من المحرج تسلل الضحك لوجهك وأنت تقف على الحزن، أيضا.. من المحزن أن لا تعثر على شريك ضاحك لك في مشهد مستهلك على مد الذاكرة.
أول الحاضرين أنا..
أقف على قبر مفتوح، أنتظر موكب الجنازة، تلعق الريح قدمي، ورائحة الأرض تنتشر في كل المكان، فيما.. حالة تحضير للفوضى محمومة حولي، أما هذا فولدٌ مغبر الجبين أسمر، يوبّخ أخاه الأصغر:
- ليش ما فتحت كاسات المي يا حمار؟!!
نعم لقد اقترب الموكب من الوصول، فلماذا لم يفتح أخوه الصغير أكياس أكواب البلاستيك؟ لكن.. هل ترون تلك الوجوه الصغيرة التي خلفهما؟، كم هي خبيرة بالموت، تقف بصمت وتنتظر الصدقات.
من هنا تقريبا، تبدأ التفاصيل بالتشابه أكثر فأكثر مع الذاكرة، تتلو بعضها بعضا، يساورك الظن أن المشهد يمثّل دوره بخجل لعلمه أنك تعرف بأن.. لا جديد عنده لك، فيخشى منك ضحكة صفراء تطلقها عليه فتتعثر هيبته.
صفراء أم بيضاء كانت..
ليس من الآمن أو المنطقي في هذا الجو أن أضحك، أو أن أبحث حتى عن شريك لي في الضحك، فالكل يحاكي هذه المصيبة الجلل، زوجته.. أخوته.. أصدقاؤه.. حتى من كانوا يحسدونه أيام الدراسة والعمل.. بل وحتى سقاة الماء، ومنتظرى الصدقات، وجيران المقبرة!!…
هاه لقد اقتربت سيارة الميت -الإمبلنس- أخيرا.
هدّأ السائق جمال من سرعته وأصبح يمشي بوقار، لا أدري لمَ أنا متأكد من أنه كان يجري بالميت على سرعة تجاوزت الـ120 كيلومتر في الساعة!، ينطلق صوت عبدالباسط فجأة بـ"يا أيتها النفس المطمئنة…" ثم ينقطع تماما عند حافة القبر.
يخرج جمال من السيارة بتأثر بالغ ويصيح:
- إبعدوا شوي يا شباب طريق لو سمحتوا.. وحدوه..
فيرد الكل بصوت واحد وقد تعلّقت عيونهم على بوابة الإمبلنس الخلفية ذات البابين:
- لا إله إلا الله..
يشد مقبضي البوابتين بقوة، ويفتحهما حتى يصبح كالصليب، ثم يكشف عن الميت قليلا، قبل أن يسحب التابوت.
ماذا رأيت في وجه الميت؟، ولم هذا الحفاظ على التقاط آخر صورة له في عينيك؟ أكاد أجزم أن أداءك يا جمال يكون هكذا مع كل ميت، وهذا الذي ما يثير بي الضحك، فهل أبوح لكم بسر؟ يضحكني هذا التدافع غير المنطقي في مكان فسيح جدا كالمقبرة! رغم أنه تدافع أخلاقي على البوابة الخلفية، يريد فيه الكل أن يحمل على كتفه طرفا من الميت ومن الأجر، لكنه يضحكني.. تضحكني كذلك تلك العلاقة التجارية الخفية بين سقاة الماء وأهل الفقيد، ماء بارد لوجه الله، لكنهم لا يغادرون المكان قبل أن يضع أحدهم في جيب أحدهم لقاء تعبهم هذا......
يضحكني ... هههه.. يضحكني هذا الكهل.. فلا ضرورة له ملحة في المشهد، أترون كيف يلوك فمه ويحمل عكازه؟، ههههههه أشعر أنه غير مهتم بمن مات أصلا، لكنه يصر على شجب الدنيا، أسمعه يقول:
- لا إله إلا الله .. هاي هي الدنيا، قديش كان عمره؟
ثم ينزاح إلى سقاة الماء بعد أن لم يجبه أحد، يشرب ويسألهم هل هنالك جامع قريب من هنا؟، أو.. من أي المناطق هم؟، وإذا ما كانت مياه البلدية تأتيهم أم لا؟! ثم.. ليقف دوره تماما هنا. فلا مكان له بين الشباب.
- من سينزل القبر ويستقبل الميت الآن؟
يدور شجار لطيف ينتهي بتسوية تسليم هذه المهمة لأكثر اثنين قربا من الميت، شخصيا لم أحبذ التدخل، أحب أن أراقب فحسب، كما وأنه لم يُعرض عليّ الأمر.
لحظة يا شباب هل ترون؟ هبط الميت الآن إلى بيته وتعالت الأصوات بالتوحيد من حوله:
- وحدوه..
لمن هذا الصوت يا ترى؟ أعرفه جيدا..
- لا إله إلا الله...
حقا لا إله إلا الله .. لقطة مهيبة صدقا والضحك أثناءها سخف مؤكد.. لكن لمن كان هذا الصوت يا ترى؟.. نعم.. إنه له لا لغيره والله، لقد نسيت اسمه، عمره أقل من خمسين سنة ولا يدخن، متدين جدا ولم يوفق بعمل، وهذه فرصته التي لن يفوّتها أبدا، سيظل يهيل بإرشاداته من أعلى فوهة القبر على من يقومان بتجهيز بيت الميت هل تسمعون؟:
- يا محمد.. أيوة من هون من هون ميّله شوي على يمينه ..
- أيوة هناك نتفة حط طين…
- دير بالك يا زلمة أجا على وجهه تراب.. شيله ..
- لا إله إلا الله وحدوه…
فيوحد الكل:
- لا إله إلا الله..
ثم يُسدل الستار لوحان من الرخام سقفا للميت ، لقطة فاصلة في كل المشهد تثير التأهب فوق المقبرة.
أترى؟ كتيبة من السواعد الشابة وأربع طوريات فقط تنتظر إشارة البدء.. نعم لقد انطلقت.. وبدأوا يتنابون على دفن الميت، لقد تحوّلت جباههم إلى مزاريب نشطة. أوتسمع معي؟ زجر أحدهم الآخر وقال له:
- يا زلمة خلص بكفي عاد..!! بدنا نآجر هات الطورية شوي.
ودون أن ينظر إليه هذا الآخر لانهماكه بالتعب، أعطاه الطورية ومسح جبينه ثم زحف بكل ما تبقى به من دنيا إلى سقاة الماء.
نظر إليّ ولم يسلّم بالمناسبة، هل لاحظتم هذا؟.. لكنه ابتسم وهذا يكفي.
شرب شربة ماء وبصق، نظر لي خطفا وبعدها شرب ثلاثة كؤوس متتالية، فاستعاد وجوده. قال له الكهل :
- يعطيك العافية يا عم كلنا إلها.
رد عليه بدعابة :
- يا ختيار.. أترى هذا القبر الفارغ الذي هناك؟ أخشى أن يكون لك!
ثم ضحك.. ففرحت أنا بأن أطل الضحك أخيرا.
ضحك الكهل كذلك وقال:
- والله يا بني ما بتعرف ويمكن إلك!.
ابتسم الشاب، أما أنا فقررت أن أضحك وقلت:
- ههههههه صحيح يمكن إلك.
فتدلى له على الفور وجه جديد خصيصا لي، كانت عيناه تحتبسان بمعرفتي، قال:
- لي؟!! قد أرتضيك جارا في الحي، أما المقبرة..! فلا…!
غادرت وجهي قسماته فزعة، كأنك قذفت شجرة العصافير بحجر، وبقيتُ كومة ذهول جاف، وحنك متدل ووجه ينتظر أية قاصمة. سألته:
- أنت عن ماذا تتحدث يا رجل؟
فابتعد جبينه قليلا وأغمض عينيه ثم فتحهما وقال بدهشة:
- بصدق.. أنت لا تعرف من صاحب هذا القبر؟!
فقلت: لا… لا والله....!
رفع حاجبيه وقال:
- هذه جنازتك يا متخلف، هذا موكبك يا أهبل، أنت العريس يا أبله...!
ثم نظر إلى الكهل يضحك ويضرب كفا بكف:
- انظر إلى هذا المعتوه ههههههه لا يعرفه أن هذا القبر له.
فنظر الكهل إلي وهو يضحك، يضحك ويحاذر أن لا يحرجني، لكنه انفجر أخيرا بالضحك من كل قلبه حتى دمعت عيناه إلى أن قال:
- معلش شباب اليوم مخه تعبان.
مسح فمه، ثم تسلّق الطريق بعكازه وغادر المكان، أما أنا فبقيت معلقا بضحكه عند ضرسه الأصفر واليتيم.. تذكّرت الآن اسم المتدين العاطل عن العمل، كان اسمه عادل محمد.. أبو حذيفة، نعم أبو حذيفة أتذكره جيدا.
هيثم شحدة هديب
تعليق