الشّريد
جاب السّهل و الوعر..ركب الرّيح..تسلّق الهباء..لامس قاع الخواء.. اغتسل بالفجور ساعة السّحر..تعلّق في الفضاء، جرّب السّير فوق الماء..مارس الموت أكثر من مرّة..خاض كلّ مغامرة،حتّى لم يعد هناك خراب يؤويه،أو لذّة تستهويه،و خانه ما اعتاد تدليسه من مكابرة،و تعرّى من حوله كلّ شيء ،و صار للقطن ملمس الشّوك بين يديه و للهواء رائحة الحبس ،و ما عاد الغيم قادرا على خداعه،و صارت كلّ الحجب شفّافة،و لفظته مدينة الملاهي خارجها و أوصدت دونه أبوابها لمّا علمت أنّه بدأ ينتبه و يُفكّر و يسأم النّحس ،و ألقت به كجرذ ميّت ،بعدما دهسته ذهابا و إيّابا ألف مرّة حتّى أفلس..في الخارج أحسّ لأوّل مرّة بمهانة المدحورين ،و بالشّمس و قد انفردت به و هي تنشب فيه لهيبها تشويه و تأكل من لحمه..فمضى يقتفي ظلاّ عسى أن يتقيّأ ذاكرته تحته و حدّث نفسه برمق عناد أخير و سيل من الإدمان الثّقيل:أهجر المجون ،و أمزّق عناوين النّدامى و أُصيب قسطا من الصّمت و الجدب لحين،و أتأمّل المشهد من بعيد،لعلّي أرمّم أشلائي قبل أن تُغادرني الرّيشة المتبقّية في بدني،و تبتلعني الكآبة و الضّياع فأتحوّل طعاما حيّا لديدان تطير..و حين أتماثل للشّهوة و ينجلي الصّدأ عن نزواتي، سيتجدّد لي نهمي ،و سأنهض ،و سأبدأ رحلة الحفر على متع لم أحتسيها..اليوم أمر و غدا خمر..و استجمع قواه و هام على وجهه يتسوّل ظلاّ ليستريح و يتفلسف.. و لاحت له من بعيد بقعة سوداء..هرع إليها و إذا هي مستنقع راكد،عفن..وقف يلهث..سحقه السّقم و فكّر أن يتمرّغ بداخلها ،لعلّه يتبرّد،و لكنّه عدل عن الفكرة و قال لا أحبّ الضّفادع و الطّاعون ..و التفت من حوله فأبصر صخرة ضخمة كأنّها مغارة..سارع إليها و لكنّ كلابا وسخة كانت قد سبقته إليها..فكّر أن يشاركها المكان بيد أنّه تراجع و قال :إنّها جائعة مادامت هزيلة ،حتما ستنتهز فرصة نومي و من ثمّ تتقاسمني،إنّي أكره الموت..الموت عدوّ الرّغبة..و نظر في الجهة المقابلة فوقع بصره على سنديانة عملاقة،حثّ خطاه نحوها فإذا هي تظلّل جذعها، فلعنها و قال :سحقا للشّجر البخيل ،و وقر في ذهنه أنّه أيضا بخيل..
تقوّس ظهره من التّعب و الحروق،و كاد يهوي لو لا أن شاهد كرمة كثيفة الأغصان، طمع في ظلّها و ثمرها و تقدّم منها فإذا هي تلقي بظلّها و ثمرها داخل بيت صاحبها،فضحك..و ابتعد يحبو من شدّة الحرّ،و الظّمأ و الإعياء حتّى غاص دون أن يدري وسط ظلّ طويل، أرضه ناعمة و رطبة و شاغرة، ظنّه في البداية ظلّ أحد الأبراج..ودّ لو شكر البرج بعينيه،و لكنّ بصره خذله و غاب عن الوعي..نام ساعات طويلة ،و لمّا استيقظ فوجىء بأنّ الظلّ لم يتحوّل من مكانه مقدار أنملة.. أحسّ بسعادة لم يألفها من قبل تغمره من رأسه حتّى قدميه،كأنّ صدرا ضمّه و امتصّ ما بداخله من فتور،و زالت آلامه،و التأمت جراح ركبتيه من أثر الحبو و الزّحف ،و برأ جلده ،و حلّق في خياله غير مُصدّق ما يحدث،و لكنّ صوتا علا كأنّه ينبعث من جمجمته ينادي:" الله أكبر ..الله أكبر.." سحبه من شروده، فانتفض واقفا و التفت إلى الخلف فزعا ،فإذا به يسكن ظلّ مئذنة عالية،و رأى وفودا من النّاس تتّجه من كلّ صوب نحو باب كبير يؤدّي إلى صحنها،فتبعهم و اندسّ بينهم و دخل معهم.. هناك ارتوى و تعلّم طقسهم و طاب له المُقام.و لمّا خرجوا مكث بالدّاخل و لم يخرج معهم،و نسي أنّ له موعدا مع الغد،و تعاقب عليه ألف غد،تلتها أخرى، فأخرى..و هو على حاله لا يبرح بيته الرّحب يبكي سطوة الأمس؛ و يحتسي الأنس في لجّ النّقاء و يقول هل من مزيد..
محمد فطّومي
تعليق