائحة إلى أن حان وقت قذف القاذورات إلى خارج السجن .
                                كانت القلوب تتمزق ، والأجساد والعظام تهتز الماً كالصرير، أما أنا فقد استطعت فتح عينيّ بعد غيبوبة بسيطة، فشاهدت سكاكين تلمع، وأصابع مبعثرة على الأرض ، ومع ذلك لم تلفظ أية واحدة منهن اسمي، بينما ماتت ثلاث نساء إثر تيار كهربائي اخترق عوراتهنّ ، وخوفاً مني على الباقيات صرختُ:
                                - أيها الأوغاد، أنا من لعنتكم، تف عليكم جميعاً من رئيسكم حتى آخر خنزير في حضيرتكم.
                                أعيدت الباقيات مسحوبات من شعورهن إلى جدران تصطك على أضلاعهن، وقادوني إلى غرفة الضابط (دحّـام) ، كان الدم يسيل من أسناني، بعد أن كُســــرت أضراس فكي بضربــــة قوية تلقيتها. تركني أقف أمامه مقيدة فترة طويلة، شرب الشاي بتأنٍ، رفع قدميه على الطاولة، وفي أثناء ذلك كان يتصفّح ملفاً بيده، يتطلّع بوجهي تارة وينظر إليه أخرى كأنه يستشفّ شيئاً.
                                مسح شنبه بزهو، وسألني عن اسمي. صمتّ برهة، ثم قلت له :
                                - العناكب عدوة نفسها، سينقلب الزمان عليها ولو بعد حين.
                                - نهض من مكانه، ولكمني على فكي المكسور:
                                - مَن العناكب يا عاهرة؟ ثم عاد لأسئلته؛ ما هي مهنتك؟
                                وحاول إقناعي بأن الأوراق التي بين يديه ليست خاصتي، ثم مدّ يده بإشارة خاصة إلى شرطي واقف عند الباب، أنزل الشرطي أحد الجنازير بسرعة.
                                فصرخ به :

                                - أيها الأحمق، لم أطلب هذا، بل المنفاخ.
                                أومأ لاثنين ينتظران دورهما التنفيذي، فوضعت يدي على عينيّ كي لا أراهما متوجهين نحوي، كنت أبحث عن نفسي في شوارع مهجورة، مرّت الكرامة أمام نظري ساذجة ومبتورة، وهي تتفرّج على ملابسي المرمية أرضاً وتبارك عريي المفضوح في دكاكينهم. صفعني أحدهم على عيني، ورمقني بنظرة قاسية لبرهة كأنه يستكشف جمال جسدي، وقال لي :
                                - عيناك جميلتان يا قحبة.
                                كادت ضربته تسقطني أرضاً، فتلقفني الآخر بين يديه، ومسكني من نهديّ، ثم توالوا علي ثلاثتهم. بعد أن انتهوا، طلبوا من الحارس الذي قادني لغرفة الضابط أن يستمتع هو الآخر، لقد أكرموه بي لدقة انضباطه.
                                وبين الإغماء والصحو، شعرت بشيء يدور في بطني وهي تنتفخ، كما كانت أحشائي تتمزق. كان المنفاخ يشكو رقة أحشائي، وأنا أصرخ من عبثيته، تردّدت كلمة ماء.. ماء.. بين شفتي حتى سمعت الضابط يأمرهم بالكفّ عن إيذائي قائلاً :
                                - لقد نفخنا بها شهواتنا وستلد لنا عملاقاً.
                                - كل ما سمعته هو ، حاضر سيدي. ولم أدرِ بعدها إن استمروا، أو أعادوني بعد تلك اللحظة.
                                في الصباح أفقت كطفلة ضائعة، لا ذكريات، لا وجود. كان صوتي يتقطع في أغواره النائية، حاولت التحدث إلى رفيقاتي، وجاهدت كي أسمع أصواتهن. لم تعنّي شفتي المتورّمة وفكي المتهدّل، رموشي الملتصقة أقرب إلى الظلام فقد تغطت بالورم فالتصقت.
                                سألت ولا أدري هل سمعنني؛ هل نحن في صباح أسود؟ وذكرت أمنيتي لقطرة ماء؛ وفي الحالتين لم يكن صوتي قادراً على ترجمة ما أريد.
                                هن مثلي أجساد متورّمة، فاحت منهنّ رائحة الدم المتخثر والبول.
                                توقعت أن بعضهن سمعنني ، فإذا بي أسمع أقوالهن المبعثرة في محاولة العثور على أرواحهن الضائعة ونشل أجسادهن المتغضنة من أرضية باردة. حاولت جاهدة النطق بأية كلمة فنفرت مني حنجرتي، تنبأت برحمة سقف يقطر في فمي قطرات ماء ولو كانت من مطر، لكن النبوءات طفت خارج لحظتي.
                                قلت في نفـسي ما أجملك أيها الحسـين؛ وإذا بامرأة تنهض من سوادهـــــا وبيدها رضيع ازرقت عيناه، عبرت زينب الحسينية وحفرت بالقلب ثقوباً وآخت بين لهيبها ولهبي، انتقلتُ إلى فضاء ضريح سلمان بن داود وضريح علي الشرجي؛ كان الفرات متواضعاً عاصما للأفئدة.

                                تعليق

                                يعمل...
                                X