الفحوى - جزء ثان (من أربعة)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • توفيق صغير
    أديب وكاتب
    • 20-07-2010
    • 756

    الفحوى - جزء ثان (من أربعة)

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الفحـــوى



    - الجزء الثاني -






    مَا إنْ غادَرَ الشيْخ "مصْباح" المَنزلَ حتَّى اشتبـَكَ "عبـَّاس" في صِـرَاع مَريـرٍ معَ مَا فِي رأسِـــهِ منْ ترَاكـُمَاتٍ طبَعَتْ يوْمَــهُ الطـَّويـلَ والقاسِي، وراحَ يسْتعِيــدُ المَشاهِـدَ مشْهَدًا تِلـْوَ الآخَر، فتــدْمَعُ عيْنـَاهُ منْ جَديدٍ كلَّمـَا مَـرَّ طيْفُ والِـدِهِ بناحِيَّةٍ منْ نوَاحِي تفـْكِيرهِ ثمَّ مَا يَفْتـَـأ أنْ تسَافِــرَ مَشَاعِرُهُ الجيَّاشَة بَعِيدًا إلى سِنينَ خَلتْ يمْرَحُ ويَلهُو في بَيْتِ عَمـِّهِ "عامِر" أينَ قضَى نزْرًا منْ حَيَاتِهِ وَسَط بَناتٍ ثلاثٍ "مرْيم" الكبْرَى و"شاديَّة" الوُسْطى و"سَارَّة" آخِرَ القطْفِ، يَلـْعَبُ مَعَهُنَّ الألعَابَ ذاتهَا وغَالِبًا مَا يَنـَامُ مَعَهُنَّ فِي نفـْس الغـُرْفةِ، يُنـَاكِفُ هذِهِ ويُخَاصِمُ تِلـْكَ ثمَّ يعْقِدُ تحَالـُفـًا دَائِمًا مَعَ "مرْيَمُ" التِي تفـُوقـَهُ سِنـًّا وتـَعْطِــفُ عليْهِ كثِيرًا، فكانَ أمْيـَلَ لهَا ويَرَى فيهَا الأمَّ التِي لمْ يَعْرِفْ.




    زَوْجَة عَمِّهِ لمْ تكـُنْ تعْنِي لهُ شيْئــًا فهْوَ يخْشىَ غضَبَهَا ويَسْتكِينُ وجَلاً كـُلـَّمَا عَلا صُرَاخُهَا في المَنْزل أو عَاقبَتْ إحْدَى بَناتِها. أمَّا العمُّ "عامِر" فمَا إنْ تمَّ تسْريحُه مِنَ العَمَلِ بقِطَاعِ النَّسِِيـــــج وأغْلِـقَ المَعْمَلُ نِهَائِيًّا، حتى سَاءَتْ صِحَّتُهُ وظهَرَتْ عليْهِ عوَارضُ مَرَضِيَّةٍ أفِكـَتْ بجسْمِهِ فنحُلَ وبَدَا عليْهِ الهُزَالُ. وبالطبْع تكفـَّـلَ المرْحُومُ بإعالةِ أخِيهِ وعائِلـَتِهِ، فسَاعَد البَناتَ علىَ إنـْشَاءِ مشْغـلٍ صَغِيرٍ بهِ بَعْضُ آلاتِ الحِيَاكةِ وآلـة نسِيج كبيرَةٍ وكانَ حَاضِرًا كـُلمَا دَعَتِ الحَاجَة. وبدِيهيٌّ أنْ يتأثـَّـرَ "عامِر" بوَفاةِ شقِيقِــهِ وقدْ لزمَ الفِرَاشَ مُنـْذ عَودَةِ مَوْكِبِ الدَّفـْن منَ المَقـْبَرَةِ.




    قــرَّرَ الشابُّ شــدَّ الرِّحَال إلى بيْتِ عمِّهِ ليعُودَهُ ويرْتمِي في حُضنِهِ فيتوَاسَيَان، لكنـَّـهُ ما كادَ يخْطـُو خطوَاتٍ خارجَ المَنزل حتى عادَ هرَعًا وعانقَ نفسَ جلسَتِهِ خلال مجلِس العزاءِ وقد داهَمَهُ آخِرَ ما إنتهَى إليْهِ الحدِيثُ مع الشيْخ "مصبَاح"... تساءَلَ في صمْتٍ : "ماذا لو وافقتُ على الشرْطين وأخذتُ حقــِّي في مَال والـدِي ؟... هل سأكفلُ نفسِي بنفسِي ؟ ... هلْ سَأقدِرُ على سَدِّ حَاجَتِي في غيَاب أبي ؟... هل سأنجَحُ في اسْتثمَار هذا المَال أم ... ؟؟ .. هَبْ أنـِّي قبلـْتُ، هلْ أجْرُؤ على طرْح موْضُوع الزَّوَاج ؟ هلْ الوقتُ مُناسِبٌ لمُفاتحَةِ عمِّي المَكلـُوم بمَوضُوع الزَّواج من إحْدى بناتِهِ أو منْ امرأةٍ أخْرَى؟ ...الآن ؟؟ .. في هذا الظرْفِ العَصِيب ؟ ... لا .. لا يُمْكِنُ .. لنْ أسْتطِيعَ، ثم مَنْ مِنْ بناتِ عمِّي سَتقبـَلُ بمُـدَلل مِثلي وهنَّ عاملاتٌ لا تبيتُ إحْداهُنَّ قريرَة العيْن إلا وقد ضَمِنتْ أجْرَة يوْم عمَل وغالبًا ما كـُـنَّ يكِلـْنَ لِي الهمْــزَ واللمْـزَ حين أكونُ بينَ ظهْرَانِيهنَّ بسبب قعُودِي الدَّائِم عن عمَل ما هُو مُفِيـدٍ. وحَتـَّى "سارَّة" التِي سَرقـْتُ وإيَّاهَا لحَظاتٍ سَاذِجَةٍ منْ حيَاةِ البَرَاءَةِ التي عشْتـُهَا في بيْتِ عَمِّي، صارَتْ تأنفُ منْ سَطْحِيَّةٍ جُبلَ بهَا فِكري وتصَرُّفاتِي ودَكـَّتْ آخِرَ حِصْن لِي فِي هيْكل عَاطِفةٍ ولِيدَةٍ بدَأتْ تجيشُ تـُجَاهَهَا ...




    أوليْسَ جدِّي لأمِّي وأخْوالِي الأرْبَعَة بأحقَّ منْ غيْرهِمْ حتى يُسَاعِدُونِي علىَ مَا يَنتظِرُنِي من تحَدِّياتٍ ؟ لكن أخوَالِي يتسِمُونَ بالغِلظةِ والفظَاظَةِ وكانوا علىَ خِلافٍ دائِم مع والدِي وعمِّي مُنـْذ حَلـَّتْ المُصَاهَرَةُ بيْنهُمْ، وقدْ نعَتـُونِي شخْصِيًّا بالشـُّؤْم تطيُّـرًا لأنَّ أختـَهُمْ توُفيَتْ بعْدَمَا وُلِدْتُ مُبَاشرَة. أهْلُ أمِّي المُحْترَمِون بلغَ بهمْ الصَّلفُ حَدًّا جَعَلهُمْ يغيبُونَ عنْ أدَاءِ واجبِ التعْزيَّةِ لِي فِي أبي. هلْ آمَنُ قوْمــًا كهَؤلاءِ ؟ وما يُدْرينِي لعلـَّهُمْ يقتصُّونَ من والدِي فيَّ أنا وأُصْبحُ كبْش فِداءٍ لصِرَاع دفِين لا ناقة لي فيهِ ولا جَمَلُ ..."



    فرَكَ "عبَّاس" جبينهُ وقال بصَوتٍ عَال :




    -يجبُ أنْ ينتهيَ هذا اليومُ إلى شيْءٍ أفضَل.




    ثم انطلقَ كالسَّهْم إلى دار عمِّه ولمَّا وَصََل، استقبلتهُ "مريم" وما إنْ فتحَتِ البابَ ورأتهُ حتى انفجَرَت باكيَة، إذ لمْ تتحمَّلْ شعَثَ هيْأتِه ومَظاهِـر الإجهَادِ الباديَة على مُحيَّاه فما شوهِدَ "عبَّاس" - فتى أبيهِ - بتلك الحَالةِ قط من قبلُ. ولم يقـوَ هو بدوْرهِ على التمَاسُكِ فأنخرَط معَهَا في بـُكاءٍ هو الأمَـرُّ منذ صبَاح ذلكَ اليوْم.




    وانتبَه من بداخِل المنزل إلى صوتِ البُكاءِ فهُرعَ الجمِيعُ إلى المصْدر وهناك انفرَطت كل العُقودِ وارْتفعَ العويلُ والصُّرَاخ من جديدٍ. وكعادة الأحياء الشعبية، تداعى الجيرَان إلى منزل "عامر" مرَّة أخرَى في تلك السَّاعَةِ المُتأخَّرَة فكأنَّ الجميعَ كانوا ينتظرُون قدُومَ "عبَّاس" إلى بيت عمِّهِ. وازدَادَ المَوْقِفُ تأزُّمًا حين سَقط العمُّ "عامر" مغشيًّا عليْه أمَام باب غرْفتهِ وهـْـوَ يُحاولُ الوُصُولَ إلى ابْن أخِيهِ ليحْضُنهُ وينعِيـَهُ والدهُ.




    سَارَع "عباس" إلى عمِّه الطـَّريح أرْضًا، فدفـَعَ منْ تجمَّعَ حوْلهُ من النسْوَةِ والجيرَان وبحرَكة الوَاثـِق، دنـَا منهُ وأحَاطهُ بذرَاعيْهِ ثم حمَلهُ إلى سَريرهِ وخرَجَ مُسْرعًا ليعـُودَ بعْدَ دقائـِقَ يتبعُهُ طبيبٌ يقطنُ بنفـْس الحَـيِّ. وما لبثَ العمُّ "عامر" أن اسْتعادَ وعْيـَهُ وسط وُجُوم بقيـَّةِ العَائلةِ الذينَ خنقـُـوا عبَرَاتِهم في مآقـِيهَا مخافة تأزيـمِ ظرُوفِ ربِّ الــدَّار الصِّحِّيةِ. لكن هذا الأخيـر، لم يتمَالك نفسَهُ عن البُكاءِ وهو يحْتضِنُ ابنَ أخيـهِ في موْقفٍ أحسَّ فيه "عبَّاس" أن التعْويضَ عن الفقـْـدِ الجَلل ربَّمَا كان أيْسَـرَ ممَّا تصَوَّرَ، لذلك أراحَهُ حِضْنُ عمِّهِ وتمنـَّى لو طالتْ جلسَتهُ تِلـْكَ. غير أن صوْتَ "سارَّة" وهي تـُناولهُ فنجَانَ القهْوةِ قطعَ عليْهِ أنسَ اللحْظةِ، فاستقامَ بعد أنْ سَحَبَ نفسَهُ برفـْق ومسَحَ ما علِقَ من دُمُوع على وجْهِ عمِّهِ.




    لم ينمْ أهلُ الدَّار ليلتـهمْ تلكَ ومعَ انبلاج خيـُوطِ الفجـْر الأولىَ، استأذن "عبَّاس" عمَّهُ في الخرُوج إلى المسْجدِ وانطلقَ إلى الخارج ينـْوي تسْوية أمر الوديعَةِ نهَائيــًّا. وما إن انفضَّتْ صَلاة الصُّبْح حتى توجــَّهَ إلى مكان اللقاءِ مع العمِّ "مصبَاح" وكان كلمَا اقترَبَ من منزلهمْ القدِيم، يزْدَادَ إصْرَارُهُ على قبــُول الشـَّـرْطيْن المَوْضُوعَيْن خاصَّة وقـَدْ أحسَّ أنه مدينٌ لعمِّهِ "عامر" بمُوَاصَلة الدَّعْم أسْوَة بوالدِهِ من جهة واقتناعًا بأنَّ عَائِلة عمِّهِ هي الوعَاءُ الوحيدُ الذي يُمْكنُ أن يحْتويهِ، والقبُولَ بدَعْمٍ يأتـِي منـْهُ لا يُمْكنُ أنْ يتـِـمَّ بسلاسَةٍ إلا بمُصَاهَرَةٍ تضْمَنُ للجَمِيع توَاصُلا إيجَابيًّا.




    تناول "عبَّاس" من العمِّ "مصبَاح" حقيبَة ثقيلة بهَا أمْوَالٌ وحُليُّ مُخْتلفٌ أنوَاعُهَا ووَضَعَ الظرْفَ في جيْبهِ الخَلفـِي بعْدَ أنْ عَاهَدَ الشيْخَ على عدَم فتـْح الرِّسَالةِ إلا ضِمْنَ الشرُوطِ المُعْلنةِ أيْ سَاعَة الخطـَر المُحْدِق، ثم ودَّع الشيْخ بحَرَارَةٍ وعَادَ إلى بيْتـِهِ وقدْ نـَجـِزَ(2) صُبْحُ ذلكِ اليَوْم.




    ارْتمَى "عبَّاس" على سَريرهِ وغـَط َّ في نوْم ثقِيــل إذ لمْ يُطبَقْ لهُ جَفـْنٌ مُنـْذ يوْمَيْن تقريبًا ولمْ يفِـقْ إلا علىَ صَوْتِ طرْق شدِيدٍ على البَاب الخارجي، فمَشَى مُتثــَـاقِلا ليَجدَ عمَّهُ وقدْ تحَامَلَ على نفـْسِهِ وأتى ليَطمَئِنُّ عليْهِ ويدْعُوهُ إلى تناوُل الغدَاءِ معَهُ. ترَدَّدَ "عبَّاس" قلِيلا ثمَّ قال بتأتــَـأةٍ وقد احْمَرَّ وجْهُهُ خجَلا :



    -عمِّي ... أ.. أ .. أنتَ ولا شكَّ تعْلـمُ منـْزلتكَ ومقامَ عائلتكَ عِند المرْحُوم وعندِي.


    -بلــَى يا ولدِي .. مالجديدُ في ذلكَ .. ستظلُّ الإبنَ البَارَّ الذِي لمْ يهبْنِيهِ اللهُ ...


    -لكــنْ .. لكــنْ يَا عَمِّي ..


    -لكنْ ماذا ؟ أفصِحْ ... لمْ ولنْ يتغيَّرَ شَيْءٌ، بيْتِي مفتـُوحٌ كالعَادَةِ لكَ، والبنـَاتُ أخَوَاتٌ لكَ كمَا كـُنَّ وأكثـَرَ.. .. قاطعَهُ "عبَّاس" قائِلا :




    -لا لا يَا عمُّ .. ليْسَ هَذا مَا عنيْتُ .. أرَدْتُ أنْ أحَدِّثك بشَأنِِِِ شَيْءٍ آخرَ مَا دُمْنا عَلىَ انـْفـِـرَادٍ.


    -أتـُريدُ مـَـالا ؟ ... ورَمَى "عامِر" بيَدِهِ دَاخِلَ جَيْبِ سُتْرَتِهِ فأمْسَكَ "عبَّاس" بيَدِهِ وقالَ بَاسِمًا :




    -حفِظـَكَ اللهُ يَا عَمُّ من كل سُوءٍ .. المَالُ وفِيرٌ والحَمْدُ للهِ.




    ارتسَمَتْ علامَاتُ اسْتفهَام كثيرةٍ على وَجْهِ العَمِّ "عامِر" وقال :




    -مالٌ كثيرٌ ؟ من أينَ ؟ مبلغُ عِلمِي أنَّ المرْحُومَ لمْ يكنْ يكنـِـزُ مَالا ببيْتِهِ قــطُّ منذ سُرقَ بيْتـُهُ القديــمُ.


    -اسمَعْ يا عمُّ .. أوْ ..أو ... انـْتظِــرْ لحْظـَة، سَأعُودُ




    أسْرَع "عبَّاس" إلى داخِل غـُرْفتِهِ وخرَجَ يحْمِلُ الحَقِيبَة ففتحَهَا ووَضَعَها أمَامَ عمِّهِ الذي ذهِـلَ لقيمَةِ الكنـْز المُنتصِبِ أمَامَهُ فاسْتطرَدَ سَائِلا دُونَ أنْ يُشِيحَ بنظـَرهِ عنْ مُحْتوَى الحَقيبةِ :




    -أنـَّـى لكَ هذا يَا ولـَـدْ ؟ أه ...؟ .... قالهَا شـَــزَرًا


    -علـَى رسْلِكَ عمِّي، لا تذهَبْ بالظـَّنِّ بعِيـدًا سَأحْكِي لكَ كلُّ الحِكايَةِ


    -أية حِكايَةٍ ؟ ...هَاتِ ... تكلـَّـمْ


    -أتذكــُـرُ العمَّ "مصْباح" صَديقَ المَرْحُوم ؟


    -طبْعًا أذكرُهُ .. وهلْ أنـْسَى ذاكَ الفحْلَ الطـَّيِّبَ الذي كانَ يخْتبئُ بضَيْعَتنا لأيَّام عدِيدَة نقتسِمُ اللقمَة وننـَامُ بنفْس الفِرَاش، ندْرَأ عنهُ عُيُونَ المُسْتعْمِر ووُشَاتِــهِ .. جدَّتــُـــكَ -على فكرة- كانتْ تكرَهُهُ وتحْقِدُ عليْهِ."... قالهَا مُبْتسِمًا ... ".. لأنهُ كانَ سَببًا في صُعُودِ أبيكَ إلى الجَبلِ آنذاك.. ؟ ومَا بهِ ؟


    -أتعْلمْ بأنـَّهُ حَضَرَ عشيَّا بالأمْسِ .. و...." ..انتفـَضَ العـَـمُّ وأمْسَك بتلابيبِ "عبَّاس" قائِلا بغضَبٍ أشَـدُّ :




    -مـَـاذا تقـُولُ ؟ حَضَرَ بالأمْس ؟ منْ ؟ الشيْخ "مصبَاح" ؟ ولِــمَ لمْ تخْبرْنِي في حِينِهَا يَا ذا الجِنـَّةِ (3) كنتُ أوْفيْتهُ وَاجبَ الضَّيْفِ المُبَجَّل ... أينَ عقلـُكَ يا فتـَى ؟ طالمَا نبَّهْتكَ أنْ تعُودَ إليَّ فِي كلِّ أمْــر.. هَدَاكَ الله .. ماذا سَيقـُولُ الرَّجُلُ في شَأنِنا الآنَ ؟




    ردَّ "عبَّاس" وقـَـدْ ارتسَمَ الوَجَعُ علىَ تقـَاسِيم وجْههِ :




    -عَمِّي، أنسِيتَ أنكَ حُمِلتَ حَمْلا إلى بيْتِك بعدَمَا عاجَلتـْكَ الأوْجَاعَ فِي المَقـْبَرَةِ ؟




    غمْغمَ العمُّ بكلام غيْرَ مَفـْهُوم ثمَّ أخْلـَى طرَفَ ابنَ أخِيهِ وسَحَبَ كرْسيًّا وجَلسَ يتعَوَّذ من الشَّيْطان الرَّجيم ومنَ النسْيَان ومنَ المَرَض ... فرَمَقهُ "عبَّاس" بنظـْرَةٍ مِلـْؤُهَا الشَّفقة وقــالَ :



    -لسْتُ صَغيرَ السِّن يا عمُّ حتى أنْسَى واجبَاتِي، لقد تجَاوَزْتُ عَقـْدِي الثالِثَ مُنذ أيَّام ... أطمْئِنـُكَ أنـِّي عرَضْتُ عليْهِ ما يُمْكنُ أنْ تعْرضَهُ أنتَ وزيَادَة، لكنـَّهُ رَفـَــضَ المُكوثَ وأسَرََّّ لي أنـَّهُ مَا جَاءَ إلا لتوْدِيع المَرْحُوم بعْدمَا أبْرَقَ لهُ رَئِيسُ المخْفـَر بنبَإ الوَفاةِ، ولا شكَّ تعْلمُ أنَّ رَئيسَ المَخفـَر كانَ زمِيلَ سِلاح لهُمَا ويعْلمُ ما يُكِنـَّانِِ لبَعْضِهمَا ....




    أسْهَبَ "عبَّاس" في إطْلاع عمِّهِ عمَّا حَدَثَ بعد عوْدتِهمْ منَ المَقبَرَةِ، وكيْفَ تعَامَل معَ المَوْقِفِ ومعَ الضُّيُوفِ ومَنْ مِنَ الأهْل والخِلان حَضَرَ، ومَنْ مِنْهُمْ قدْ بَلغَ بهِ الغِلُّ فلمْ يظهَرْ لهُ ظِـلٌّ، وعرَّجَ بحدِيثهِ عنْ حضُور الشيْخ "مصبَاح" وما آلتْ إليْهِ الأمُورُ مَعَهُ بشـَأن الحَقيبَةِ ورَبْطِهَا بشَرْطِ الزَّواج الحَثيثِ، وطبْعًا أخْفـَى "عبَّاس" موضُوع الرِّسَالةِ عنْ عمِّهِ نِهَائيـًّا ليَتجنـَّبَ أسْئِلة هُو بذاتِهِ لا يعْرفُ لهَا جَوَابًا.




    أطرَقَ العمُّ طويلا ثمَّ انفرَجَتْ أسَاريرُهُ علىَ ابْتِسَامَةِ خفِيفةٍ وعَمَدَ إلىَ الحَقيبَةِ فأعَادَ لهَا أقفالـَهَا وربَّتَ علىَ كتِفِ "عبَّاس" قائِلا :




    - قـُمْ يا وَلدِي ... ضَعْ حقيبَتكَ في مَكان آمِن واحْرصْ أنْ تـُغلِقَ دُونهَا البَابَ ولنَمْضٍ الآنَ إلى البَيـْتِ لتناوُل الغدَاءِ فالبَناتُ بانـْتظارنا وأخْشَى أنْ تنـْزَعِجْنَ لتأخِيرنـَا ولنْ يَصِيـــرَ إن شاءَ اللهُ إلا خَيـْــرٌ.




    - يُتـْبــَـعْ -





    (2) نجـِـزَ : (بكسر الجيم) ينـْجـَــزُ نجَـزًا أي انقـضـَى وولـَّـى



    (3) ذا الجنـَّةِ : (بكسْر الجيم) أي مجنون
    [frame="11 98"][type=283243][align=center]لنعْضُدْ ضَادَنَا[/align][/type][/frame]
  • خالد يوسف أبو طماعه
    أديب وكاتب
    • 23-05-2010
    • 718

    #2
    [align=justify]
    أهلا أستاذي القدير / توفيق صغير
    قرأتها في الصباح وها أنا الآن هنا
    بين طياطتها الرائعة وكلماتها اللذيذة
    ما زلت أتابع وأتقصى أخبار العم مصباح
    والفتى الغر عباس الذي ظل وقتا وهو بين
    مصدق ومكذب لثروة لا يعلم عنها شيئا
    على كل جميل هذا التراص والتتابع في
    الأحداث وجميل ذاك الوصف الدقيق المبهر
    لتلك المناحة التي أطلقت صيحاتها بنات عمه
    وجاء على صراخهن الجيران وكأنها قنبلة
    موقوتة ينتظرون انفجارها ليشاركواعباس
    في همه وحزنه ومحنته حتى أغمي على عمه
    من شدة الحزن ولا زلت معك سيدي في انتظار
    من تكون زوجته أهي من بنات عمه أم لا وهذا
    ما سنعرفه في البقية المتبقية من هذه الرائعة
    لتوفيق صغير
    ما كنت أريده أن يخبر عمه بأمر تلك الثروة ....
    أستاذي الفاضل / توفيق صغير
    استمتعت بحكيك هنا سيدي
    مودتي واحترامي
    [/align]
    التعديل الأخير تم بواسطة خالد يوسف أبو طماعه; الساعة 05-09-2010, 17:58.
    sigpicلن نساوم حتى آخر قطرة دم فينا

    تعليق

    • توفيق صغير
      أديب وكاتب
      • 20-07-2010
      • 756

      #3
      [align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      [/align]

      أستاذي الفاضل،

      إنك تــدُكُّ دِفاعَاتي الهشَّة بنُبْل قوْلكَ ودمَاثةِ خُلقـِـكَ ... أضْنيْتنا يا رجُــلْ هههه

      سأرْبطـُكَ إلى ظهْري وأجُولُ بكَ الدُّنيَا لأقـُولَ : هذا سنـَــدٌ.

      متَّعكَ اللهُ بفضَائِل ليْلةِ القدْر ودُمْتَ قريبًا.
      [frame="11 98"][type=283243][align=center]لنعْضُدْ ضَادَنَا[/align][/type][/frame]

      تعليق

      • انوار عطاء الله
        أديب وكاتب
        • 27-08-2009
        • 473

        #4
        أستاذ توفيق ...
        من متابعي قصتك سيدي !!
        شكرا لك ولقلمك!!

        تعليق

        • ربيع عقب الباب
          مستشار أدبي
          طائر النورس
          • 29-07-2008
          • 25792

          #5
          اللغة تزداد جمالا و طاعة لك توفيق
          و القص يسير سيرا رائعا ، بل مدهشا
          أبكيتني هنا فى هذا الجزء
          و مالم تفعله سابقا فعلته هنا


          أكيد سوف نتحدث فى نهاية العمل عن أمور بعيدة
          خاصة بزاوية الرؤية ، و فتح أفق متسع للقص
          و ربما فعلتها أنت فى الجزء الثالث ؛ فأنا أري بعض شواهد !!

          معك أتابع فلا تتأخر عنا
          وفقك الله سبحانه
          sigpic

          تعليق

          يعمل...
          X