الشّريد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    الشّريد

    الشّريد



    جاب السّهل و الوعر..ركب الرّيح..تسلّق الهباء..لامس قاع الخواء.. اغتسل بالفجور ساعة السّحر..تعلّق في الفضاء، جرّب السّير فوق الماء..مارس الموت أكثر من مرّة..خاض كلّ مغامرة،حتّى لم يعد هناك خراب يؤويه،أو لذّة تستهويه،و خانه ما اعتاد تدليسه من مكابرة،و تعرّى من حوله كلّ شيء ،و صار للقطن ملمس الشّوك بين يديه و للهواء رائحة الحبس ،و ما عاد الغيم قادرا على خداعه،و صارت كلّ الحجب شفّافة،و لفظته مدينة الملاهي خارجها و أوصدت دونه أبوابها لمّا علمت أنّه بدأ ينتبه و يُفكّر و يسأم النّحس ،و ألقت به كجرذ ميّت ،بعدما دهسته ذهابا و إيّابا ألف مرّة حتّى أفلس..في الخارج أحسّ لأوّل مرّة بمهانة المدحورين ،و بالشّمس و قد انفردت به و هي تنشب فيه لهيبها تشويه و تأكل من لحمه..فمضى يقتفي ظلاّ عسى أن يتقيّأ ذاكرته تحته و حدّث نفسه برمق عناد أخير و سيل من الإدمان الثّقيل:أهجر المجون ،و أمزّق عناوين النّدامى و أُصيب قسطا من الصّمت و الجدب لحين،و أتأمّل المشهد من بعيد،لعلّي أرمّم أشلائي قبل أن تُغادرني الرّيشة المتبقّية في بدني،و تبتلعني الكآبة و الضّياع فأتحوّل طعاما حيّا لديدان تطير..و حين أتماثل للشّهوة و ينجلي الصّدأ عن نزواتي، سيتجدّد لي نهمي ،و سأنهض ،و سأبدأ رحلة الحفر على متع لم أحتسيها..اليوم أمر و غدا خمر..و استجمع قواه و هام على وجهه يتسوّل ظلاّ ليستريح و يتفلسف.. و لاحت له من بعيد بقعة سوداء..هرع إليها و إذا هي مستنقع راكد،عفن..وقف يلهث..سحقه السّقم و فكّر أن يتمرّغ بداخلها ،لعلّه يتبرّد،و لكنّه عدل عن الفكرة و قال لا أحبّ الضّفادع و الطّاعون ..و التفت من حوله فأبصر صخرة ضخمة كأنّها مغارة..سارع إليها و لكنّ كلابا وسخة كانت قد سبقته إليها..فكّر أن يشاركها المكان بيد أنّه تراجع و قال :إنّها جائعة مادامت هزيلة ،حتما ستنتهز فرصة نومي و من ثمّ تتقاسمني،إنّي أكره الموت..الموت عدوّ الرّغبة..و نظر في الجهة المقابلة فوقع بصره على سنديانة عملاقة،حثّ خطاه نحوها فإذا هي تظلّل جذعها، فلعنها و قال :سحقا للشّجر البخيل ،و وقر في ذهنه أنّه أيضا بخيل..


    تقوّس ظهره من التّعب و الحروق،و كاد يهوي لو لا أن شاهد كرمة كثيفة الأغصان، طمع في ظلّها و ثمرها و تقدّم منها فإذا هي تلقي بظلّها و ثمرها داخل بيت صاحبها،فضحك..و ابتعد يحبو من شدّة الحرّ،و الظّمأ و الإعياء حتّى غاص دون أن يدري وسط ظلّ طويل، أرضه ناعمة و رطبة و شاغرة، ظنّه في البداية ظلّ أحد الأبراج..ودّ لو شكر البرج بعينيه،و لكنّ بصره خذله و غاب عن الوعي..نام ساعات طويلة ،و لمّا استيقظ فوجىء بأنّ الظلّ لم يتحوّل من مكانه مقدار أنملة.. أحسّ بسعادة لم يألفها من قبل تغمره من رأسه حتّى قدميه،كأنّ صدرا ضمّه و امتصّ ما بداخله من فتور،و زالت آلامه،و التأمت جراح ركبتيه من أثر الحبو و الزّحف ،و برأ جلده ،و حلّق في خياله غير مُصدّق ما يحدث،و لكنّ صوتا علا كأنّه ينبعث من جمجمته ينادي:" الله أكبر ..الله أكبر.." سحبه من شروده، فانتفض واقفا و التفت إلى الخلف فزعا ،فإذا به يسكن ظلّ مئذنة عالية،و رأى وفودا من النّاس تتّجه من كلّ صوب نحو باب كبير يؤدّي إلى صحنها،فتبعهم و اندسّ بينهم و دخل معهم.. هناك ارتوى و تعلّم طقسهم و طاب له المُقام.و لمّا خرجوا مكث بالدّاخل و لم يخرج معهم،و نسي أنّ له موعدا مع الغد،و تعاقب عليه ألف غد،تلتها أخرى، فأخرى..و هو على حاله لا يبرح بيته الرّحب يبكي سطوة الأمس؛ و يحتسي الأنس في لجّ النّقاء و يقول هل من مزيد..





    محمد فطّومي
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    رحلة لبلوغ الشمس
    وألق النور
    رحلة بين غياهب النفس
    و عثرات الطريق ..فى جدل
    الحياة نحو الفضيلة و الاكتمال
    من مستنقع إلى جرف .. إلى أنانية الإجابات
    و شح العطاء إلى حيث العطاء بلا حدود !!

    رحلة ما أحببت أن تكون بين عناوين ، وجمل مؤدية
    تمنيت لها المشهدية ، و التعامل مع روح الوجود
    بموجوداته ، ومفرداته .. من بشر و إنسان .. !

    لا أدري لم تذكرت رواية محمد عبد الحليم عبد الله
    ( الباحث عن الحقيقة )
    وترددت فى سمعي أبيات ابن رواحة
    اللهم لولا أنت ما اهتدينا
    وما تصدقنا و لا صلينا
    فأنزلن سكينة علينا
    و ثبت الأقدام إن لاقينا


    محبتي محمد الجميل
    sigpic

    تعليق

    • محمد فطومي
      رئيس ملتقى فرعي
      • 05-06-2010
      • 2433

      #3
      الأخ الحبيب ربيع عقب الباب.
      ليس أحبّ على المرء من أن يحظى أحد أعماله بهذه القراءة المركّزة المتمعّنة النّاضجة.
      لمست دقّة الكبار و المجتهدين فيما تفضّلت به.
      أشكرك و أتعلّم منك سيّدي.
      محبّتي لك.
      مدوّنة

      فلكُ القصّة القصيرة

      تعليق

      • أحمد عيسى
        أديب وكاتب
        • 30-05-2008
        • 1359

        #4
        رحلة بدأت بالتجريب والخوض في كل شيء وأي شيء ثم انتهت بالنور اذ يلج الى الأشياء المظلمة والقلوب الداكنة فتنتشي ..
        أحببت رحلتك هذه وطريقة سردها وأحببت تشبيهاتك المبدعة المتجددة ..

        أخي الأديب الرائع : محمد فطومي
        تحفتك تستحق الاعجاب وأكثر
        ودي لك دائماً
        ” ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي
        [align=center]أمــــوتُ .. أقـــــاومْ [/align]

        تعليق

        • خالد يوسف أبو طماعه
          أديب وكاتب
          • 23-05-2010
          • 718

          #5
          جميل هذا النص الرائع وإن كنت أحب وأفضل
          بعض الإسهاب والتفاصيل الضرورية فيه ...!
          نص جميل ولغة رصينة وقوية ومتينة
          جميل أن ينتبه الإنسان لنفسه في لحظة
          صحوة ضمير........
          تقبل مني أخي محمد والمعذرة على عدم إعطاء
          نصك حقه الوافي في التعليق ربما النفسية متعبة
          مودتي ومحبتي
          التعديل الأخير تم بواسطة خالد يوسف أبو طماعه; الساعة 04-09-2010, 13:42.
          sigpicلن نساوم حتى آخر قطرة دم فينا

          تعليق

          • محمد فطومي
            رئيس ملتقى فرعي
            • 05-06-2010
            • 2433

            #6
            الصّديق العزيز أحمد عيسى .
            سعيد بوجودك،لك جزيل الشّكر على قراءتك اللّطيفة.
            إنّها رحلة الشّقاء الانساني بوجه عامّ ،و حتميّة المكابدة من أجل بلوغ الفضيلة ،أو السّكينة لو أردنا الحديث بحياد.
            محبّتي لك صديقي.
            مدوّنة

            فلكُ القصّة القصيرة

            تعليق

            • محمد فطومي
              رئيس ملتقى فرعي
              • 05-06-2010
              • 2433

              #7
              أخي الحبيب خالد،أنا من يجب أن يلتمس منك أعذارا ربّما لعدم انسيابي قليلا في السّرد و إن كنت أرى أنّ الرّمز و الاسهاب في التّفاصيل لا يلتقيان فنّيّا ذاك أنّي ما التجأت من الأساس للإستعارة إلاّ لنيّة مسبقة في التّكثيف و الضّغط،و كلّ "عمل" بما فيه يرشح ..
              صديقي مداخلاتك تسرّني دائما طالت أم قصرت.و لست أرى فيك إلاّ المتابع الوفيّ الصّادق مع ما يقرأ.
              ثمّ إنّي أتمنّى لك ما يُسعدك.
              لك كلّ المودّة .
              مدوّنة

              فلكُ القصّة القصيرة

              تعليق

              • أ . بسام موسى
                ناقد
                • 20-06-2010
                • 69

                #8
                الشريد

                الأستاذ المتألق / محمد فطومي
                ليس غريبا على المتابع لرحلة الشريد عبرالأعماق والتي نُسجت بقوة اللغة أن يدرك كم هي بليغة وقوية ورصينة سيما وأن من كتبها يتملك زمامها ويعرف كيف يدخل إليها فيسبر غورها وغور تلك الرحلة المتجذرة في مكنونات النفس ليصل إلى كبد الحقيقة التي مفادها أن النفس لاتزال أمامها فرصة ثانية وربما تكون الأخيرة لتعلق بشباك الأمل ممتطيةً قارب النجاة الذي يشق طريقه الخطِر وسط الوهاد إلى الحقيقة الوحيدة والوحيدة فقط وهي أن هناك مفترق طرق لطريقين اثنين لا ثالث لهما : إما جنة وإما نار وكلاهما يحمل مفتاح الخلود لمستقريه ، والويل لمن هلك.
                كم كانت النهاية المفاجئة في رحلتنا
                مفرحة حين استيقظ من عمقِ نومٍ مرددًا : الله أكبر ... الله أكبر... فقد نجا من جذوة الألم المفعمة بالحسرة على فوات الأوان ، وثقل عبء السنين الماضية التي انقضت كرمشة عين أو ومضة نور مرت " كسراب يحسبه الظمآن ماءً " ... وهنا يتوقف القلب ، وتخفت الأنفاس فالخطب يحمل في طياته الأهوال .
                النوم يا أستاذ / محمد عبادة ففيه إراحة للجسم من عناء يوم قد يكون شاقا ليتقوى الإنسان من خلاله على العبادة ، والقيام بواجباته المهنية الطبيعية في اليوم التالي ، وفي النوم فائدة أخرى أشرت أنت إليها عبر هذه القصة الرائعة فقد أزال عن صاحب الرحلة كل ماأصابه من وعثاء الطريق ، وهموم التفكير ، وكوابيس الغوص في أعماق الماضي السحيق ..
                القصص على ذلك لاتنتهي وفي أعماق كل منا مواقف مرت ولكن خففت مرارتها تلك السكينة الضاربة فجأة لتجلب لنا الهدوء ، والتجدد ، والأمل نحو الحياة .
                أشكرك أستاذ / محمد وأتمنى أن نقرأ لك المزيد من الإبداع المتجدد ...

                واقبل احترامي وأجمل التهاني بالعيد لك مني ومن شعبي الصابرفي غزة الأبية .
                التعديل الأخير تم بواسطة أ . بسام موسى; الساعة 05-09-2010, 19:31.

                تعليق

                • محمد فطومي
                  رئيس ملتقى فرعي
                  • 05-06-2010
                  • 2433

                  #9
                  أستاذ بسّام موسى تحيّة سلام لك و لجرحنا الحبيب؛فلسطين الصّبر و النبوّة.
                  كانت رحلة الفكر و التّأمّل الرّصين بين أسطرك أكثر رشدا من النصّ و أمتع .
                  أشكرك على ما قدّمته لي من دوافع لتحصين ما سأقدّم مستقبلا من أعمال إن شاء الله.
                  نحن بك أغنياء في هذا الملتقى الجميل سيّدي الكريم.
                  تقبّل منّي كلّ الودّ و كلّ عام و أنت بخير.
                  حبّي لشعب فلسطين،
                  و إنّ شريانا واحدا أعزل لأكثر مناعة و حصانة من اسمنتهم و خنادقهم المسلّحة.
                  شكرا لك سيّدي مرّة أخرى
                  مدوّنة

                  فلكُ القصّة القصيرة

                  تعليق

                  • نادية البريني
                    أديب وكاتب
                    • 20-09-2009
                    • 2644

                    #10
                    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                    أخي الفاضل محمّد
                    صافحت النّص ولي عودة بإذنه وتعالى حتّى أقرأه قراءة متأنيّة فأفيه حقّه
                    دمت بخير

                    تعليق

                    • محمد فطومي
                      رئيس ملتقى فرعي
                      • 05-06-2010
                      • 2433

                      #11
                      و عليك السّلام أختي الفاضلة و رحمة الله و بركاته؛
                      شرّفتني بالزّيارة،حقّا إنّي سعيد بها.
                      مرحبا بك أختي.في انتظارك.
                      مدوّنة

                      فلكُ القصّة القصيرة

                      تعليق

                      • هيثم عبدربه السيد
                        أديب وكاتب
                        • 08-09-2010
                        • 48

                        #12
                        ياأيها النص الرائع ...تحياتى لكل من يقبع داخل محرابك ....السرد ،اللغة ،المشهد، العمق ،ماوراء النص،الحبكة ،الدراما
                        فالسرد هنا ..أستاذ محمد ..بعيدا عن الكلاسيكيات والقوالب التى تغوص بنا احيانا فى أوحال الرتابة والملل فجاء سردك بسيط ..سلس..رشيق ..وكأنك تحلق بنا كفراشة ربيع بين سطور نصك فأمتعتمنا بالصحبة
                        وجاءت اللغة فى مفرادتها كأنى لم أقرأ تلك الكلمات من قبل ..فقد غزلت بمحبرتك عقدا نفيسا مترابطا رصينا يعلو بنا ونعلو به
                        وجاء تصويرك للمشهد كمن يتحرك بعدسة دقيقة لاتلتقط الا كل ذى قيمة لتكون فى نهاية الامر صورة ذو وحدة بنائية قوية لايمكنك ان تختزل منها لقطة ولايكتمل جمالها الاحينما تنتهى من المشهد ككل لينتابك شعور النشوة باقتناص متعة
                        وجاءت فكرتك عميقة جدا ..وقد اضفت لها عمقا خاصا من زاوية أخرى بعيدة تماما ..فمن الممكن ان تكون الافكار متداولة لكن الرؤى مغايرة بالطبع وقد جاءت رؤيتك للفكرة عميقة جدا بعيدا عن التسطيح والتعميم اللذان -فى رأيى -يأخذان الكثير من جاذبية فن القصة عامة
                        دمت مبدعا ودام مدادك

                        تعليق

                        • محمد فطومي
                          رئيس ملتقى فرعي
                          • 05-06-2010
                          • 2433

                          #13
                          الصّديق و المبدع هيثم عبد ربّه/
                          أصافحك من جديد لأشكرك على نظرتك الخبيرة و الفاحصة للنصّ،و ما استنتجتُ بين الأسطر من أنّها نظرة ناضجة للأشياء، عامّة ،تلازمك و تميّز خطّك الأدبيّ..
                          ليس الفنّان من يُحوّل العدم - حتّى العدم-إلى فنّ،الفنّان من يتحوّل كلّ شيء في عينيه إلى فنّ-خارج إرادته أحيانا-.
                          هذا أخي ما فهمته من تأويلك و ممّا شدّك في النصّ دون غيره ، دون غيرك.
                          مودّتي العميقة.
                          مدوّنة

                          فلكُ القصّة القصيرة

                          تعليق

                          • محمد فطومي
                            رئيس ملتقى فرعي
                            • 05-06-2010
                            • 2433

                            #14
                            الشّريد

                            الشّريد




                            ليته باع وطنه و اشترى بثمنه جنسيّة عليها صورة تشبهه و ختما لإحدى المنافي القارسة،و اكتفى..لما اختلف ساعتها عن الكثيرين..كان ،غبنا، يجوب بوطنه السّهل و الوعر داخل سلّة من قصب،يحشر النخّاسين حوله و ينفخ له في المزمار ليبهرهم بمشهده و هو يرقص و يتلوّى على أنغامه،ثعبانا منزوع السمّ..و لمّا امتلأت قبّعته بالذّهب تسلّق الهباء طمعا في المزيد،و لامس قاع الخواء خبالا و حطّة،واغتسل بالفجور ندما ساعة السّحر،ثمّ عاد من جديد ليخوض فوق طاولات الكبار كلّ مغامرة..(اللّدغ في عرف الشّوك عبادة)..و حين أدرك أنّ هناك دائما من هم أكبر و أكبر،و أنّ لهاثه بينهم ليست له نهاية،تهشّم من الدّاخل و لم يعد هناك خراب يؤويه،أو لذّة تستهويه،و خانه ما اعتاد تدليسه من مكابرة،و صار للحرير ملمس الشّوك بين يديه و للهواء رائحة الحبس،و صارت كلّ الحجب شفّافة،و المخابىء مفضوحة،و لفظته مدينة الملاهي خارجها و أوصدت دونه أبوابها لمّا علمت أنّه بدأ ينتبه و يُفكّر و يسأم النّحس،و ألقت به كجرذ ميّت ،بعدما دهسته ذهابا و إيّابا ألف مرّة حتّى أفلس..في الخارج أحسّ لأوّل مرّة بمهانة المدحورين،و بالشّمس و قد انفردت به و هي تنشب فيه لهيبها تشويه و تأكل من لحمه..بحث في ذاكرته عن موكب يُؤمّن له رحلة العودة من أقصى آماد انتحال المنافي إلى أدنى شبر لوطن ينسى و يصفح،فشحّت و لم تَجُد..عندها مضى يقتفي ظلاّ عسى أن يتقيّأ تحته ذاكرة ما عادت تصلح،و حدّث نفسه برمق عناد أخير و سيل من الإدمان الثّقيل:أهجر المجون،و أمزّق عناوين النّدامى و أُصيب قسطا من الصّمت و الجدب لحين،و أتأمّل المشهد من بعيد،لعلّي أرمّم أشلائي قبل أن تُغادرني الرّيشة المتبقّية في بدني،و تبتلعني الكآبة و الضّياع، فأتحوّل طعاما حيّا لديدان تطير..و حين أتماثل للشّهوة و ينجلي الصّدأ عن نزواتي،سيتجدّد لي نهمي،و سأنهض،ستعود لي غلفي و سأبدأ رحلة الحفر على متع لم أحتسيها..اليوم أمر و غدا خمر..و استجمع قواه و هام على وجهه يتسوّل ظلاّ ليستريح و يتفلسف..و لاحت له من بعيد بقعة سوداء..هرع إليها و إذا هي مستنقع راكد،عفن..وقف يلهث..سحقه السّقم و فكّر أن يتمرّغ بداخلها ،لعلّه يتبرّد،و لكنّه عدل عن الفكرة و قال لا أحبّ الضّفادع و الطّاعون ..و التفت من حوله فأبصر صخرة ضخمة كأنّها مغارة..سارع إليها و لكنّ كلابا وسخة كانت قد سبقته إليها..فكّر أن يشاركها المكان بيد أنّه تراجع و قال:إنّها جائعة مادامت هزيلة،حتما ستنتهز فرصة نومي و من ثمّ تتقاسمني،إنّي أكره الموت.. الموت عدوّ الرّغبة.. و نظر في الجهة المقابلة فوقع بصره على سنديانة عملاقة،حثّ خطاه نحوها فإذا هي تظلّل جذعها، فلعنها و قال :سحقا للشّجر البخيل،و وقر في ذهنه أنّه أيضا بخيل....تقوّس ظهره من التّعب و الحروق،و كاد يهوي لو لا أن شاهد كرمة كثيفة الأغصان، طمع في ظلّها و ثمرها و تقدّم منها فإذا هي تلقي بهما داخل بيت صاحبها،فضحك..و ابتعد يحبو من شدّة الحرّ،و الظّمىء و الإعياء حتّى غاص دون أن يدري وسط ظلّ طويل،أرضه ناعمة و رطبة و شاغرة، ظنّه في البداية ظلّ أحد الأبراج..ودّ لو شكر البرج بعينيه،و لكنّ جفونه خذتله و غاب عن الوعي..نام ساعات طويلة ،و لمّا استيقظ فوجىء بأنّ الظلّ لم يتحوّل من مكانه مقدار أنملة..أحسّ بسعادة لم يألفها من قبل تغمره من رأسه حتّى قدميه،كأنّ صدرا ضمّه و امتصّ ما بداخله من فتور،و زالت آلامه،و التأمت جراح ركبتيه من أثر الحبو و الزّحف ،و برأ جلده ،و حلّق في خياله غير مُصدّق ما يحدث،غريب ؛هناك من يحبّني و علا صوت كأنّه ينبعث من جمجمته ينادى " الله أكبر ..الله أكبر.." سحبه من شروده.انتفض واقفا و التفت إلى الخلف فزعا ،فإذا به يسكن ظلّ مئذنة عالية،و رأى وفودا من النّاس تتّجه من كلّ صوب نحو باب كبير يؤدّي إلى صحنها،فتبعهم و اندسّ بينهم و دخل معهم..هناك ارتوى و تعلّم طقسهم و طاب له المُقام..قالوا من الوافد الغريب؟قال يعلّمهم مواتهم الذي عاشه: عشبة آنست ظلاّ فأينعت.اكتملت اللّؤلؤة و فتّحت اليوم المحارة..خرجوا حيارى.مكث بالدّاخل و لم يخرج معهم،و نسي أنّ له موعد نكبة مع الغد،و تعاقب عليه ألف غد،تلتها أخرى، فأخرى..و هو على حاله لا يبرح بيته الرّحب، بيت الأكبر دون مُنازع، يبكي سطوة الأمس؛و يحتسي الأنس في لجّ النّقاء ،و يقول هل من مزيد..



                            [align=center]
                            محمد فطومي
                            [/align]
                            مدوّنة

                            فلكُ القصّة القصيرة

                            تعليق

                            • محمد فطومي
                              رئيس ملتقى فرعي
                              • 05-06-2010
                              • 2433

                              #15
                              أتمنّى أن أكون قد اقتربت ممّا أردته للنصّ فعلا.
                              مدوّنة

                              فلكُ القصّة القصيرة

                              تعليق

                              يعمل...
                              X