رواية السماء تعود الى اهلها / وفاء عبدالرزاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • وفاء عبدالرزاق
    عضو الملتقى
    • 30-07-2008
    • 447

    #46
    4
    من أين له كل هذا اللقاح الذي يعشق أهدابنا المتعطشة للدموع؟
    ساحت دموعي فحرقت جرح وجهي وأعادتني إلى واقعي المظلم. صحت يا سيدي الحسين أعنّي، ثم عدت كمن يهيم بنفسه.
    مددت يدي للبحث عن أي شيء وإن كان حشرة فقط لأشعر بأني أملك حواسي. كان خبز الحياة في سوق (المغايز ،وشاي أم البروم )، رأيت نخيلات خضراً توضأت في نهر الخورة، شواطئ متلهفة مثلي إلى خطوات تحاصر أبجديتها. أعشابي المتكسرة وخَزتني فهاج ألم لم أقوَ على تحمله، بدا لي خدر الكلمات يتباطأ، ثم ولّى وترك الألم يصعب عليّ تحمله.
    امتزج صوتي المخنوق بكلمة لبيّكِ لبيّكِ يا بصرتي، اخلقي لي سماء فيها آدم جديد، آدم لا يقطر بشهواته على نسائه العزل، آدم لا يصادر الوطن ويسحق أبناءه، آدم لا يبني المشانق ولا يسيل لعابه على احتلال الحكم.
    تذكرت قول أبي لي دائماً (عليك أن تكوني وفيّـة لنفسك) وراح يشرح لي وأنا ابنة العاشرة:
    - فأية مصالحة تحضنني الآن؟
    - وتمنيت الموت لحظتها، ها هي الريح يا أمي تولول لعويلنا الصامت، حركت جهتي اليمنى لأستدير ولو بسنتمتر واحد، بجهد سحبتُ كفي إلى وجهي، صعقتني فلطحته. حرقني العطش فقررت الصراخ ضــــد تدميري، لم أعرف من أين جاء الصوت، وكيف تقلصت حنجرتي لتطلقه؟ ربما لأني صرخت باسم الوطن والشعب، ولأن الوطن والشعب بداخلي رفضت كتابة شعر يمجّد الطغاة، أو ربما الوطن هو الذي صرخ عوضاً عني وبصوتي.
    غادرت عيناء الغرفة، وجلبت لها كوباً كبيراً من الشاي، وقالت للسيدة راوية:
    - لقد شعرت بالعطش مثلك، وحكايتك جعلتني أعطش بطريقة حتى لو شربت كل لحظة سطلاً من الماء لا يرويني. أكملي سيدة راوية، هذا الشاي سأشربه كله حتى أصحو لك وأكسر طوق النوم، لا تفوّتي علي الأحداث ولو كانت قاسية.
    - كيف نكتسب مناعة ضد الشرّ يا عيناء؟ انظري هذا الجرح في يدي، هو أسورتي، كيف نكتب ضدّ خرقة بالية والعالم سجن؟
    - حركت عيناء ساعة يدها واستعطفت الدقائق بالاستطالة، وأن يكون بوسع عقاربها الاتساع لزمن يكفي لسماع أدق تفاصيل الحكاية. وحركت جذعها كمن يجلس على شوك :
    - ما ترينه مني ألآن مجرد رماد، الرماد ،الرماد دائماً هو الخصم.
    - تمدّدت بكامل طولها على الفراش، وفرشت ذراعيها تستكشف شيئاً، وقالت لعيناء :
    - نحن في حالة تبادل بين الخريف والشتاء، وفي الحالتين نحن أوراق متساقطة.
    - هنا أنا غريبة عن امرأة كنتُها، فما نفع تكوّري في غرفة متواضعة؟ ما نفع قلقي على الطفولة النقيّة واستحضارها لتحتشد على ورقي أو تمــر عبر خجلي؟ هل أعالج غربتي برفض لمن غرّبني، وهل هذا يكفي؟
    - أعاين غليان الحرب، وأتتبع أخبار التلفاز الكاذبة بواسطة عصابات إعلامية تخترق عدوانيتها لعراقيتنا وعيوننا وأفكارنا.
    أيكفي أن أضع النقاب وأطالع ما بقي من الوقت لإحياء القليل ممن مازال يحلم بوطن معافى وسليم بأبنائه؟
    - كيف نكتفي بما لا يكفي؟ ونحن خارج الوطن نأمل أن يصبح الاعتداء جميلاً.
    عشتار لم تلطم على تموز جزافاً، كانت تعي أن اللطم الدائم لعنة أبدية. لذا نحن في حاجة إلى أسطورة جديدة تعيد دماء عشتار إلى مآقيها.
    تصوّري الموضوع بسيط جداً، لا دخل لأسطورة أو خرافة فيه، فقط نفتح باب الدار ونغسل العتبة، فالماء هو الماء، والأجراس تنتظر ساعة أن نقرعها.
    ـ إذن سيدتي أين العتبة التي غسلتِها وأين جرسك؟ الكلام سهل، والمهم هو التنفيذ.
    ـ معك حق، أنا مثلاً حين ضاقت الدقائق حولي، لم تكفني الكلمة، بل عجزت عن انتشار وصف الرعب ووصف كل عين وقلب يعتصر في انتظاره، فالرعب حين يصبح قوتاً يومياً تفوح منه رائحة الحياة على شكل قذيفة تجعل الأرض تدور حول نفسها ونحن بين فكّيها نحاول التمسّك بمشروع حلم. أيمكن للتاريخ أن يكون لطيفاً معي ومع شعوري بالقرف منه؟
    ـ في لندن اختبأت بين سطور رواياتي، أحاول اصطياد هواء نقي ليس فيه غبار مراهنات وسياسة صراعات يومية مع الموت، والكتابة هي أضعف الإيمان، وكما اختبأت بين السطور، خبأت ذكرياتي في خزانتي ورحت أصارع الحبر مع أوراقه.
    ـ لم لا تكتبين شجباً للأوضاع وتنشرينه في إحدى الصحف العربية في لندن؟
    ـ لست ممن يشجب لأن الذي يفعل ذلك يكذب على نفسه، وهذا ما يطلَق عليه الضحك على الذقون، كالشعارات المعهودة، الشهامة العربية والكرم العربي والنخوة العربية؛ وطز في شواربهم.
    يا عيناء الزمرة الفاسدة كانت تعرف بأن الأوطان القوية بشعوبها لا يمكن تفتيتها، لذلك قبل مباشرتها بحصار الوطن فتّتت شعبه وجزأته بحقدها الطائفي وشراستها الدموية، وها نحن خارج الوطن يأتينا الوطن على شكل موت بطيء. من أمريكا ، من عمائم ،من دكاكين تكدست بضاعتها التالفة وراحت تفجرها على شكل قنابل ، والأهم من ذلك كله الأخطبوط العربي والفارسي ، مسكين يا عراق مسكين .
    لماذا يعيبون على القذافي؛ انعزاله واتخاذه قراراً بالانفصال عن الجامعة العربية؟
    أنا أعتقد أن مبادرته الشاذة هي الشذوذ الذي بحجم البطولة، فقد أوجعته الصفعة وحاذر متفادياً الصفعة الأخرى.
    كيف تعيش وتثمر نخلة في ثلج العالم؟
    ومن الضحية نحن أم الموت؟ النفط أم الأرض، الأسئلة أم الأحزاب بكل اتجاهاتها التي بدافع الظن تدافع عن خوفها وخسارتها في المشاركة؟
    أحار كيف أوجه السؤال لقاتل درّب القتلة على يديه، أمدّهم بكل فنون القتل والتدمير، وتفرّج على قتلنا ومقابرنا الجماعية؟ شمّ رائحة حليب أمهاتنا وهي تُستخرج من بين الأظافر المقلوعة، هل جاءت الجيوش من أجل تدمير حزب أم سلطته أم العراق؟
    ولو غضضنا الطرف عن نواياهم كما غضّوا أبصارهم وقت حادثة "حلبـﭼـة والأنفال وانتفاضة آذار والمقابر" لوجدنا أنهم جاءوا من أجلنا، نحن الشعب والأرض، من أجل تطهير عقولنا من الغالب والمغلوب لتضيع الحسبة.
    وإلاّ بماذا تفسرين وجود نفس الوجوه في الحكومة الجديدة، وإعطاء الفرصة لمشعوذين باسم الدين يقطعون الرقاب، وهناك من يدافع عن قتلة باسم المقاومة والدفاع عنهم بحق المواطنة العراقية.
    عزيزتي، كلهم لصوص، لصوص تبادلوا الأمكنة.
    ـ إذاً، سيدة راوية، ضاعت الموازين؟
    ـ صدقيني لو كل الأحزاب والطوائف والقوميات مخلصة للعراق بداخلها لا طمعاً بحكم أو حصة، لأصبح البلد ملكاً ونحن سادته.
    ـ وما هو رأيك بصفتك كاتبة ومثقفة؟
    ـ ها نحن شيَع وطوائف وإشباع غرائز وأحقاد عرقية، ومن منفى إلى منفى ضاع المشروع السياسي والوطني؛ إنها رطانة الأخرس الذي يعرض بضاعته المستهلكة.
    ـ لكنك كتبت السماء تعود إلى أهلها؛ وعلى ما أعتقد أنها رواية طويلة.
    - على ما يبدو أنها لن تعود ، أنه مجرد حلم ، أو توقعت أنها...
    - أنها ماذا؟
    - لا أدري.
    ـ لقد صادفت الروائية الحقيقية وأنا أعرف نهجها الكتابي، تحاور أبطال أعمالها وتترك لهم المجال في اختيار الأسلوب الذي يرتئون الكتابة فيه.
    طلبت منها أن نتحاور كأصدقاء، وأن نعيش اللحظة باللحظة معاً. فوافقت، وتركتني أحاورك الآن بصفتي كاتبة وأنتِ إحدى بطلات الرواية، وأنا أتحدث معك بصوتها، كانت تقول لي:
    - سأدخل قلبك وأفتح أدراجه وأختار لي اسم دلال . لكني رفضته، وفضّلت اسم راوية.
    - أهي تحبك إلى هذا الحد؟
    - بل أنا من قالت شعراً على لسانها، وأذكر أنها قالت لي مرة:
    - ضعي يدك في قلمك وتعلّمي كيف تكون الكلمات.
    لا تتعجبي يا عيناء، إنها شاعرة وتعرف لعبة الكلمة، فقد قصدت أن أضع يدي في قلمي وأكتب الواقع المقلوب لأقرأه صحيحاً.
    - إنها كاتبة مجنونة أليس كذلك؟
    - يعجبني جنونها يا ابنتي، والفنان أو الكاتب الذي ينقل الواقع دون جنون يكون مشروعاً فاشلاً للإبداع.
    أكملت الشاي ثم أعدّت لها كوبـــــاً آخر، وعـــادت كلها رغبة في العودة إلى اللحظة التي انتهت عندها السيدة راوية في السجن. قبّلت جبين السيدة راجية، فلبّت نداءها دون ملل قائلة :
    ـ سأعود بك إلى غرفة نتنة بمخاطنا وبولنا ودمنا.

    تعليق

    • وفاء عبدالرزاق
      عضو الملتقى
      • 30-07-2008
      • 447

      #47
      5
      حاولت رفع فخذي عن الأرض، فاصطكت أصفادي وشعرت بدم ساخن يخرج من رحمي. كانت جدتي تنصحني دائماً : (لا تثقي برجال لا يصلحون إلا للتأريخ، لأن التأريخ عاهرة فاشلة) . أين هي الآن وماذا ستقول حين تعرف أن التأريخ ضاجعني؟ كل ما استطعت القيام به، هو فتح رمشي بيدي حين نزلت ثقيلة على وجهي، وحاولت بطرف إصبعي أن أباعد بين الرموش. فزعت، لم تكن يدي، بل كتلة لحم زرقاء بينها وبين الموت شعرة.
      سمعت صياحاً يئنّ وأجساداً تُسحل حين خلت الزنزانة. بعدها جاء من يدلق علي سطلاً من الماء البارد، وحُملت على يدي شرطيين إلى غرفة عُلّقت فيها جنازير، وتُركت عصي بطريقة عشوائية، طاولة صغيرة وضع عليها كأس ماء وجهاز ومسجل صغير.
      تركوني وحدي أبذل جهداً لترى عيناي النور وأبصر نفسي، بقيت على هذه الحالة أربع ساعات حتى دخل ضابط وثلاثة من الشرطة، وكل ما أملي عليهم أمراً أجابوا طوعاً. كانت أمي وجدتي تحت ألسنتهم، لم أكتب قصيدة تمجد الرئيس بحبري، فكتبوا قصيدتهم الحمراء على جسدي، حين امتلأ فمي بالدم فبصقت عليهم. فوثب أحد الشرطة : سيدي، ألا تراها قد تعدّت حدودها، ماذا تأمر؟ ثم مزّقني بيديه:
      - أنتم المثقفون يجب أن ننهشكم.
      بعدها صرت مجرد جثة تهبط وتعلو في الهواء، وشخير لذّاتهم يدعو لانتقام جديد. تجشأ الشرطي الثالث كمن انتهى من وليمة دسمة، ولم أدرِ بعدها، كما لم أعرف كم مضى من الــــــــوقت وما شكل الألم وهو يأخذ شكل حياتي؟. فتحت منخاري وتنفّست، فاعترضني ورم، شيء بداخلي تحرّك و تقاسم خبزه المرّ معي. هل أخطأت بانتمائي لإنسانيتي وامتلأت بحب الوطن؟ أم التابوت يلاحق انتماءنا؟



      ***

      بحذر الفرس من قشة يابسة ترفعها الريح قرأت آية الكرسي، وفي هذه الأثناء سمعت وقع أقدام قرب باب الزنزانة، حمحمت أسأل وأتوسل لصوتي. سمعت صرير الباب الحديدي، تخيلته سيأتي بقميص يوسف، رفعت رقبتي قليلاً، وإذا بقطعة خبز وقدح ماء بجانبي ثم أغلق الباب. لم تطاوعني يدي، لكني تحملت ثقلها وأعنتها على الحركة، غمست طرف إصبعي في قدح الماء فلا قوة لي على حمله، ثم لعقت إصبعي لأبلّ ريقي.
      كان البحر يسحّ في إصبعي، فقد أذابوا كمية من الملح بحيث وجدته بحراً. لم أجرؤ على ثلم الخبزة، دحرجت كرة يدي على بطني، كثر تورّمها كانت كالكرة.
      فاحت رائحة السائل المنوي المتعفنة، لزوجته حركت ما أملكه من تذكـّري لمزبلة ليست بعيدة عن حيّنا، إذ كانت تلجأ إليها امرأة مجنونة حاسرة الرأس ترتدي ثوباً ممزقاً، والصبية الذين خذلتهم الأبوة الناقصة والمتسللون للقرية بشوارع ذئبية، كانوا صحبتها وأعداءها في الوقت ذاته، يضربونها حين تعثر على بقايا طعام في المزبلة، كما كانوا يضاجعونها تباعاً. الرائحة نفسها ملأ ت أنفي ساعتها، وضجّت بها زنزانتي الانفرادية.
      أين أخذوا بقية النسوة، ولمَ سجنوني وحدي؟ أسئلة بلهاء. سمعت وقع خطوات وقفت عند بابي لبرهة، ثم غادرت. خطرت ببالي صورة الغربان المحلقة فوق تل الزبالة، تمنيت لو أملك بعض قوة لأحكّ صدري، فقد اجتاحتني حكة مؤلمة كشكّ الدبابيس. ورأيت الغربان تحوم حولي، تغطّس مناقيرها في عفن المزبلة وتحلّق حولي.
      لم أرَ الفهود والصقور، فتبادر لذهني صوت الشعراء، أما كان الأجدر بهم أن يتغنوا بصوت الإنسان؟
      الفهد والنسر والأسد كلها كواسر، هل بالكواسر تقاس البطولة؟ أم بصوتي أنا؟ أنا السؤال.
      ولكن الحكة الملعونة تنهشني، تمنيت أن تصبح الجدران أصابع وتحك بطني، لسريان الدم على فخذيّ حرارة جميلة، هذا يعني أني أملك جسدي، أملك الشعور به.
      خفت إن مرّ ولدي بما أمرّ به، وساءلت صورة زوجي التي لم تفارقني:
      - أتراك أخطأت اسمي حين كنت تدعوني وطني؟ أنت المتيّم بوطنك، أتراني مازلت وطنك وهل لي الأحقية أن أكون الوطن الذي تحب؟ هل بإمكانك أن تنظر إلى وطنك المسجي على أرض زنزانة حقيرة؟ أم ستغمض عينيك؟ أظنك ستسدّ أنفك؟ أتراك تسمعني أم.. ويحي، لا.. لستَ ميتاً. انظر ها هو أبي قد عاد، امتلأت يداه بـالحلوى؛ و العيدية، رأيت أبي يقف على السقف وعلى الجدران وعلى الأرض؛ وأمي أين ما اتجه بصري تكون، امرأة جنوبية الملامح.
      حرارة الدم وصلت لكتفي، هُيئ لي أن النخيل تنحني علي، كما هيئ لي أن الباب سيُدفع بقوة. لم أتبيّن الوجوه، إن لم يخنّي حدسي، كان بينهم امرأة سمعت بعض الكلمات منها:
      - يجب أن تُنقل إلى المستشفى، إنها تنزف. ردّ عليها عبد سيده:
      - عالجيها هنا، قحبة وتنزف، شكو بيها.
      - أعتقد أنها سألته؛ وإذا ماتت؟. أجابها:
      - عندنا كلاب هواية ، نحن كلابهم الكثيرة.
      شعرت بدبيب المصل في عروقي، المكان يدور، والوجوه تدور، والسقف يعلو ويهبط، الأصوات تبتعد، سمعت كلمات لم أفهمها، أدوية، ثياب، دم.. الوقت لم يكن لي، والشرطيات يستبحن أزرار ثوبي، كل شيء غامض، حتى أنا بعدتُ عني.
      ـ من المسؤول عن كل هذا الدمار يا سيدة راوية؟ أصحيح أنه الزمن المرّ؟
      ـ لا يا عيناء. العيب فينا، نحن لصوص والزمن أكثر رقة منّـا، بل يرجو الستر من عيوبنا. نحن عقارب الساعة، ونحن الزمن، لذلك نأكل بعضنا.
      ـ سيدة راوية، حين ذكرت الشعر والشعراء في حديثك، وما قلتِه عنهم حقيقة، إذ لا فرق بين فارس وقاتل.
      ـ برأيي أنا ليس الفارس من امتطى جواداً وصال وجال وقال؛ ها أنا ذا، بل من يحمل بيده معول التهديم ويهدم كل ما لم يمت للإنسان بصلة. الإنسان المسكين الذي عادته الأديان والمثل والأخلاق، كل الفلسفات ومكارم الأخلاق، وعلى الإنسان أن يطحن نفسه في طاحونة أوامر تهديد ووعيد وعبودية.
      كن، عليك، لا بدّ، يجب، احترس؛ وهكذا منذ أن يولد. يولد في أوامر، ويموت في أوامر. ما من فلسفة حاصرت الجوع والعراء وكيّفتهما ليكونا طوع بنان الإنسان، حتى الأيديولوجيات تحايلت عليه، لذلك اغترب الإنسان.
      ـ إنها نظرة تشاؤمية سيدتي.
      ـ صدقيني حتى نحن نمارس القمع ضدنا، فنغزو الإنسانية باسم حرية الإنسان.
      كلما اشتدّ عودنا، بطشت حكامنا بنا. نزداد قوة وهم يزدادون بطشاً، والقطار يسير والمسافرون سحابة تتكسرّ على بعضها.
      ترى ما تقولين عني يا عيناء، وقد سمعت جزءاً بسيطاً من حكايتي، وأراك ترتعدين كلما أوغلت بالوصف وتديرين وجهك من نظرة عيني؟
      ـ صدقيني سيدتي ، أنا أهرب من ألم يفترس نظرة عينيك، وحين تشخصين البصر، أعرف أنك أمام ذكرى لا تريدينها أن تغادر فتمسكين بها طويلاً.

      خلال حديثك أراقب تحركاتك، ترفعين عينيك إلى السقف وبشكل مفاجئ تعودين أدراجك، ومن أنفاسك المتصاعدة تبكي دون بكاء. لم هذا التجلّد؟ دعي الدمع يغسلك، فالشمعة تبكي باحتراقها وتضيء أيضاً.
      ـ يا عيناء من يعش مع الموت لحظة بلحظة ويخنق صوته لئلا يشمت به الموت ومن يريد إماتته، لا بدّ أن يرعد مع روحه ولروحه؛ فما قيمة ماء مالح يطهّر وجعه؟ لأكمل:

      تعليق

      • وفاء عبدالرزاق
        عضو الملتقى
        • 30-07-2008
        • 447

        #48

        6
        - تركوني، أربعة أيام أمضيتها بين إغماءة طويلة ويقظة شبه محتملة. ليس هناك سوى رجفة في صدري، ونبض عانق أرضه الباردة. لعنة أشباح تعبر وتروح يدفعني حدسي إلى معرفتها، غير أنها تغيب وبغيابها يغيب كل شيء حتى أنا.
        أفيق لبعض ثوان، وبين الفينة والفينة يُدفع الباب، والمصل الراحل عبر دمي يحاول إنقاذي وإعطائي نبض حياة في وقت نفدت به القدرة على تحريك لساني.
        مع الأصوات رأيت ثعباناً يفتح فمه، حدّقت بقوة حتى برزت عروق جبهتي وصدغيّ اللذين شعرت بهما يتورّمان. التفّ الثعبان حولي، فتصلّبت، شعرت بيد تقبض على يدي؛
        ـ هل تسمعينني يا راوية؟
        اهتز بدني ورجفت بزوابعه متحدية الموت، ورغبة في التحدي، أتحدى من أجل التحدي. رغبت أن أقول لهم إنّ موتي يتحداكم، بربع استدارة مال رأسي جانباً. اقترب الشبح من وجهي، غاصت عينا شبح ثعبان في أحداقي، أمسك يدي بقوة وهزّني ثم رشّ ماء بارداً في وجهي، ارتعدت بين يديه في احتفالية التضميد رغماً عني. عربدت، التهمت الكلمات، شدّني الشبح بعجالة و أدار وجهي إليه، برودة الهواء جعلتني أنتعش قليلاً.
        تسرّبت البرودة إلى أعضاء جسدي العليل، رغم مرور المطهّر الحارق على جروحي كنت أصرخ من برودة الجراح، همس الشبح بقوة:
        ـ أنت قوية يا راوية، أنا طبيبتك هل تسمعينني؟
        اختلطت الأشياء أمامي، كانت مواكب عاشوراء محتشدة قربى، ضاربو الجنازير والقامة، الطبول والرايات السود.
        خرجت امرأة من وسط الحشد، اتجهت صوبي، خفضت رأسها. من التاج الجميل عرفتها، فقد كنت أتوقعها زينب أخت الحسين، أشارت إلى الحشد أن يمارس طقسه. في تلك اللحظة أعانني صوتي، قلت لها:
        - أنت تندبين على تمّوزك، أما أنا فلم أندب لأني أقوى منك. أموت فداء لمن أحب، أما أنت فتلطمين ندماً كي يخرج تموزك كل عام. تملكين موسما واحدا للحياة، ولي كل الحياة التي سأهبها لعراقي الحبيب ليبقي أبد الدهر.
        شممت رائحة غريبة، امتلأ المكان بالشموع وغاب حشد العزاء، تجلدت وسحبت يدي، مددتها صوب ولدي الذي جاء برفقة أبيه وقدّم لي تفاحة ثم سألني:
        - هل تألّمت كثيراً يا ماما؟. حدجَ أباه في نظرة تتوسّل البقاء، وطلب منه أن يأخذني معهم، لكنّ زوجي رفض، وأوقد شمعة أدناها مني قائلاً
        - هذه لها، لم يحن وقتها.
        تركا الشموع تنير المكان وغابا بلمح البصر، وأعادوني إلى رحلتي مع الشموع، ابتدأت تلك الرحلة مع حلم رأيته في المنام.
        كان ولدي مصاباً بمرض الحصبة، طلبت مني جدتي أن ألبسه دشداشة؛ من قماش أحمر، عملاً باعتقاد قديم ورثته من أجدادها، كما أعدّت له حساء العدس. كان ولدي الهزيل في حضنها تتحاشى النظر في عينيه الذابلتين، خنقها الألم وهو يلــــــوي عنقه بصوت خفوت، امتلأت عينـــاها بالدموع،
        وطلبت مني أن أقرأ على رأسه سورة مريم؛. وراحت تتلو ما تحفظه عن ظهر قلب؛( كهيعص، ذكر رحمة ربك عبده زكريا ) حتى آخر الآيات، ودعت بعدها أن يحفظه الله، ووضعته في حضن أمي ثم دخلت تصلي ركعتين، وطلبت مني أن أقف وأدعو لولدي.
        وفي تلك الليلة شاهدت العذراء تقودني من يدي وبيدها فانوس، أدخلتني مكاناً واسعاً بدا كشكل كنيسة، وقالت لي:
        - ادخلي هذا بيت ولدي، ادخليه ولا تخافي.
        ولما حكيت لأمي عن حلمي، طلبت مني الذهاب إلى الكنيسة وأن أوقد دستة شموع. زغردت جدتي؛ خذي ثلاث دستات. وفعلت ما أُمِرت به، وحالما وصلت الكنيسة سألت القس عن تفسير حلمي، فوجدته يبادرني بالسؤال:
        - هل قرأت سورة مريم؟
        وأشار إلى مكان المحراب، وابتسامة عريضة على محيّاه*
        ـ سيدة راوية اسمحي لي بسؤال.
        ـ تفضلي.
        ـ هل المسيحيون يدخلون بيوت الله في العراق؟
        ـ على زمني يا ابنتي، لا فرق في العراق بين مسلم ومسيحي، وأقصد وقت كنت طفلة حتى فترة المراهقة، حين كانت القلوب صافية لا مكان فيها لحقد طائفي أو قومي. وأذكر أنه في رمضان كنا نوزع الأكل على بيوت الجيران جميعاً، والبيوت متراصة بين مسلم ومسيحي وصابئي، سني وشيعي، يشاركوننا أعيادنا ونشاركهم أعيـــــــادهم. أذكر وأنا طفلة أنه كان لنا جيران نصارى، وفي أحد أعيادهم يوقدون النار في الشارع، فنجتمع كلنا من أديان مختلفة نشاركهم النط على النار ونأكل المنّ والسلوى؛ الذي صنعناه بأيدينا قبل ليلة مع (الكليجة ) .
        وفي عاشوراء كانت تشاركنا نساء الصابئة في الطبخ، حتى أسماء بعض أولادهن علي وحسن، ولي صديقة نذرت أن تسمي ابنها علياً حين تُرزق بولد؛ واسمها الآن أم علي.
        تتداخل النذور بتداخل القلوب، وما فعله الحاقدون بحقدهم الطائفي في تفريقنا دار عليهم وأحرقهم الزمن بحقدهم.
        والمصيبة أن الدور استمر والحقد طفا كما يطفو الزبـَد.
        ـ سيدة راوية هل أنت مرتاحة مع صحبتك المثقفة؟
        أحياناً أشعر أني جثة تسير في الطرقات، جثة مسجونة بحزنها، والناس الآن متعجبة من منظر المقابر الجماعية وصور الأطفال.

        ***

        لقد رأيت هذا بأم عيني. فقد ربطوا مرة طفلة من قدميها في سيارتين وانطلقت السيارتان حتى تناثرت الدماء، وكان ذلك أمامنا وأم الطفلة خرّت مغشياً عليها. وفي اليوم نفسه وضعوا طفلة أخرى عمرها ثلاثة عشر عاماً في مفرمة بحجم خلاّطة الاسمنت، بدءاً بإنزال قدميها بالتدرّج حتى رأسها.ماتت أمها في حينها، وعرفنا حكاية الأم من صديقة لها معنا.
        أبو تلك الفتاة أخذوه في إحدى الليالي، وبعد عشرة أيام اتصلوا بالزوجة وطلبوا منها عشرين ألف دينار كفالة لزوجها فهو بريء.
        وعندما ذهبت الزوجة وابن عم لها إلى مديرية الأمن ودفعوا الكفالة، سلّموهم الرجل دون أحشاء ودون عيون، فقد شاعت في تلك الفترة ظاهرة بيع الأعضاء للأثرياء، وفي اليوم التالي أخذوا العائلة كلها.
        وإني أطرح السؤال: أين كانت الأقمار الصناعية والتكنولوجيا العظيمة التي تخترق حتى مرور الشبح على الجدران؟ أنا أعتبر كل العالم مشتركاً بهذه الجريمة. كل العرب الذين دافعوا عن السلطة بصمتهم، والذين دافعوا ومازالوا يدافعون بأصواتهم، كما أين الغرب كله بما فيهم الولايات المتحدة الأميركية؟
        حال وصولي لندن وأنا في طريقي إلى الـهوستل؛ كنت أتساءل؛ هل جئت أفتش عن حياة أفضل أم هربت لمجرد الخوف من الموت؟. كنت أنتزع اللحظات والساعات كما تنزع مغتصبة ملابسها، وفعلاً تمنيت نزع كل ملابسي حتى الجوارب، ورميها في الشارع. ربما هي حالة هروب من كل ما لوثني حتى نفرت من ثيابي ونفرت مني. وبما أني أشاهد العجائز الأنيقات بقبعاتهن الجميلة المتناسقة مع الجاكيت، أرجعت جوربي إلى وضعه في محاولة المقارنة بين العجائز في العراق وعجائز لندن الهادئة المطمئنة المصانة من الدولة ومن الشارع والناس، مما يجعل كبار السن متشبثين بالحياة، متلذذين بما تبقى لهم من أيام؛ بينما التآكل في العراق يبدأ في سن العشرين، عصّابة سوداء، عباءة سوداء، ثياب سود، وقلب تفحّم بألمه.
        حين دخولي الغرفة المخصصة لي في الهوستل تركت أبسط أشيائي تأخذ لها ركناً، وجلست على الفراش أتصفّح أثقل الذكريات وأوجعها. وفي أصباح متكررة أخرج إلى الشارع، ألتقي بالناس وأبعد عن نفسي الوحشة.
        أفرح بالبخار المتطاير من الأفواه، أشمّه وهو يردّ على تحيتي ويواصل الحديث معي في كلام لا أفهم نصفه، ونصفه أستطيع ربطه بمعنى الجمل.
        وبعد قبولي كلاجئة سياسية أعطوني شقتي هذه، أول يوم دخلتها أفرحني دكان عربي قبالة البناية. تركت الشقة غير مكترثة بمحتوياتها، ودخلت، صاحبها سوداني، راق لي منظر البقلاوة وقمر الدين والبسبوسة، والأكثر الكلام العربي.
        اختلقت حديثاً مع البقال، فقط لأسمع لغتي. سألته عن أرقام الحافلات في منطقتنا (72، 7، 70، 53) قال كلها في خدمتي. وتعدّدت الأمكنة والأسئلة والأجوبة، وهذا الرجل هو دليلي إلى ما أجهله. تحت البناية بار يرتاده العمال الكادحون، في الشقة المقابلة شاب أفريقي حاول سرقتي مرة*
        ـ كيف حصلت على شقتكِ؟
        ـ لم أحصل عليها بسهولة، كانت الأرض تأتيني على شكل مساحات متعددة،
        فإذا انتظرت سكن الدولة يعني مزيداً من الوقت في الهوستل الممل، لذا بحثتُ عن شقة استأجرتها والجهات المختصة في الدولة هي التي تدفع الإيجار لي. فكنت أستقل المترو، وعلى خط بيكاديللي؛ أدخل وسط المدينة متصلة بالأصدقاء المكتوبة أرقامهم لدي، اتصلت بصديقة قديمة كانت بيننا صداقة حميمة، وعرفت أنها تشتغل في مكتب تأجير. فرحت لذلك، وتوقعت أني سأصل لما أريد، واتفقنا على يوم اللقاء. وقت التقينا كانت الدموع وسيلتنا الوحيدة، وحصلت عن طريقها على غرفة صغيرة في منطقة كلبرن.
        صعدنا درجاً ضيقاً مكوناً من خمس وعشرين درجة وغير مضاء، وجدت الغرفة متسخة والغبار يتطاير من غطاء متهرئ. الأرضية وسخة الى أبعد حد، والحمام أسود وبقايا الغائط عالقة فيه.
        نمت ليلتها دون تدفئة، استطاعت صديقتي الحصول على بطانية من شريكها في العمل، وأخذت مأتي باوند مقدماً كي أحصل على الماء الساخن. تفحصت حقيبتي لم تجُد على بمئتي باوند، رجوتها أن تدفع هي، وآتيها بالمبلغ عصراً. وافقت على مضض، رغم توقعي الخاطئ بأن تدسّ في جيبي بعض نقود، كما خاب ظني بأن تبادر لدفع أجرة أسبوع عني. نثرت شعرها الأسود وتفحصته في مرآة متسخة، مؤكدة لي أن صاحب الغرفة يريد أجرته عصراً.
        نزلت خلفها أتفحص الشارع الطويل المكتظ بمحلات الملابس ومتاجر الأغذية ومكاتب العقـــارات، المارة مسرعون متعددو الألوان، أبيض، أسود، أشقر، شاب. أصابني بغثيان منظر رجل هندي وضع مساحيق التجميل على وجهه، فبدا مبقعاً ومشى يتثنى. واصلت البحث عن محل مجوهرات يشتري مني أقراطي وخاتمي البسيط وساعتي، كل ما تبقى لي من ثروة.
        فقد صودرت أملاكنا، بستان زراعي يقع على ضفاف شط العرب، وبيتنا بمحتوياته كلها حتى ملابسي وملابس زوجي ولعب طفلي، وكذلك مكحلة جدتي الفضية إذ كنت أضعها في حقيبة مجوهراتي. أهدتني إياها قبل وفاتها، فقد كانت عزيزة عليها جداً تعود إليها كلما أصابها صمت مفاجئ، ثم تخفيها تحت مخدتها. ارتعشت يداها وهي تسلّمني إياها، وطلبت منى الاحتفاظ بها والمحافظة عليها، ثم اهديها إلى ابنتي إذا رزقني الله بابنة.

        تعليق

        • وفاء عبدالرزاق
          عضو الملتقى
          • 30-07-2008
          • 447

          #49
          7
          ارتعشت روحها حول المكحلة في ساعتها الأخيرة وهي تقصّ علي حكايتها، وكيف حصلت عليها من حبيبها الذي مات بحسرته عليها بعد أن زوّجوها من ابن عمها قسراً.
          وحين رأيت سرقة المتحف العراقي شاهدت جدتي ترتدي الهاشمي؛ وتطوف بالشوارع، تشير بإصبعها إلى كل الجهات، تتأبط ذراع الوقت وتختفي، فقد نقش حبيبها اسمها على المكحلة.
          فرحت لتثمين البائع لثروتي بـ(300) باوند، إذ ستبقى لي مئة للتقوّت. ذهبت إلى الصديقة، وضعت أمامها المأتي باوند، واستأذنتها في استعمال الهاتف. اتصلت بصديق لزوجي، صرخ حين سمع صوتي؛ راوية أين أنت يا ابنتي؟ دلّيني على عنوانك، وابقي حيث أنت حتى أصلك خلال نصف ساعة.
          لم تمض نصف ساعة، وإذا عبد اللطيف فواز وصل فاتحاً ذراعيه على مصراعيهما، واحتضنني قائلاً:
          - ابنتي العزيزة.
          وقبّل جبيني. تعوّدت أن أدعوه عمّو؛ فهو بسن والدي، واحتراماً لصبغة شعره وتشبّبه قلت له:
          - شلونك خـُويه على طريقتنا العراقية طبعاً، إن شاء الله تعافت عيناك؟
          - تلعثم الرجل، وابتلع ريقه، متفادياً أسئلتي عن صحته.
          جرّني من يدي مودعاً صديقتي، وطلب من السائق الذي وقف بالسيارة على جانب الطريق أن ينطلق بنا إلى مطعم بغداد في ويستبورنج جروف . الخبز العراقي والكباب وصحن السلطة، أعادوا لعودي توازنه؛ فمنذ مغادرتي العراق لم أذق أكلة لذيذة.
          آخر وجبة كانت رغم أني كنت على عجالة ومتخفية بصمتي وريبتي، إلا إن طعم "دولمة" أختي مازال بفمي، لفّتها بدموعها وحشتها بخوفها علي من المجهول، ومن ما قد يصيبني في رحلتي عن طريق كردستان.
          جلست لوحدها تهيئ الدولمة، لم تطلب مني مساعدتها لئلا يطرق الباب طارق، أو تدخل إحدى الجارات دون استئذان وتراني، فالبيوت مفتوحة دائماً للزائرين.
          وبما أنها لم تعلن عن خروجي من السجن، تركتني أقضي الوقت في غرفة نومها.. ووقت جاءتها الجارة أم عادل تطلب منها خميرة لعجينها، كانت تردّ على أسئلتها اللحوحة باقتضاب.
          فأم عادل ثرثارة، كما كانت تتفحص البيت بنظرة المستكشف، هي عادة اكتسبتها من أم زوجها وتطبّعت بها، فأطلق عليها وصف وكالة رويتر.
          انزعجت أختي من سؤال ملحّ عن ترتيب البيت ووجود ملامح فرح فيه، وقد فتحت الجارة أغطية القدور وشمّت رائحتها متسائلة:
          ـ عندكم خطـّار اليوم؟ كم عددهم؟
          حدقتها أختي بنظرة ساخطة:
          - ولمَ تسالين؟ هذا ليس من شأنك.
          استمرّت في استدراج أختي وحثها على الكلام، وفيما هما في شدّ وجذب في الحديث دخل ابن أختي (نضال)؛ وقد وصل لتوّه من بغداد لرؤيتي، بعد تلقيه شفرة؛ ذكرها أبوه عن طريق أحد الأصدقاء. عاد متلهفاً لرؤية خالته التي تربى في حضنها ومع ابنها، دفع الباب بقوة؛ أين خا.. ولم يكمل.
          لكن عيني أم عادل نطتا، ونطّت هي في مكانها، فاتحة فمها لتسأل من جديد، فاستدرك نضال الموقف سائلاً أمه؛ أين خالد صديقي، هل وصل من مدينة العمارة؟
          ردّت عليه أختي:
          - سيصل مع عائلته، أما تراني أجهّز الأكل،
          - استأذن من الجارة بحجة دخول الحمام، وتوجه إليه.
          استحم، وقلبه من نار وجسده من جمر. خرج يجفف شعره بمنشفة صفراء والماء يتطاير، اقترب من أختي يشمّ رائحة أكلها:
          - خالد يحب طبخك يا أمي.
          هو يعرف أنني في مكان ما من البيت، ولا يريد التعجّل، لوجود الثرثارة التي بدورها أطالت المكوث، وفضولها يقودها الى اعتقاد أن في الأمر شيئاً.
          لجأ نضال إلى التمويه أمام القشرة الملتصقة بأمه، فادعى أنه متعب ويريد أخذ قيلولة قصيرة قبل مجيء ضيوفه.
          كانت امرأة مترهلة وضالة العقل، شاهد خاتماً من الفيروز بإصبعها، فسألها:
          - خالة، بكم اشتريت خاتمك الفضي هذا؟
          أجابته :
          - عيوني، هذا أخذته من إصبع أم زوجي ساعة تغسيلها بعد الوفاة.
          - شقية وجبارة، ويجب التغلب عليها ( حجل) على رجل واحدة للهروب منها:
          - أوه.. أوه.. أشم فيه رائحة الموت. لا، لا، أنا أخاف من الموت، سأنام يا أمي قليلاً، أيقظيني بعد نصف ساعة.
          ثم دخل غرفة أمه، إذ طلبت منه ذلك مدّعية أن هذا سيوفر عليها الصعود الى غرفته في الطابق الثاني، إذ بمجرد صدور صوت منها سوف يسمع ويصحو.
          من أين جاء له الصبر والانتظار، وكل ما يريده أنا؟. ربما الجندية والتدريب العسكري علّماه أن الانتظار حياة.
          دخل علي، عانقني.. ولم أستطع رؤية وجهه بوضوح من كثرة دموعي*
          ـ خالة راوية، في أي منطقة من بغداد يقع السجن؟
          ـ عرفت أنهم في البداية أخذونا إلى موقف في منطقة الكاظمية، في الظاهر هو دار للأيتام، وفي الواقع كان موقعاً للاستجواب؛ وبعدها نقلونا إلى سجن الرضوانية.
          ـ حبذا لو تكملين قصتك يا خالة.
          ـ من أين؟. أتحبذين استكمال قصة صديق زوجي؟
          ـ نعم، وبعدها ننتقل إلى السجن.




          ***




          ـ بعد انتهائنا من وجبة الكباب طلب السيد عبد اللطيف شاياً، بعدها أصابني دوار ورغبت بإفراغ ما في معدتي.
          سألت عن الحمام، وهناك تخلصت من وجبة نسيتها معدتي. خلال جلستنا لتناول الشاي، طلب عبد اللطيف من الشخص المرافق لنا أن يبحث لي عن شقة ذات غرفة واحدة. وبلمح البصر دارت أرقام الهواتف، وبعد ساعة توصلنا إلى شقتي هذه. من أول معاينة لها وافقت على الفور، فرحت بأول سرير سيكون خاصتي.
          لم تدم فرحتي، فقد طلبت صاحبة الشقة مقدم شهر، وشهر ضمان، وضماناً خطياً يتكفل فيه الضامن بالسداد عني في حال عدم تمكّني من ذلك. شهران، يعني ألف وثماني مئة باوند، فمن أين ستأتي رحمة تجود بمثل هذا المبلغ؟
          ونحن عائدون إلى غرفتي في منطقة كلبرن؛ سأل السائق العم عبد اللطيف:
          - ما هي أوضاع صاحبك؟
          أجابه:
          - هو سيدفع لك.
          أعطاني السمسار رقم هاتفه الجوال، وبقينا على اتصال. أما صاحب زوجي العم عبد اللطيف، فلم أره حتى هذه الساعة. وإذا رأيته في شارع صدفة، يصفرّ وجهه خجلاً ويهرب كمن ضبط أمام حشد. لم يهرب مني فقط، بل غيّر رقم هاتفه.
          نسى ما بعثه له زوجي ساعة عـــــوزه من قبل، فقد أرسل إليه خمسة آلاف باوند لعلاج مرض أصاب عينيه.
          كنت أعرف عنوانه في بيكر ستريت؛ وقد ذهبت إليه أرجو منه ضماناً خطياً، ضغطت على جرس الشقة، ردّ على الطارق، فلما تحدثت وعرف صوتي، خرس ولم يفتح الباب.
          تمشيت قليلاً قرب متحف الشمع، محدقة في الوجوه لعلى أعثر على أحد أعرفه. تذكرت صديقاً لي، ليست بيننا علاقة تسمح بطلب يخرق الكبرياء. إنه أديب كويتي يعمل في إحدى الصحف العربية، اتصلت بعاملة البدالة، وبصعوبة بالغة حصلت على رقمه، بعد أن اتصلوا به وأخبروه باسمي وافق على إعطائي الرقم.
          أحاطني الرجل بكرمه وأخلاقه، وطلب من سكرتيره أن أملي عليه ما أريد، وهو سيوقع على طلبي. كان الضمان الذي حصلت عليه مفتاحاً لصداقة أخوية، دامت وستدوم لأنها مبنية على احترام الآخر وحبه.... ومازلت أحمل فضله على عاتقي، هو الوحيد الذي يسأل عني ويقول لي إنه في حياته الشاقة لم تكن له أخت وأنا تلك الأخت التي حُرم منها.
          انتقلت أحمل بيدي حقيبة صغيرة، في اليوم السادس طرق السمسار بابي قائلاً:
          - معي ضيف. فتحت الباب مهلّلة به وبالضيف، الذي عرّف نفسه إلي:
          - اسمي أبو غيث، صديق لزوج أختك، طلب منى مساعدتك. وعرفت عنوانك من السيد عبد اللطيف، لديّ أمانة .
          ترك مظروفاً، وقام مسرعاً، ودعني وغادر.
          هو الآخر لم أره إلى اليوم، كصاحبنا الذي عزمني على وجبة كباب بقيمة خمسة آلاف باوند.
          في شقتي الشبابيك تُفتح من الداخل، إذ ليس بإمكاني رؤية المارين في الشارع... قبل حضور أبي غيث كان بحوزتي عشرون باونداً، اشتريت ثلاث بيضات وربطة خبز، اشتريت الغداء باثنتين وتركت الثالثة للعشاء.
          لم يمر نصف ساعة حتى حضر أبو غيث، وبيده بطانية ووسادة، ودّعني ولم يعد كما أخبرتك.
          ـ هل فتحت الظرف؟
          ـ كان في الظرف ألفا باوند، وصلا في وقتهما. سلّمت صاحبة الشقة ألفاً وثماني مائة، ووقعنا العقد لمدة ستة أشهر. بقيت معي مائتا باوند يجب أن تكفيني لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر، حتى يتم صرف المعونة الحكومية لي.
          ـ ربما استدان المبلغ مسبقاً من زوج أختك.
          ـ جزاه الله خيراً، أقلها أحسن من صاحبنا الذي لهف حقنا وحق الصداقة.
          ـ كيف قضيت أولى أيامك؟
          ـ أول ليلة نمت حتى الصباح دون حراك، أفقت في الصباح لا أحس بوجود يدي. فزعت، خلت أني مازلت في السجن وأني أمرّ بإحدى حالات التعذيب، فقد كانت خدرة لثقل نومي عليها دون حراك.
          - في غرفة النوم دولاب صغير من ثلاث مرايا ، بعدد الخانات الصـغيرة.
          - كانت المرايا مليئة بالعيون، لاحقتني إلى الحمام، في مرآة الحمام أصبحت العيون أقلّ حدة وأقل عتباً، كأنها ترثي لحالي. فيها نظرة عتب قديم، ورغم رقتها خفتها، كثيراً ما أجدها على ورقي ساعة الكتابة، وظلّت تصاحبني ليل نهار.

          تعليق

          • وفاء عبدالرزاق
            عضو الملتقى
            • 30-07-2008
            • 447

            #50
            8
            كان صباح عيد ، يوم أفقت على المرايا التي بقيت تلاحقني أينما سرت ، كم تمنيت أن يطرق بابي أحد، أو يهنئني بالعيد، لكن لا عيد ولا تهنئة ولا طارق.
            كلما احتجت لتجربة صوتي، ذهبت لصاحب البقالة أسأله عن مكان ألهو فيه وأقضي بعض وقتي. دلّني على منطقة برتبللو؛ سوق جميل يتوافد إليه السياح وسكان لندن كل يومي سبت وأحد. هناك وجدت الأحاديث مشتتة، لكل عابر لغته وعشيقته ووجهته، سواء لمتعة الشراء أو متعة التفرّج على البضائع المتنوعة. رغبة مني في طرد عزلتي، رحت أبتسم وأحدّث الباعة الهنود بلغتي الانجليزية المتعثرة.
            وجدتني أبحث عن الشرق فيهم، كما وجدتهم يبحثون عن ضالّتهم في وجوه المشترين مثلي.
            بائعو السمك الطازج والخضار والفواكه، الحلي والأقمشة، الجديد والقديم، الأثري والرخيص.
            سحرتني ساعة جميلة قال لي بائعها إن عمرها مئة وخمسون سنة، مرصعة بأحجار كريمة، زيّنها الفنان الذي صنعها بالياقوت والزمرد، أبعدتها عن مـعصـمي، فقد أدت دورها بتزيينه لثلاث دقائـق؛ أرجعتهــا متعلّلة بـغلاء ثمنها البالغ ألفي باوند؛. ساعة ثمينة من هذا النوع بالطبع لم تكن لامرأة عادية، بادلت البائع ابتسامة وعبارة :ذوقك سليم في اختيارها لا بدّ أنك رجل فنان.
            ابتسم هو الآخر:
            - أوه.. شكراً. شكراً.
            - في طريق عودتي إلى البيت سمعت من أحد المقاهي أغنية تردّد؛
            - إيلينا عازفة الكمان المرحة الرافلة بالأناقة
            - تعرف النغم المسرع نحو نفسه.
            - قارنت بينها وبين بأية أغنية عراقية، فلم أجد في كتاب الأغاني من كتب عن النغم المرتجف في قلب التنّور؛ المنتظر عودة المرأة إليه. دخلت شقتي وجدتها كئيبة، حزينة حزن الأغنية العراقية. خلعت حذائي وجلست أرضاً، فقد داهمني مشروع قصيدة:
            - دخلتُ فنجاني
            ارتبكت شجاعةٌ مرّة
            باركت نصفها الأسود
            بينما النصف الآخر
            وقف عارياً
            كان يخطّ شيخوخة العبارة.
            تركت الأوراق تمتصّ بقايا الفنجان الذي اندلق عليها، وخرجت دون تحديد هوية. لحق بي رجل أسود سمين متسائلاً إن كنت بحاجة لمساعدة، وتفحصني جيداً، متوقعاً أن مكروهاً أصابني أو أنني فقدت ذاكرتي. فاستنتجت أني أسير كالبلهاء، صمتُ أمامه، ولم تعنّي الكلمات، عدت أدراجي وتمدّدت على الفراش*
            ـ أنا خائفة يا سيدة راوية.
            ـ ممن؟
            ـ من عالمكم، إنه مريب، لولا ثقتي من العودة لسجني في الإطار لانتحرت. غداً سأعدّ ترتيبات عودتي، وأتصل بذكرى أحدّد لها مكان لقائنا وأطلب منها جلب ثوبي الأحمر معها؛ لازالت فيه مساحة بيضاء بحاجة إلى تغطيتها بالأحمر.
            ـ تبدين غريبة يا عيناء، ووجهك شاحب جداً، ما السبب؟
            ـ كان الأجدى بي أن لا أعرّض نفسي لعذابكم وألا أوافق على خروجي مع ذكرى، رغبت في رؤيتكم ورؤية واقعكم.
            ـ وهل أعجبك؟
            ـ حاشا لله، لن أعيد الكرّة.
            ـ لا بأس عليك، غداً ستتوسط صورتك المعرض، ويكتب عنك الصحفيون، لا تقلقي، الأيام مضت، وما هي إلا سويعات.
            ـ سيدة راوية، تطفّلت على روايتك ووجدتُ من يتكلّم عنك أنت.
            ـ ألم أخبرك عن أسلوب الكتابة، ستجدين رواية داخل رواية.
            ـ هذا يعني أنك بطلة من كلمات.
            ـ كما أنت من ألوان.
            ـ وقصتك في السجن، أهي حقيقة أم من خيال الكاتبة؟
            - أرجوك احكي لي عن صداقاتك في الغربة، كيف كوّنتها، وبعد ذلك عودي إلى السجن حتى لحظة أكلك الدولمة في بيت أختك.

            ***
            ـ في الوقت الذي كانت تسري فيه الشائعات عن العداوات بين المبدعين، وعن الهمز واللمز، قررت اختيار أصدقائي وانتقاء من أجد فيهم أخوّة صادقة لي، وتركت الذين تجزأت أخلاقهم ومبادئهم. في الغربة تحتاج المرأة لامرأة مثلها، لخصوصيات لا تفهمها إلا الأنثى. ورغم طبعي المتحفظ في اختيار الأصدقاء، ،كنت أخشى السواد لذا تلبسني الحذر.لكن رغم ذلك هناك مساحة بيضاء أجل ، من السهل الحصولُ على صديق، لكن الأصعب هو الحفاظ عليه.

            والآن دعيني منها ولنرجع إلى السجن، حيث حبسوني وحدي كعقوبة خاصة.

            ***


            في سجني الانفرادي قضيت ثماني سنوات، استنطقت الجدران الباردة فلم يجبني أحد. أجابتني حركة في أحشائي بعد مرور ستة أشهر من انفرادي بزنزانة شهدت على حمل غاضب في بطني.
            شهران أصارع فيهما حملاً مقتّـه، أمٌّ تشمئز من حملها.
            رغبت أن أصبح قطّة، يطاردها القطّ ويأكل صغارها، لتركته يدخل أحشائي وينهشه قبل مجيئه.. نمت ليالي على بطني، نططت بقوة، طفرت، قفزت كمن يلعب مائتي مرة، تصبّب عرقي، تحشرجت أنفاسي في صدري، واختنقت.
            غالبني النزف، فرحت بنزفي، نططت بقوة أكبر، فرحت، بكيت؛ ثم غبت بمصل المخدّر.
            من قام بذلك؟ من حقنني وأنهى نزفي؟ ما شكل المارد الذي حملته وكيف كان حجمه؟ لم أعرف ذلك، ولم أكن راغبة بالمزيد من المعرفة.
            بقيت بعد ذلك ضعيفة البنية، تصاحبني دوخة وصداع، وألهث لمجرد حركة بسيطة. تراضيت مع ضعفي، حتى جاء ذلك اليوم الذي قادوني به إلى المدير الجديد، الذي درس اضبارتي جيداً وأرسل في طلبي.
            في طريقي إليه تذكرت حبسي في المراحيض لمدة أسبوعين، تُقدم لي وجبات الطعام قرب الغائط. وقفت أمامه صامتة، وراح يعرّفني بنفسه:
            ـ أنا المدير الجديد، وعندي ما تريدينه، ولي عندك ما أريد.
            خفت أن يقصد اغتصابي، شعرت بميل للقيء، فوضعت يدي على فمي، قلت له:
            - سيدي رحمي طري، فقد أسقطت جنيناً منذ مدة قصيرة.
            ضحك بصوت مبحوح:
            - لقد أسأتِ الفهم. ما قصدت ذلك، بل قصدت قلمك. أعصريه جيداً، واكتبي لي قصائد شعر في الموضوع الذي آمرك به. اتفقنا؟.(ثم أجاب)؛ اتفقنا. (ودون أن يترك لي مجالاً للمجادلة)؛ لقد اشتريتِ كرامتكِ بالموافقة.
            - قلت له: أية موافقة؟
            - أجابني:
            - الموافقة على عدم سجنك في المراحيض.
            - فاضطررت إلى القول: كما تشاء.
            حالما سمع موافقتي، طلب أن يبقي الموضوع سراً بيننا؛ وإلا أعرف نتيجة ما سيحصل لي، واشترط أن أكتب له غزلاً، لأنه لا يحبّ الأشعار السياسية الجوفاء.
            أخبرني عن حبه لفتاة جميلة، ابنة وزير، ويريد مراسلتها شعراً لعلّها تحبه. وراح يحكي لي عنها، كلما ضاق به الليل وكرهته حبيبته ونفرت منه، وأنا أكتب.
            رغبت مرّة في انتهاز فرصة، ورجوته الكفّ عن تعذيب فتاة رموها معي في الزنزانة قبل ثلاثة أيام، وأن يرحموا صغر سنها وضعف بنيتها، فهي فتية لا تتحمل وحشية الشرطة.
            لكنه صاح بوجهي ثائراً:
            - ها، بدأنا نتمرّد؟ اسكتي وانسيها، وإلا جعلتك مثلها تنسي اسمك.
            - في الليلة ذاتها رقدت بدمائها قـــربى، كانت عينـــاها محدقتين في السقف، تحجّرت ملامحها وتصلّبت. صمتها عذّبني، لم أقدر على مساعدتها، جاءوا في الليل وجرّوها من شعرها وعيناها ترجوانني، تشبثت أصابعها بأطراف ثوبي، سمعتها تقول:- حميد.. الناصرية.
            - كانت أشجع مني، لم ترضخ وأنا رضخت.
            منذ ذلك اليوم وعيناها ترافقانني أينما ذهبت، وصوتها يرنّ في أذني، حتى صرت أتوقع أن كل من اسمه حميد يخصّها أو يعني لها شيئاً. عند باب الزنزانة ماتت.. ومن تلك الليلة صارت الجدران عيوناً، والأبواب والمرايا كذلك، حتى صرت أخاف النظر في مرآتي.

            تعليق

            • وفاء عبدالرزاق
              عضو الملتقى
              • 30-07-2008
              • 447

              #51
              9
              وقت رحيلي من العراق لم أجلب معي مرآة، متوقعة أن المرآة التي تعكس عيون المعذبين تبقى في العراق، لكني وجدتها معي في لندن*
              ـ ألهذا تراجعين العيادة النفسية؟
              ـ نعم، ولهذا السبب صادقني طبيبي، وتمنى أن يرى أعمالي مترجمة ليتعرّف علي أكثر.
              ـ ماذا كتبتِ للمدير الأحول من شعر؟
              ـ أمطرته غزلاً، ونعمت بهدوء واستقرار لسنوات.

              ***

              اقترحت عليه كتابة شعر سياسي ونشره في الصحف ليُشار إليه بالبنان، وسألني إذا كنت مستعدة لذلك. سألني متخابثاً، ولمح الاستهجان على ملامح وجهي.
              تباعدت شوارع البصرة، واقتربت مني إشارات المرور، رجال ونساء وأطفال، جاءتني النساء اللواتي سُجنت معهنّ أول أيامي على شكل سؤال يؤرّقني.
              رمى ظرفاً أمامي قائلاً:
              - أنتِ رغبت بذلك، لا دخل لي.
              - ثم فتح الظرف وقدّمه مني، سحب صورة وراح يلوّح بها أمامي، وطلب مني الجلوس:
              - اسمعي يا راوية، سرت في الشارع شائعات تؤكد أن الشاعرة راوية زانية وهذه إحدى صورها بالجرم المشهود، وستُعلّق جثتك غداً على باب داركم، وأعلقها في ساحة ( أم البروم ).
              - جاءتني شجاعة غريبة، أخذت الصورة منه، وإذا بي عارية بين خمسة رجال.. سألته:
              - كيف حال الماجدات، أقصد ماجدة حبيبتك؟ ارتخى وتهدّل كرشه، وتحول الغضب الى ابتسامة.
              قلت له:
              - سننشر قصيدة عن ماجدة في الصحف؛ وأرشدته لصديق صحفي.
              - في زنزانتي حسبتُ كم من الوقت مضى، وكم سيبقي لي من عمر، شعرت بالانتصار على مدير السجن الذي ينتصر علينا بصولجانه وجبروته وخنثه السياسي. وتحدياً له ولخنث أمثاله واجهت التحدي، وبقيت حائرة في العثور على شيفرة شعرية.
              تذكرت صديقي فرقد؛ وبعض الأحداث التي مرّت لي معه، فأشفقت عليه.
              فقد أُجبر على العمل ضد قناعاته، ولأنه صحفي ماهر اختاره ابن الرئيس للعمل معه. أعرف أنه مجبَر، وأعرف نوع التهديد الذي أجبروه به على الموافقة. فقد جاءوا بصحفي رافض وأخواته الثلاث وزوجته أمام فرقد، وأحضروا الكلاب لتنهش أجسادهم حتى تناثرت الدماء والأشلاء كتناثر الحبر على الورق، فاختار الصفحة الثقافية.
              وأنا اليوم أختاره، لأني مثله، جبانة وقابلة للمساومة. حاولت مراضاة نفسي بأني أشتري شرفي وسمعتي وروحي، واستهزأتُ من نفسي:
              - أي شرف وأية روح يا راوية تبحثين عنها؟ ومن أجل مَن تنتظرين الحياة؟ ابنك، زوجك؟
              سمعت صوتي داخلي يئنّ:
              - من أجل الوطن وافقي، أنت كاتبة والوطن بحاجة لقلمك كي تعرّي هؤلاء الحثالة أمام العالم.
              - أخذت القلم والأوراق، ورحت أمتحن قدرتي الإبداعية في خلق شفرتها. وسأخبر المدير العفن أني أمجده، وسأجعله مثل جلجامش وأتكلم بلسانه، وأبعده عن قصائد العشق. ولو خاف سأوضح له أننا سنتكلم عن العظماء بصوت جلجامش، وأن أسلـــــوب إحضار التأريخ هو تورية لعظمتك أيضاً سيدي. وبصقت:
              - ابن الكلب، حاشاك من السيادة) فجاءت القصيدة،
              أنا جلجامش العظيم
              أنا من قطع أشجار الأرز
              وقتل خمبايا
              صديقي الذي أحب
              بين قبضة الموت
              فمن ذا الذي يدرك خطط الآلهة؟
              لا تقف حائراً
              لا تقف مكتوف الأيدي
              أنا صديقك القديم
              (أنا رقصة الماء )
              ها إني أروي عن مضجعي
              الشبح الجائع
              ارمِ له كسرة خبز.
              فرحت بقصيدتي، وتركت شفرتي بين قوسين.
              كانت قدماي تتسعان في محاولة إعطاء فرجة أكبر للمشي، فقد مشتا متراصّتين ومنفرجتين بفرحهما، والشرطي يقودني إلى غرفة المدير. وقفت قبالته دون خوف، تبسّم في وجهي وربّت على كتفي برفق، طلب لي بعض أكل وقدح عصير، وسألني: يبدو أنك نمت جيداً؟
              اتسعت عيناي وأنا أردّ عليه:
              - أستطيع حماية نفسي من السهر.
              - كل ما فعلته لحظتها، سحبت كتفي من يده، وقلت في نفسي شُلّت يدك؛ انفرج فمي عن ابتسامة مقيتة، في حين كانت عيناي تندسان في الورق. شدّ الورقة من يدي، وراح يقرؤها.
              - هل أعجبتك القصيدة سيدي؟ (وأكملت)؛ إنها بصوت جلجامش وصوت أنكيدو صديقه لحظة موته.
              كان صامتاً، خفت أن يستشفّ ما بين السطور، تابعت صمته، وسمعت أنفاسي. في انتظاري الردّ ساقتني الذكرى إلى زوجي الذي تدور أنفاسه حول رقبتي، وأنا أقرأ عليه مشروعاً جديداً لقصيدة.
              تلتفّ أنامله حول رقبتي، وتعبث بخيط الوسط بين نهديّ، كفه المرتعشة تجعلني أرمي الورق أرضاً وأعانقه.
              دخل الشرطي حاملاً بيده وجبة الأكل والعصير، اقترب المدير مستفسراً عن السطر المقوّس بين قوسين، شرحت له أن التضمين في القصيدة يجب أن يوضع بين الأقواس. رغم عدم فهمه تظاهر أنه فهم، وطلب مني اسم الصحفي، أعطيته إياه فرحة؛ لكن يا سيدي لا أعرف عنوانه حالياً.
              قاطعني بإشارة أن اصمتي قائلاً:

              - وهل يصعب ذلك؟
              قادني الشرطي إلى حيث أكون، جلست القرفصاء، أنبش في تراب ريبتي، فتطايــرت أغبرة الحلم، وتراقصت أمـــــــــام ناظري، وأتخيل أن صديقي فهم
              الإشارة. ثم يصعقني ألم الواقع، وأعود لمحاورة النفس؛ لا، سيفهم أسلوبي. كان يقول لي: (أنت سلسلة الماء وأشعارك رقصة مائية)؛ وكان يتصل هاتفيا بعد كل قصيدة أبعثها له:
              ـ شكراً راوية، لقد شاهدت رقصة الماء على ورقك.
              فاحت زفرة الكباب، فقد رموه بقربى كمن يرمي قطعة لحم لكلب. أفرغت ما في معدتي في صفيحة معدنية، تصاعدت رائحة كريهة منها، توحي ما بداخلها من روث وبول، وبقيت على معدة خاوية حتى الصباح.
              ما إن أطلّ وجه النور في زاوية صغيرة، سمعت وقع أقدام، مددت رأسي، شاهدت شرطياً، رجوته أخذ الأكل ورميه. رائحة حموضة الأكل أزعجته، صرخت به إحدى السجينات:
              - أريده لا ترمِـه. توسّلت إليه.
              - ردّ عليها فرحاً؛ بما أني سأرميه في الزبالة، إذاً خُذيه.
              - وضحك ضحكة مدوّية، وهو يرى تناثر الكباب على الأرضية؛ امرأة زباله.. ها.. ها..
              - ما إن مرّت لحظات حتى تهافت فريق من الشرطة، وامتلأ المكان بخنازير تترصد حركات عيوننا المطلّة من الشبابيك الحديدية الصغيرة. أخافنا الوضع، كرهنا ملامحهم الوحشية، مئات مهرولة، تحتشد مزدحمة، وصمت يسود المكان. مضت ست ساعات على حالة الترقب والانتظار، والعرق يصب من وجوههم ووجوهنا. وعرفنا من خلال همستهم بوجود مسؤول كبير في السجن، كما شاهدنا شرطياً يأمرهم بالانصراف.
              كيف يخاف هذا المسؤول من سجينات عزل، مددت وجهي حيث أخفى الحديد نصفي، وتجرّأت بسؤال لشرطي قريب مني: - هل هناك مشكلة يا عمّاه؟
              نفث دخان سيجارته في وجهي ونهرني:
              - عميت عينك، أنا عمك يا قحبة.؟
              - اقترب منه شرطي آخر، وأمره بالهدوء:
              - سيغضب المدير، فقد أمرنا بمعاملتها معاملة حسنة.
              أحضرني المدير إليه ذات يوم، وطلب مني قصائد أخرى، قال لي إنها ستأخذ الصدارة في الصحف، وقد راقت للصحفي فرقد الذي رحّب به، وطلب منه أن يقصده كلما رغب في نشر قصيدة لأنه شاعر متميّز.
              فرحت ورجفت أعماقي فرحاً، كتمته كي لا أُكتشَف، فقد بلع الطعم هذا الشويعر المعتوه، ووصلت إشارتي وشفرتي لفرقد.
              - عزيزتي عيناء، اعذريني فقد تعبت. والأخيلة التي عصرتها وأحضرتها معي تدور حولي كشبح مسلول، وأريد الراحة. تصبحين على خير، وغداً سأريك مكان التقائك بذكرى في ماربل آرج.

              تعليق

              • وفاء عبدالرزاق
                عضو الملتقى
                • 30-07-2008
                • 447

                #52
                فصـــــــل


                أخير




                فصل الروح عن الجسد

                تعليق

                • وفاء عبدالرزاق
                  عضو الملتقى
                  • 30-07-2008
                  • 447

                  #53
                  لا أعرف
                  في أية أرض سيتحوّل جسدي
                  إلى نفط .
                  الساعة تشير إلى الثالثة ظهراً، تحركت راوية مثقلة، فتحت عينيها وفركتهما. وكمن يبحث عن ضوء أزاحت عنها النعاس، ومدّت يدها نحو عيناء التي رقدت قربها هامدة الجسد، حرّكتها بلطف وتركت الفراش. وضعت غلاّية القهوة على النار، ودخلت الحمام لشطف وجهها. فركت أسنانها، وعينها تطلّ كل ثانية على الغلاية.
                  دخلت عيناء تسحب رجليها، وأكملت ما بدأته راوية، استخرجت من الثلاجة قطعاً من الجبن الأبيض المغموس في زيت الزيتون. وجلستا تلوكان لقم على مضض، تطلّعت كل منهما في وجه الأخرى، وعلى حين غرّة ضحكتا ، نطّتا في وقت واحد وضحكتا ثانية. ثم بادرت السيدة بالكلام :
                  - بعد الإفطار سنخرج.
                  - إلى أين؟
                  - سأرشدك إلى شقة وليد، فأنا أعرف مكانها جيداً.
                  - ثم أشارت إلى عيناء:
                  - لا تسأليني، سبق أن سألتِ وقلتُ لكِ هكذا أملِيَ على. عيناء، عزيزتي.. قد تجدين كلامي غريباً عليك، فنحن الشعراء والكتاب أوراق وشحنة قلم. ولا تستغربي صمتي، فأنا أحاور صمتي وأسمع همسه.. هيا أنا جاهزة.
                  - في ماربل آرج، لمحت السيدة ذكرى تدخل أحد المحلات :
                  - عيناء تلك ذكرى أليست كذلك؟.
                  - أين؟.
                  - دخلت إلى محل((Evans؛ فلندخل هناك.
                  - لكن هذا محل للمقاسات الكبيرة، وهي ممشوقة القوام.
                  - ربما دخلت للفرجة أو ربما شاهدت كويتياً أو إماراتياً يشتري لزوجته البدينة، وأرادت صيده. هيا، ادخلي.
                  - كان العناق حاراً وجميلاً بين ذكرى وعيناء، لاحظت ذكرى وجود السيدة فسألت عيناء :
                  - مَن مرافقتك؟ أهي السيدة التي أخبرتِني عنها؟
                  - هي بعينها.
                  - لمَ تقف ساكنة وتتفرّج علينا فقط؟
                  - دعكِ منها، أجيبيني ماذا تفعلين هنا؟
                  جئت أقتل الوقت، حيث بتُّ أعدّ الدقائق للخروج من عالم وسخ، ليتنا لم نفكر بذلك. وأنت هل أعجبك يا عيناء؟
                  ـ لم يعجبني، لكن السيدة سحرتني بكلامها ولطف طباعها وكرم أخلاقها، وتمنيت أني لست مجرد كلمة من كاتبة أو لون من فنان. غداً، غداً سنلتقي هنا. ولا تنسي يا ذكرى الساعة الحادية عشرة.
                  ـ هو كذلك، وداعاً.
                  ـ وداعاً.. إلى الغد.
                  خيّم الليل على عيناء وراوية، في صدر كل منهما حزن الفراق. جلستا في الغرفة في وجوم وشحوب، جلستا القرفصاء، وطلبت عيناء من السيدة راوية تكملة حكايتها.
                  تأوّه قلب السيدة وهي تسرد من جديد:

                  ***


                  ـ في سكون الليل، وقت تقلّب الزمن من يد ليد تهجم الذكريات على غير عادتها، تركض خارج الأيام، تستعيد الخسارات والأفراح، سحق العظام الطرية. تمرّ الأجناس الكادحة، بائعو الكبة، بائعو الفول، المثقفون والبسطاء، فالوقت في السجن على متسع لاستيعاب الجميع. يخفق قلبي خارج دقاته حين أشاهد زوجي يخترق حائط السجن، يقفز ولدي على كتفي، وبتزاحم الجراح لأفكاري أسمع صوت نباح الكلاب، فيضيق متسع الذاكرة، تعبر الأيام بتكوينها المزاجي وفق مزاج مدير السجن. تطرقني تحت سندانها، أتحسس يدي اليمنى إن كانت مازالت صالحة للكتابة، أمنح نفسي أبعاداً تتمسك بلحظاتها وتفكّ اللغز، وأرجع أعطي كلماتي مدخلاً آخر، أعصر فرحي الهش، وأتجوّل بتوجّس يعيدني إلى وضعي.
                  ذات يوم، وبعد أن كتبت ما يقارب الثلاثين قصيدة، طلب مدير السجن إحضاري إليه. نهضت بقوة مخذولة، كأني أسحَب لساحة الإعدام. الاحتياطي من الركض لم يعنّي ولم يفكّ قدمي المغلولتين. تدافعت مع نفسي وسألت الشرطي:
                  - هل عرفتَ ما الأمر؟
                  كثرت الظنون كما كثرت التساؤلات؛ الممر إلى غرفة المدير لا يأخذ غير خمس دقائق مشياً، فاستطال دهراً.. دخلت على المدير وهو يشرب القهوة، اخترقت أنفي وحواسي الرائحة، سحبتُ نفساً عميقاً لأستمتع برائحتها.
                  أمرني بالجلوس على كرسي أعدّ مسبقاً لي، وطلب لي فنجان قهوة. نهض متأملاً تصرّفي المتظاهر بالبرود، لا أحب إعطاءه فرصة انتصاره على ضعفي، دار حولي عدة دورات. وبغرور تحسس كرشه، وتركني أتساءل في سرّي: ماذا لو شكّ أمري؟
                  أفتح باباً وأغلق باباً في صمتي، وأتمهل في شرب قهوتي. وحين وجدني أمسك يدي الراجفة بيدي الأخرى سألني :
                  - ما بك يا راوية؟ ما الذي أصاب يدك؟
                  - لا شيء.. إنها تؤلمني وقد نمت عليها البارحة طويلاً.
                  - بماذا ستكتبين اليوم ؟ دعيني أرى.
                  وتفحّص يدي، تظاهرتُ بثقلها، وأشرت إلى موضع الألم. ضغط على رسغي بقوة قائلاً :
                  - ألا تكتبين لي قصيدة جديدة؟
                  ارتفعت حرارتي، وتدفق الدم في وجهي؛ ما على إلا أن أستدرجه لكشف أوراقه. رأيت على الطاولة أوراقاً صفت كتابتها بشكل جميل، لتكون مخطوطة جاهزة للطبع، وانتبهت للعنوان (لغز الانتظار ). سألته إن كان الكتاب له، أجابني بغرور :
                  - نعم، إنه ديواني، وسأطبعه.
                  سألته بتخابث :
                  - من المؤكد أنك بذلت جهداً في اختيار العنوان.
                  استدار كله أمامي؛ بصراحة.. اختاره لي السيد فرقد.
                  هزتني رجفة صاعقة، فالعنوان إشارة لي،.
                  لاحظ ارتباك : ما بك يا راوية؟
                  - لقد فرحت لك يا سيدي.
                  ورجفت فرحاً.. أمسكني من يدي؛ الفضل لك يا راوية ولفرقد، فقد كان لطيفاً معي، ومنذ القصيدة الأولى (وراح يشرح لي باللهجة العراقية؛ (إي هايه القصيدة مال جلجامش) ثم أكمل :
                  - منذ القصيدة الأولى أصبحنا أصدقاء، وصار يتصل بي يومياً طالباً قصيدة جديدة، وقال لي إنه سيشركني في مسابقة أدبية، فقد راق له شعري.
                  ابتسمت حين سمعته يقول راق له شعري؛ واستدركت الموقف متسائلة:
                  - ها.. وبعدين؟
                  - ـ صرنا أصدقاء، ونخرج معاً للنزهة.
                  - ـ سيدي أنا أعرف فرقد، لا يملك إلا راتبه.
                  - ـ لا، لا.. (ونفخ صدره) كنت أعزمه أنا وعلى حسابي، ليش أنه غشيم؛ أنتم الأدباء ثروتكم بس القلم.
                  - ردّدت في نفسي ، شكراً فرقد، شكراً.
                  - سمع همسي، وفتح عينيه وأذنيه؛ تشكرينه على ماذا؟
                  - أشكره لأنه لم يخذلني ويحرجني أمامك، سيدي.
                  - لكني لم أقل له أنك أرشدتِني إليه.
                  وراح يدور بعينيه في كل أرجائي.. تناولت الأوراق أقرؤها، وأداري ما قلته، قرأت عليه مقطعاً جميلاً.
                  الذي تراه العين
                  حقيقة تنتظر
                  دفع صدره أكثر، اقترب مني بكرشه المضغوط بالحزام:
                  - أمازلت تشكرينه؟
                  ـ من سيدي؟
                  ـ صديقك فرقد.
                  ـ ما قصدته سيدي من الشكر هو موقفي تجاهك ورأيك على أني بعثتك للرجل الصحيح، الرجل الذي يستحقك ويقدّر موهبتك، فأنت الآن شاعر مشهور.
                  لقف بيده قدح عصير جُلب إليه قبل قليل، وقدّمه إلي:
                  - العصير بانتظار أن تشربيه.
                  وطلب منى أن أكتب له قصيدة الليلة، وستكون خاتمة الديوان. وافقت على الفور، فقد أوقعناه في فخنا، أنا وفرقد.
                  بعد أن عدت فرحة إلى زنزانتي، صحت بصوت عال: لا، أنا أوسّع لك الدرب. وذكرت اسم فرقد، ضحكت وتوقفت بسرعة. رغبت بالصراخ، صرخ بي جسدي الخرب. وجلست أجادل الجدران التي رسمت عيوناً تسألني وتتوسل، وامتلأ المكان بالعيون. تذكرت القصيدة المطلوبة مني ، وجدت الأطفال تمسك الورق لي، شاهدتهم كلهم قربي ، حاصرتني النساء، ثم غبن، بغيابهن تركن لي مساحة من الحرية لأكتب عنهن وعنهم.

                  تعليق

                  • وفاء عبدالرزاق
                    عضو الملتقى
                    • 30-07-2008
                    • 447

                    #54
                    2
                    تصــوّرت أني خارج السجـــــــن، أبحث في الناصرية عن حميد، أي حميد أسأله إن كانت له بنت في السجن. طرقت الأبواب، حفرت الناصرية شبراً شبراً، ولم أعثر على حميد. وجدتني في معادلة خُذ وهات، مزقت الورقة الأولى وكتبت غيرها، لم أدرِ كم من الوقت مضى وكم من فقدان الذات حاصرني. كان ضوء النهار يدخل نافذتي، سمعت الشرطي يأمرني بتحضير أوراقي.
                    طلبت منه أن يستدير لأتبوّل، سحبت التنكة إلى زاوية لا تصل إليها عينه، وأفرغت ما بمثانتي، جرجرت أوراقي معي. لم يستقبلني كعادته فرحاً، بل كان مكفهراً مقطب الحاجبين، سحب الأوراق من يدي بقوة، وأمر بإرجاعي إلى الزنزانة*

                    - أما كان بمقدوره أن يأمر شرطيه بأخذ الأوراق؟
                    - بصراحة يا عيناء، أخافني وجهه.
                    - ـ ربما أكل غسلة عدلة من زوجته، فهؤلاء المستأسدون معكم فئران قرب زوجاتهم.
                    - ـ فكرت ساعتها بذلك، وفكرت بأوامر أعلى منه نقلته إلى سجن آخر، أو ربما "الغجريَّة"؛ خاصته استولى عليها مسؤول أعلى رتبة منه.

                    ***
                    مرّ أسبوع يا عيناء، وأنا مثل الخبز في التنور، كم تمنيت إعادة ترتيب الأشياء أو إرجاعها إلى أول يوم دخلت فيه السجن. أفكار مشوشة تطرأ فجأة، إصرار الجلادين على إذابة النساء بالأسيد ورمي عظامهن في تابوت الخيبة. أسبوع لا أستطيع وصفه، أحياناً كثيرة تضيع مني انفعالاتي، وأجدني مجرد بلهاء تخونها الكلمات.
                    استعرضت مساحة الجدران، شقوق السقف وعدد بلاط الزنزانة، وكم عدد الحفر في طابوق الحائط، وكم حشرة استأنست معها وأنست لي.
                    فرحت بدخول برص يزحف، وعرفت حرية الوزغ، أما آدميتنا فدون الزواحف. كتبتُ عني، أنا راوية الكاتبة، ومزّقت الأوراق.
                    حفرت تحت البلاط، ودفنت النتف الممزقة، كي لا ينتبه أحد، فالشرطي وقت ذهابي للمدير يدخل زنزانتي ويفتش ما تركوه لنا من نعمة. فراش رث، بطانية ممزقة أكلني البرد من ثقوبها.
                    ليلتها حلمت حلماً غريباً، رأيت البلاط يتكسّر لوحده، ولكل كسرة أربعة أرجل ترفع الجدار وتهتزّ، الأرض أصبحت حفرة.
                    خرجت كلماتي على شكل سكاكين، سمعت ضجيجاً وصراخاً يملأ المكان، كان الضجيج على شكل أشباح مرعبة بأسنان طويلة وأشكال قبيحة، والسكاكين مغروسة فيها. دارت الأشباح حول الزنزانة محاولة كسر الجدران وتهديمها، حاصرني اللسان وعصرني، ولم أصحُ إلا على صراخي وأنا أتصبّب عرقاً.
                    جلست أعدّ للمائة كسباً لوقت الصحو وهرباً من رعب الحلم؛ وكثيراً ما داهمني هذا الحلم في الليل.
                    أما في النهار فكنت أحسب خطوات الحراس، أفتح خرائط التهديم والبناء في روح امرأة مهجورة، أنزوي في جلستي، وأهب انطفائي لحظة توهّج، أنتقل إلى سطوح المنازل، إلى هلع شاطئ شطّ العرب من تماثيل شيّدت على ضفّته، وجدتني أسمع صدى نفسي.
                    في نهاية الأسبوع، وفي يوم الخميس تحديداً، وقت كنت كورقة هشة، سمعت اسمي يردّده الحارس :
                    ـ راوية، راوية.. انهضي المدير يريدك.
                    سرت خلفه أمتحن قدرتي على التصبر، دخلت عليه فوجدته مبتسماً، حفرت الابتسامة نهرين على حدود شدقيه، نفرت من صبغة شعره بعض شعيرات وتمردت. جلستُ دون أن يأذن لي بالجلوس، أطرى علي وتمنى لي العافية، فلولاي لم يفز ديوانه بجائزة تقديرية من الاتحاد.
                    سألته؛ أي اتحاد سيدي؟
                    بلع ريقه، لا أدري لمَ توقعت أنه يكذب علي، أو كان يستدرجني بأسلوبه الغث، أو كانت مجرد شكوك تداهمني.
                    وفجأة رأيتني أعطيت المدير أكثر من ما يستحق، لمجرد أني تصورته يفكر. لم يُجب على سؤالي ويوضح مصدر التقدير لديوانه، طلب مني الوقوف قائلاً:
                    - انظري في عينيّ وحدّقي دون أن ترمشي.
                    لم تدمع عيني بجمود التحديق، وعندما وجدني صلبة سألني: - كيف استطاعوا الوصول إليك؟
                    ـ لم أفهم سيدي، من تقصد؟
                    يبس ريقي، بللت شفتي فلم أفلح بترطيبها؛ فتح درجه واستخرج ملفاً: عملنا يا راوية يتطلب السرية التامة، وكي نحمي الشعب والوطن من الأشرار (ثم عاين وجهي) الأشرار أمثالكم، نتكتم على أسرار عملنا.
                    وما يحيّرني (ثم صمت، ووجه سؤالاً):
                    - هل تدرين أني لم أنم ليلتين؟
                    - قلت له:
                    - أبعد الله عنك السوء يا سيدي.
                    - قال: - بسببك أنتِ.
                    - ـ لا أدام الله لي عمراً إن سببت لك الضيق.
                    - اصفرّ وجهه واحمر :
                    - جاءتني أوامر بتمزيق أضبارتك.
                    - راح يمزق الملف إرباً، ورماه في سلة المهملات. حاصرتني السنون التي قضيتها في السجن، ولم تصعقني المفاجأة، وكأني كنت على علم بما سيحصل. ودون أن أترك موضعاً للشك سألته
                    - متى سأخرج سيدي؟
                    - أجابني غاضباً :
                    - غداً، غداً ستقلّك سيارة إلى مكان متفق عليه، وهناك ستجدين من ينتظرك. فاستعدّي، غداً صباحاً.
                    - أردت أن أستجمع جرأتي، صرت مثل الطريدة التي تجابه صائدها، كان
                    باستطاعتي استبيان التعنت المر المتحشرج في صوته، قراءة هواجسه والكثير الكثير من الإيهام اليابس على تقاطيع وجهه، شفتيه المثقلتين بالأسئلة.
                    - حاولت زمزمة كلامي، تفحصت الغرفة بزواياها، خطوت خطوتين نحوه وقلت له:
                    - سوف نشتاق لك سيدي.
                    - ابتسم ابتسامة ماكرة وقهقه.
                    - اهـ.. اهـ.. على منو الكذب؟ على هايه الشوارب؟
                    وددت لو بمقدوري البصق على شنبه، احتشدت الدنيا كلها في صدري واختنقت باختناق دمعة الفرح. رجعت أرتب لحظاتي وأحسبها بالثانية، بربع الثانية. أشدّ البُرَه الفالتة وأجعل منها حبلاً يخنق عنق الوقت. سمعت الصمت مرة أخرى يعاجلني ويهمس :
                    - لست بحاجة لهذا الحبل، أقبلي ظمأك.
                    - أجبته:- أليس لي حق حتى بالأمل؟
                    - انتبهت إلى صرصار صعد على ثوبي، تركته يتمادى في سيره، صارت لي رغبة في معرفة قصده. استقرّ عند موضع السرة، مددت له إصبعي كي يخطو عليه، لم يجفل مني.
                    دخل برصان وتصارعا، ربما جاءا لتوديعي. ابتسمت وأنا أسترجع ذكر أختي ودخول البرص تحت ثيابها في إحدى الحسينيات القديمة في منطقة "المنّاوي". أظن حتى البرص يرغــــب بشمّ رائحـــــة الخوف الأنثوي، فهي تخافه حدّ الجنون، سقطت وقتها مغشياً عليها، جمعنا لها زجاجات العطر ورششناها عليها، كان العطر رخيصاً وغالياً بقيمة القلوب البيض.
                    بعد أن غسلنا جسدها بالماء والصابون، بقيت ترتجف وتصطك أسنانها. سرنا إلى بيت صديقة لوالدتي، لحقت بنا "الملاّية"؛ وقرأت المعوّذات على رأسها، طلبت ماء ممزوجاً بماء الورد، مسحت وجهها حتى استعادت أنفاسها الهادئة، وعاد صوتها الخفوت إليها.

                    هنا لا عطر ولا "ملاّية" تقرأ قربي ما تيسر من القرآن الكريم. احتدم الصراع بين البرصين، سقط الصغير أرضاً، انقلب على قفاه، تابعت ضعفه وقررت سحقه بنعالي.
                    بقيت أستطلع أسئلتي وأضيع بين البائن والمخفي، جمعت المتبقي من آدميتي ودلقته في رئتي، حيث جاء على شكل نفس متقطع. عند مدخل الرئة شاهدت ثماني سنين مرمية في سلة زبالة. وعند نفسي الضائعة بحثت عن نفسي وشككت في تذكّرها لي، وهل أنا هي أم هي أنا؟. ماذا لو خرجت، ووجدت زوجي وابني بانتظاري، لم تطرأ لي مثل هذه الفكرة أبداً، تمنيت أن يطول انتظاري لأستمتع بأمنيتي قدر المستطاع.
                    عند التاسعة صباحاً خرجت من زنزانتي معصوبة العينين، يقودني شرطي من يدي. سألته:
                    - إلى أين تقودني يا عمّاه؟
                    - ومن صمته عرفت انه غير مخول بالرد عليّ.
                    فرحت بانطلاق السيارة خارج السجن، سألته:
                    - أين نحن وأين ستأخذني؟. فلم يجب، قادني لشرطي آخر، فكّ وثاق يدي، و بدوره قدمني لرجل جالس في سيارته. جلست في المقعد الخلفي، سيارة عادية، ليس فيها رائحة شرطة، حاصرني فضولي لسماع صوت السائق :
                    - ما اسمك يا أخ وهل لك أولاد؟ بمن تحبّ أن أسمّيك باسم ابنك أم ابنتك؟ أظنك أبا ماجد أو فاضل؟
                    جاء صوته قوياً ببحة؛ على مهلك، لست أباً لأي اسم ذكرتِه. اصمتي الآن أرجوك، فالوقت طويل لديك الآن وستملكينه، بعدها ستجدين من يكلّمك.
                    لم أستلم حوائجي، تعمّد الشرطي نسيانها وهو يحدث للسائق.

                    تعليق

                    • وفاء عبدالرزاق
                      عضو الملتقى
                      • 30-07-2008
                      • 447

                      #55
                      3
                      مضي من الوقت أكثر من ساعتين، على حسب تخميني. تركتُ الصمت يلهو، شاهدته كرجل يلفّ سجائره بين أصابعه، تجمعت حلقات الدخان على أجفاني. تركني صمتي مغادراً حالما وقف السائق وطلب مني النزول، وهو يشير إلى سيارة تنتظرني.
                      جرّبت الركض، أضعفتني الفرحة والقرفصة داخل الزنزانة.
                      استجمعت قوتي المتبقية، خرج زوج أختي من السيارة، وعانقني. بلّلتنا الدموع وبلّلناها بدوي أرواحنا وقلوبنا، أسندني على يده، وأدخلني السيارة، مسحت دموعي، ومسح دموعه أيضاً؛ سألته:
                      - أين نحن يا شاكر؟
                      - أجاب : - على أطراف مدينة الديوانية، سندخلها بعد ساعة.
                      - تناثرت الأسئلة، كحديقة من الثلج لا دفء فيها سوى الدموع، وتهّرب زوج أختي من الكثير من أسئلتي. كان يقول : - هوّني عليك، أنت بحاجة إلى راحة الآن.
                      انحدر عن الشارع العام ودخل شارعاً فرعياً، توقفنا عند مطعم منزوٍ، أخذنا ركناً في آخر المطعم الذي تفوح منه زفرة اللحم المترجرج فوق صحون الرز.
                      تجشأ أحدهم بصوت عالٍ، اقترب منّـا شاب حاملاً صينية يعلوها الذباب، وقدّم لنا ما طلبناه. لم أرغب بالأكل، كرهت منظر اللحم المقطّع، ولحد الآن أكرهه وأشعر بالغثيان لرؤيته منذ تقطيع الطفل بالمفرمة أمامنا. طلبت من شاكر أن يجد لي حماماً، سألني : الحالة ذاتها؟
                      قلت له :
                      - ذاتها ازدادت أكثر.
                      - هو يعرف أني أصاب بحالة من الشرشرة كلما توترت؛ وحين رجعت شاهدت رجلاً يرتدي بنطلون جينز وقميصاً أبيض، يضع على عينيه نظارة قاتمة. همست بأذُن شاكر: - هل نحن مراقَبان؟
                      قال لي : وهل تعتقدين أنهم سيتركوننا وحدنا؟ هذا أمر طبيعي (ودارى بسمة بين شفتيه).

                      - قلت له:
                      - لماذا تبتسم؟
                      - لم يجبني، بل طلب مني العودة إلى السيارة. وما إن فتحت الباب حتى رأيت الرجل الذي كان يراقبنا جالساً فيها. رجعت إلى الوراء قليلاً، ثم صرخت به :
                      - قُم، أتلاحقنا إلى هنا؟
                      - رفع النظارة عن عينيه وابتسم، صرختُ :
                      - فرقد، فرقد. كيف لم أتعرّف عليك؟
                      - وأطلقنا عنان الدموع.
                      الطريق من الديوانية إلى البصرة يستغرق خمس ساعات، عرفت خلالها كيف استدرج فرقد مدير السجن، ومن القصيدة الأولى عرف أني في قبضة الرجل الذي أمامه. صادقه مادحاً شعره، وسهل له سبل الانتشار ليكسب ثقته. عرف اسمه الكامل، لكن الخبيث لم يخبره عن مكان عمله بالضبط، قال له إنه يعمل في أحد السجون ولم يفصح أكثر.
                      ملت بجسدي كله صوب فرقد؛ خفت أن لا تكشف شفرتي.
                      أجابني ومسح على كفي:
                      - وهل أتوه عن قصائدك ،أنا رقصة الماء، كيف أنسى رقصة الماء.
                      - ـ لكنكم أطلتم علي.
                      - أجابني شاكر:
                      - المهم أنتِ معنا الآن، لو كنا نعرف مكانك لافتديناك بأرواحنا.
                      - وضع فرقد مرفقيه على الكرسي الأمامي، حتى شعرت بأنفاسه تحوطني:
                      - لو تدرين كم بذلنا من جهد ومال كي نصلك؟،. ابن الكلب الوسيط أخذ مليوني دينار ليوصلنا إلى رجل ذي نفوذ، وهو بدوره يوصلنا لآخر بإمكانه تعريفنا على شخص في الأمن، وعلى هذا المنوال. أموال وهدايا، ومن البصرة إلى بغداد والملايين تكثر. وحتى نستطيع جمعها، نحتاج إلى وقت طويل كي نبيع ما نملك، والحلقة تدور وتدور؛ المهم المرحلة القادمة.
                      - هل هناك مرحلة أخرى؟
                      - ردّ فرقد ومسح على شعري:
                      - يجب تهريبك من العراق، وبأقرب فرصة. تساءلت: كيف؟
                      - أجابني واثقاً:
                      - أتممنا كل شيء، وستعرفينه في حينه.
                      بين الديوانية والبصرة تاهت مني الأسماء، تاه مني وجهي، خصلات شعر ولدي، حضن زوجي، أمي التي ماتت بحسرتها علي مثلما أخبرني شاكر. طلب مني شاكر التخفّي صباحاً لئلا يراني الجيران، كما أخبرني أنه اتفق مع أحد المهربين لإخراجي من العراق سراً عن طريق الشمال. فزعت من فكرة التيه الجديد، استدرت بكلّي إلى شاكر:
                      - وكم سأبقي عندكم؟
                      أجابني :
                      - ثلاثة أيام فقط، لقد حددنا بالضبط ساعة مغادرتك حين عرفنا موعد خروجك من السجن.
                      - سألته : ومن أين ستدفع للمهرّب؟
                      - امتدت يد فرقد تشدّ من أزري، أُثقِلتُ بالرعود والغيوم والمجهول. وقبل أن نطرق دار أختي، أخبرني شاكر أنه باع قطعة الأرض المسجّلة باسم أختي، كما تصرّف بالذهب الذي تركته في حوزتها.
                      من أول طرقة على الباب بهدوء، فتحت أختي، وكأنها كانت تحسب الدقائق، شهقت ورمت بنفسها علي، ثم سقطت مغشياً عليها.
                      الكلام رطانة تزحف بحروقها، تركض الكلمات بعيداً وتقترب، والقمر يتلصص علينا من الشرفة.
                      أزحنا عنا تراب السنين بابتسامة مترنحة بعذاباتنا، وبما أنها لم تخبرني عن زوجي وابني عرفت أني فقدتهما إلى الأبد، لم أشأ إحراجها لتهرّبها من نظرات عيوني.
                      في الصباح دخلنا المطبخ، أربع عيون متورّمة، نحاول خلق ضحكة فاترة. صحا شاكر على أصواتنا وشاركنا شرب الشاي، شربه عاجلاً وقال لأختي:
                      - راوية تحب السمك، وتحبه مشوياً فتهيّئي.
                      - دفعت الباب جارة أختي، دون أن تطرقه، وطلبت من أختي رغيف خبز، أما أنا فأسرعت إلى غرفة النوم واختبأت فيها.
                      أعرف جارتنا حورية، زوجها يشتغل في دائرة الأمن، وفي أيام القحط فقط امتلأت ثلاجتهم بالفاكهة واللحوم والأسماك.. سألتْ عن الشاي، وهل شربت أختي وزوجها فقط، ولمن "الاستكانة"؛ الثالثة. أعطتها أختي رغيفين لتخرج، وتمنّت لها العافية فقد كانت تشكو من ألم في معدتها.
                      عجنت أختي "الكليجة"؛ وشويت خبزها في التنــّور قبل السمك، وشوت في الفرن أصابع العجين قائلة:
                      لا بدّ من التقوّت، الدرب طويل أمامك وشاق، كُلي لتستردّي عافيتك.
                      على برج المحطات، على برج المراقبات، وعلى برج يأكل نفسه مرّت ثـــــلاثة أيام بليلتين. كــــان الوداع مختلفاً هذه المرّة؛ وقفنــــا نتطلّع لبعضنا فالاحتضان لا يجدي. ابن أختي اختصر الوداع ودسّ رأسه بين الوسادة واللحاف، تشاغل شاكر في تصليح سيارته. تسمّرنا كسمكة ابتلعت طُعماً، لبطت دواخلنا، تناثر الماء المالح على سفحه.
                      تفجّرت أختي بصمت خشية أن يسمعها أحد، لفّت الشيلة على صدري ووضعت العباءة على رأسي؛ هكذا أفضل، لن يعرفها أحد.
                      قال لها زوجها وهو يدخل حقيبتي الصغيرة في السيارة، بعد أن طلب مني الجلوس في الخلف:
                      - إن رآنا أحد وسأل قولي له إنها إحدى قريباتنا جاءت لزيارة طبيب، وبعد الفحص الأول طلب منها المكوث يومين لاستكمال الفحوصات.
                      لم أعرف ما الذي حلّ بي، أصبحت قطعة ثلج، جسدي كله جامد. ضمّتني أختي إليها وشهقت بقوة :

                      - شاكر دير بالك عليها، أعطها شاياً كثيراً، جسدها بارد جداً.
                      - لم أرَ الشوارع أو البيوت، لم أعرف وجهي الذي أحمله أو يحملني. بمن سألتقي، ومع من سأسير، أحمل في حقيبتي تأريخاً من الخسران.

                      تعليق

                      • وفاء عبدالرزاق
                        عضو الملتقى
                        • 30-07-2008
                        • 447

                        #56
                        4
                        بقيت صامتة لم أفتح فمي طوال الطريق، هُيئ لي أني شاهدت شبحاً يصعد معنا في السيارة، أصبحت ميتة، ومفصولة عن جسدي؛ ليته مات. موت الجسد هيّن، يتحلّل ويصبح بترولاً، بينما موت الروح يرافقني، يتتبع خطوي، ويعدّ على أصابعه كم من الوقت يحتاج جسد راوية ليتحلّل إلى بترول، وأي بلد سيصدّر زيت راوية.
                        توقف شاكر حين شاهد السيارة التي تنتظره.
                        - أي طريق اجتزناه وأين نحن؟
                        سمعتهما يتهامسان، رشّ شاكر الماء على وجهي :
                        - ما هذا البرد يا راوية؟ لا تموتي الآن أرجوك، أنت بحاجة إلى كل شجاعتك.
                        - لم أسمع الأصوات بعد ذلك.. ثم انتبهت بعد مدة على صوت امرأة تخلع ملابسي، وتقول لي: أنت أجمل في الملابس الكردية.
                        صوت المرأة أعاد لي توازني، سألتها:
                        - أين نحن ولماذا أنا هنا؟
                        - أجابتني:
                        - لا تخافي، غبتِ عن الوعي قليلاً. خُذي اشربي.
                        قدمت لي كوب حليب ساخن، حنجرتي متعطشة. كان الحليب يخزني ويعطيني فراغ الساعة وحق تفحصي نتوءات الحدود وهي تمتدّ على غموض المصير.
                        رجتني أن آخذ حماماً ساخناً، وافقتُ على الفور، فكلّي أرتجف.. بعدها ودّعتني.
                        كلما مشت السيارة قليلاً أوقفونا من أجل التفتيش، فأرى طفولتي تحوم حولي، أحلام مراهقتي، عيون أختي وبكاء ابنها المتقطع؛ وجها ابني وزوجي رافقاني. الهرب من مدينة إلى قرية، ومن جبل إلى سفح. تكسر السؤال في البلعوم، تذكرت إحدى قصائدي،
                        ما أوسعني حين أُسَجن بخيطها إني أتغطى بخيط عريان.
                        كنت أتعثر بسروالي العريض، والأصداء كسراب يلحق بي، يرسم خطوطاً متعرّجة ونقاطاً وفواصل. يكتب ويمحو، يخربش ويمزق، وأنا أتنقل من مهرب إلى مهرب.. وقفت السيارة على حدّ بعيد، خرجت أنظر خلفي، لم أجد مدرستي الابتدائية أو طلاب الجامعة.
                        لم أسمع سوى رطانة لا أعرفها، ولغة غريبة إلى أكثر غربة منها، وبأعجمية هجينة ضحك الوقت علي وأوصلني حدود تركيا.. بقيت متخفّية لمدة أسبوع، مُنحت بعده جواز سفر مزوّراً عليه صورتي.
                        وأنا أسير خلف ضابط الهجرة في مطار هيثرو، تابعتني خميرة العجين ورائحتها المشهّية في تنور أختي. جاءتني في المطار ورفعت السراويل على شكل علم.
                        بين الضجيج والساعات المتهدلـّة من أيامها وقفت في المطار
                        محاصرة بضياعي ، لكن المترجم الذي كان عراقيا ترجم التفاصيل التي دعتني اطلب اللجوء أنقذني من حيرتي .
                        تفحّص الضابط كتبي، وتمنى قراءتها مترجمة الى اللغة الإنجليزية. وكلما أسهبت في وصف حالي، ردّ علي الضابط :
                        Yes, we know. Don't worry . *
                        ـ وماذا بعد يا سيدة راوية؟
                        ـ لا شيء يا عيناء.. انتهي دوري، سأضع يدي على يدي، وأستمع للراوية الأصلية. وغداً سترجعك إلى وليد.. انتهت حكايتي والصباح انشق، وأعتقد أنه حان الأوان لنصبح مجرد كلمات على سطور وفاء عبد الرزاق.. وسأراك في قاعة العرض، أو قد أقف عند صورتك وأستذكر الأحداث كلها، أو أكتب قصيدة نهائية.
                        إنـه وقت يقول لأحلامه افترقنا
                        هذه آخر عكّـاز لساق الليل
                        أيتها السماء امنحيني نفسَك
                        النهار آتٍ
                        في الجهة الأخرى من الذاكرة.
                        رقدتا بالشكل الذي أردته لهما، لم يبقَ من العتمة غير ذيولها. وضعت عيناء يدها تحت خدّها، وراوية تبحث عن لحظة تسرق فيها النوم. بقايا أنين عالق بالشراشف، بقايا جُمل لا حاجة لذكرها، بقايا تفاصيل ليس لها مبرّر، وبقايا ساعات مختلَسة من الوقت.
                        رنّ جرس منبّه الساعة، فقد ضبطته عيناء على العاشرة، غضبت السيدة من صوت المنبه، ووبخت عيناء، وكأم خانتها انفعالاتها ابتسمت في وجهها. تذكرت موعدها مع الطبيب في الحادية عشرة، ساوت الوسادة والشرشف، ورأت في عيني عيناء دموعاً مترقرقة. سألتها :
                        - أفي الصباح دموع يا ابنتي، إنه يوم جديد وسترين وليداً فيه؟
                        أجابتها عيناء :
                        - أنا جدّ آسفة، ما قصدت إيلامك، لكن الوداع وداع يا سيدة راوية.
                        أجابتها:
                        - أعرف.. أعرف فقد تقلبت على جمره، وغداً سينتهي كل شيء وستفرحين بزوار المعرض، أو قد ينتبه لدموعك الحبيسة ناقد فني، هذا إذا انتبه لها، فالنقاد اليوم مجرد وهم فني، وربما ستصبح نظرتك كابتسامة الموناليزا.
                        شربت الشاي عاجلة، وغادرت متوجهة إلى الطبيب.
                        بينما كانت عيناء ترتدي ثوبها الأحمر شاهدت في المرآة حقيبتها اليدوية، عطر، قلم روج أحمر، بطاقة وليد. رجعت للمرآة ثانية، لعبت بشعرها الأسود؛ من أنت يا عيناء؟
                        مرّرت يدها على خصرها، وعادت تسأل المرآة:
                        - كيف خطرت على بال فنان؟ هل تشعرين بالدفء وأنت محاصرة في إطاره؟ هل سيرغب بك زائر ويشتريك؟
                        خطت خطوتين نحو الهاتف، وضعت يدها عليه ورفعتها فوراً؛ لا.. ذكرى لا تصحو الآن.
                        تسرّب الجوع لمعدتها، دسّت في قطعة خبز قليلاً من الزبد والمربى.
                        قلقت على السيدة، فقد أخبرتها أنها ستعود بعد ساعة، وقد مرت الآن ساعتان. فتحت دولاب ملابس راوية، شمّت رائحة الأمومة؛ أمن المعقول أن الرائحة مازالت تنتظر ابن راوية؟ ألم يصبها الذبول؟
                        لم تفتح التلفاز، لا تريد رؤية بقايا عظام في حفرة.. فتحت درج الدولاب، وجدت صورة لنساء الهور. أكواخ عائمة على صدر الماء، مشاحيف ترسو، طيور تلعب في فضائها ثم تدسّ مناقيرها في المياه وتلتقط سمكة. لم تكن صورة بل سينما متحركة تجسدت على الحائط. دخلت الحمام ووقفت أمام المرآة، تذكرت ما حكتــــه راوية. شاهــــدت عينين اخترقتا المرأة، دخلتا في جوف عينيها. فركتهما بقوة، حرقة مؤلمة أصابتهما. قفزت كطير طُعن بحربة.. تهيؤات، تهيؤات يا عيناء.
                        فرحت بدخول السيدة، التصقت بها. وجدت السيدة بحاجة لمن يخرجها من خوفها ومن كابوس الواقع، فقد كانت السيدة متوترة ومصفرّة.. ارتجفت شفتاها وطلبت الماء، شربت حبّتين، ورجت عيناء إيقاظها في الساعة العاشرة قبل خروجها.
                        الخيالات عمياء، عقارب عمياء، غطّت الأكل الذي أعدته بورق السليفون ووضعته في الثلاجة. في مرآة الحمام بعد أن استرجعت ما بمعدتها، إثر حموضة أصابت معدتها، لم ترَ غير عيناء متسائلة: - ما الذي تفعله ذكرى الآن؟
                        جلست هادئة وأخذت تقرأ رواية السيدة، حيث رجتها السيدة بإكمالها، وبسبب سماعها لحكاية السيدة تكاسلت (أقصى الجنون الفراغ يهذي).
                        في أثناء قراءة عشر صفحات من الرواية داهمتها إغفاءة خفيفة، ثم غطّت في نوم عميق.

                        في العاشرة انتبهت على منبه الساعة، نهضت مرعوبة.. ارتدت ثوبها الأحمر على عجل كانت حريصة على جلبه معها حين تركت بيت صابر وكأنها تعرف أن لا عودة؛ وأيقظت السيدة.. مشت السيدة متعثرة الخطوات، سألتها عيناء عن ما تريده. قالت لها: أريد كوباً من العصير.
                        اتكأت على الأريكة، أسندت رأسها إليها، وتابعت عيناء وهي تمشط شعرها؛ سبحان الخلاّق، كم أنت جميلة.
                        ـ جمالٌ وهم ريشة ولون.
                        ـ أنا متعبة يا عيناء، هل بإمكانك الذهاب بمفردك؟ اتصلي بذكرى قبل خروجك.
                        أدارت الأرقام على عجل، سمعت ذكرى تقول لها؛ أنا أنتظرك. أنا الآن في ماربل آرج ومعي صديق يريد مشاهدتك.
                        ـ من هو؟
                        ـ الصحفي.
                        ـ ألم أقل لك إنني أكرهه؟
                        ـ أرجوك، لقد توسّل إلى وخجلت منه، طلب نصف ساعة من وقتك.
                        ألقت سماعة الهاتف غاضبة؛ الوقحة..
                        من هاتفها النقال سمعت صوته؛ من؟
                        ـ الصحفي محمود.. العاشق الولهان.

                        تعليق

                        • وفاء عبدالرزاق
                          عضو الملتقى
                          • 30-07-2008
                          • 447

                          #57

                          5
                          أكملت زينتها، ارتدت جواربها وانتعلت حذاءها. انحنت على السيدة وقبّلتها. رفعت السيدة يدها إلى الأعلى؛ هذا يكفي، سأغمض عينيّ وأعدّ للخمسة، اخرجي بعدها، لا أحب الوداع؛ سأراك في المعرض.. واحد، ثلاثة، خمسة.
                          إلى الوراء. الحافلة رقم 7 دلتها على وجوه هجينة ووجوه أصيلة.. في نهاية أجورد رود شاهدت ذكرى. انتبهت لبقعة بيضاء بثوبها لم يصلها اللون فقالت؛ ساعة واحدة تكفي لملء بقعتين أو فراغين بدون لون؛ لذا لم يقلق حين حدد وقت المعرض في اليوم الذي يلي وصولنا.
                          نزلت من الحافلة، كان محمود بانتظارها، وشاهدت ذكـرى تحمل بيدها حقيبة
                          ملابسها وحقيبة يدوية كبيرة، قالت لعيناء:
                          - لقد نشف ريقه وهو يتوسّل لقاءك، تمشّي معه قليلاً، وسأذهب قبلك الى شقة وليد..
                          لوّحت لها مودّعة:
                          - لا تنسى قبل انتهاء الثانية عشرة، باي.. باي.
                          - وهل ستعرفين مكانها ؟
                          - نعم معي العنوان سالت عن الشقة ورتبت أمري لا تخافي.
                          - حاول المشي قربها لاصقاً كتفه بكتفها، ومسترسلاً في أحاديثه عن حبه لها وولعه بها منذ النظرة الأولى، وأنها المرأة التي يبحث عنها في وجوه النساء. لكنها كانت ترى وجه وليد متجسداً في وجوه المارّة وفي واجهات المحلات والأضواء، في وجوه السكارى وبلورات الندى على ورق الأشجار..
                          - أخذ خصلة من شعرها الطويل بين يديه:
                          - أحببت الليل من أجل شَعرك، سأكون عبداً لك أي ليلي الحبيب.
                          - أجابته دون النظر في وجهه:
                          - أنا لا أحب العبيد (ثم همست في نفسها؛ أنت عبدة لوليد).
                          الأضواء في الشارع تخترق رجفة الهواء في ظلّ الليل، كانت بصمتها تبعث إشارات لقلبها؛ اخفق، اخفق في حبك لوليد. حدجت زرقة السماء الشاحبة، تنفّست بعمق. أحسّت بطفل قلبها يعزف على وتر اللقاء، سأكون في بيتك يا وليد، في العلن، في الخفاء، في القرب، في البُعد؛ أنا لك.
                          سمعها محمود تهذي والعرق يصب منها:
                          - ما بالك يا حبيبتي؟
                          - سؤاله أعادها الى حيث هي، نظرت إلى ساعة يدها وجدتها تشير إلى الثانية عشرة إلا عشر دقائق. ركضت مسرعة، التوت ساقها وسقطت أرضاً. ركض نحوها محمود محاولاً رفعها من الأرض، نهضت رغم وجع ساقها، وتركت فردة حذائها وحقيبة يدها على الأرض، سمعت صوت محمود يردد خلفها: حقيبتك وحذاؤك
                          أبعدت الصوت عنها بصورة وليد وصوته، كانت تركض مسرعة حتى سبقته.
                          ارتبك محمود متعثرا، استوقفته إشارة عبور المشاة بينما عيناء عبرت إلى الجانب الثاني من الشارع وغابت في لمح البصر.
                          لا يدري إلى أين وكيف غابت، من هم أهلها، أين دارها؟. ما عرفه عنها ذات مرة وهو يسأل ذكرى أنها تسكن إحدى الشقق في ماربل آرج، والمنطقة كلها شقق، هل يطرق كل الأبواب ويسأل عنها؟ هل ينتظر في هذه الساحة الكبيرة المزدحمة كل يوم لعلّها تطلّ من أحد الشبابيك؟ لماذا كانت غامضة؟ لماذا لم تخبراه من تكونان أهما زائرتان أم مقيمتان؟
                          عاد إلى بيته يائساً، وحاملاً بين يديه حقيبة وفردة حذاء. رمى الحذاء أرضاً وفتح الحقيبة، وجد فيها مرآة صغيرة، قلم روج وزجاجة عطر أهداها إليها، لم تستعملها. في جيب صغير في الحقيبة عثر على كارت شخصي، فرح، ربما عن طريق صاحبه سيصل إليها. وجد عليه اسم وليد سالم والعنوان باللغة الإنجليزية.

                          Waleed Salim
                          22Seymour Street W2 2AZ
                          marbelarch t. 0207 4353222
                          بفرح علّق اثنتين وخمسين لوحة في هايد بارك جاليري؛ وضع ملاءة بيضاء على طاولة صغيرة ودفتراً لتوقيع الزائرين. عاد إلى البيت متعباً، تذكر أصدقاء له نسى دعوتهم لمعرضه. مرّ نصف ساعة وهو يتصل ويواعد إلى الغد، تمدّد على الأريكة في الصالة. ترك التلفاز مفتوحاً ويده تثقلها زجاجة البيرة، نام قليلا من شدة التعب. وحينما صحا فجأة على صوت مطربة عربية، تذكر أنه ترك باب الشقة مفتوحاً. أغلقه، ورجع خطوتين، ثم تركه مفتوحاً.
                          في التلفاز تراقصت المغنية أكثر مما غنّت، حقنت شفتيها بالكولاجين، كحلت عينيها بالأسود فبرز اللون الأزرق بعدساتها اللاصقة، تركت وصلة شعرها المستعارة تتدلي على ظهرها. بصق عليها وعلى مثيلاتها مطربات النصف الأسفل، وهو يقول افتح.. تأكل (ملبناً).
                          انتبه إلى الساعة، وجدها تشير إلى الواحدة، هرع إلى مرسمه، وجد الإطار يحوّط امرأتيه. شاهد على الأرض حقيبة يدوية، فتحها فوجد فيها مجوهرات ونقوداً، كانت هذه الحقيبة من جهة الشقراء. نظر أرضاً جانب السمراء لم يجد شيئاً.
                          غمس فرشاتين قريبتين، واحدة باللون الأزرق والأخرى بالأحمر، ولوّن؛ ملأ فراغين في ثوبيهما لم يسعفه الوقت لإكمالهما. انتبــــه لعيني السمراء، وجد فيهما دموعاً محبوسة، لمع سوادهما فأصبح كريستالياً؛ تذكر أنه لم يرسمها بهذا الشكل.
                          أطفأ النور ليشاهد الدموع، عثر على بريق أعمق من ذي قبل. فرح بلوحته الثالثة والخمسين؛ بقي جالساً أرضاً وعيناه في الصورة، يحتسي بيرة ويرجع إلى لوحته. يدخل الحمام، ويعود إليها، حتى طرق الصباح زجاج النوافذ، استبشر خيراً.
                          اختار سلسلة ذهبية ربطها في اللوحة من الخلف، لم يشرب شيئاً، غلّف الصورة جيداً. ونزل إلى الشارع مؤمّلاً أيام عزلته، وفي يده يافطة كتب عليها الدخول مجاني.
                          لاحظ رجلاً يتبع خطواته، حاملاً بيده كيساً. كان يسير خلفه خطوة بخطوة، أينما اتجه وكيفما سار، إن أسرع أو أبطأ، ظل يلاحقه حتى دخوله قاعة هايد بارك جاليري.
                          انشغل بتعليق الصورة، كانت آخر لوحة كما كان محمود أول زائر. اعتذر وليد لمحمود وأخبره أن وقت الزيارة هو الساعة الحادية عشرة، والآن التاسعة؛ لكن المعرض كله لك، وأهلاً بك.
                          أجابه محمود بود:
                          - وأنت أيضاً. اعذرني على تطفلي وملاحقتي، هل هاتان الصورتان لابنتيك؟
                          أجابه منشغلاً: لا، ليس لي بنات، كما إني لست متزوجاً.
                          أخرج محمود الكارت من جيبه؛ هل هذا خاصتك؟
                          ـ نعم، كيف حصلت عليه؟
                          خشي أن يخبره الحقيقة، فقد تكون السمراء أخته. تدارك الأمر معتذراً، حاول إعطاءه الكيس، لكنه تراجع قائلاً :
                          - لا فائدة، أو لنترك هذا لوقت آخر.
                          - اتصل عبر النقال بالمصور الخارجي في الجريدة: احضِرْ بسرعة، إنه سبق صحفي، صور وألوان وضوء لا مثيل لها.
                          كان قرب المصور صحفي يعمل في إحدى المجلات، وما هي إلا ساعات حتى احتشد المكان بالمصورين والصحفيين والزوار وكاميرات التلفزيون.. الأسئلة الصحفية والمقابلات كلها تدور حول صورة الفتاتين، وبالأخص تلك الدمعة المخبوءة، واتفق الجميع على أنها موناليزا 2005 .
                          أتوقف هنا على حدّ الكتابة؛ فقد أخذت الأمكنة مواقعها على الورق، والشخوص التصقت أسماؤهم بالسطور. اقتربت الذكريات من بعضها، ونامت السجون في ظلماتها. خطّت السيدة راوية اسمها في دفتر الزائرين، وصافحت وليداً قائلة :
                          - الوقت على آخره.
                          الحضور جميعاً، بمن فيهم محمود، التصقوا على الجدران، كل شيء بدأ ينطوي ويأخذ شكلاً على صفحات ورقية من كتاب.
                          إنها الكلمات يا وليد، والطرقات هي الطرقات يا راوية، لا أكتب خطأ فيكم أو أعمّق الضوء فالحلم مازال على الشجيرات الصغيرات تلعب به الريح، فقط أعطيتُ يقين حبري لآخــر قطرة.. لم تعد ذاكـــرتي جاهزة للذبح، ها هي أجراسي تقرع في الكتاب، يكفي زحفكم نحو البداية. فقط عودوا إلى (السماء تعود إلى أهلها).
                          للعاقل ذاكرة مجنون، وللجفون تكوين البدء. على فنتازيا الخيال المعجون بدم الواقع، ذات مساء في أوّله خمسة أشقاء للريح، وآخره سؤالان في دفتر الغياب.
                          على سحب السلاطين، نسجتُ مكاناً لماء العراق،
                          فأهلاً بكم على دهشة القصب.
                          بتواضع إيقاع شقيق لقلوبكم .



                          أترككم.

                          27-8-2005

                          تعليق

                          • وفاء عبدالرزاق
                            عضو الملتقى
                            • 30-07-2008
                            • 447

                            #58
                            الرواية كتبت في
                            2004 -2005



                            عن الكاتبة:
                            * وفاء عبد الرزاق
                            * مواليد العراق- البصرة
                            * المملكة المتحدة- لندن
                            * دبلوم محاسبة

                            الجوائز:
                            *حازت على تكريم الأم المثالية من مؤسسة سوزان مبارك لرعاية الطفل المصري مدينة الإسكندرية .2010.
                            * حازت على ميدالية اتحاد الكتاب المصري شعبة الطفل ، الإسكندرية.2010.
                            * حازت على تكريم من جريدة جريدتي للأطفال القاهرة .2010 .
                            حاز ديوانها على أن يكون أطروحة تخرج من جامعة ابن زهر كلية الآداب والعلوم الإنسانية أكادير لسنة 2009-2010.
                            · حاز ديوان" من مذكرات طفل الحرب" على أن يكون موضوعاً لنيل شهادة الإجازة في الأدب العربي بجامعة تبسة الجزائر 2009 .
                            · حاز ديوان " من مذكرات طفل الحرب" بعد ترجمته إلى اللغة الفرنسية " دار لارمتان" فرنسا في مشروعها السنوي" من القارات الخمس" على أن يكون ضمن من يمثل قارة آسيا تحت إشراف البروفسور"جوزيف تومسيان".
                            · حازت على تكرم من وزارة الثقافة المصرية كأفضل شاعرة عربية لعام 2009وذلك لجهودها الثقافية والإنسانية وسلمها الدرع مدير عام قصر الثقافة في مدينة الإسماعيلية.
                            · حازت على تكريم من جمعية المترجمين واللغويين المصريين مع عضوية شرف في حفل تم برعاية الدكتور حسام الدين مصطفى رئيس الجمعية.
                            · حازت على الدرع الذهبي والجائزة الأولى في مسابقة نجيب محفوظ للقصة القصيرة عن قصتها " الليلة التي لم تجد متعة"- مصر دار الكلمة نغم 2009
                            · حازت على الجائزة الأولى بمسابقة القصة القصيرة " مؤسسة أور الثقافية الحرة" العراق عن قصتها"أربع إقدام وسطح"2009.
                            · حازت على الجائزة الذهبية – الملتقى الثقافي العربي مصر عن قصتها"الجثث تشرب العصير" 2009.
                            · حازت على الجائزة الثالثة – اتحاد الأدباء العراقي - النجف مسابقة القصة القصيرة عن قصتها" عقابٌ أم ثواب" 2009.
                            · حازت على جائزة المتروﭙوليت نقولاوس نعمان للفضائل الإنسانيَّة لبنان 2008 عن مخطوطها المعنون (من مذكرات طفل الحرب) .
                            · حازت على جائزة ( قلادة العنقاء الذهبية للإبداع) التي يمنحها (مهرجان العنقاء الذهبية الدولي ) العراق لعام 2008.
                            · حازت عل وسام الوفاء ( نادي ثقافة الأطفال الأيتام) م (النخلة البيضاء)2008 العراق.
                            · حازت على تكريم من الديوان الثقافي العراقي – لندن 2008.
                            · حازت على تكريم من مؤسسة النور الثقافية – العراق – السويد 2008.

                            المشاركات:

                            · سفيرة نادي ثقافة أطفال العراق الأيتام – لندن م( النخلة البيضاء).
                            · المديرة الدولية للمشاريع الخيرية والإنسانية لمؤسسة النخلة البيضاء العراق.
                            · الممثل الرسمي لائتلاف منظمات المجتمع المدني العراقي في لندن.
                            · عضو الهيئة العليا المشرفة على برلمان الطفل العراقي، العراق.
                            · المديرة التنفيذية لمهرجان العنقاء الذهبية الدولي الرحال ومسؤولة المتابعات الخارجية للمهرجان .
                            · عضو الهيئة الاستشارية المشرفة لمهرجان الهربان السينمائي الدولي العراق.
                            · عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة مؤسسة ودار ومجلة وجريدة كلمة الثقافية ، مصر.
                            · المديرة التنفيذية ومسؤولة العلاقات الخارجة لمؤسسة أور المستقلة للثقافة الحرة، العراق.
                            · رُشحت سفيرة للنوايا الحسنة من قبل المؤسسات الثقافية المدنية غير الحكومية ونخبة من المثقفين والمبدعين الملتزمين بقضايا الإنسان والإبداع 2008.
                            · شاركت في تأسيس ( كالري النخلة البيضاء) و ( دار النخلة البيضاء لرعاية وتأهيل أطفال الشوارع) العراق.

                            العضوية:
                            عضو فخري في جمعية المترجمين واللغويين المصرية ، مصر.
                            عضو: حركة شعراء حول العالم ، شيلي .
                            عضو : مؤسس في مؤسسة رسول الأمل الانسانية ، لندن .
                            عضو : رابطة الأدباء العرب مصر.
                            عضو : منظمة كتاب بلا حدود المانيا .
                            عضو : منتدى الكتاب المغتربين لندن.
                            عضو : الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق .
                            عضو : إداري في المنتدى العراقي مسؤولة اللجنة الثقافية- لندن
                            ( تحرير جريدة المنتدى) سابقا.
                            عضو : فخري في الملتقى الثقافي البحرين.
                            عضو : الملتقى الثقافي العراقي سوريا ..
                            عضو : جمعية الشعراء الشعبيين، العراق .
                            عضو : منتدى القصة السورية سوريا.
                            عضو : اتحاد كتاب الانترنيت العرب.
                            عضو: في اتحاد ادباء الانترنيت العراقي.
                            عضو: في تجمّع العشراء العرب.

                            الإصدارات:
                            أ – إصدار صوتي:
                            عدد 6 cd شعر ، القاء وموسيقى شعر شعبي.

                            ب – الشعر الفصيح:

                            1– هذا المساءُ لا يعرفني، مؤسسة الانتشار العربي، لبنان ، 1999.
                            2- حين يكون المفتاحُ أعمى، مؤسسة الانتشار العربي ،لبنان،19991 .
                            3- للمرايا شمسٌ مبلولة الأهداب ، دار الكندي ،الأردن، 2000.
                            4– نافذة فلتت من جدران البيت ، منشورات بابل -، العراق، 2006.
                            5– من مذكرات طفل الحرب، دار نعمان للثقافة ، لبنان ،8 200.
                            6- حكاية منغولية ، دار نعمان للثقافة ، لبنا ن ،8 200.
                            7- من مذكرات طفل الحرب باللغة الفرنسية ، دار لارمتان ، فرنسا
                            2009.
                            8- أمنحُني نفسي والخارطة ، دار الكلمة نغم ، مصر ، 2009.
                            9– طبعة ثانية، من مذكرات طفل الحرب ، دار الكلمة نغم، مصر،2009.
                            10- البيتُ يمشي حافيا ، دار كلمة ، مصر، 2010.
                            11 - من مذكرات طفل الحرب ، طبعة ثالثة ، مصر، 2010.
                            12 – حكاية منغولية،طبعة ثانية،دار كلمة، مصر،2010 .

                            الشعر الشعبي:

                            1- أنا وشويــَّة مطر ،دار الكندي، الأردن ، 1999.
                            2– وقوَّسَتْ ظهر البحر ، دار الكندي، الأردن ،1999.
                            3– مزامير الجنوب ، دار الموسوي ، أبوظبي ، 1996.
                            4- تبللت كلي بضواك ، دار كلمة، مصر، 2010.
                            5 - عبد الله نبتة لم تُقرأ في حقل الله، دار كلمة مصر، 2010.
                            6 - بالقلب غصّة ، غضة أولى ، دار كلمة مصر، 2010.
                            7- بالقلب غصَّة، غصَّة ثانية، دار كلمة ، مصر، 2010.

                            الروايات:
                            1– بيتٌ في مدينة الانتظار ، دار الكندي، الأردن، 2001.
                            2– تفاصيل لا تُسعف الذاكرة، دار الكندي ،الأردن 2000 .(رواية شعرية).
                            3- السماء تعود الى اهلها ، دار كلمة، مصر ، 2010.
                            4 - اقصى الجنون الفراغ يهذي ،دار كلمة ، مصر ، 2010.

                            مجاميع قصصية:

                            1- إذن الليلُ بخير، دار الكندي ، الأردن ، 2000.
                            2- امرأةٌ بزيّ جسد ، دار الكلمة نغم ،مصر، 2009.
                            3- نقط ، دار كلمة ، مصر، 2010.
                            4- بعضٌ من لياليها ، دار كلمة مصر، 2010.
                            5- وجوه أشباح، أخيلة، شعر قصصي، دار كلمة، 2010.

                            مجموعة قصصية قيد الطبع:

                            1 - بقعة ارتجاف حرة ( مشروع قصصي شعري فني مشترك، الكاتبة سعاد الجزائري قصص قصيرة، وفاء عبد الرزاق شعر،الفنانة عفيفة لعيبي رسم.فكرة العمل محاكاة المجموعة القصصية للكاتبة سعاد الجزائري شعريا وفنيا، ويشمل الكتاب لكل قصة قصيدة ولوحة.)
                            2- بعضٌ من لياليها .

                            مخطوطات:
                            أ – الشعر الفصيح:

                            1- مدخلٌ للضوء.
                            2- أدخلُ جسدي أدخلكم.
                            3 – أم البشر ، صورة وقصيدة.

                            ب – الشعر الشعبي:

                            1- حزن الجوري.2
                            2– ترنيمة الفراشات..
                            3– ناياتٌ لها شكلي.
                            4- انتماءات لوجع المطر.

                            قصص قصيرة:
                            1- أغلالٌ أخرى.

                            ** وفائيَّات. ترجمات للنفس.

                            الترجمات:

                            1- تُرجمتْ بعض الأعمال الى اللغة الانجليزية والفارسية والفرنسية والايطالية والتركية واللغة الكردية ويقام حاليا الترجمة إلى الإسبانية.
                            2- ترجمت بعض الاعمال الشعرية الى اللغة الفرنسية في موسوعة السلام العالمي للابداع .
                            3– تـُرجمت بعض أشعار ( من مذكرات طفل الحرب ) الى اللغة التركية ضمن موسوعة السلام للطفل.
                            4 – تمت ترجمة ديوان (من مذكرات طفل الحرب ) الى اللغة الانكليزية والفرنسية والايطالية ،والأسبانية، ضمن مشروع فلم سينمائي يدعو الى السلام العالمي بإسم الطفل العربي وبإسم الطفولة في العالم. وستصاحب عرض الفلم بعد انجازه تظاهرة فنية أدبية وذلك بجهود فنانين وكتاب وشعراء آمنوا برسالته وتطوعوا للعمل في هذا المشروع.

                            المساهمات:
                            1 - نشرت في العديد من الصحف والمجلات العربية.
                            3 – ساهمت في العديد من المهرجانات الشعرية والأمسيات الثقافية عربياً وعالمياً .
                            4 – شاركت في مهرجان السلام العالمي للشعر، فرنسا .



                            تعليق

                            • يسري راغب
                              أديب وكاتب
                              • 22-07-2008
                              • 6247

                              #59
                              الاستاذة وفاء
                              راس العاليات
                              السماء تعود الى اهلها
                              فكيف تعود
                              دمت عالية المقام والمقال
                              والتعقيبات على الرابط التالي
                              مناقشة رواية السماء تعود إلى أهلها بأدب الدقى الكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق يعقد ناد أدب الدقى، يوم الأربعاء المقبل الموافق 14 من الشهر الجارى فى السابعة مساءً، ندوة نقدية لمناقشة رواية "السماء تعود إلى أهلها" الصادرة عن دار الكلمة، للكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق. ويشارك فى المناقشة الشعراء

                              تعليق

                              يعمل...
                              X