عبد العزيز حسين الصّاوي بين فكر الإصلاح و نظرية الهدم وإعادة البناء :
هوامش على ورقة : معا نحو عصر تنوير سوداني : إطار عام لإستراتيجية معارضة مختلفة ...
أحمد ضحية
مقدمة : الأستاذ عبد العزيز حسين الصّاوي أو (محمد بشير)أحد المفكرين السودانيين القلائل الذين ظلّت تتآكلهم أسئلة الوطن الحارقة .. بدءً يسؤال الهُوِّيَة الذي تمكن خلال محاولة الإجابة عنه ,من إحداث نقلة كبيرة في تفكير التيار القومي العربي ,من خندق العروبة الضيق في نظرتها لواقع السودان ,إلى الإعتراف بالمكوِّن الأفريقي ,كمكوِّن أساس في هُوِّيَة السودان الثقافية والحضارية ..وهو ما أطلق عليه الصّاوي – وقتها – "الهُوِّيَة المزدوجة" .. والتي إختلفنا أو إتفقنا معها كتصور أو مفهوم ,لن يلغي ذلك أنها تمثل بحق رؤية مغايرة وجديدة ,لما ظل القوميون العرب أو البعثيون على وجه الخصوص, يعتقدونه بشأن هُوَّيَة السودان!.. ما يعد نقلة كبيرة أيا كانت طبيعة التحفظات حول مفهوم "الإزدواج" !!..
وبهذا المعنى تمثل كتابات الصّاوي حول الديموقراطية والحرّية والمجتمع المدني والهُوِّيَة ,رؤى تجديدية . تضع إسهاماته في القلب من المجرى العام ,لقوى الديموقراطية والتنوير والتجديد والحداثة ..
من جهة أخرى ,إعلاء الصّاوي المستمر ,لقيمة "الحرّية" وإحتفاءه الكبير بالديموقراطية في كتاباته العديدة ,بمثابة النقلة الكبرى أو قفزة الفهد الدياليكتيكية والإنتقال ,من التفكير داخل النسق العقائدي المغلق , إلى مستوى في التفكير المنفتح على الإعتراف الموضوعي بواقع التباين والتعدد والتنوع ,الذي يسِّم بلادنا .
ولذلك في -ظني الخاص- تتصل ورقته الأخيرة :"معا نحو عصر تنوير سوداني- إطار عام لإستراتيجية معارضة مختلفة" بإسهاماته السابقة ,خصوصا : حوارات الهُوِّيَة والأزمة الوطنية , والهُوِّيَة المزدوجة.. ومقالاته العديدة حول التعليم والمجتمع المدني والديموقراطية والإستنارة ..
و أن يأتي هذا النوع من التفكير من أحد القيادات البارزة في أحد تيارات حزب البعث العربي الإشتراكي, ذات الثقل أو الوزن الفكري المقدر في السودان, يعطي هذا الأمل في توسيع مواعين القوى الجديدة الديموقراطية , لتحقيق حلم قديم عزيز ألا وهو"فدرالية القوى الديموقراطية الجديدة" كإطار عام لإستراتيجية معارضة ,معنية بالتنوير والتحديث والديموقراطية في السودان , كأهداف معلنة مشتركة ضد قوى الظلام والإستبداد ...
(1-6) : في هذه الإستراتيجية يثير الصّاوي أسئلة متجددة ,حول جذور الأزمة السودانية ,بتركيزه على الديموقراطية ليتبادر إلى الذهن سؤال تلقائي : حول إمكانية تطبيق الديموقراطية على مجتمع غير ديموقراطي , بحكم ثقافته غير الديموقراطية , ما يطرح ضرورة البدء بمعالجة الثقافة الإجتماعية والسياسية أولا , ففي ظل ثقافة مستبدة ومجتمع لا يحتفي بالديموقراطية , يصبح الحديث عن الديموقراطية أشبه بالحديث عن خيارات النخبة ,وليس الشعب الغارق في محن الفساد والإستبداد وهموم اليومي المعاش , خاصة أن قضية الديموقراطية في السودان ,ظلت أشبه بالأدة التي تصل خلالها "النخب الحزبية" إلى السلطة , لتفرغها بعد ذلك من مضمونها الإجتماعي ,وأبعادها التنموية ودورها الخلاق في التنوير والحداثة ..
الأمر الذي ظل ينتج إإنقلاباتعسكريةأوآيديولوجية ,عمرها أطول من عمر التجارب الديموقراطية , كما في تجربتي إنقلاب مايو 1969 الذي استمر حتى أبريل 1985 و يونيو 1989 الإسلاموية المستمِّرَّ حتى الآن!!! ..
لكن هل يعني ذلك عدم الإيمان بالإمكانية الذاتية , لمعالجة الديموقراطية لنفسها بنفسها ,متى أستقرت وترسخت نسبيا في واقع مثل واقع السودان !.
أو هل يعطي ذلك نوعا من المشروعية للإنقلابات العسكرية - حتى قبل أن تكمل الديموقراطية دورتها كما في الفترة من 1956-1958 و 1964- 1969 و 1985- 1989.. قطعا لا ..
مع ذلك يظل ثمة سؤال حيّوي يتعلق بالنخب الحزبية ,التي تصل إلى البرلمان عبر العملية الديموقراطية , ودورهذه النخب في عمليات الإصلاح الديموقراطي ,داخل أحزابها العتيقة ,الشبيهة بالتكوينات الوراثية الملكية ,أو العقائدية ذات الطابع العسكري .. والتي لا يتم داخلها أي نوع من أنواع التداول المرِّن للسلطة - إذ غالبا ما يخرج معظم المؤتمرون مغبونون من نتائج مؤتمرِّهم- وهو عامل ينعكس من داخل الحزب إلى خارجه في جهاز الدولة , وهو في ظنِّي من العوامل الأساسية ,التي أسهمت في الإنقسامات الحزبية ,والإنقسام في المجتمع والدولة ,ضمن عوامل أخرى عديدة .. وأنعكس قبل ذلك على شعار الديموقراطية ,محولا إياه إلى شعار خال من محتواه النبيل ! وهي عملية -في تقديري الخاص- بمثابة الإمتداد لحالة التفريغ المستمِّر ,للعديد من الشعارات والمفاهيم من محتوياتها: كإفراغ شعارات : الحكم الذاتي , الفدرالية ,اللامركزية .. من مضامينها العزيزة على جماهير المجتمعات السودانية ,في المركز والأطراف ,في مراحل مختلفة من تاريخ السودان الحديث ! ..
هذا التفريغ واسع النطاق ,للشعارات من معانيها المطلوبة ,أسهم في الحروب الأهلية ,التي طالت جهات البلاد الأربعة , ما يهدد وحدتها بالتمزق ,بالتالي السودان بحدوده الحالية ,إلى التلاشي والتبدد!.. ولذلك -في ظنِّي- أنه من الصعب تحقيق ديموقراطية فعالة على أرض الواقع ,ما لم تتم عملية "دمقرطة" للقوى السياسية نفسها ,خلال عمليات الإصلاح الحزبي – التي يذهب الكثيرون الآن إلى أن أوانها قد فات؟! – فلا ديموقراطية بلا ديموقراطيين!! ..
(2-6): يشير الأستاذ عبد العزيز حسين الصّاوي في ورقته "نحو عصر تنوير سوداني" إلى عملية التطور, التي أدت إلى إنبثاق فكرة ومفهوم الديموقراطية ,وأثر هذا المفهوم في أنشطة دعاة الإصلاح الديني والإجتماعي : الطهطاوي , محمد عبده , الأفغاني , طه حسين وغيرهم .. لكن الشاهد في الحالة السودانية ,أن مشروع المنوِّر الغربي عموما ,سواءً أتى عن طريق الإتصال المباشر مع الغرب ,أو عن طريق الوسيط العربي والإسلامي , قد تم الإنقلاب عليه مبكرا ؟!.. منذ اللحظة التي أعتمد فيها الإستعمار (الإنجليزي – المصري) على زعماء القبائل والطوائف ,بدلا عن الإعتماد على خريجي التعليم المدني الوليد؟! كردة فعل مضادة لثورة 1924!!..
إذن تم الإنقلاب على مشروع المنوِّر الغربي في السودان ,وهو لا يزال جنينيا !!! لم تكتمل بلورته بعد . ما فتح الطريق واسعا ,لإجهاض كل المحاولات المحدودة ,لعمليات الإزاحة للمفاهيم التعسفية ,في البنى الإجتماعية .وإحلال مفاهيم الديموقراطية والإستنارة محلها ,وفي ظني أن هذا يمثل أحد أسرار إستمرار الحلقة الجهنمية : ديموقراطية , إنقلاب .. ديموقراطية, إنقلاب!!..
لكن يظل أيضا ثمة سؤال طرحته ورقة الصّاوي :"معا نحو عصر تنوير سوداني" ,التي حددت إرهاصات "عصر التنوير السوداني" ببداية عشرينات القرن الماضي , بإشارتها إلى عدد من التكوينات ذات الطابع الإجتماعي السياسي, والأدبي الفكري : كجمعية (أب روف) على سبيل المثال , بإعتبارها التكوين الذي أنبثق عنه مؤتمر الخريجين ,ومن ثم الاحزاب السياسية .. الملاحظة هنا : أنه من الصعب تفسير خلافات وإختلافات هذه الجمعية – بالتالي مؤتمر الخريجين, فالأحزاب السياسية- حول مسألة الهُوِّيَة والجنسية السودانية – الآفروعروبية مقابل العروبة – هذا الإنقسام حول الوعي الجنِّينِّي "بالذات" شكّل البذرّة الأولى, لكل الإنقسامات اللاحقة في الذات والمجتمع ؟!.
ترتب على هذا الإنقسام منذ اللحظة الأولى هيمنة الإتجاه الإسلاموعربي , الذي جعل من الإتجاهات الأخرى, "موضوعا" لمشاريعه الإسلاموعربية الآيديولوجية,عوضا عن أن تتضافر مجهوداته ,مع المجهودات التي تمثلها الإتجاهات الأخرى ,للتفاوض أو التواضع على فكرة الوطن الواحد الموحد,الذي يعترف بواقع التعدد والتباين والتنوع ,على قاعدة الديموقراطية و الحقوق والمواطنة , التي حوّلها هذا الإتجاه – الإسلاموعربي الآيديولوجي- إلى فزّاعة أشبه "بقميص عثمان" , فأصبح هو – كإتجاه – مركزيا بالنسبة للإتجاهات الأخرى, ذات الطابع الليبرالي أو اليساري الإشتراكي , التي في الواقع تحولّت إلى هوامش ,تطفو على أرخبيل عقل إسلاموعربي مركزِّي تعسفي ,يرفد الحياة والواقع ببداوة الطوائف والعشائر, بنزوعاتها المضادة للديموقراطية والإستنارة و قيّم الحياة المدنية ..
(3-6) : يركز الأستاذ الصّاوي أيضا على الطبقة الوسطى ,وهنا يقفز إلى الذِّهن سؤال : هل لدينا فعلا طبقة وسطى بالمعنى الإجرائي لمفهوم الطبقة الوسطى ؟ وهل لدينا فعلا قوى حديثة بالمعنى الإجرائي لهذا المفهوم؟ .. وهل نقصد بالمجتمع المدني المجتمع الأهلي أم أن المجتمع الأهلي جزء من كل هو المجتمع المدني ؟..
أو بلغة أخرى: ما الذي نقصده عندما نتحدث عن "مجتمع مدني"؟! ..
أتساءل هذه الأسئلة ,وفي ذِّهنِّي أن ما لدينا بشكل عام ,لا يتعدى كونه قوى "تحديثية" أرتبطت بمجموعات "الأفندية" ,الذين خرجتهم المدارس الوسطى وكلية غردون الإنجليزية– التي أصبحت جامعة الخرطوم فيما بعد- ويطيب لنا تصنيف هؤلاء وأولئك "كنخبة" أو "صفوة" أو "طبقة وسطى" إلخ.. ومن ثم "قادة مجتمع مدني" فيما بعد !..
غني عن القول أن الطبقة الوسطى- تاريخيا كما في أوروبا - هي موئل التنوير والحداثة ,اللذان هما في الواقع مفهومان ثوريان , يمثل الأخير ,أعني : "الحداثة" بالذات "النتيجة" لعملية الهدم وإعادة البناء ,التي ينهض بها "التنوير" ,كعملية نقض حفرِّية تتوسل الإزاحة والإحلال ,فيما يخص المفاهيم والتصورات ..
و إذا أغفلنا الحديث عن الجانب الإقتصادي ,بإعتباره ليس ضمن الهموم التي تشتغل عليها الورقة, نجد أن ورقة الصّاوي ,في الوقت الذي تتبنى فيه الإتجاه الفكري النقدي, في النظر للحالة السودانية, تطرح مسألة الإصلاح ,من داخل الأوضاع القائمة ..
على سبيل المثال : مقترح الورقة فيما يخص إصلاح التعليم – وليس هدمه وإعادة بناءه من جديد ,على أسس علمية أكاديمية ومدنية معاصرة- يطرح سؤال : هل من الممكن أن يتقبل النظام الإسلاموي الآيديولوجي القائم فكرة إصلاح التعليم , وهو يستمد قوته أساسا من تصميم المناهج المدرسية على النحو الذي صممها به , لأنها تثمر كادرا بالشروط والمواصفات ,التي يتصورها النظام لازمة لإستمراريته ؟!..
من جهة أخرى ,إذا إستعدنا السلوك السياسي والنخبوي في تاريخنا المعاصر , نجد أن السياسيين الذين خرجتهم قبائل الصفوة ,إرتبطوا بتحالفات عميقة مع القوى الطائفية والإسلاموية ,التي هي في الحقيقة القوى المضادة للتنوير والحداثة , على الرغم من إعلانها للديموقراطية كهدف مشترك , لكن هذا الهدف ليس متأصلا في الوعي بصورة جذرِّية ,بقدر ما هو توظيف لأداة مفيدة في الصراع السياسي ,على السلطة والموارد ..
وهي حالة شبيهة تماما بقبول وإستهلاك القوى الإسلاموية عموما,بأشكالها المختلفة لمنتجات الحداثة المادية والمعنوية –كالديموقراطية و التكنلوجيا- ورفضها للأسس الفلسفية والمعرفية والسياسات التي أثمرت هذه التكنلوجيا وهذه المفاهيم – مفهوم الديموقراطية والعلمانية مثلا- بزاوية النظر هذه ,يمكننا رؤية تحول الديموقراطية ,إلى ما يشبه الترّف . الذي يلبي مثاقفات النخبة ,وتوظيفات القوّى الإسلاموعربية بما فيها القوى الطائفية ,بالتالي لا يعد مفهوم الديموقراطية أصيلا في المشهد السياسي ,للوصول فعليا لغايات تفتح الطريق واسعا ,أمام أفق الإبداع البشرِّي !..
من جهة أخرى يلاحظ على اليسار السوداني ,أنه لم يكثف إطلاقه لمفاهيم مثل الديموقراطية في خطاباته ,إلا بعد أن تضررت مصالحه هو شخصيا ,خاصة على عهد الإنقلاب الإسلاموعربي الأخير :منذ 30 يونيو 1989 والمستمر حتى الآن !!!..
بمعنى أن المركزِّية كمعادل موضوعي للإستبداد والفساد ,لم تعد موضوعا في المناقشات الداخلية – للقوى العقائدية – إلا بعد الهجمات الشرسة على قوّى الديموقراطية والعلمانية من قبل المركزِّية الإسلاموعربية في السودان, ممثلة في أكبر قواها نفوذا وأقواها – الحركة الإسلاموية أو الحزب الحاكم منذ 1989 تحت مختلف التسميات المرحلية – لذلك تبني أطراف العملية السياسية في المعارضة في السودان, لخيار التحوّل الديموقراطي – بكل إلتباساته كمفهوم ,وكعملية تسبق أو تصاحب أو تلي عملية إنتقال السلطة عبر صناديق الإقتراع – والديموقراطية كأحد العوامل المساهمة في إحداث تحول ديموقراطي كامل , وكعامل مساهم في حل معضلة الأزمة الوطنية الشاملة , يجيء في إطار التماسك النفسي الداخلي للقوّى السياسية العقائدية والطائفية ,ورغبتها في إستعادة موقعها القديم على أسس تحافظ على مصالحها القديمة!! ..
يلاحظ أيضا أن القوى السياسية ,لم تتمكن من تحقيق ممارسة ديموقراطية داخلية حقيقية ,إذ لا تزال محكومة بقانون الوراثة الملكية – الأحزاب الطائفية كالأمة والإتحادي - أوالأقدمية كما في الجيش – اليسار : الشيوعي والبعث– لكن على مستوى الخطابات الموجهة إلى جماهير الشعب ,والضاغطة على النظام الإسلاموي الحاكم ,يتم رفع فزّاعة الديموقراطية , وهي حالة أشبه بالإنفصام! ..
بل حتى القوّى الناتجة عن إنقسامات ,لم تتمكن من إحداث قطيعة فكرية ,ومعرفية عميقة وكاملة مع تكوينها الفكري ,أو نظام تفكيرها الذي أرتحلت به ,من تنظيماتها العقائدية أو الطائفية الأم !..
والسؤال هنا هو : كيف يمكن للشعب في السودان, أن يؤمن بديموقراطية تدعو لها قوى غير ديموقراطية ؟ إذ يحيل ذلك إلى تسويق نبيذ الديموقراطية مفرغة المحتوى ,في قنان الإستبداد والفساد . وهو جوهر المسألة فيما يخص قضية الإصلاح الحزبي والمؤتمرات "الشكلِّيّة" ,التي أقامتها عديد القوى في السنوات الأخيرة .. والتي للمفارقة رحلّت أهم أجنداتها ,للمؤتمرات القادمة ,التي في رحم الغيب, مع تثبيت القيادات القديمة"التاريخية" على طريقة " أثبت معاوية كما أثبت خاتمي هذا . وأخلع عليا كما أخلع خاتمي هذا !!...
ولذلك تقفز إلى سطح النقاش بقوة قضيتي : الإصلاح مقابل الهدم وإعادة البناء من جديد ,وعلى أسس جديدة . قوامها ديموقراطية حقيقية وفعالة يمكن لجماهير الشعب الوثوق بها , والإلتفاف حول القوى التي تطرحها كهدف معلن مشترك ..
(4-6) : صحيح أن عوامل عديدة أستنزفت حيويّة القوى السياسية ,وهي عوامل ترى ورقة الأستاذ الصّاوي أن الحركة الإسلامية ظلت توفرها . لكن هنا أيضا نلاحظ أن الحركة الإسلاموية في السودان , في الوقت الذي كانت تستنزف فيه حيويّة القوى السياسية , كانت بالمقابل تستنزف في نفسها أيضا , بل أن إستنزافها لنفسها كان أسوأ بكثير , إذ ليس ثمة ما هو أسوأ من الإستنزاف الفكري والسياسي والتنظيمي والأخلاقي ,الذي حدث ويحدث وربما سيستمر في جسم الحركة الإسلاموية, لسنوات طويلة !..
إذ لم يعد لديها رصيد أخلاقي يمكنَّها من التعافي , حتى لو إستولى قسم منها "المؤتمر الوطني" على كل "الرِّيع" الإقتصادي للسودان !!.. فالأحزاب السياسية لا يتم بناءها بالقوّة الإقتصادية فقط!! ..
من جهة أخرى كون الحركة الأسلاموية قوة إستخبارية أمنية إستبدادية ظلامية إنتهازية مهيمنة على كل مفاصل الدولة منذ 1989 حتى الآن , وكونها أنشغلت بنهب ثروات البلاد ,وسرقة أحلام البسطاء في الرفاهية والتقدم :كل هذه التوصيفات للحركة الإسلاموية وغيرها من توصيفات ,لا تعفي بأي حال من الأحوال , قيادات المعارضة عن مسئولياتها تجاه ما حدث ويحدث ,من تخريب للبلاد والعباد ويضع كل شيء على حافة الهاوية , فقيادات المعارضة بتواطؤاتها وخنوعها ,هي جزء أصيل في كل هذا الإستبداد والفساد , وفي تقديري الشخصي أن دور هذه القيادات لا ينحصر – كما تحاول ورقة الصّاوي القول – في "تشخيص مصدر العلة وتطوير إستراتيجية"لإنقاذ البلاد !!..
فالمتتبع لتاريخ السودان الحديث , يمكنه أن يكتشف بسهولة ,أن القوى السياسية سواء كانت في الحكم أو المعارضة , ظلت باستمرار . هي أحد المصادر الأساسية, لعلل الحياة السياسية في السودان , والحال كذلك ,ليس بالإمكان إعفاء هذه القوى من مسئولياتها , عما حدث ويحدث ويهدد بتمزيق البلاد ,إلى ما يشبه دويلات المدن,خاصة بعد إستفتاء 11 يناير القادم الذي بموجبه قد ينفصل جنوب السودان عن شماله والذي سيكون أكبر إنجازات الحركة الإسلاموية في السودان! ..
نلاحظ أيضا في حديث الأستاذ الصّاوي عن تطوير إستراتيجية للعمل المعارض ,إشارات لعدم صلاحية أساليب العمل المجرّبة في ثورة أكتوبر 1964التي أسقطت نظام الجنرال الفريق إبراهيم عبود وإنتفاضة أبريل 1985 التي رمت بنظام "إمام القرن العشرين" جعفر محمد نميري إلى مزبلة التاريخ , ما يُفهم منه أن أسلحة ك(الإضراب السياسي والعصيان المدني والإنتفاضة الشعبية الشاملة) , لم تعد صالحة الإستعمال في التعامل مع نظام إسلاموي قمعي كنظام الحركة الإسلاموية الحاكمة منذ1989 حتى الآن! ..
في ظني أن عدم إسقاط الشعب لهذا النظام حتى الآن ,يطرح مشكلة عميقة تتعلق بالإحباط العام ,الذي أنتجته حالة التحالف التاريخي بين الطائفية واليسار فيما يشبه"الحلف المقدس" : البعثيون (الطبعة العراقية الأصلية كما يمثلها الآن علي الرّيح أوعثمان إدريس أب رأس)= الإتحاديين من جهة والشيوعيين = الأمة من جهة أخرى , ويمكن قراءة تعبير هذا الحلف عن نفسه كوحدة واحدة ,خلال مواقفه المتشابهة –تاريخيا- من آليات إسقاط النظام ,والتي إن إختلفت فهي تختلف في الدرجة لا النوع !..
إلى جانب أن هذا الحلف كوحدة أساسية واحدة , يرتبط أيضا بتحالفات مرحلية , مع قوى أخرى صغيرّة , في اليمين أو اليسار أو الوسط , أومع الحركة الشعبية والقوى الجنوبية , أو قوى شرق السودان أو دارفور,إلخ ..
وعلى أية حال هذا التحالف ,ذا الطبيعة الفكرية المتناقضة ,أسهم في فشل أي إستنهاض جماهيري ممكن , لتجريب الأدوات المذكورة, بغرض إسقاط الحركة الإسلاموية الحاكمة, على الرغم من أن هذه الأدوات, أثبتت فعاليتها سابقا في ثورة أكتوبر1964 وإنتفاضة أبريل 1985,وفي مطلع هذا العام في مظاهرات الإثنين الشهيرة التي وقفت خلفها الحركة الشعبية ,فقوى إعلان مدينة جوبا الجنوبية,التي أكد لها الحراك الجماهيري الواسع ,الذي تلى ندوة ميدان المولد في العاصمة الخرطوم, أن الإنتفاضة الشعبية كأداة, لا تزال ممكنة لزلزلة أركان هذا النظام البغيض , لكن لعبة التوازنات والتحالفات والشراكات, أودت بهذا الحراك الجماهيري , وعمقت من إحباط الجماهير! ..
إلى جانب أن إلتفاف الجماهير ,حول إضراب الأطباء وتصعيد الأطباء لإضرابهم , أكد أيضا وبعد كل هذه السنوات من القمع المستمر ,أن إمكانية العصيان والإضراب لا تزال ممكنة!! ..
كذلك الإلتفاف الجماهيري الواسع – خاصة من قبل الطلاب والشباب- حول ياسر عرمان كمرشح للرئاسة ,أكد أيضا أن الجماهير لا تزال متمسكة بحقها في وطن واحد وديموقراطي يحترم المواطنة, بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس أو الدين .. لكن تم إجهاض هذا الحق في سياق لعبة التوازنات والشراكات ..
ولذلك كي يتم تجريب مثل هذه الأدوات مرة أخرى ,يجب أن تسترد القوى السياسية ثقة الجماهير ,التي ظلت تحبطها بتكتيكاتها محدودة النظر ,على حساب الأفق الإستراتيجي بعيد المدى .. فالنظرة المحدودة للقوى السياسية وضعف الخيال السياسي ,ظلا يفضيان إلى فشل المشاريع الممكنة للديموقراطية والتنوير, بالتالي النهضة والوحدة والسلام !..
وزبدة القول هنا أن المشكلة ليست في فشل أساليب ناجحة تم تجريبها من قبل, بقدر ما هي مشكلة عدم ثقة الشعب في قواه السياسية ,التي ظلت تخون ثقته . وفي ظنِّي أن هذا الشعب يشك في أن أي تضحية أخرى يقدمها , من الممكن أن تتمخض عن تغيير حقيقي يضمن وحدة البلاد والديموقراطية! ..
عليه أتصور أن على القوى السياسية , بذل مجهودات حقيقية وفعالة ,في إسترداد ثقة الشعب فيها , بإعادة بناء جسور هذه الثقة .. وقبل كل ذلك إسترداد ثقة أعضائها "الذين في حيرة من امرهم" والذين تقطعت بهم السبل !.. مع ملاحظة أن رفض الشعب للحركة الإسلاموية الحاكمة الآن بإسم المؤتمر الوطني ,لا يعني بالضرورة قبوله بالقوى المعارضة !.. بل ومن المحتمل أن يأتي بالحركة الإسلاموية إلى سدّة الحكم مرة أخرى ,وعبر صناديق الإقتراع -كما يحدث في جامعات هذه الأيام ,التي تتسنم إتحاداتها فصائل متطرفة في الحركة الإسلاموية"أنصار السنة أو الوهابية" مثلا- أو على أسوأ الفروض إعادة إنتاج نظام شمولي أسوأ بكثير من الحركة الإسلاموية ..
على خلفية الهوامش السابقة ,تجد ورقة الأستاذ عبد العزيز حسين الصّاوي مشروعيتها وجدواها ,كإطار عام لإستراتيجية تتوازى أو تتقاطع مع العمل المعارض القائم, فهي ليست بديلا عنه , وإنما تقترح نفسها بالمضي معه جنبا إلى جنب, أيا كانت أشكال وصيغ هذا العمل المعارض - هذا إن كانت له أصلا صيغا وأشكالا- ولذلك تولي أهمية كبيرة لإصلاح التعليم – كما أشرنا سابقا - خشية إنتاج نظام شمولي مرة أخرى أسوأ بكثير من نظام الحركة الإسلاموية في السودان ..
وكذلك لتجنب إستيلاء تنظيم عقائدي شبيه بالحركة الإسلاموية على السلطة مرة أخرى ,أو إنتاج نظام شمولي لا متناه السوء ,تقترح ورقة الصّاوي الإسراع بإستزراع مقومات الإستنارة والحداثة وإعادة تأسيس وتأثيث المشروع الديموقراطي .
وغني عن القول أن مشروع كالذي يطرحه الصّاوي , لهو مشروع طويل الأمد ,لأنه كما ذكرنا سابقا يتعلق بالحفر بما هو إزاحة وإحلال, والحفر سلسلة عمليات فكرية وإجتماعية معقدة والسؤال هنا : هل بالإمكان إعتماد إستراتيجية طويلة المدى, في ظروف السودان الحالية , وفي ظل وجود نظام إسلاموي فاسد ومستبد , كنظام الحركة الإسلاموية الحالي ؟.. وهل لا يزال السودان بحدوده الحالية-التي غالبا ستتغير في يناير المقبل- يملك ما يكفي من الوقت, لتطبيق مثل هذا النوع من الإستراتيجيات المعارضة , وماهي الحدود الجغرافية الممكنة , لهذا التصور خاصة بعد إستفتاء يناير 2011 ..
(5-6): صحيح أن دورالمجتمع المدني في العالم, أصبح متعاظما ومؤثرا , لكن في حالة السودان كي يكون لهيئات المجتمع المدني, دور في إستراتيجية التنوير, التي طرحتها ورقة الصّاوي لابد من إصلاحها هي ذاتها أي هيئات المجتمع المدني..
وقبل القول بإصلاح مؤسسات المجتمع المدني ,يتوجب أولا الإجابة على السؤال : هل لدينا مجتمع مدني غير مسيس ؟ مع ملاحظة أن الدولة في السودان تاريخيا ,لم تقدم الكثير للشعب , فالأعباء في مجالات الصحة والتعليم -على وجه الخصوص- بل وبناء الإستراحات في المدن , ظل قدر كبير منها يقع على عاتق المجتمع الأهلي ,وبعض الخيرِّين في العاصمة والأقاليم , فإلى متى يتم الإعتماد الأساسي على المجهودات الشعبية والفردية , التي تقترح ورقة الصّاوي هنا توسيعها , لتشمل كل جوانب الحياة . بدء بشبكات تصريف المياه وصولا إلى حل مشكلة دارفور! ..
ما هو دور الدولة إذن ؟ .. جباية الضرائب وقمع وإحباط الشعب , ونهب ثروات البلاد وإهدار مقدراتها ,وتوظيف الجيش لقتل ابناء الشعب ؟!!..والحال كذلك ما هي الحاجة لوجود الدولة ؟ ..
من هنا تأتي مشروعية الدعوة إلى التفكيك الكامل ,أو الهدم وإعادة البناء على أسس جديدة , وهو إتجاه لا تتبناه هذه الورقة بالطبع ..
(6-6): تطرح تجربة الصين والولايات المتحدة ودول أخرى, فيما يخص مشاريع البنى التحتية فكرة مهمة حول دور الجيش في عمليات البناء والتعمير : رصف الطرق , بناء : الجسور,الكباري , شبكات التصريف ,المستشفيات والمدارس, والعديد من مشاريع البنى التحتية الأخرى. بل وحتى التعامل مع الكوارث الطبيعية ,والأمراض والأوبئة ..
فعقيدة الجيش في دول مثل الولايات المتحدة , ليست مبنية على توهم أعداء داخليين – أبناء الشعب- وإبادتهم ؟؟!!.. بل لا تكتفي عقيدته بالتمركز حول الحماية و الدفاع عن الوطن ,ضد أعداء خارجيين فحسب , بل والبناء والتعمير والتنمية بمختلف أشكالها أيضا ..
وهي أدوار عكسها تماما ما أنبنت عليه عقيدة الجيش في السودان , خاصة في ظل نظام حكم الحركة الإسلاموية , التي أدلجته وصممته طبقا لنظام تفكيرها, في البطش بالمواطنين العزل والنساء والأطفال والشيوخ والمعارضين السياسيين, كما في حالة الجنوب ودارفور .. فتحول الجيش من جيش وطن إلى جيش حزب حاكم تحت راية الإسلام !..
ولذلك عند النظر إلى مؤسسات الدولة في السودان ,يلاحظ أن لا شيء سلِّم من التخرِّيب , ولذلك أي محاولات إصلاحية أو مشاريع إستراتيجية , تتعلق بالتنوير والحداثة يتوجب عليها أن تضع ضرورات تفكيك عقيدة الجيش السوداني ,وإعادة بناءها من جديد . لضمان عدم إستغلاله في مشاريع القوى السياسية قصيرة النظر ..
إنتهى
أحمد ضحية
21-8-2010
كارديف/لندن - بريطانيا ِ
هوامش على ورقة : معا نحو عصر تنوير سوداني : إطار عام لإستراتيجية معارضة مختلفة ...
أحمد ضحية
مقدمة : الأستاذ عبد العزيز حسين الصّاوي أو (محمد بشير)أحد المفكرين السودانيين القلائل الذين ظلّت تتآكلهم أسئلة الوطن الحارقة .. بدءً يسؤال الهُوِّيَة الذي تمكن خلال محاولة الإجابة عنه ,من إحداث نقلة كبيرة في تفكير التيار القومي العربي ,من خندق العروبة الضيق في نظرتها لواقع السودان ,إلى الإعتراف بالمكوِّن الأفريقي ,كمكوِّن أساس في هُوِّيَة السودان الثقافية والحضارية ..وهو ما أطلق عليه الصّاوي – وقتها – "الهُوِّيَة المزدوجة" .. والتي إختلفنا أو إتفقنا معها كتصور أو مفهوم ,لن يلغي ذلك أنها تمثل بحق رؤية مغايرة وجديدة ,لما ظل القوميون العرب أو البعثيون على وجه الخصوص, يعتقدونه بشأن هُوَّيَة السودان!.. ما يعد نقلة كبيرة أيا كانت طبيعة التحفظات حول مفهوم "الإزدواج" !!..
وبهذا المعنى تمثل كتابات الصّاوي حول الديموقراطية والحرّية والمجتمع المدني والهُوِّيَة ,رؤى تجديدية . تضع إسهاماته في القلب من المجرى العام ,لقوى الديموقراطية والتنوير والتجديد والحداثة ..
من جهة أخرى ,إعلاء الصّاوي المستمر ,لقيمة "الحرّية" وإحتفاءه الكبير بالديموقراطية في كتاباته العديدة ,بمثابة النقلة الكبرى أو قفزة الفهد الدياليكتيكية والإنتقال ,من التفكير داخل النسق العقائدي المغلق , إلى مستوى في التفكير المنفتح على الإعتراف الموضوعي بواقع التباين والتعدد والتنوع ,الذي يسِّم بلادنا .
ولذلك في -ظني الخاص- تتصل ورقته الأخيرة :"معا نحو عصر تنوير سوداني- إطار عام لإستراتيجية معارضة مختلفة" بإسهاماته السابقة ,خصوصا : حوارات الهُوِّيَة والأزمة الوطنية , والهُوِّيَة المزدوجة.. ومقالاته العديدة حول التعليم والمجتمع المدني والديموقراطية والإستنارة ..
و أن يأتي هذا النوع من التفكير من أحد القيادات البارزة في أحد تيارات حزب البعث العربي الإشتراكي, ذات الثقل أو الوزن الفكري المقدر في السودان, يعطي هذا الأمل في توسيع مواعين القوى الجديدة الديموقراطية , لتحقيق حلم قديم عزيز ألا وهو"فدرالية القوى الديموقراطية الجديدة" كإطار عام لإستراتيجية معارضة ,معنية بالتنوير والتحديث والديموقراطية في السودان , كأهداف معلنة مشتركة ضد قوى الظلام والإستبداد ...
(1-6) : في هذه الإستراتيجية يثير الصّاوي أسئلة متجددة ,حول جذور الأزمة السودانية ,بتركيزه على الديموقراطية ليتبادر إلى الذهن سؤال تلقائي : حول إمكانية تطبيق الديموقراطية على مجتمع غير ديموقراطي , بحكم ثقافته غير الديموقراطية , ما يطرح ضرورة البدء بمعالجة الثقافة الإجتماعية والسياسية أولا , ففي ظل ثقافة مستبدة ومجتمع لا يحتفي بالديموقراطية , يصبح الحديث عن الديموقراطية أشبه بالحديث عن خيارات النخبة ,وليس الشعب الغارق في محن الفساد والإستبداد وهموم اليومي المعاش , خاصة أن قضية الديموقراطية في السودان ,ظلت أشبه بالأدة التي تصل خلالها "النخب الحزبية" إلى السلطة , لتفرغها بعد ذلك من مضمونها الإجتماعي ,وأبعادها التنموية ودورها الخلاق في التنوير والحداثة ..
الأمر الذي ظل ينتج إإنقلاباتعسكريةأوآيديولوجية ,عمرها أطول من عمر التجارب الديموقراطية , كما في تجربتي إنقلاب مايو 1969 الذي استمر حتى أبريل 1985 و يونيو 1989 الإسلاموية المستمِّرَّ حتى الآن!!! ..
لكن هل يعني ذلك عدم الإيمان بالإمكانية الذاتية , لمعالجة الديموقراطية لنفسها بنفسها ,متى أستقرت وترسخت نسبيا في واقع مثل واقع السودان !.
أو هل يعطي ذلك نوعا من المشروعية للإنقلابات العسكرية - حتى قبل أن تكمل الديموقراطية دورتها كما في الفترة من 1956-1958 و 1964- 1969 و 1985- 1989.. قطعا لا ..
مع ذلك يظل ثمة سؤال حيّوي يتعلق بالنخب الحزبية ,التي تصل إلى البرلمان عبر العملية الديموقراطية , ودورهذه النخب في عمليات الإصلاح الديموقراطي ,داخل أحزابها العتيقة ,الشبيهة بالتكوينات الوراثية الملكية ,أو العقائدية ذات الطابع العسكري .. والتي لا يتم داخلها أي نوع من أنواع التداول المرِّن للسلطة - إذ غالبا ما يخرج معظم المؤتمرون مغبونون من نتائج مؤتمرِّهم- وهو عامل ينعكس من داخل الحزب إلى خارجه في جهاز الدولة , وهو في ظنِّي من العوامل الأساسية ,التي أسهمت في الإنقسامات الحزبية ,والإنقسام في المجتمع والدولة ,ضمن عوامل أخرى عديدة .. وأنعكس قبل ذلك على شعار الديموقراطية ,محولا إياه إلى شعار خال من محتواه النبيل ! وهي عملية -في تقديري الخاص- بمثابة الإمتداد لحالة التفريغ المستمِّر ,للعديد من الشعارات والمفاهيم من محتوياتها: كإفراغ شعارات : الحكم الذاتي , الفدرالية ,اللامركزية .. من مضامينها العزيزة على جماهير المجتمعات السودانية ,في المركز والأطراف ,في مراحل مختلفة من تاريخ السودان الحديث ! ..
هذا التفريغ واسع النطاق ,للشعارات من معانيها المطلوبة ,أسهم في الحروب الأهلية ,التي طالت جهات البلاد الأربعة , ما يهدد وحدتها بالتمزق ,بالتالي السودان بحدوده الحالية ,إلى التلاشي والتبدد!.. ولذلك -في ظنِّي- أنه من الصعب تحقيق ديموقراطية فعالة على أرض الواقع ,ما لم تتم عملية "دمقرطة" للقوى السياسية نفسها ,خلال عمليات الإصلاح الحزبي – التي يذهب الكثيرون الآن إلى أن أوانها قد فات؟! – فلا ديموقراطية بلا ديموقراطيين!! ..
(2-6): يشير الأستاذ عبد العزيز حسين الصّاوي في ورقته "نحو عصر تنوير سوداني" إلى عملية التطور, التي أدت إلى إنبثاق فكرة ومفهوم الديموقراطية ,وأثر هذا المفهوم في أنشطة دعاة الإصلاح الديني والإجتماعي : الطهطاوي , محمد عبده , الأفغاني , طه حسين وغيرهم .. لكن الشاهد في الحالة السودانية ,أن مشروع المنوِّر الغربي عموما ,سواءً أتى عن طريق الإتصال المباشر مع الغرب ,أو عن طريق الوسيط العربي والإسلامي , قد تم الإنقلاب عليه مبكرا ؟!.. منذ اللحظة التي أعتمد فيها الإستعمار (الإنجليزي – المصري) على زعماء القبائل والطوائف ,بدلا عن الإعتماد على خريجي التعليم المدني الوليد؟! كردة فعل مضادة لثورة 1924!!..
إذن تم الإنقلاب على مشروع المنوِّر الغربي في السودان ,وهو لا يزال جنينيا !!! لم تكتمل بلورته بعد . ما فتح الطريق واسعا ,لإجهاض كل المحاولات المحدودة ,لعمليات الإزاحة للمفاهيم التعسفية ,في البنى الإجتماعية .وإحلال مفاهيم الديموقراطية والإستنارة محلها ,وفي ظني أن هذا يمثل أحد أسرار إستمرار الحلقة الجهنمية : ديموقراطية , إنقلاب .. ديموقراطية, إنقلاب!!..
لكن يظل أيضا ثمة سؤال طرحته ورقة الصّاوي :"معا نحو عصر تنوير سوداني" ,التي حددت إرهاصات "عصر التنوير السوداني" ببداية عشرينات القرن الماضي , بإشارتها إلى عدد من التكوينات ذات الطابع الإجتماعي السياسي, والأدبي الفكري : كجمعية (أب روف) على سبيل المثال , بإعتبارها التكوين الذي أنبثق عنه مؤتمر الخريجين ,ومن ثم الاحزاب السياسية .. الملاحظة هنا : أنه من الصعب تفسير خلافات وإختلافات هذه الجمعية – بالتالي مؤتمر الخريجين, فالأحزاب السياسية- حول مسألة الهُوِّيَة والجنسية السودانية – الآفروعروبية مقابل العروبة – هذا الإنقسام حول الوعي الجنِّينِّي "بالذات" شكّل البذرّة الأولى, لكل الإنقسامات اللاحقة في الذات والمجتمع ؟!.
ترتب على هذا الإنقسام منذ اللحظة الأولى هيمنة الإتجاه الإسلاموعربي , الذي جعل من الإتجاهات الأخرى, "موضوعا" لمشاريعه الإسلاموعربية الآيديولوجية,عوضا عن أن تتضافر مجهوداته ,مع المجهودات التي تمثلها الإتجاهات الأخرى ,للتفاوض أو التواضع على فكرة الوطن الواحد الموحد,الذي يعترف بواقع التعدد والتباين والتنوع ,على قاعدة الديموقراطية و الحقوق والمواطنة , التي حوّلها هذا الإتجاه – الإسلاموعربي الآيديولوجي- إلى فزّاعة أشبه "بقميص عثمان" , فأصبح هو – كإتجاه – مركزيا بالنسبة للإتجاهات الأخرى, ذات الطابع الليبرالي أو اليساري الإشتراكي , التي في الواقع تحولّت إلى هوامش ,تطفو على أرخبيل عقل إسلاموعربي مركزِّي تعسفي ,يرفد الحياة والواقع ببداوة الطوائف والعشائر, بنزوعاتها المضادة للديموقراطية والإستنارة و قيّم الحياة المدنية ..
(3-6) : يركز الأستاذ الصّاوي أيضا على الطبقة الوسطى ,وهنا يقفز إلى الذِّهن سؤال : هل لدينا فعلا طبقة وسطى بالمعنى الإجرائي لمفهوم الطبقة الوسطى ؟ وهل لدينا فعلا قوى حديثة بالمعنى الإجرائي لهذا المفهوم؟ .. وهل نقصد بالمجتمع المدني المجتمع الأهلي أم أن المجتمع الأهلي جزء من كل هو المجتمع المدني ؟..
أو بلغة أخرى: ما الذي نقصده عندما نتحدث عن "مجتمع مدني"؟! ..
أتساءل هذه الأسئلة ,وفي ذِّهنِّي أن ما لدينا بشكل عام ,لا يتعدى كونه قوى "تحديثية" أرتبطت بمجموعات "الأفندية" ,الذين خرجتهم المدارس الوسطى وكلية غردون الإنجليزية– التي أصبحت جامعة الخرطوم فيما بعد- ويطيب لنا تصنيف هؤلاء وأولئك "كنخبة" أو "صفوة" أو "طبقة وسطى" إلخ.. ومن ثم "قادة مجتمع مدني" فيما بعد !..
غني عن القول أن الطبقة الوسطى- تاريخيا كما في أوروبا - هي موئل التنوير والحداثة ,اللذان هما في الواقع مفهومان ثوريان , يمثل الأخير ,أعني : "الحداثة" بالذات "النتيجة" لعملية الهدم وإعادة البناء ,التي ينهض بها "التنوير" ,كعملية نقض حفرِّية تتوسل الإزاحة والإحلال ,فيما يخص المفاهيم والتصورات ..
و إذا أغفلنا الحديث عن الجانب الإقتصادي ,بإعتباره ليس ضمن الهموم التي تشتغل عليها الورقة, نجد أن ورقة الصّاوي ,في الوقت الذي تتبنى فيه الإتجاه الفكري النقدي, في النظر للحالة السودانية, تطرح مسألة الإصلاح ,من داخل الأوضاع القائمة ..
على سبيل المثال : مقترح الورقة فيما يخص إصلاح التعليم – وليس هدمه وإعادة بناءه من جديد ,على أسس علمية أكاديمية ومدنية معاصرة- يطرح سؤال : هل من الممكن أن يتقبل النظام الإسلاموي الآيديولوجي القائم فكرة إصلاح التعليم , وهو يستمد قوته أساسا من تصميم المناهج المدرسية على النحو الذي صممها به , لأنها تثمر كادرا بالشروط والمواصفات ,التي يتصورها النظام لازمة لإستمراريته ؟!..
من جهة أخرى ,إذا إستعدنا السلوك السياسي والنخبوي في تاريخنا المعاصر , نجد أن السياسيين الذين خرجتهم قبائل الصفوة ,إرتبطوا بتحالفات عميقة مع القوى الطائفية والإسلاموية ,التي هي في الحقيقة القوى المضادة للتنوير والحداثة , على الرغم من إعلانها للديموقراطية كهدف مشترك , لكن هذا الهدف ليس متأصلا في الوعي بصورة جذرِّية ,بقدر ما هو توظيف لأداة مفيدة في الصراع السياسي ,على السلطة والموارد ..
وهي حالة شبيهة تماما بقبول وإستهلاك القوى الإسلاموية عموما,بأشكالها المختلفة لمنتجات الحداثة المادية والمعنوية –كالديموقراطية و التكنلوجيا- ورفضها للأسس الفلسفية والمعرفية والسياسات التي أثمرت هذه التكنلوجيا وهذه المفاهيم – مفهوم الديموقراطية والعلمانية مثلا- بزاوية النظر هذه ,يمكننا رؤية تحول الديموقراطية ,إلى ما يشبه الترّف . الذي يلبي مثاقفات النخبة ,وتوظيفات القوّى الإسلاموعربية بما فيها القوى الطائفية ,بالتالي لا يعد مفهوم الديموقراطية أصيلا في المشهد السياسي ,للوصول فعليا لغايات تفتح الطريق واسعا ,أمام أفق الإبداع البشرِّي !..
من جهة أخرى يلاحظ على اليسار السوداني ,أنه لم يكثف إطلاقه لمفاهيم مثل الديموقراطية في خطاباته ,إلا بعد أن تضررت مصالحه هو شخصيا ,خاصة على عهد الإنقلاب الإسلاموعربي الأخير :منذ 30 يونيو 1989 والمستمر حتى الآن !!!..
بمعنى أن المركزِّية كمعادل موضوعي للإستبداد والفساد ,لم تعد موضوعا في المناقشات الداخلية – للقوى العقائدية – إلا بعد الهجمات الشرسة على قوّى الديموقراطية والعلمانية من قبل المركزِّية الإسلاموعربية في السودان, ممثلة في أكبر قواها نفوذا وأقواها – الحركة الإسلاموية أو الحزب الحاكم منذ 1989 تحت مختلف التسميات المرحلية – لذلك تبني أطراف العملية السياسية في المعارضة في السودان, لخيار التحوّل الديموقراطي – بكل إلتباساته كمفهوم ,وكعملية تسبق أو تصاحب أو تلي عملية إنتقال السلطة عبر صناديق الإقتراع – والديموقراطية كأحد العوامل المساهمة في إحداث تحول ديموقراطي كامل , وكعامل مساهم في حل معضلة الأزمة الوطنية الشاملة , يجيء في إطار التماسك النفسي الداخلي للقوّى السياسية العقائدية والطائفية ,ورغبتها في إستعادة موقعها القديم على أسس تحافظ على مصالحها القديمة!! ..
يلاحظ أيضا أن القوى السياسية ,لم تتمكن من تحقيق ممارسة ديموقراطية داخلية حقيقية ,إذ لا تزال محكومة بقانون الوراثة الملكية – الأحزاب الطائفية كالأمة والإتحادي - أوالأقدمية كما في الجيش – اليسار : الشيوعي والبعث– لكن على مستوى الخطابات الموجهة إلى جماهير الشعب ,والضاغطة على النظام الإسلاموي الحاكم ,يتم رفع فزّاعة الديموقراطية , وهي حالة أشبه بالإنفصام! ..
بل حتى القوّى الناتجة عن إنقسامات ,لم تتمكن من إحداث قطيعة فكرية ,ومعرفية عميقة وكاملة مع تكوينها الفكري ,أو نظام تفكيرها الذي أرتحلت به ,من تنظيماتها العقائدية أو الطائفية الأم !..
والسؤال هنا هو : كيف يمكن للشعب في السودان, أن يؤمن بديموقراطية تدعو لها قوى غير ديموقراطية ؟ إذ يحيل ذلك إلى تسويق نبيذ الديموقراطية مفرغة المحتوى ,في قنان الإستبداد والفساد . وهو جوهر المسألة فيما يخص قضية الإصلاح الحزبي والمؤتمرات "الشكلِّيّة" ,التي أقامتها عديد القوى في السنوات الأخيرة .. والتي للمفارقة رحلّت أهم أجنداتها ,للمؤتمرات القادمة ,التي في رحم الغيب, مع تثبيت القيادات القديمة"التاريخية" على طريقة " أثبت معاوية كما أثبت خاتمي هذا . وأخلع عليا كما أخلع خاتمي هذا !!...
ولذلك تقفز إلى سطح النقاش بقوة قضيتي : الإصلاح مقابل الهدم وإعادة البناء من جديد ,وعلى أسس جديدة . قوامها ديموقراطية حقيقية وفعالة يمكن لجماهير الشعب الوثوق بها , والإلتفاف حول القوى التي تطرحها كهدف معلن مشترك ..
(4-6) : صحيح أن عوامل عديدة أستنزفت حيويّة القوى السياسية ,وهي عوامل ترى ورقة الأستاذ الصّاوي أن الحركة الإسلامية ظلت توفرها . لكن هنا أيضا نلاحظ أن الحركة الإسلاموية في السودان , في الوقت الذي كانت تستنزف فيه حيويّة القوى السياسية , كانت بالمقابل تستنزف في نفسها أيضا , بل أن إستنزافها لنفسها كان أسوأ بكثير , إذ ليس ثمة ما هو أسوأ من الإستنزاف الفكري والسياسي والتنظيمي والأخلاقي ,الذي حدث ويحدث وربما سيستمر في جسم الحركة الإسلاموية, لسنوات طويلة !..
إذ لم يعد لديها رصيد أخلاقي يمكنَّها من التعافي , حتى لو إستولى قسم منها "المؤتمر الوطني" على كل "الرِّيع" الإقتصادي للسودان !!.. فالأحزاب السياسية لا يتم بناءها بالقوّة الإقتصادية فقط!! ..
من جهة أخرى كون الحركة الأسلاموية قوة إستخبارية أمنية إستبدادية ظلامية إنتهازية مهيمنة على كل مفاصل الدولة منذ 1989 حتى الآن , وكونها أنشغلت بنهب ثروات البلاد ,وسرقة أحلام البسطاء في الرفاهية والتقدم :كل هذه التوصيفات للحركة الإسلاموية وغيرها من توصيفات ,لا تعفي بأي حال من الأحوال , قيادات المعارضة عن مسئولياتها تجاه ما حدث ويحدث ,من تخريب للبلاد والعباد ويضع كل شيء على حافة الهاوية , فقيادات المعارضة بتواطؤاتها وخنوعها ,هي جزء أصيل في كل هذا الإستبداد والفساد , وفي تقديري الشخصي أن دور هذه القيادات لا ينحصر – كما تحاول ورقة الصّاوي القول – في "تشخيص مصدر العلة وتطوير إستراتيجية"لإنقاذ البلاد !!..
فالمتتبع لتاريخ السودان الحديث , يمكنه أن يكتشف بسهولة ,أن القوى السياسية سواء كانت في الحكم أو المعارضة , ظلت باستمرار . هي أحد المصادر الأساسية, لعلل الحياة السياسية في السودان , والحال كذلك ,ليس بالإمكان إعفاء هذه القوى من مسئولياتها , عما حدث ويحدث ويهدد بتمزيق البلاد ,إلى ما يشبه دويلات المدن,خاصة بعد إستفتاء 11 يناير القادم الذي بموجبه قد ينفصل جنوب السودان عن شماله والذي سيكون أكبر إنجازات الحركة الإسلاموية في السودان! ..
نلاحظ أيضا في حديث الأستاذ الصّاوي عن تطوير إستراتيجية للعمل المعارض ,إشارات لعدم صلاحية أساليب العمل المجرّبة في ثورة أكتوبر 1964التي أسقطت نظام الجنرال الفريق إبراهيم عبود وإنتفاضة أبريل 1985 التي رمت بنظام "إمام القرن العشرين" جعفر محمد نميري إلى مزبلة التاريخ , ما يُفهم منه أن أسلحة ك(الإضراب السياسي والعصيان المدني والإنتفاضة الشعبية الشاملة) , لم تعد صالحة الإستعمال في التعامل مع نظام إسلاموي قمعي كنظام الحركة الإسلاموية الحاكمة منذ1989 حتى الآن! ..
في ظني أن عدم إسقاط الشعب لهذا النظام حتى الآن ,يطرح مشكلة عميقة تتعلق بالإحباط العام ,الذي أنتجته حالة التحالف التاريخي بين الطائفية واليسار فيما يشبه"الحلف المقدس" : البعثيون (الطبعة العراقية الأصلية كما يمثلها الآن علي الرّيح أوعثمان إدريس أب رأس)= الإتحاديين من جهة والشيوعيين = الأمة من جهة أخرى , ويمكن قراءة تعبير هذا الحلف عن نفسه كوحدة واحدة ,خلال مواقفه المتشابهة –تاريخيا- من آليات إسقاط النظام ,والتي إن إختلفت فهي تختلف في الدرجة لا النوع !..
إلى جانب أن هذا الحلف كوحدة أساسية واحدة , يرتبط أيضا بتحالفات مرحلية , مع قوى أخرى صغيرّة , في اليمين أو اليسار أو الوسط , أومع الحركة الشعبية والقوى الجنوبية , أو قوى شرق السودان أو دارفور,إلخ ..
وعلى أية حال هذا التحالف ,ذا الطبيعة الفكرية المتناقضة ,أسهم في فشل أي إستنهاض جماهيري ممكن , لتجريب الأدوات المذكورة, بغرض إسقاط الحركة الإسلاموية الحاكمة, على الرغم من أن هذه الأدوات, أثبتت فعاليتها سابقا في ثورة أكتوبر1964 وإنتفاضة أبريل 1985,وفي مطلع هذا العام في مظاهرات الإثنين الشهيرة التي وقفت خلفها الحركة الشعبية ,فقوى إعلان مدينة جوبا الجنوبية,التي أكد لها الحراك الجماهيري الواسع ,الذي تلى ندوة ميدان المولد في العاصمة الخرطوم, أن الإنتفاضة الشعبية كأداة, لا تزال ممكنة لزلزلة أركان هذا النظام البغيض , لكن لعبة التوازنات والتحالفات والشراكات, أودت بهذا الحراك الجماهيري , وعمقت من إحباط الجماهير! ..
إلى جانب أن إلتفاف الجماهير ,حول إضراب الأطباء وتصعيد الأطباء لإضرابهم , أكد أيضا وبعد كل هذه السنوات من القمع المستمر ,أن إمكانية العصيان والإضراب لا تزال ممكنة!! ..
كذلك الإلتفاف الجماهيري الواسع – خاصة من قبل الطلاب والشباب- حول ياسر عرمان كمرشح للرئاسة ,أكد أيضا أن الجماهير لا تزال متمسكة بحقها في وطن واحد وديموقراطي يحترم المواطنة, بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس أو الدين .. لكن تم إجهاض هذا الحق في سياق لعبة التوازنات والشراكات ..
ولذلك كي يتم تجريب مثل هذه الأدوات مرة أخرى ,يجب أن تسترد القوى السياسية ثقة الجماهير ,التي ظلت تحبطها بتكتيكاتها محدودة النظر ,على حساب الأفق الإستراتيجي بعيد المدى .. فالنظرة المحدودة للقوى السياسية وضعف الخيال السياسي ,ظلا يفضيان إلى فشل المشاريع الممكنة للديموقراطية والتنوير, بالتالي النهضة والوحدة والسلام !..
وزبدة القول هنا أن المشكلة ليست في فشل أساليب ناجحة تم تجريبها من قبل, بقدر ما هي مشكلة عدم ثقة الشعب في قواه السياسية ,التي ظلت تخون ثقته . وفي ظنِّي أن هذا الشعب يشك في أن أي تضحية أخرى يقدمها , من الممكن أن تتمخض عن تغيير حقيقي يضمن وحدة البلاد والديموقراطية! ..
عليه أتصور أن على القوى السياسية , بذل مجهودات حقيقية وفعالة ,في إسترداد ثقة الشعب فيها , بإعادة بناء جسور هذه الثقة .. وقبل كل ذلك إسترداد ثقة أعضائها "الذين في حيرة من امرهم" والذين تقطعت بهم السبل !.. مع ملاحظة أن رفض الشعب للحركة الإسلاموية الحاكمة الآن بإسم المؤتمر الوطني ,لا يعني بالضرورة قبوله بالقوى المعارضة !.. بل ومن المحتمل أن يأتي بالحركة الإسلاموية إلى سدّة الحكم مرة أخرى ,وعبر صناديق الإقتراع -كما يحدث في جامعات هذه الأيام ,التي تتسنم إتحاداتها فصائل متطرفة في الحركة الإسلاموية"أنصار السنة أو الوهابية" مثلا- أو على أسوأ الفروض إعادة إنتاج نظام شمولي أسوأ بكثير من الحركة الإسلاموية ..
على خلفية الهوامش السابقة ,تجد ورقة الأستاذ عبد العزيز حسين الصّاوي مشروعيتها وجدواها ,كإطار عام لإستراتيجية تتوازى أو تتقاطع مع العمل المعارض القائم, فهي ليست بديلا عنه , وإنما تقترح نفسها بالمضي معه جنبا إلى جنب, أيا كانت أشكال وصيغ هذا العمل المعارض - هذا إن كانت له أصلا صيغا وأشكالا- ولذلك تولي أهمية كبيرة لإصلاح التعليم – كما أشرنا سابقا - خشية إنتاج نظام شمولي مرة أخرى أسوأ بكثير من نظام الحركة الإسلاموية في السودان ..
وكذلك لتجنب إستيلاء تنظيم عقائدي شبيه بالحركة الإسلاموية على السلطة مرة أخرى ,أو إنتاج نظام شمولي لا متناه السوء ,تقترح ورقة الصّاوي الإسراع بإستزراع مقومات الإستنارة والحداثة وإعادة تأسيس وتأثيث المشروع الديموقراطي .
وغني عن القول أن مشروع كالذي يطرحه الصّاوي , لهو مشروع طويل الأمد ,لأنه كما ذكرنا سابقا يتعلق بالحفر بما هو إزاحة وإحلال, والحفر سلسلة عمليات فكرية وإجتماعية معقدة والسؤال هنا : هل بالإمكان إعتماد إستراتيجية طويلة المدى, في ظروف السودان الحالية , وفي ظل وجود نظام إسلاموي فاسد ومستبد , كنظام الحركة الإسلاموية الحالي ؟.. وهل لا يزال السودان بحدوده الحالية-التي غالبا ستتغير في يناير المقبل- يملك ما يكفي من الوقت, لتطبيق مثل هذا النوع من الإستراتيجيات المعارضة , وماهي الحدود الجغرافية الممكنة , لهذا التصور خاصة بعد إستفتاء يناير 2011 ..
(5-6): صحيح أن دورالمجتمع المدني في العالم, أصبح متعاظما ومؤثرا , لكن في حالة السودان كي يكون لهيئات المجتمع المدني, دور في إستراتيجية التنوير, التي طرحتها ورقة الصّاوي لابد من إصلاحها هي ذاتها أي هيئات المجتمع المدني..
وقبل القول بإصلاح مؤسسات المجتمع المدني ,يتوجب أولا الإجابة على السؤال : هل لدينا مجتمع مدني غير مسيس ؟ مع ملاحظة أن الدولة في السودان تاريخيا ,لم تقدم الكثير للشعب , فالأعباء في مجالات الصحة والتعليم -على وجه الخصوص- بل وبناء الإستراحات في المدن , ظل قدر كبير منها يقع على عاتق المجتمع الأهلي ,وبعض الخيرِّين في العاصمة والأقاليم , فإلى متى يتم الإعتماد الأساسي على المجهودات الشعبية والفردية , التي تقترح ورقة الصّاوي هنا توسيعها , لتشمل كل جوانب الحياة . بدء بشبكات تصريف المياه وصولا إلى حل مشكلة دارفور! ..
ما هو دور الدولة إذن ؟ .. جباية الضرائب وقمع وإحباط الشعب , ونهب ثروات البلاد وإهدار مقدراتها ,وتوظيف الجيش لقتل ابناء الشعب ؟!!..والحال كذلك ما هي الحاجة لوجود الدولة ؟ ..
من هنا تأتي مشروعية الدعوة إلى التفكيك الكامل ,أو الهدم وإعادة البناء على أسس جديدة , وهو إتجاه لا تتبناه هذه الورقة بالطبع ..
(6-6): تطرح تجربة الصين والولايات المتحدة ودول أخرى, فيما يخص مشاريع البنى التحتية فكرة مهمة حول دور الجيش في عمليات البناء والتعمير : رصف الطرق , بناء : الجسور,الكباري , شبكات التصريف ,المستشفيات والمدارس, والعديد من مشاريع البنى التحتية الأخرى. بل وحتى التعامل مع الكوارث الطبيعية ,والأمراض والأوبئة ..
فعقيدة الجيش في دول مثل الولايات المتحدة , ليست مبنية على توهم أعداء داخليين – أبناء الشعب- وإبادتهم ؟؟!!.. بل لا تكتفي عقيدته بالتمركز حول الحماية و الدفاع عن الوطن ,ضد أعداء خارجيين فحسب , بل والبناء والتعمير والتنمية بمختلف أشكالها أيضا ..
وهي أدوار عكسها تماما ما أنبنت عليه عقيدة الجيش في السودان , خاصة في ظل نظام حكم الحركة الإسلاموية , التي أدلجته وصممته طبقا لنظام تفكيرها, في البطش بالمواطنين العزل والنساء والأطفال والشيوخ والمعارضين السياسيين, كما في حالة الجنوب ودارفور .. فتحول الجيش من جيش وطن إلى جيش حزب حاكم تحت راية الإسلام !..
ولذلك عند النظر إلى مؤسسات الدولة في السودان ,يلاحظ أن لا شيء سلِّم من التخرِّيب , ولذلك أي محاولات إصلاحية أو مشاريع إستراتيجية , تتعلق بالتنوير والحداثة يتوجب عليها أن تضع ضرورات تفكيك عقيدة الجيش السوداني ,وإعادة بناءها من جديد . لضمان عدم إستغلاله في مشاريع القوى السياسية قصيرة النظر ..
إنتهى
أحمد ضحية
21-8-2010
كارديف/لندن - بريطانيا ِ
تعليق