رسائلُأخرى..
…لا شك أنكِ الآن في الزمان الآخر، وفي المكان الذي لاينبغي عليَّ أن أتواجد فيه، سئمتنا الحياةُ يا غالية…، وبقيتِ أنت في غربة المسافات، والتضاريس، والوجوه البعيدة، وبقيتُ أنا ملازماً حزني، وخيبتي، أن تكبر خيبتي فتلك مصيبة، وأن أتناسى فتلك مصيبة أكبر...
من منا يرحل عن ذاته بطوعٍ إرادته، من منا يرسلُ حزنه الأبدي قرباناً لموتٍ محتّم، ويعيشُ على قمةِ الوجع، والانصهار، الانصهار الذي لا يدانيه موتٌ آخر، ولا تؤمُّه فجيعةٌ أخرى..
أكبرُ منِّي ومنكِ شوقي لطهرِ قامتكِ، لكنكِ سكنتِ الأرضَ البعيدة التي وطئتها قلوبنا قبلَ ألف عام، وتجذَّرَ عذابنا فيها منذ ملايين السنين.
أنتِ في البعيد، كنتِ، وما زال البعيدُ يمصُّ دمي، ومازالت أسفارنا يائسةً خلفَ كلِّ حكاية، وكلِّ طريق، وكلِّ ركنٍ رمينا به تفاصيلَ أشيائنا العابثة..
الذكريات ياغالية لها شكلٌ آخر عندما تمرين في جوار القلب، ليس ثمة ما يحركُ شعوري غيرحفنةِ حزنٍ غرسناها سويةً، وسقيناها من مدادِ عيوننا الظمأى، لتكبرَ فينا معمّرة عريشها على أنقاض قلوبنا البائسة..
عندما بدأتِ تكبرين فيَّ، هرعتُ إلى مكانٍ بعيد ألتجي إليه، وأخبئ صمتي الذي استحالَ سماً بالغاً أنهكَ قواي في تفاصيل الإنتظار، أو ربما الاحتراق، لم يكن أمامي متسعاً من الفرح، ولم تكن الدنيا تحتوي انطلاقي منكِ، كنتِ تكبرين، وكان الفرحُ يشي بي إلى غربةٍ أحلك، وإلى هجرةٍ أشدّ مضاضةً وأبعد أملا...
أنتِ تكبرين أكثر، وأنا أكبر معكِ وبكِ، كان الموتُ بانتظاري، ولم تنتظري أنتِ، هو وفيٌ، وأنتِ أوفى، وكلاكما مُسعفي إلى امتدادٍ آخر، ومساحةٍ من فرحٍ أقصى، وجرحٍ أتعبني..
في تموز كانت المسافات ضيَّقةً، والفرحُ ضيِّق، والدموعُ تجرجرُ أذيالها على ضفتي بحرٍ من حبٍ وحرب، في تموز كانتِ السّماءُ تمطرُ دمعاً، والأرضُ تنبتُ فرحاً آخراً ممزوجاً بآهاتٍ لم نعهدها من قبل، كنتَ يا تموز تشبهني، تشبهني كثيراً، وتحرقني كثيراً، كانت نسيماتك أكثر إيلاماً، وأشدّ وجعا..
أمَّا أنتِ .. سماءٌ بلا حدود، امرأة بلا حدود، وطفلةٌ سمتْ فينا قداسةً تشعُّ كبرياءَ لا ينضب، وطهراً كبيرا.
متى تصبحُ امرأةً بحجم وطن؟!، ومتى يصير امتدادي لها كوناً ثانياَ؟!، وبعداً كبير المنال. أنتِ لستِ كباقي النساء، ولن تكوني، أنتِ قطعةٌ ممزوجةٌ برضيبِ الأرضِ، وطهر السماء، ممزوجةٌ بماءِ شعري الذي استباح دمي، وهتكَ سرَّ وجودي..
أنت يا نينوى الخضراء سرُّ وجودي، أيتها المدينة الأنثى، فرحي بكِ أكبر من مساحةِ ألمي وقصائدي، فرحي بكِ تعدَّى تفاصيل الأشياء، وتخطَّى حدود الزمان والمكان، غير أني في زمانٍ آخر، ومكانٍ ليس كباقي الأمكنة، عندما قررتِ أن تخرجي من دمي، وأن تسافري إلى أقصى الوجع، كان نيسان حينذاك يواسي خيبتي، ويضمني إلى حدِّ الفجيعة، نيسانُ يا غالية ليس كباقي الشهور، هو أكثر قداسة وأكثر خيبة..
ياأنثى القداسة والقصيدة، يمِّمي قلبكِ شطر قلبي، لكي تكوني امرأةَ التفاصيل، وأكونُ أنا..أنتِ، وأنتِ أنا.. ليسَ الهوية أن يكون لي وطن، بلِ الهويةُ أن تكوني لي وطناً، وأن نكبرَ معاً، وأراكِ تهرمين أمامي، وأشيخُ معكِ..
يا وجعي .. بلغني هجرُكِ كسيفٍ أدمى حشاشتي، ورمى بي جرحاً جنوب القلب، فليتكِ الآنَ تَسمعين صهيلَ حزني، هُم وشاةُ الدربِ والمسافات الآثمة، وأنا طريقٌ بلا جهات، صفعتني كلُّ جهاتِ الكونِ، وشَرِبتْ نخبَ تيهي وتُهيامي، أنا يا ابنة الربيعِ .. قدرٌ بلا جهات!!
عرفتُكِ امرأةً، وكنتِ أنثى، عرفتُكِ قدراً، وصرتِ لي وجعاً، أيُّ قدرٍ هذا يابيروت.. أن تكوني معبدَ التائهين، وملاذَ المشرَّدين، أيُّ قدرٍ يا مدينة الطهرِ أن يجمعني بكِ عذابُ المصلوبين، وفجيعة النازحين، أن يجمعني بكِ بحرٌ من الأشواق مداده دمي، ونزيفه من قلبٍ ضاقت به الدُّنيا إلا عن رملِ شواطيكِ، وأغاني فيروز العتيقة.
يا أنثى القداسة والقصيدة.. بيروتُ في دمي طفلةٌ تعبثُ على وترِ الرُّوح، تلكَ المدينة التي سكنتُ إليها، وسَكَنَتْ إليَّ، وجعي بها ممتدٌّ كامتدادِ الأرزِ في عروقِي، كامتداد الشوقِ في فسيح أمانينا الغائبة.
أنتِ يا بيروتُ... وجعُ القصيدة، طهرُ القصيدة، وناياتٍ على شواطئ ذكرياتنا أومأتْ لنا بالرَّحيل، وبكينا خلفَ خطاها قصائدَ عشقٍ من حبٍ وحرب، يابيروتُ كفى بكِ امرأةً من نارٍ ونور..
الآن ياغالية.. وقد هَرِمتْ أوراقي، واغتالني الفرحُ، وسيقتْ أمانيَّ قرباناً لصمتٍ قتلني، أمامَ قداسةِ الكلمة، وطُهرِ حروفِها، أمامَ فداحةِ الصمتِ، ودربه الَّذي غَرسناه مشاتلَ عبقٍ من فرحٍ وحب، خبئناه في خلجاتِ شهيقنا، ودمنا المسفوحِ على عتباتِ الشوق... الآن أمامَ رجفةِ أصابعِنا الَّتي سَكِرَتْ على نبيذِ أحلامِنا البائسة، أمامَ آهاتٍ سكبناها سويَّةً في تفاصيل المسافات، ودمعاتٍ سقتْ جفافَ أمانينا، أمامَكِ يا أنثى القداسة والقصيدة أعلنُ فضيحة الكلمات، وقداسة المعنى..
الصمتُ و الصوتُ ياغالية... سيفانِ من وجع، وأنا الغريبُ في ثنايا الرُّوح، ألملم ما تبقَّى من شتات العمر، وأغرسه في رواسب الأمنيات، وبقايا الذكرى والذاكرة..
ليسَ الغريبُ أن أُرهنَ نفسي للظلام، وأن أقتاتَ على فُتاتِ ذكرانا، وذكرياتنا، ليس غريباً أن أتلمَّسَ الأرضَ تحتَ ممشاكِ، وأن أُنيخَ عمري امتداداً لأيَّامِكِ الباقية، بل الغريبُ أن نتيهَ معاً في دروب الضَّياع، ويلفُّنا الصمتُ بعباءَتِه عمراً من الأشواقِ المذبوحة على حافةِ الاحتراق.
كان تموز.. ناراً تشعلُ لي دمي، وجرحاً أبعد من اليقين، فيه كَسَرنَا جدارَ الصمت، واعتمرنا مسافاتٍ بلا جهات، تأخذنا حدَّ الدهشة، حيثُ انكسار القلب، وشتات الرُّوح، حيثُ للفرحِ طعمٌ مختلفٌ، ولونٌ آخر..
تموز وأنا.. جرحان لذاكرةِ الأيَّامِ، وامتداداً لصَوْتي المحفور على شاهدةِ البعيد، كانَ صداه يمخرُ أوردةَ القلبِ، وينفثُ فيها ذكرى احتراقي.
يا أنثى القداسةِ والقصيدة.. لأنَّ لكِ نُثارَ الجهات، أسْكَنتُكِ جهةَ القلب!!.
صيف 2006
…لا شك أنكِ الآن في الزمان الآخر، وفي المكان الذي لاينبغي عليَّ أن أتواجد فيه، سئمتنا الحياةُ يا غالية…، وبقيتِ أنت في غربة المسافات، والتضاريس، والوجوه البعيدة، وبقيتُ أنا ملازماً حزني، وخيبتي، أن تكبر خيبتي فتلك مصيبة، وأن أتناسى فتلك مصيبة أكبر...
من منا يرحل عن ذاته بطوعٍ إرادته، من منا يرسلُ حزنه الأبدي قرباناً لموتٍ محتّم، ويعيشُ على قمةِ الوجع، والانصهار، الانصهار الذي لا يدانيه موتٌ آخر، ولا تؤمُّه فجيعةٌ أخرى..
أكبرُ منِّي ومنكِ شوقي لطهرِ قامتكِ، لكنكِ سكنتِ الأرضَ البعيدة التي وطئتها قلوبنا قبلَ ألف عام، وتجذَّرَ عذابنا فيها منذ ملايين السنين.
أنتِ في البعيد، كنتِ، وما زال البعيدُ يمصُّ دمي، ومازالت أسفارنا يائسةً خلفَ كلِّ حكاية، وكلِّ طريق، وكلِّ ركنٍ رمينا به تفاصيلَ أشيائنا العابثة..
الذكريات ياغالية لها شكلٌ آخر عندما تمرين في جوار القلب، ليس ثمة ما يحركُ شعوري غيرحفنةِ حزنٍ غرسناها سويةً، وسقيناها من مدادِ عيوننا الظمأى، لتكبرَ فينا معمّرة عريشها على أنقاض قلوبنا البائسة..
عندما بدأتِ تكبرين فيَّ، هرعتُ إلى مكانٍ بعيد ألتجي إليه، وأخبئ صمتي الذي استحالَ سماً بالغاً أنهكَ قواي في تفاصيل الإنتظار، أو ربما الاحتراق، لم يكن أمامي متسعاً من الفرح، ولم تكن الدنيا تحتوي انطلاقي منكِ، كنتِ تكبرين، وكان الفرحُ يشي بي إلى غربةٍ أحلك، وإلى هجرةٍ أشدّ مضاضةً وأبعد أملا...
أنتِ تكبرين أكثر، وأنا أكبر معكِ وبكِ، كان الموتُ بانتظاري، ولم تنتظري أنتِ، هو وفيٌ، وأنتِ أوفى، وكلاكما مُسعفي إلى امتدادٍ آخر، ومساحةٍ من فرحٍ أقصى، وجرحٍ أتعبني..
في تموز كانت المسافات ضيَّقةً، والفرحُ ضيِّق، والدموعُ تجرجرُ أذيالها على ضفتي بحرٍ من حبٍ وحرب، في تموز كانتِ السّماءُ تمطرُ دمعاً، والأرضُ تنبتُ فرحاً آخراً ممزوجاً بآهاتٍ لم نعهدها من قبل، كنتَ يا تموز تشبهني، تشبهني كثيراً، وتحرقني كثيراً، كانت نسيماتك أكثر إيلاماً، وأشدّ وجعا..
أمَّا أنتِ .. سماءٌ بلا حدود، امرأة بلا حدود، وطفلةٌ سمتْ فينا قداسةً تشعُّ كبرياءَ لا ينضب، وطهراً كبيرا.
متى تصبحُ امرأةً بحجم وطن؟!، ومتى يصير امتدادي لها كوناً ثانياَ؟!، وبعداً كبير المنال. أنتِ لستِ كباقي النساء، ولن تكوني، أنتِ قطعةٌ ممزوجةٌ برضيبِ الأرضِ، وطهر السماء، ممزوجةٌ بماءِ شعري الذي استباح دمي، وهتكَ سرَّ وجودي..
أنت يا نينوى الخضراء سرُّ وجودي، أيتها المدينة الأنثى، فرحي بكِ أكبر من مساحةِ ألمي وقصائدي، فرحي بكِ تعدَّى تفاصيل الأشياء، وتخطَّى حدود الزمان والمكان، غير أني في زمانٍ آخر، ومكانٍ ليس كباقي الأمكنة، عندما قررتِ أن تخرجي من دمي، وأن تسافري إلى أقصى الوجع، كان نيسان حينذاك يواسي خيبتي، ويضمني إلى حدِّ الفجيعة، نيسانُ يا غالية ليس كباقي الشهور، هو أكثر قداسة وأكثر خيبة..
ياأنثى القداسة والقصيدة، يمِّمي قلبكِ شطر قلبي، لكي تكوني امرأةَ التفاصيل، وأكونُ أنا..أنتِ، وأنتِ أنا.. ليسَ الهوية أن يكون لي وطن، بلِ الهويةُ أن تكوني لي وطناً، وأن نكبرَ معاً، وأراكِ تهرمين أمامي، وأشيخُ معكِ..
يا وجعي .. بلغني هجرُكِ كسيفٍ أدمى حشاشتي، ورمى بي جرحاً جنوب القلب، فليتكِ الآنَ تَسمعين صهيلَ حزني، هُم وشاةُ الدربِ والمسافات الآثمة، وأنا طريقٌ بلا جهات، صفعتني كلُّ جهاتِ الكونِ، وشَرِبتْ نخبَ تيهي وتُهيامي، أنا يا ابنة الربيعِ .. قدرٌ بلا جهات!!
عرفتُكِ امرأةً، وكنتِ أنثى، عرفتُكِ قدراً، وصرتِ لي وجعاً، أيُّ قدرٍ هذا يابيروت.. أن تكوني معبدَ التائهين، وملاذَ المشرَّدين، أيُّ قدرٍ يا مدينة الطهرِ أن يجمعني بكِ عذابُ المصلوبين، وفجيعة النازحين، أن يجمعني بكِ بحرٌ من الأشواق مداده دمي، ونزيفه من قلبٍ ضاقت به الدُّنيا إلا عن رملِ شواطيكِ، وأغاني فيروز العتيقة.
يا أنثى القداسة والقصيدة.. بيروتُ في دمي طفلةٌ تعبثُ على وترِ الرُّوح، تلكَ المدينة التي سكنتُ إليها، وسَكَنَتْ إليَّ، وجعي بها ممتدٌّ كامتدادِ الأرزِ في عروقِي، كامتداد الشوقِ في فسيح أمانينا الغائبة.
أنتِ يا بيروتُ... وجعُ القصيدة، طهرُ القصيدة، وناياتٍ على شواطئ ذكرياتنا أومأتْ لنا بالرَّحيل، وبكينا خلفَ خطاها قصائدَ عشقٍ من حبٍ وحرب، يابيروتُ كفى بكِ امرأةً من نارٍ ونور..
الآن ياغالية.. وقد هَرِمتْ أوراقي، واغتالني الفرحُ، وسيقتْ أمانيَّ قرباناً لصمتٍ قتلني، أمامَ قداسةِ الكلمة، وطُهرِ حروفِها، أمامَ فداحةِ الصمتِ، ودربه الَّذي غَرسناه مشاتلَ عبقٍ من فرحٍ وحب، خبئناه في خلجاتِ شهيقنا، ودمنا المسفوحِ على عتباتِ الشوق... الآن أمامَ رجفةِ أصابعِنا الَّتي سَكِرَتْ على نبيذِ أحلامِنا البائسة، أمامَ آهاتٍ سكبناها سويَّةً في تفاصيل المسافات، ودمعاتٍ سقتْ جفافَ أمانينا، أمامَكِ يا أنثى القداسة والقصيدة أعلنُ فضيحة الكلمات، وقداسة المعنى..
الصمتُ و الصوتُ ياغالية... سيفانِ من وجع، وأنا الغريبُ في ثنايا الرُّوح، ألملم ما تبقَّى من شتات العمر، وأغرسه في رواسب الأمنيات، وبقايا الذكرى والذاكرة..
ليسَ الغريبُ أن أُرهنَ نفسي للظلام، وأن أقتاتَ على فُتاتِ ذكرانا، وذكرياتنا، ليس غريباً أن أتلمَّسَ الأرضَ تحتَ ممشاكِ، وأن أُنيخَ عمري امتداداً لأيَّامِكِ الباقية، بل الغريبُ أن نتيهَ معاً في دروب الضَّياع، ويلفُّنا الصمتُ بعباءَتِه عمراً من الأشواقِ المذبوحة على حافةِ الاحتراق.
كان تموز.. ناراً تشعلُ لي دمي، وجرحاً أبعد من اليقين، فيه كَسَرنَا جدارَ الصمت، واعتمرنا مسافاتٍ بلا جهات، تأخذنا حدَّ الدهشة، حيثُ انكسار القلب، وشتات الرُّوح، حيثُ للفرحِ طعمٌ مختلفٌ، ولونٌ آخر..
تموز وأنا.. جرحان لذاكرةِ الأيَّامِ، وامتداداً لصَوْتي المحفور على شاهدةِ البعيد، كانَ صداه يمخرُ أوردةَ القلبِ، وينفثُ فيها ذكرى احتراقي.
يا أنثى القداسةِ والقصيدة.. لأنَّ لكِ نُثارَ الجهات، أسْكَنتُكِ جهةَ القلب!!.
فادي الفحيلي
Fadi_fuhaily@yahoo.com
تعليق