4
من أين له كل هذا اللقاح الذي يعشق أهدابنا المتعطشة للدموع؟
ساحت دموعي فحرقت جرح وجهي وأعادتني إلى واقعي المظلم. صحت يا سيدي الحسين أعنّي، ثم عدت كمن يهيم بنفسه.
مددت يدي للبحث عن أي شيء وإن كان حشرة فقط لأشعر بأني أملك حواسي. كان خبز الحياة في سوق (المغايز ،وشاي أم البروم )، رأيت نخيلات خضراً توضأت في نهر الخورة، شواطئ متلهفة مثلي إلى خطوات تحاصر أبجديتها. أعشابي المتكسرة وخَزتني فهاج ألم لم أقوَ على تحمله، بدا لي خدر الكلمات يتباطأ، ثم ولّى وترك الألم يصعب عليّ تحمله.
امتزج صوتي المخنوق بكلمة لبيّكِ لبيّكِ يا بصرتي، اخلقي لي سماء فيها آدم جديد، آدم لا يقطر بشهواته على نسائه العزل، آدم لا يصادر الوطن ويسحق أبناءه، آدم لا يبني المشانق ولا يسيل لعابه على احتلال الحكم.
تذكرت قول أبي لي دائماً (عليك أن تكوني وفيّـة لنفسك) وراح يشرح لي وأنا ابنة العاشرة:
- فأية مصالحة تحضنني الآن؟
- وتمنيت الموت لحظتها، ها هي الريح يا أمي تولول لعويلنا الصامت، حركت جهتي اليمنى لأستدير ولو بسنتمتر واحد، بجهد سحبتُ كفي إلى وجهي، صعقتني فلطحته. حرقني العطش فقررت الصراخ ضــــد تدميري، لم أعرف من أين جاء الصوت، وكيف تقلصت حنجرتي لتطلقه؟ ربما لأني صرخت باسم الوطن والشعب، ولأن الوطن والشعب بداخلي رفضت كتابة شعر يمجّد الطغاة، أو ربما الوطن هو الذي صرخ عوضاً عني وبصوتي.
غادرت عيناء الغرفة، وجلبت لها كوباً كبيراً من الشاي، وقالت للسيدة راوية:
- لقد شعرت بالعطش مثلك، وحكايتك جعلتني أعطش بطريقة حتى لو شربت كل لحظة سطلاً من الماء لا يرويني. أكملي سيدة راوية، هذا الشاي سأشربه كله حتى أصحو لك وأكسر طوق النوم، لا تفوّتي علي الأحداث ولو كانت قاسية.
- كيف نكتسب مناعة ضد الشرّ يا عيناء؟ انظري هذا الجرح في يدي، هو أسورتي، كيف نكتب ضدّ خرقة بالية والعالم سجن؟
- حركت عيناء ساعة يدها واستعطفت الدقائق بالاستطالة، وأن يكون بوسع عقاربها الاتساع لزمن يكفي لسماع أدق تفاصيل الحكاية. وحركت جذعها كمن يجلس على شوك :
- ما ترينه مني ألآن مجرد رماد، الرماد ،الرماد دائماً هو الخصم.
- تمدّدت بكامل طولها على الفراش، وفرشت ذراعيها تستكشف شيئاً، وقالت لعيناء :
- نحن في حالة تبادل بين الخريف والشتاء، وفي الحالتين نحن أوراق متساقطة.
- هنا أنا غريبة عن امرأة كنتُها، فما نفع تكوّري في غرفة متواضعة؟ ما نفع قلقي على الطفولة النقيّة واستحضارها لتحتشد على ورقي أو تمــر عبر خجلي؟ هل أعالج غربتي برفض لمن غرّبني، وهل هذا يكفي؟
- أعاين غليان الحرب، وأتتبع أخبار التلفاز الكاذبة بواسطة عصابات إعلامية تخترق عدوانيتها لعراقيتنا وعيوننا وأفكارنا.
أيكفي أن أضع النقاب وأطالع ما بقي من الوقت لإحياء القليل ممن مازال يحلم بوطن معافى وسليم بأبنائه؟
- كيف نكتفي بما لا يكفي؟ ونحن خارج الوطن نأمل أن يصبح الاعتداء جميلاً.
عشتار لم تلطم على تموز جزافاً، كانت تعي أن اللطم الدائم لعنة أبدية. لذا نحن في حاجة إلى أسطورة جديدة تعيد دماء عشتار إلى مآقيها.
تصوّري الموضوع بسيط جداً، لا دخل لأسطورة أو خرافة فيه، فقط نفتح باب الدار ونغسل العتبة، فالماء هو الماء، والأجراس تنتظر ساعة أن نقرعها.
ـ إذن سيدتي أين العتبة التي غسلتِها وأين جرسك؟ الكلام سهل، والمهم هو التنفيذ.
ـ معك حق، أنا مثلاً حين ضاقت الدقائق حولي، لم تكفني الكلمة، بل عجزت عن انتشار وصف الرعب ووصف كل عين وقلب يعتصر في انتظاره، فالرعب حين يصبح قوتاً يومياً تفوح منه رائحة الحياة على شكل قذيفة تجعل الأرض تدور حول نفسها ونحن بين فكّيها نحاول التمسّك بمشروع حلم. أيمكن للتاريخ أن يكون لطيفاً معي ومع شعوري بالقرف منه؟
ـ في لندن اختبأت بين سطور رواياتي، أحاول اصطياد هواء نقي ليس فيه غبار مراهنات وسياسة صراعات يومية مع الموت، والكتابة هي أضعف الإيمان، وكما اختبأت بين السطور، خبأت ذكرياتي في خزانتي ورحت أصارع الحبر مع أوراقه.
ـ لم لا تكتبين شجباً للأوضاع وتنشرينه في إحدى الصحف العربية في لندن؟
ـ لست ممن يشجب لأن الذي يفعل ذلك يكذب على نفسه، وهذا ما يطلَق عليه الضحك على الذقون، كالشعارات المعهودة، الشهامة العربية والكرم العربي والنخوة العربية؛ وطز في شواربهم.
يا عيناء الزمرة الفاسدة كانت تعرف بأن الأوطان القوية بشعوبها لا يمكن تفتيتها، لذلك قبل مباشرتها بحصار الوطن فتّتت شعبه وجزأته بحقدها الطائفي وشراستها الدموية، وها نحن خارج الوطن يأتينا الوطن على شكل موت بطيء. من أمريكا ، من عمائم ،من دكاكين تكدست بضاعتها التالفة وراحت تفجرها على شكل قنابل ، والأهم من ذلك كله الأخطبوط العربي والفارسي ، مسكين يا عراق مسكين .
لماذا يعيبون على القذافي؛ انعزاله واتخاذه قراراً بالانفصال عن الجامعة العربية؟
أنا أعتقد أن مبادرته الشاذة هي الشذوذ الذي بحجم البطولة، فقد أوجعته الصفعة وحاذر متفادياً الصفعة الأخرى.
كيف تعيش وتثمر نخلة في ثلج العالم؟
ومن الضحية نحن أم الموت؟ النفط أم الأرض، الأسئلة أم الأحزاب بكل اتجاهاتها التي بدافع الظن تدافع عن خوفها وخسارتها في المشاركة؟
أحار كيف أوجه السؤال لقاتل درّب القتلة على يديه، أمدّهم بكل فنون القتل والتدمير، وتفرّج على قتلنا ومقابرنا الجماعية؟ شمّ رائحة حليب أمهاتنا وهي تُستخرج من بين الأظافر المقلوعة، هل جاءت الجيوش من أجل تدمير حزب أم سلطته أم العراق؟
ولو غضضنا الطرف عن نواياهم كما غضّوا أبصارهم وقت حادثة "حلبـﭼـة والأنفال وانتفاضة آذار والمقابر" لوجدنا أنهم جاءوا من أجلنا، نحن الشعب والأرض، من أجل تطهير عقولنا من الغالب والمغلوب لتضيع الحسبة.
وإلاّ بماذا تفسرين وجود نفس الوجوه في الحكومة الجديدة، وإعطاء الفرصة لمشعوذين باسم الدين يقطعون الرقاب، وهناك من يدافع عن قتلة باسم المقاومة والدفاع عنهم بحق المواطنة العراقية.
عزيزتي، كلهم لصوص، لصوص تبادلوا الأمكنة.
ـ إذاً، سيدة راوية، ضاعت الموازين؟
ـ صدقيني لو كل الأحزاب والطوائف والقوميات مخلصة للعراق بداخلها لا طمعاً بحكم أو حصة، لأصبح البلد ملكاً ونحن سادته.
ـ وما هو رأيك بصفتك كاتبة ومثقفة؟
ـ ها نحن شيَع وطوائف وإشباع غرائز وأحقاد عرقية، ومن منفى إلى منفى ضاع المشروع السياسي والوطني؛ إنها رطانة الأخرس الذي يعرض بضاعته المستهلكة.
ـ لكنك كتبت السماء تعود إلى أهلها؛ وعلى ما أعتقد أنها رواية طويلة.
- على ما يبدو أنها لن تعود ، أنه مجرد حلم ، أو توقعت أنها...
- أنها ماذا؟
- لا أدري.
ـ لقد صادفت الروائية الحقيقية وأنا أعرف نهجها الكتابي، تحاور أبطال أعمالها وتترك لهم المجال في اختيار الأسلوب الذي يرتئون الكتابة فيه.
طلبت منها أن نتحاور كأصدقاء، وأن نعيش اللحظة باللحظة معاً. فوافقت، وتركتني أحاورك الآن بصفتي كاتبة وأنتِ إحدى بطلات الرواية، وأنا أتحدث معك بصوتها، كانت تقول لي:
- سأدخل قلبك وأفتح أدراجه وأختار لي اسم دلال . لكني رفضته، وفضّلت اسم راوية.
- أهي تحبك إلى هذا الحد؟
- بل أنا من قالت شعراً على لسانها، وأذكر أنها قالت لي مرة:
- ضعي يدك في قلمك وتعلّمي كيف تكون الكلمات.
لا تتعجبي يا عيناء، إنها شاعرة وتعرف لعبة الكلمة، فقد قصدت أن أضع يدي في قلمي وأكتب الواقع المقلوب لأقرأه صحيحاً.
- إنها كاتبة مجنونة أليس كذلك؟
- يعجبني جنونها يا ابنتي، والفنان أو الكاتب الذي ينقل الواقع دون جنون يكون مشروعاً فاشلاً للإبداع.
أكملت الشاي ثم أعدّت لها كوبـــــاً آخر، وعـــادت كلها رغبة في العودة إلى اللحظة التي انتهت عندها السيدة راوية في السجن. قبّلت جبين السيدة راجية، فلبّت نداءها دون ملل قائلة :
ـ سأعود بك إلى غرفة نتنة بمخاطنا وبولنا ودمنا.
من أين له كل هذا اللقاح الذي يعشق أهدابنا المتعطشة للدموع؟
ساحت دموعي فحرقت جرح وجهي وأعادتني إلى واقعي المظلم. صحت يا سيدي الحسين أعنّي، ثم عدت كمن يهيم بنفسه.
مددت يدي للبحث عن أي شيء وإن كان حشرة فقط لأشعر بأني أملك حواسي. كان خبز الحياة في سوق (المغايز ،وشاي أم البروم )، رأيت نخيلات خضراً توضأت في نهر الخورة، شواطئ متلهفة مثلي إلى خطوات تحاصر أبجديتها. أعشابي المتكسرة وخَزتني فهاج ألم لم أقوَ على تحمله، بدا لي خدر الكلمات يتباطأ، ثم ولّى وترك الألم يصعب عليّ تحمله.
امتزج صوتي المخنوق بكلمة لبيّكِ لبيّكِ يا بصرتي، اخلقي لي سماء فيها آدم جديد، آدم لا يقطر بشهواته على نسائه العزل، آدم لا يصادر الوطن ويسحق أبناءه، آدم لا يبني المشانق ولا يسيل لعابه على احتلال الحكم.
تذكرت قول أبي لي دائماً (عليك أن تكوني وفيّـة لنفسك) وراح يشرح لي وأنا ابنة العاشرة:
- فأية مصالحة تحضنني الآن؟
- وتمنيت الموت لحظتها، ها هي الريح يا أمي تولول لعويلنا الصامت، حركت جهتي اليمنى لأستدير ولو بسنتمتر واحد، بجهد سحبتُ كفي إلى وجهي، صعقتني فلطحته. حرقني العطش فقررت الصراخ ضــــد تدميري، لم أعرف من أين جاء الصوت، وكيف تقلصت حنجرتي لتطلقه؟ ربما لأني صرخت باسم الوطن والشعب، ولأن الوطن والشعب بداخلي رفضت كتابة شعر يمجّد الطغاة، أو ربما الوطن هو الذي صرخ عوضاً عني وبصوتي.
غادرت عيناء الغرفة، وجلبت لها كوباً كبيراً من الشاي، وقالت للسيدة راوية:
- لقد شعرت بالعطش مثلك، وحكايتك جعلتني أعطش بطريقة حتى لو شربت كل لحظة سطلاً من الماء لا يرويني. أكملي سيدة راوية، هذا الشاي سأشربه كله حتى أصحو لك وأكسر طوق النوم، لا تفوّتي علي الأحداث ولو كانت قاسية.
- كيف نكتسب مناعة ضد الشرّ يا عيناء؟ انظري هذا الجرح في يدي، هو أسورتي، كيف نكتب ضدّ خرقة بالية والعالم سجن؟
- حركت عيناء ساعة يدها واستعطفت الدقائق بالاستطالة، وأن يكون بوسع عقاربها الاتساع لزمن يكفي لسماع أدق تفاصيل الحكاية. وحركت جذعها كمن يجلس على شوك :
- ما ترينه مني ألآن مجرد رماد، الرماد ،الرماد دائماً هو الخصم.
- تمدّدت بكامل طولها على الفراش، وفرشت ذراعيها تستكشف شيئاً، وقالت لعيناء :
- نحن في حالة تبادل بين الخريف والشتاء، وفي الحالتين نحن أوراق متساقطة.
- هنا أنا غريبة عن امرأة كنتُها، فما نفع تكوّري في غرفة متواضعة؟ ما نفع قلقي على الطفولة النقيّة واستحضارها لتحتشد على ورقي أو تمــر عبر خجلي؟ هل أعالج غربتي برفض لمن غرّبني، وهل هذا يكفي؟
- أعاين غليان الحرب، وأتتبع أخبار التلفاز الكاذبة بواسطة عصابات إعلامية تخترق عدوانيتها لعراقيتنا وعيوننا وأفكارنا.
أيكفي أن أضع النقاب وأطالع ما بقي من الوقت لإحياء القليل ممن مازال يحلم بوطن معافى وسليم بأبنائه؟
- كيف نكتفي بما لا يكفي؟ ونحن خارج الوطن نأمل أن يصبح الاعتداء جميلاً.
عشتار لم تلطم على تموز جزافاً، كانت تعي أن اللطم الدائم لعنة أبدية. لذا نحن في حاجة إلى أسطورة جديدة تعيد دماء عشتار إلى مآقيها.
تصوّري الموضوع بسيط جداً، لا دخل لأسطورة أو خرافة فيه، فقط نفتح باب الدار ونغسل العتبة، فالماء هو الماء، والأجراس تنتظر ساعة أن نقرعها.
ـ إذن سيدتي أين العتبة التي غسلتِها وأين جرسك؟ الكلام سهل، والمهم هو التنفيذ.
ـ معك حق، أنا مثلاً حين ضاقت الدقائق حولي، لم تكفني الكلمة، بل عجزت عن انتشار وصف الرعب ووصف كل عين وقلب يعتصر في انتظاره، فالرعب حين يصبح قوتاً يومياً تفوح منه رائحة الحياة على شكل قذيفة تجعل الأرض تدور حول نفسها ونحن بين فكّيها نحاول التمسّك بمشروع حلم. أيمكن للتاريخ أن يكون لطيفاً معي ومع شعوري بالقرف منه؟
ـ في لندن اختبأت بين سطور رواياتي، أحاول اصطياد هواء نقي ليس فيه غبار مراهنات وسياسة صراعات يومية مع الموت، والكتابة هي أضعف الإيمان، وكما اختبأت بين السطور، خبأت ذكرياتي في خزانتي ورحت أصارع الحبر مع أوراقه.
ـ لم لا تكتبين شجباً للأوضاع وتنشرينه في إحدى الصحف العربية في لندن؟
ـ لست ممن يشجب لأن الذي يفعل ذلك يكذب على نفسه، وهذا ما يطلَق عليه الضحك على الذقون، كالشعارات المعهودة، الشهامة العربية والكرم العربي والنخوة العربية؛ وطز في شواربهم.
يا عيناء الزمرة الفاسدة كانت تعرف بأن الأوطان القوية بشعوبها لا يمكن تفتيتها، لذلك قبل مباشرتها بحصار الوطن فتّتت شعبه وجزأته بحقدها الطائفي وشراستها الدموية، وها نحن خارج الوطن يأتينا الوطن على شكل موت بطيء. من أمريكا ، من عمائم ،من دكاكين تكدست بضاعتها التالفة وراحت تفجرها على شكل قنابل ، والأهم من ذلك كله الأخطبوط العربي والفارسي ، مسكين يا عراق مسكين .
لماذا يعيبون على القذافي؛ انعزاله واتخاذه قراراً بالانفصال عن الجامعة العربية؟
أنا أعتقد أن مبادرته الشاذة هي الشذوذ الذي بحجم البطولة، فقد أوجعته الصفعة وحاذر متفادياً الصفعة الأخرى.
كيف تعيش وتثمر نخلة في ثلج العالم؟
ومن الضحية نحن أم الموت؟ النفط أم الأرض، الأسئلة أم الأحزاب بكل اتجاهاتها التي بدافع الظن تدافع عن خوفها وخسارتها في المشاركة؟
أحار كيف أوجه السؤال لقاتل درّب القتلة على يديه، أمدّهم بكل فنون القتل والتدمير، وتفرّج على قتلنا ومقابرنا الجماعية؟ شمّ رائحة حليب أمهاتنا وهي تُستخرج من بين الأظافر المقلوعة، هل جاءت الجيوش من أجل تدمير حزب أم سلطته أم العراق؟
ولو غضضنا الطرف عن نواياهم كما غضّوا أبصارهم وقت حادثة "حلبـﭼـة والأنفال وانتفاضة آذار والمقابر" لوجدنا أنهم جاءوا من أجلنا، نحن الشعب والأرض، من أجل تطهير عقولنا من الغالب والمغلوب لتضيع الحسبة.
وإلاّ بماذا تفسرين وجود نفس الوجوه في الحكومة الجديدة، وإعطاء الفرصة لمشعوذين باسم الدين يقطعون الرقاب، وهناك من يدافع عن قتلة باسم المقاومة والدفاع عنهم بحق المواطنة العراقية.
عزيزتي، كلهم لصوص، لصوص تبادلوا الأمكنة.
ـ إذاً، سيدة راوية، ضاعت الموازين؟
ـ صدقيني لو كل الأحزاب والطوائف والقوميات مخلصة للعراق بداخلها لا طمعاً بحكم أو حصة، لأصبح البلد ملكاً ونحن سادته.
ـ وما هو رأيك بصفتك كاتبة ومثقفة؟
ـ ها نحن شيَع وطوائف وإشباع غرائز وأحقاد عرقية، ومن منفى إلى منفى ضاع المشروع السياسي والوطني؛ إنها رطانة الأخرس الذي يعرض بضاعته المستهلكة.
ـ لكنك كتبت السماء تعود إلى أهلها؛ وعلى ما أعتقد أنها رواية طويلة.
- على ما يبدو أنها لن تعود ، أنه مجرد حلم ، أو توقعت أنها...
- أنها ماذا؟
- لا أدري.
ـ لقد صادفت الروائية الحقيقية وأنا أعرف نهجها الكتابي، تحاور أبطال أعمالها وتترك لهم المجال في اختيار الأسلوب الذي يرتئون الكتابة فيه.
طلبت منها أن نتحاور كأصدقاء، وأن نعيش اللحظة باللحظة معاً. فوافقت، وتركتني أحاورك الآن بصفتي كاتبة وأنتِ إحدى بطلات الرواية، وأنا أتحدث معك بصوتها، كانت تقول لي:
- سأدخل قلبك وأفتح أدراجه وأختار لي اسم دلال . لكني رفضته، وفضّلت اسم راوية.
- أهي تحبك إلى هذا الحد؟
- بل أنا من قالت شعراً على لسانها، وأذكر أنها قالت لي مرة:
- ضعي يدك في قلمك وتعلّمي كيف تكون الكلمات.
لا تتعجبي يا عيناء، إنها شاعرة وتعرف لعبة الكلمة، فقد قصدت أن أضع يدي في قلمي وأكتب الواقع المقلوب لأقرأه صحيحاً.
- إنها كاتبة مجنونة أليس كذلك؟
- يعجبني جنونها يا ابنتي، والفنان أو الكاتب الذي ينقل الواقع دون جنون يكون مشروعاً فاشلاً للإبداع.
أكملت الشاي ثم أعدّت لها كوبـــــاً آخر، وعـــادت كلها رغبة في العودة إلى اللحظة التي انتهت عندها السيدة راوية في السجن. قبّلت جبين السيدة راجية، فلبّت نداءها دون ملل قائلة :
ـ سأعود بك إلى غرفة نتنة بمخاطنا وبولنا ودمنا.
تعليق