رواية
فرعون آخر زمن..!
عودة " حور محب "
مات والده وترك الهموم تثقل كاهله، واليوم يكاد رأسه ينفجر من كثرة التفكير، دائما هو في حاله، يفضِّل أن يمشي بجوار الحائط، بل داخله لو كان بإمكانه ذلك.. لكنهم قبضوا عليه حين خروجه من العمل.. اقتادوه إلى حيث لا يدري معصوباً، ألقوه في سيارةٍ سوداء.. اتهموه بالتدّخلِ في أمورٍ سياسةٍ، وهو لا يعلم عن السياسة شيئاً..
مع أن الجميع يتحدثُ في السياسة، لكنه أبداً لم ينطق يوما بلغتها، بل لا يعرف حتى أسماء كبار الرؤساء والوزراء التي تملأ أعمالهم الخالدة في خدمة الشعوب وسائل الإعلام ضجيجاً ليل نهار– فلماذا هو بالذات يقبضون عليه، ويلقونه في غياهب السجون..؟
انتظر طويلاً في غرفةٍ مظلمةٍ، فك العصابة عن عينيه، لكنه لا يرى شيئاً... بعد مضي ساعات طوال من القلق والترقب.. حضر أحدهم، فتح الباب، أعاد العصابة السوداء إلى عينيه، وهو يغمغم بالسباب والشتائم التي يندى لها الجبين، دفعه أمامه بقسوة إلى مكتب الباشا الكبير، طرق باباً بعده آخر، سُمِحَ له بالدخول...
جذبني من قميصي، فاصطَدَمتُ بكرسيّ من الخشب .. أمره الجالس بفَكِ عصابتي عن عينيّ .. كان الباشا يجلس على كرسيّ فاخر ، تظهر عليه الهيبة والوقار.. تفحصني جيدا ، ثم سألني في هدوءٍ وأدبٍ جم :
- اسمك إيه ؟
- " حور محب "
- اسمك يدل على إجرامك ..
- وماذا في اسمي يا سيدي ؟
- يصفعني بشدة على رقبتي – أولا تدري ماذا يعني اسمك هذا بالذات .. ؟
- "حور محب " اسم فرعوني قديم ..
- آه .. أتدري من يكون هذا الفرعون ؟
- لا أدري .. لكن الاسم ليس جريمة..
- إنه الفرعون العاصي يا كلب ..
- لست كلباً .. أنا إنسان ..
- بالفعل أنت إنسان أقل قدراً بكثير من الكلب ( يقف ويتجه ناحيتي ) .. الكلب يتصف بالوفاء ، لكنك خائن .. وقح .. متآمر .. متمرد على أسيادك ومعترض دائماً .. حيوان غبي ، بل الحيوان أفضل منك وأرقى ...
- متمرد ومعترض .. على أي شئ ؟
- " صفعة أخرى على وجهي ، جعلت الدماء تسيل من فمي" (يتجه ليجلس على كرسيه).. ألا تعلم عن أي شئ ، وضد من... ؟
- لا .. أقسم أني لا أعلم عمّن تتحدث ..؟
يترك كرسيه ثانيةً ، يتحرك نحوي في بطءٍ شديد واضعاً يديه خلف ظهره ، يمعن النظر إليّ ، يتفحصني جليًّا ، ثم يتحدث في استعلاءٍ قائلاً :
- ألا يكفي أنكم تعيشون بيننا ؛ رؤوسُكم برؤوسنا .. تتنفسون نفس الهواء ، وتشربون من نفس الماء ، وتمشون على ذات الأرض التي يسير عليها السادة وأنتم عبيد ..
- أقاطعه حانقا .. لسنا عبيداً لأحد ...
- " يركلني بكل قوته فيوقعني على الأرض الصلبة" .. بل عبيد ، من سلالة عبيد ، لقد نسيتم أنفسكم ، ولابد أن تُفيقوا من غفوتكم ، وتعلموا حدودكم .. أنتم في الدرجات السفلى من الكون ، وستبقون هناك حتى الموت ؛ لن تتساوى الرءوس أبدا ..
"يلتفت في عصبية واضحة ، يزغدني بعنف في كتفي، يستدير نحوي متعجباً بسخرية ":
فلتحمدوا ربكم أيها الرعاع الأوغاد أننا نحن الأسياد الكبار وعليَّة القوم والشرفاء .. نسمح لكم بكل ذلك ، يكفي أن لكم حقوقا مثلنا ومن المفترض أنه لا حقوق لأمثالكم ، لابد أن تقبِّلوا أيدينا وأرجلنا صباحاً مساءً .. لأننا سمحنا لكم أن تكونوا بيننا أحياءً ..
ألا تتخيل أو تدرك قيمة كرم السادة معكم .. فأنتم تمارسون حق الحياة - تتزوجون وتنجبون مثلنا تماماً ، وأولادكم يتمتعون بالحياة والعيش على أرض هذا الوطن كأولادنا نحن السادة ... لابد أن تعلموا أشياءً هامةً ، لتراعوها تماما في تعاملكم معنا..
هذه نصائح غالية ، لن يقدمها لك شخصٌ آخر ، لأنها حقائق في عُرف وقانون هذا البلد .. تحكم العلاقة بيننا نحن السادة وبينكم من العامة والدهماء ، افتح أذنيك جيدا لتسمعني- يمسك أذني ويشدها ناحيته في غيظ ليقرِّبني إليه قائلاً:
لابد أن يَعُضُّكم الجوع أنتم وأولادكم لنشبع نحن وأولادنا.. لابد أن تعيشوا عراةً أو ترتدوا الخيش لنلبس نحن وننعم بالحرير وفاخر الثياب..
ترتعدون من البرد لنشعر نحن بالدفء... تخافون لنشعر بالأمان، تجبنون لنبقى شجعان، تقاتلون لننتصر.. تموتون عبيداً لنحيا سادةً عظماء، هل فهمت..؟
- أقسم أني لا أعلم شيئاً عمّ تتحدث، ولماذا تقول لي كل ذلك، فالوطن ملكٌ لنا جميعا، ونحن كلنا على أرضه سواء..
يزداد تعصبا وضيقاً.. يزعق بأعلى صوته:
- خذوه إلى الجحيم حتى يعلم ماذا فعل ، وضد من يعترض ويتحدى، وعمَّ أتحدث بالضبط..؟ يبدو أنه لا يعي شيئاً، فالغباء يمتلك عقله؛ لذا لا يستطيع التمييز أو حتى مجرد فهم الحقائق التي تتضح أمام عينيه ساطعة سطوع شمس الظهيرة..؟
هيّا.. جُرّوه على الأرض.. وضعوه في غرفةٍ مظلمة، أرضها مليئة بالماء القذر ثلاثة أيامٍ كاملة.. شربة ماء واحدة طوال اليوم، وقطعة من الخبز الناشف، دعوه معصوب العينين طوال الوقت، لا تأخذكم به رحمة ولا شفقة.. فليذق طعم جحيم السادة..!
أعادوا العصابة السوداء إلى عينيه ، دفعوه إلى زنزانته ثانيةً، أذاقوه ألوان العذاب.. مزَّقوا ملابسه ونسلوا جلده بالسياط ، وحرقوا جسده بالنار، هتكوا آدميته بكل الصور، وأهانوه بكل الطرق...
أجبروه على الاعتراف بأشياءٍ كثيرةٍ لم يفعلها، ولم ولن يفكر أن يقترب منها في يومٍ من الأيام، وقّع على أقوالٍ لم ينبس بحرفٍ منها، ولم يسمع بها من قبل..
في نهاية اليوم الثالث- كانوا قد أجروا تحريّاتهم، فاكتشفوا خطأهم.. قرّروا الإفراج عنه ظهر اليوم الرابع.. دون اعتذار...
اقتادوه ثانيةً إلى مكتب الباشا الذي قال كلاماً كثيراً هو لا يذكر منه حرفاً واحداً.. عصبوا عينيه، أفقدوه الوعي من كثرة الضرب، حملوه، وضعوه في ذات العربة السوداء.. ألقوه على أول الشارع الذي يقطنه، ثم انطلقوا..
هب الناسُ الجلوس على المقهى إليه.. فكّوا عصابته.. تأملوا وجهه جيدا.. عرفوه- إنه " حور محب " الشاب الطيب الذي عهدوا مساعدته للجميع في شتى المناسبات، إنهم يحبونه كثيراً ويحبهم، ليس له عداوات من أي إنسان، أو ضغائن من أي بشر في أي مكان على وجه البسيطة..
أسرعوا بإفاقته، يفتح عينيه في بطءٍ شديد.. حاولوا سؤاله عما حدث، لكنه أبداً لم يستطع الرد.. الجميع في الشارع والبيوت يتعجبون ويستفسرون عما حدث لـ "حور محب " الشاب الملتزم المتواضع.. لكنه لا يجيب، ولا تفسير، ليته يعرف كي يخبرهم.. من الذي فعل به كل ذلك.. من يا ترى؟ وما السبب..؟
حملوه إلى منزله وهم يضربون أخماساً في أسداس، بينما هو في عالمٍ آخر، لا يقوى على الرد.. فهو لم يرَ النومَ طيلةَ ثلاث ليالٍ مضت، فأين السرير.. ؟
أسرعت أمه إليه في هلع شديدٍ، وهي تشهق ضاربة صدرها بكلتا يديها، تستفسر عمَّ أصابه.. أين كان طيلة هذه الأيام..؟ وماذا حدث له بالضبط ..؟ هو لم يفعلها من قبل، فما الذي جرى..؟!
بينما تقف أختاه ملتصقتان معاً رعباً وهلعاً على أخيهما الوحيد.. راحت أمه تضمه إلى صدرها في حنو، وهي لا تدري سبباً لما حدث له، فهو كل ما خرجت به من الدنيا على حد قولها..! راحت تهذي، سائلة:
- من آذاك بهذه الطريقة البشعة يا قرة عينيّ و نبت عمري ..؟ حسبي الله ونعم الوكيل قالتها أمه بحرقةٍ، وهي تضمه باكيةً.. توجهت بذات الأسئلة الكثيرة التي تدور بعقلها نحو من أحضروه، لكنهم لا يعلمون شيئاً ليخبروها به، فتركوها حائرةً، وتركوه ليستريح وخرجوا محزونين..
أخذت تبحث في جسده، فربما حدث له مكروه.. يصرخ كلما لامست يدها جرحاً، وتصرخ كلما لامست يدها تورماً، تشهق بشدة حينما ترى الكدمات الزرق تنتشر على جسده.. قبَّلت جبهته السمراء في باكيةً، ثم قالت في تحدٍ مغلفٍ بالغيظ والألم معاً:
- أخبرني يا بُنيّ بالله عليك- ماذا حدث..؟ ومن فعل بك كل هذا..؟ وأنا أقسم أني سأنتقم لك، وآخذ حقك بيدي، وأمزقه بأسناني إرباً..
ينظر إليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع، ربت كتفها، مسح دمعته الهاربة على خده.. اعتدل في صعوبةٍ بالغةٍ محاولاً الوقوف مستندا عليها، ثم أمسك كتفيها بين يديه، غاص بنظرته الواهنة في عينيها الباكية، سألها معاتباً:
لماذا أسميتني " حور محب " يا أمي..؟ أولم تجدي اسماً آخر...؟
- جَدُكَ يا ولدي من أسماك بهذا الاسم..
- ولماذا... ؟
- لأننا من نسل هذه الأسرة الفرعونية العظيمة..
- عظيمة.. أي عظمة تلك ؟
- عظمة أجدادك القدماء..
- لماذا وافقتِ على تسميتي هذه يا أمي ؟
- وافقت وأنا فخورة بذلك يا بُنَيّ..
- إذن أنتِ من فعل بي كل هذا..!!
- أنا..؟! كيف يا ولدي..؟ أخبرني عن مقصدك ؟!!
يشيح بوجهه بعيداً.. يتركها حائرة، يدخل حجرته، ويغلق الباب خلفه.. يرتمي على سريره بملابسه الرثة، حتى أنه لم يخلع حذاؤه.. يُغمِضُ عينيه.. يروح يفكِّر فيما سيفعله بعد أن فُصِل من عمله ظلماً، بسبب طول لسانه على حد زعمهم، واتجاهاته السياسية المعارضة للسادة أصحاب الحظوة.. مع أنه لم يفعل ذلك طيلة عمره.. فما ذنب أمه وأختيه.؟
يا ترى ماذا سيكون في الأيام التالية.. ؟
من أين ننفق وكيف نعيـش..؟
هل سأجد عملا آخر أم لا..؟
وهل سيتركونني في حالي..؟
وماذا لو ذهبت إلى المحكمة لأغيِّر اسمي إلى أي اسم آخر بعيدا عن اسم الفرعون المشاغب..؟
يحل الظلام كثيفاً ، تشتد العاصفة الترابية، تدور به الدنيا سريعاً، تَلُفُّه مع كل شئ يحيطه، فيختلط في المفرمة مع أثاث غرفته، تدخل عليه مجموعة الحرس كي تعيد تعذيبه مرة ً أخرى.. يحاول التملص فلا يستطيع، يقتربون أكثر، لكن قدماه تسمرتا بالأرض، وانكتمت صرخاته في حلقه، فلم يسمعه أحد..
أطبقوا عليه بإحكام.. يقيدونه بسلاسل حديديةٍ طويلةً وغليظة، بدءاً من أخمص قدميه، يلفونها حوله حتى أسفل ذقنه؛ يحاول جاهداً.. أن يصرخ حينها.. ينطلق صوته في جوفه فقط.. إلى كل العالم، كان يقاوم بلا فائدة.. فجأةً.. ينقذه صوت المنادي الجهور، يخترق عليه كابوسه اللعين.. يعلن:
أنه عند احتضار النهار.. سيعقد الفرعون الإله- اجتماعا هاماً بالقاعة الكبرى بالمعبد الملكي المقدس.. عليكم بالحضور عاجلاً، ومن يتخلف عليه العاقبة وغضبة الإله…!
***
" حور محب" يعصى الملك الإله
وكيف لي بطريقةٍ قاسيةٍ لتأديبه ..؟
أمه الملكة " هتحور " دلّلته كثيرا في كل شئ ، بالطبع فهو ولي العهد وابنها الوحيد ووريثي الشرعي ، هو من سيحمل اسمي واسم أسرتنا سيبقى به ويمتد بين الأسر ، وهو من سيبقيها ملكةً من بعدي ، لكنه عاصٍ ومجادل..
يرفض طاعتي دائما في أغلب الأمور ، يخالفني الرأي – في صغيرها وكبيرها على حدٍ سواء – خاصةً في أمور الحكم ، لقد كَبُرَ وصار فَتَىً فَتِيّ ..
نعم برع في الفروسية ، وبات شديد البأس ، قوي البنيان، يستعمل السيف والخنجر في مهارةٍ بالغة يصارع الأسود والنمور ويصطاد الغزلان .. حقاً إنه شديد الذكاء ..
ربما يخيفني ذكاؤه بعض الشيء ، لكن ما يؤرقني أكثر طيبته الزائدة عن الحد ، واختلاطه بالعامة والدهماء عن قرب ، وميله للدفاع عمَّ يسميه حقوقهم لدينا نحن الملك الإله المقدس ، فهل للعامة حقوق..؟
هذا سيجعله هيِّنٌ عليهم ، ليِّن معهم ، لا يخشونه، سيظهرون يوماً أطماعهم ، وسيعترضون على حكمه ، وبالتالي قد يتمردوا عليه ، ويكيدوا له ، فيصعب عليه إخضاعهم ، وتنتشر الفتنة في أرجاء المملكة ، فيضعف سلطانه وتُمحَ شخصيّته ويفقد ملكه ..
وحين ينهار حكمه ، وتنتهي ولايته ، يضيع كل ما بنيته وأجداده القدامى ، حتى حق الألوهية سينتقل حينها إلى أحد المتربصين بكرسي الحكم..
ربما من أسرة " كانان " التي تحاول هدم حكمنا من زمن ، ولم يردعهم إلاّ قوتنا وبأسنا ، أو أسرة " ساهار" التي قاتلت كثيراً من أجل الحصول على كرسي المملكة ، أشعلوا نار الفتنة .. قاتلونا فهُزِمُوا وانتصرنا ..
أعلم جيداً أن الجميع لا يخافونه – وعلى الأخص ذلك الماكر المسمى بالكاهن الأعظم " سامو رابي " والوزير "حاران " الساعي لكرسي العرش بقوةٍ وينتظر لحظة الوثوب إليه لولا خوفه منِّي وجبنه من سطوتي وبطشي وسلطاني ..
أعلم أنهم ليسوا مخلصين بل منافقين جبناء .. ينتظرون رحيلي إلى العالم الآخر ، لينفردوا بولي العهد الليِّن.. طيّب القلب العطوف ...
لابد من تأديبه كمليك للعرش ، وإعداده كي يصبح ملكاً قوياً يستطيع حماية عرشه ، والقبض بقوة على مقاليد الحكم من بعدي ، لكنه عاصٍ ومتعنت ومشاغب ..
حتى" "سالو راب" زوجتي الجميلة التي جاءت من مدينة " سرت "، وهي غريبة عنه ؛ كانت سببا في إفساده وتدليله ، وعدم طاعتي أيضاً .. فهي دائمة الدفاع عنه في كل كبيرة وصغيرة دائما تحتويه وتقربه إليها ، مع أن الملكة "هتحور" تغار منها وتمقتها بشدةٍ ، لكنها تحب ولي العهد بإخلاص ، وتشمله برعايتها ، رغم المنافسة الشديدة بينهما للفوز بقلبي أنا الملك الإله المعظم على وجه الأرض، ذلك رغم كرهها الشديد للملكة الأم ..
أيضاً الكاهن الأكبر " سامو رابي" ذلك الثعبان المرائي- له دور كبير في ذلك العصيان ، فقد اعتاد أن يوافق الفرعون ولي العهد في كل ما يقول وما يفعلحتى دون إذن منى ، كلهم ساعدوا في جحوده .. سحقاً للجميع ، فقد ضلوا وأضلوا ..
يروح ويجئ في طرقات القصر المتسعة ، يفكر بعمق فيأسباب العصيان الآثم للفرعون الصغير ، لكن الغضب يملأه ، والضيق يكتم صدره ، فقد تذكر المسئول عن الصغير .. إنه .. المعلم حكيم القصر ؛ ابني الوحيد الذي أحبه بجنون ، بل أعشقه عشقاً ليس له حدود ، قد تجرأ علىَّ وعصاني اليوم ، إذن فسيهدمنِ غداً .. يصرخ بأعلى صوته منادياً الحرّاس ، جاءوا على وجه السرعة ..
يطلب حكيم القصر معلم الفرعون الصغير ، فلبُّوا طلبه على الفور.. يدخل الحكيم مسرعاً .. يتملكه الهلع .. يخر راكعاً بين يديه :
- أمرك يا مولاي ..
- أيُّ أمر أيها الحكيم .. أريد أن أعرف .. ماذا كنت تعلِّم الفرعون ولي العهد من حكمتك وفطنتك ورجاحة عقلك .. ؟
- أعلمه الحكمة من بحور حكمتك ، والصبر الجميل، والطاعة لك يا مولاي ..
- أي طاعة تلك التي تعلمها بين يديك .. لقد رفض طاعتي ، وتنفيذ أوامري في أشياء تخص الحكم وأمور المملكة .. فماذا تقول فيما حدث..؟
وبماذا أفاد تعليمك له .. ؟
- لابد أنه لم يقصد ذلك ، أو أنه أخطأ في التعبير عن وجهة نظره يا مولاي ..
- وجهة نظره ، يجب أن يطيعني طاعةً عمياء أيها الحكيم، يجب عليه ألاّ يجادلني في شئ .. فأنا أمقت أن يجادلني أحد .. لا تجوز مجادلة " حور تاب " الإله المقدس - حتى ولو كان الفرعون ولي العهد .. هل تعي قولي أيها المعلم الجَهُول ..
- نعم يا مولاي .. أعي جيداً ، وأفهم ما تقول .. سمعاً وطاعةً .. سأعلمه أن يطيعك بلا جدال ، فمن الحكمة طاعة الإله بلا مجادلةٍ يا مولاي ..
- تعلمه .. أين هو لتعلمه ، لقد هرب من القصر، وسأنزل به أشدّ العقاب ، أُغرب عن وجهي وإلاّ أمرتهم بقتلك ..
" يرتعد الحكيم بشدة " ، يطلق صوتاً متحشرجاً بالسمع والطاعة .. "يخر ساجداً ، يتراجع إلى الخلف حتى يصطدم بالباب ، يسقط ، ينهض ، يخرج مسرعاً ليبتعد عن وجه الإله الغاضب.."
يزعق الملك الإله في غيظ .. أيها الحاجب استدع الوزير حالا، أريده في حضرتي وفي ذات اللحظة .. يدخل الوزير مُلبياً .. مُلقياً التحيَّات على الفرعون الإله ، فيباغته الملك :
أيها الوزير هل أعددت للاجتماع آخر النهار...؟
- نعم يا مولاي ..
- جميع فئات الشعب ..
- نعم يا مولاي ..
- هل هناك ثمة خبر بشأن " حور محب " ..
- البحث جارٍ على قدمٍ وساق ، لن تنتظره كثيرا ليكون بين يديك ياصاحب الجلالة الملك المعظم ..
- سأعلن الخبر بنفسي اليوم ، وأمام الجميع – سادة وعامة – سيعلمالجميع باختفاء ولي العهد ..
- وإن لم تجده ، فبماذا تحكم على نفسك أيها الوزير..؟
- ما تراه ينفذ يا مولاي ..
- حينها ... ربما آمر بسجنك في برج التيه ، أو سآمر بقتلك أيها الوزير ..
- " يرتعد الوزير بشدة ، يخر راكعاً " ، سمعا وطاعة، رغبة الإله نافذة بلا جدال ، فأنا فداؤك يا مولاي ، وفداء لولي العهد " حور محب " ،بل فداءٌ لمملكتك يا سيدي ..
- إذن أعد الموكب إلى ساحة الاجتماعات الكبرى ، وهناك ستدركون مدى صرامتي وحكمتي في حكمي..
***
مظلمة في موكب الفرعون الإله
والعامة واقفون على جانبي الطريق ، يهللون ويقدمون التحيات وفروض الولاء والطاعة ابتهاجا يدل على الرضا والسعادة من شعبٍ يعشق ملكه ، ويطلب رضاه دائما ..
يتطلعون جميعا لرؤية الفرعون الإله ، وربما يحظون بنظرة رفق أو بصيص أمل في رفع الظلم الواقع عليهم من حكّام المقاطعات والمدن ، والكهنة ورجالاتهم المفسدين ...
المكوس ثقيلة عليهم والظلم أكثر ثقلاً ، يحملون هموم أبنائهم من مأكل ومشرب وتعليم وعلاج ، بينما يقف الجميع غير قادرين على الاقتراب من الموكب ..
يهجم " سابا " أحد المزارعين الفقراء على موكب الملك الإله، ممسكا في يده مطويَّةً من البردي ، يحاول الوصول إليه وتقديمها لجلالته ، فيتصدى له الحراس..
يوسعونه ضرباً بالسياط وركلاً بالأرجل ولكماً بالأيدي وسباباً بأفظع الألفاظ ، بينما يمسك بمظلمته بقوة وإصرار يريد أن يقدمها للفرعون الإله ..
يتحمل كل ذلك وهو ينادي بأعلى صوته :
أريد تسليم مظلمتي للملك .. لا شئ سوى تسليمه المظلمة .. أريد تسليمك مظلمتي يا سيدي ، فقط أسلمك المظلمة ...
قائد الحرس يقترب منه في غيظٍ قائلاً :
أي مظلمةٍ يا رجل ... إنك تحاول الوصول إلى موكب جلالته لاغتياله .. تحاول قتل الملك الفرعون الإله أيها الرعديد المجرم .. جروه إلى السجن ..
- سجن .. لماذا ؟ فقط أريد تسليم مظلمتي للملك.. إنها مظلمة ضد الكاهن الأكبر ..
يتطرق اسم الكاهن الأكبر إلى أذن الملك الإله الذي اقترب كثيرا من موقع المشكلة ، فيأمر بإيقاف الموكب وإحضار هذا المزارع فوراً ..
توقفوا عن ضربه ، اقتادوه للملك .. ألقوه بين يديه ..
- من أنت .. وماذا تريد ؟
- خرّ ساجدا تحت قدميّ الملك الإله ، ومعظما .. أنا " سابا " ..اسمي " سابا " يا مولاي مزارع فقير من رعاياك، وأريد تقديم مظلمة لي ضد الكاهن الأكبر ورجاله ..
- مظلمة لك أنت من كبير الكهان .. هات ما عندك سريعا .. تحدث يا رجل ..
- الكاهن الأكبر " سامو رابي " أرسل رجاله إليّ يوم حصاد القمح ، أخذوا كل الغلال ولم يتركوا لي حتى أقل القليل لأقتات به وأولادي ، وعند اعتراضي يا سيِّدي .. أوسعوني ضربا وسباً ...
وقالوا لي : أن هذه الأوامر من كبير الكهنة ، وحين ذهبت إليه لأطلب بعض غلالي ، أهانني ، وأمر رجاله بضربي ، ثم اقتادوني إلى السجن ، عذبوني بلا ذنبٍ اقترفته سوى أني أطلب بعض غلالي لأقتات عليها وأطفالي الصغار...
وكل ذلك يا مولاي لأني لم أستطع تسديد المكوس السابقة من حصاد القطن الذي أصيب ، فقد تكالبت الديدان وابتلعت زهرات القطن ، لذا لم ينتج شيئا ولم أربح منه ، فلم استطع دفع المكوس ..
وحين جاءوني يطلبونها مني .. أخبرتهم بما حدث ، لكنهم لم يصدقوني ، أوسعوني ضرباً بالكرابيج ، ثم اقتادوني إلى السجن ، فرجوت الكاهن الأعظم أن يطلق سراحي لأني العائل الوحيد لخمسةٍ من الأطفال وزوجتي .. على أن أسدد لهم المكوس القديمة والجديدة من حصاد القمح ، ثم حدث ما أخبرتكم به من ظلم ، وما أريد الآن سوى أن أطعم أولادي من حصاد القمح المبارك منك وبك يا مولاي الملك الإله ..
يلتفت الملك إلى كبير الكهنة غاضبا فوق غضبته ، هل هذه المظلمة صادقة يا " سامو رابي " ..؟
- لا .. ليست صادقة يا مولاي .. هذا الرجل يقتصد الحقيقة - أخذنا حصاده كله لأنه لم يسدد مكوس العام السابق ..
- هذه ليست مسئوليتك أيها الكاهن الأكبر .. إنها للوزير ورجاله ، فما دخلك أنت ؟
- أساعده يا مولاي وأجمع حق الإله بنفسي ، حتى لا يعتاد هؤلاء المزارعون يا مولانا الملك ألا يسددوا حقك علينا جميعا ..
يتطلع الفرعون الإله إلى الوزير الذي يلبي الإشارة على الفور .. يأمره برد غلال الرجل إليه ، وكذلك عدم تدَّخل الكاهن ورجاله إلا فيما يخصُّهم من نصيب المعبد فقط ..
يهتف الجميع سعداء :
" عاش الملك الإله .. عاش الفرعون العادل .. عاش الملك " حور تاب " نصير الفقراء .. دام عزه وزهوِّ عصره .. وولي عهده .. ! "
تصفيق حاد من الجميع يحمل شكراً وحباً للملك ، فهاهو ينصرهم وعلى من .. على الكاهن الأكبر ويرد لفلاحٍ فقيرٍ حقه ...
يعاود الموكب انطلاقته مرةً ثانية وسط حب وتشجيع الشعب وفرحتهم بعدل الفرعون الإله وكسرة الشوكة القوية للظلم في المملكة ألا وهو الكاهن الأعظم ورجاله وبين الجمع كله من طوائف الشعب ..
بعد مرور الموكب ، تجمّع رجال الكاهن الأعظم ورجال السُلطة حول المزارعين المهللين ، أوسعوهم ضرباً بالسياط ، ثم ربطوا " سابا " من رجليه في خيولهم وانطلقوا يجرونه على الحصى والحجارة حتى فارق الحياة ..
لقد تجرأ وقدم مظلمةً ضد الكاهن الأكبر .. نسي نفسه ، ليكن عبرةً لغيره من الرعاع والعامة والدهماء حتى لا يتجرأ آخرون ، ويقومون بتقديم الشكاوى ضد أسيادهم من كبار القوم والنبلاء .. مات " سابا " فماتت المظلمة ، ومات العدل ...
***
أسرعوا جميعاً إلى ساحة الاجتماعات الكبرى..
الساحة كبيرةً جدا .. تتسع للمئات من البشر .. من الكبار وعليّة القوم والعامة على السواء ، يتوسطها منبر العرش ، وفي أركانها اثنا عشر عامودا من الحجر الأبيض وأربعة أعمدة من الجرانيت تركن إلى الزوايا ..
وفي منتصفها حجر المذبح الكبير للنُذر الكثيرة جداً والقرابين التي يقدمها أصحابها على مختلف الفئات والطبقات لأجل الفرعون الإله حتى يرضى عنهم ويباركهم كبير الكهنة باسم الفرعون ، فيعيشون في سعادةٍ وهناء ..
وعلى جدرانها اليمنى ترتسم بطولات الفراعنة القدامى من أفراد الأسرة الحاكمة .. محفورة وملونة بألوانٍ داكنة وأغلب المعارك التي خاضوها وانتصروا فيها ..
وهاك رسومات في الجزء العلوي من الجدار ، حيث
مقاتلو الفراعنة الشجعان ينقَضُّون على أعدائهم منذ زمنٍ مضى وفي العصر الحاضر أيضاً ..
حقاً انهم فائقو الشجاعة ، دائمو الانتصار ، قوتهم تزيدهم جسارة وإقداما وعشقهم للإله يزيدهم إصراراً على النصر..
بينما على الجانب الأيسر من أعلى تظهر غيطان القطن الطويل التيلة الناصعة البياض وتلمع الشمس وصفرة حصاد القمح فتشعُّ الضوء الكثير كي تنير الطريق أمام الفلاحين المزارعين ، كي يقوموا بزراعة مئات الفدن بالقطن والقمح والخيرات ، ببركة الفرعون الإله ..
يعملون وهم منتشون يغنون الأغاني والأهازيج الفرعونية الجميلة التي تدعو للفرعون الملك بالخير والنصر وطول الأمد طلبا لرضائه ، فَيَمُنّ عليهم بفيض الخير وغلال الحصاد ، فيلقونها ملايين من القطع الذهبية
تحت أرجل الفرعون الإله " حور تاب " وكبير الكهّان وعليّة القوم من الحكام والأمراء والنبلاء .. ويبقون بلا مأوى .. بلا
طعام .. تنظر إليهم كأنهم ما يزالون يأملون بالخيرات التي امتدت في عهد الأسرة الحاكمة إلى كل فم تطعم المسكين وتروي الظمآن ببركة الفرعون الإله " حابي " الجد الأكبر للفرعون الملك "حور تاب "..
يدخل الملك هائجاً زائغ العينين ، جلس معقود الحاجبين ، يكادالشرر يتطاير من عينيه ، يشير للجميع ، فيجلس الأمراء والنبلاء وكبارالقوم من حكام المدن ورجال العرش ، وقادة الجيوش والمحاربين العظامأولاً ..
ثم يجلس التجار الأغنياء ورجال كبار العائلات بالمملكة، لكن العامة يبقون واقفون، ولا يسمح لهم بالجلوس في حضرة الفرعون الإله، وكبير الكهّنة وعليَّة القوم .. نهض الملك ضارباً ركبتيه بكلتا يديه ، فنهض الجميع..الغيظ يتملكه ، بل يكاد الشرر يتطاير من عينيه..
بينما يأتي صوته مزلزلاً الأرض من تحتهم جميعا هزّ قلوبهم ويكاد يعصف بهم قائلاً:
- اليوم عصاني الفرعون الصغير ولي العهد" حور محب"... ولي عهدي وأمير المملكة والإله القادم لحكمكم من بعدي..
إنه يرفض طاعتي في أمورٍ تختص بالحكم ... في واحدةٍ مننوادر تاريخ أسرتنا العريق ، ثم هرب بعيداً واختفى ، ترك القصرالملكي ، ولا نعلم عنه شيئا ..
فلتبحثوا جميعاً عنه - لابد من القبض عليه ومحاكمته وسحب قلادة المُلك منه - فهو عاصٍ يستحق العقاب ...
اشهدوا فمن الآن لم يعد أميراً أو ولياً للعهد ، ولم تعد له طاعة عليكم .. يجلس ، جلسوا ..
انتفض متجها إلى كبير الكهنة : " سامو رابي " مٌر جميع الكهنة أن ينزعوا بركاتهم عنه ، ويصبٌّوا لعناتي عليه فورا هيّا ومعكم كل أفراد الشعب من العامة وعليّة القوم على السواء ..!
أشار إليهم " سامو رابي " قائلاً :
انزعوا بركاتكم عن الفرعون الصغير ، وأطلقوا لعناتكم عليه ، فـ " حور محب " عاصٍ للملك الإله ..
تمرد على " حور تاب " ملك الملوك فأغضبه ، فهو يستحق اللعنة التي ستنزل به من صلاة الكاهن الأكبر " سامو رابي " والكهنة العٌبّاد وأشد أنواع العقاب ...
عند ظهوره وعودته راكعا تحت قدمي مولانا الملك الفرعون الإله نادما على فعلته الشنعاء ..
سيعود صاغراًَ إلى القصر ، ربما سينظر الملك بعد ذلك في أمره من جديد هل يسامحه أم .. لا..؟ وهل سيعود ولياً للعهد من جديد أم لا .. ؟
وإنّا هاهنا لمنتظرون ...!!
وقف الجميع واجمين، ثم خرُّوا رُكَّعاً للملك الإله، سجدوا، صبوا جام غضبتهم ولعناتهم على " حور محب " العاصي للملك الإله، ثم انتهوا، فقاموا يَلُفُهم الحزن والألم لفقدهم مليكهم الصغير..
حتماً ستصيبه كافة اللعنات وغضبة الفرعون الإله ..!
***
" حور محب " وصدمة المرور في السوق
للمرة الأولى يخرج الفرعـون الصغـير من القصر الملكي سائراً علىقدميه في الطريق بمفرده ، وبلا حرّاس..
تقوده رجلاه إلى سوق مدينة فيدخله متنكرا لا يلتفت إليه أحد ولا يعرفه أحد ، كان من يرتدون زيّه الحريري كثر من الأمراء والتجار ممن اعتادوا التجول في السوق للبيع والشراء ...
أرهقه المسير ، فركن إلى جدار مهدَّم عند مدخل السوق ، وعلى مقربة منه بعض العامة اللذين يتبادلون حديثا مريرا مع رجال الكهنة والحراس المنتشرين بالسوق يجمعون المكوس ويحرسون التجار من المجرمين والمغيرين السارقة ..
بأمر الملك الإله ادفعوا المكوس المفروضة عليكم جميعا ، تلك التي قررها الفرعون ولا راد لأمره ..
يا رئيس الحراس .. ليس لدينا ما يكفي من المال لدفع كل ما تطلبون من المكوس الجديدة ، فنحن لم نبع شيئاً بعد ..
إذن فلتخرجوا من السوق مغضوباً عليكم من الملك الإله والكاهن الأكبر ، بل وكل الكهنة العُبّاد أيضا..
لماذا كل ذلك .. نحن لم نبع شيئا بعد ، وليس لدينا نقود تكفي ما تطلبون ، هذا ظلم وافتراء ..
ظلم وافتراء .. هل تعترضون على أوامر الفرعون الملك .. إلهكم الذي يرعاكم برضاه ويحرسكم وأموالكم وأولادكم ، ويمدكم بالصحة والقوة ويملأ دياركم بالخيرات من المال والبنين والزوجات الجميلاتالصالحات ..
إنكم ناكرون للجميل لا تستحقون العيش تحت ظلال الملك الإله ، وربما تعترضون على مكوس المعبد وكبير الكهان " سامو رابي " ، فهو من يبارككم ويتوسط لكم لدى مولانا الملك الإله كي يرضى عنكم ..
وربما تعترضون على مكوسٍ قد فرضناها عليكم لنا نحن الذين نحرسكم من قطَّاعِ الطرق والسارقة ، لكنكم يبدو أن الجحود قد ملأكم ونكران الجميل لأسيادكم صار نهجكم، فلابد أن نعيدكم إلى رشدكم ...
ثم ينهالوا عليهم بالضرب والسباب ، وأخذوا منهم الذرة والقمح وباقي الغلال التي أتوا ليبيعوها ..
ثم طردوهم من السوق بعد أن قاموا بتهديدهم بالسحل والجلد في غياهب السجون إن عادوا ثانيةً لأرض السوق للمتاجرة بلا تسديد المكوس المفروضة عليهم ..
ينصرف العامة ، وهم في غاية الحنق على اللصوص من البصاصين والحرّاس ورجال الكاهن الأكبر .. ينعون حظهم العاثر الأغبر الذي أوقعهم في أيد من لا يرحمون من البشر ..
بينما تقف مجموعة من الرجال على مقربة من الفرعون الصغير تتبادلالحديث همسا ، فيقولون :
هل يعلم الملك الإله بما يفعله بنا هؤلاء الرجال اللصوص .. أم أنه فقط مهتم بمنفٍ وطيبة وكرسي العرش ؟
بالطبع يعلم .. أليس البصاصون والحرّاس من رجال الملك الفرعون ؟
والكاهن الأكبر .. هل يعلم ما يفعله رجاله من تشويهٍ لسمعته وصورته أمام الناس في كافة أرجاء المملكة الفرعونية ومقاطعاتها ومدنها .. أم أن تركيزة فقط منصبٌ على جمع المال وبناء القصور فقط .. ؟
أقسم أنني لا أجد قوت أولادي ، تركتهم وهم يتضوَّرون جوعا بالمنزل ، وزوجتي المريضة أشرفت على الموت وليس معي حق الدواء – كاهن المعبد - يريد أموالا طائلة كي يقدم لها الدواء ويباركها ببركة الفرعون الإله " حور تاب " ، لكني لا أمتلك ما يطلبه – يبكي بحرقة ..
لا تبك يا رجل ، يمكنك أن تشكوه للكاهن الأكبر ..
الكاهن الأكبر هو من وضع تلك الأسعار لعلاج الأمراض ..
إذن يموت الفقير .. لا طعام .. لا دواء ..!
يتدخل الفرعون الصغير :
قدموا شكواكم للملك الإله ، ربما لا يعلم شيئا عن كل ما تعانونه من ظلمٍ واضطهاد ..
لا يعلم شيئا .. إذن هو غافل عنّا .. نحن رعيته كلنا مسؤولون منه.. تركنا للكاهن اللص والبصاصين الحمقى ورجالات الوزير الفُجَرِ ومن لا يرحمون .. لقد كان الإله " حابي " أفضل منه .. إنه لا يستحق أن يكون الملك الإله علينا ..
أنت مجنون يا " سيزوي " هل تدرى عمن تتحدث يا رجل .. لا تذكر الفرعون الإله بسوء ، نحن بحاجةٍ إليك يا ولدي ، فأولادك ما يزالون صغارا وفي أشد الحاجة لمن يرعاهم ، وأنت تعلم يا ولدي أن من يدخل السجون الملكية لا يعود؟
لا يا أبي أنا لست مجنونا ، لكني ربما أجن قريبا جدا .. لا الملك الإله يحمينا ولا نستطيع حماية أنفسنا من هؤلاء المجرمين..
اهدأ يا بني .. أنت تتحدث أمام الغرباء بأحاديث لا يرتضيها أحد ..
أية غرباء يا أبي ، لم أعد أعبأ بأحد .. الموت بأيديهم في السجون أرحم من رؤيتي لأولادي يموتون جوعا أمام عينيّ وأنا أقف عاجزا لا أستطيع أن أفعل لهم شيئاً..
الصبرُ طيب يا بني ، فربما يأتي الفرعون الصغير " حور محب " من بعده بقلبه الرحيم فيـ..
" سيزوس" مقاطعا : قلبه الرحيم .. من قال لك أن الفرعون الصغير قلبه رحيمٌ يا أبي .. إنه يعيش رغد العيش ولا يشعر بأحد .. ترى لو أنه أحس بالجوع يومين .. هل يحس بعدها بأولادي الصغار وهم يتضورون جوعاً .. ويتلقفون الطعام فقط في أحلامهم ..؟
ينظر الفرعون الصغير إليه والحزن يعتصر قلبه قائلا :
أنا منكم أشعر بكم وأحس بآلامكم ..
يلتفت الجميع إليه ،يسألونه في خوفٍ وهلع ..
من أنت أيها الشاب ؟
أنا منكم .. أعيش بينكم ، وأعاني مثلكم ..
تعاني من ماذا وأنت تلبس الحرير، وتبدو عليك الإمارة والغنى الفاحش يا رجل ، فأنت من النبلاء أو من التجار الأغنياء.. أليس كذلك ؟
لا أنا منكم .. أقسم لكم ..
تقسم .. تقسم بماذا ؟
أتريد أن تقسم بعزة الفرعون الإله، أم بأجدادك القدامى؟
أم تريد أن تقسم بحياتنا نحن عامة الشعب الجوعى والشحاذين ..؟
يضحكون منه ساخرين .. ينظرون إليه في عجب ، ثم يتركونه ويبتعدون..
يجلس على الجدار المهدّم حزينا ، يفكر في كل ما رأى وما سمع .. يسائل نفسه :
هل يا ترى إن جُعتُ يومين..
أأشعر بالأطفال الجوعى.. ؟
وإن ظُلِمتُ ..
أأشعر بالظلم الذي يعيشونه ..؟
ولو أهنت ..
هل سأحس ساعتها بالدونية التي يحسونها طيلة حياتهم والذل الذي يحيونه تحت حكمنا ..؟
يا لـ ظلمٍ الإنسان لأخيه الإنسان – ظالمٌ أنت يا أبي – ظالمٌ أنت يا كبير الكهّان .. ظالمٌ أنا .. أقسم أني ظالم ..
يدور حول نفسه باكيا .. يسقط خلف الجدار مغشياً عليه بعيدا عن كل العيون ، يروح في سبات عميق ..
***
ذيوع الخبر داخل المملكة
في صباح اليوم التالي .. تسرب الخبر إلى جميع الصحف:
ذكرت الصحف القومية :
أن الفرعون المتمرد هرب من القصر والمعبد كي يتعلم السباحة ضد التيار ، فهو ما يزال شاباً غير متمرس في الحياة السياسية وأمور الرعية ، وغير مدرك للأمور الجادة في شئون المملكة ..
وقد حار معه حكماء القصر ، لكنه غير مطيع لحكمه ، لذا فقد اغتر بنفسه ، وأخذته ثورة الشباب وطلب موافقة الملك الإله " حور تاب " على بناء هرم بين فرعيّ النيل ، على أن يقوم بالبناء أعظم المهندسين الشبان في المملكة الفرعونية ..
ألا وهو صديقه المهندس " سفراي " ليخلد ذكرى والده الإله وذكراه أيضا ًبين ملوك الأسرة العظام ..
حين رفض الملك خوفا على مصلحة شعبه ، وأعلنته الحكومةبأن الميزانية لا تسمح بهذه التكلفة العالية.. استشاط غضباً معترضا علىالقرار بصورةٍ غير لائقة ، فثار عليه الملك وقرر عقابه ، حينها فرَّ هارباً بعيداً عن وجهه ..
لكنه قريباً سيعود إلى رشده وحظيرة الفرعون الملك الإله مطيعا متذللا معتذراً للجميع .. والده الملك الإله " حور تاب " وكبير الكهنة والعبّاد " سامو رابي " والحكومة والشعب الفرعوني بأكمله ..!!
وتحدثت صحف المعارضة باستفاضةٍ مؤكدة أن كل ما ذكرته الصحف القومية أكاذيب وتضليل ..
الفرعون الصغير هرب ثائراً معترضاً على ارتفاع الأسعار بشدة ، حتى أن الفراعنة الغلابة لا يجدون قوت يومهم ، ولا يجدون الدواء المناسب لشفائهم من الأمراض التي انتشرت بكثرة ، لإهمال الطب في هذه الفترة ..
كما أنه يرفض المكوس الجديدة التي أثقلت كاهل العامة الذين لا يجدون ضرورات العيش ولا يلبسون إلاّ الخشن من الثياب ، بينما يعيش الحكام و الكهنة والنبلاء في رغد .. يأكلون الطعام اللذيذ ويلبسون الملابس الحريرية ، ويسكنون القصور ويحيون في ترفٍ ...
يقيمون الحفلات و أفخم الموائد ، فهو يطالب بحقوق المساكين بعيداً عن الجوع والعرى ؛ كما نادى بالقضاء على المحسوبيات والرشاوى ..
الفرعون الصغير يمتلك ضميرا ، وحساً بشعبه ، لذا اعترض بشدةٍ طالبا العدل والمساواة بين جميع رعايا المملكة من كبار القوم والفراعنة المساكين ، فنهره الملك الإله بوقيعةٍ من الكاهن والوزير ..
تهوّر ولي العهد وأخطأ في الذات الملكية متجاوزاً كل الحدود ، لم يطق الإله فأمرهم بالقبض عليه وسجنه وتعذيبه حتى يعود إلى رشده – غير مراعٍ أنه ابنه وولي عهده ..
فأسرع الفرعون الصغير " حور محب " هارباً بحثا عن الأمان المفقود وحرية الرأي ، إنه ولي العهد ولا يسمح له بالكلام ، فكيف حال العامة من الشعب ، فر بعيداً بحثاً عن الحريَّة ، ربما يجدها في العالم الثالث بعيدا عن عالمه الآخر .. ربما..!
بينما أكدت الجرائد الصفراء:
أن هروب الفرعون الصغير وراءه قصةٌ نسائيةٍ مثيرة .. اكتشف الملك خيانة ابنه وولي عهده مع إحدى زوجاته الفاتنات، أخبره الكاهن الأكبر وكهنة القصر بأن هناك خيانة وتدابير تجرى من وراء ظهره ..
ومن أقرب الناس إليه ، وفسروها له على أنه الفرعون الصغير " حور محب " وزوجته الجميلة الملكة الشابة "سالو راب"، فهي ليست أم الفرعون الصغير .
بل هي قريبة منه في السن وجمالها أخّاذ وفاتنة ، منذ جاءت إلى القصر الملكي كهدية من حاكم " سرت " إلى مولانا الملك الفرعون ، و الفرعون الصغير يحبها وهي تحبه ،
والدليل على ذلك أنها دائمة الدفاع عنه في حضرة الملك الإله " حور تاب " ، وتوافقه دائما في كل أفعاله ، وتصدِّق على كل أقواله ..
كلما ذهبت إلى بلدتها " سرت " ..عادت وهي تحمل له العديد من الهدايا القيمة ، كما أنها لا تخفي حبها له أبداً ، فيبدو ذلك ظاهراً في نظراتها العاشقة الولهة إليه ، وقربها الدائم منه..
وهذه أيضاً صور الملكة الخائنة " سالو راب " وهي ترقص عاريةً في غرفة نوم الفرعون الصغير ، بينما يرتشف الخمر المسكوب على خصرها الجميل ، ثم يتعانقان شوقاً وعشقا ، ويتراقصان في هيامٍ وسعادةٍ غامرة بعيداً عن كل العيون ..
هذه صورته وهو يتناول أعشاب " ألفياجران " والمقويات المسكرات كي يستطيع مجاراتها جنسيا.. و.. !
***
الغيرة سلاح ذو حدين
استأذنت على الملك في المثول بين يديه ، وخاطبته طالبةً منه - أن يغفر لابنه وولي عهده هذه السقطة مع الفاجرة الجميلة ...
معللةً ما حدث من ابنها مع تلك المرأة السائبة التي لا تستحق أن يكرمها الملك الإله كواحدةٍ من زوجاته المصونات - بسبب صغر سِنِّه ، فهو في فترة المراهقة وبداية النضوج .. وبأن " سالو راب " هذه الفاجرة الشريرة متمرسة في شتى الأمور التي تجذب شاباً مثل الفرعون الصغير..
فهي منذ قدومها تسعى دائما وراء ابنها ، بعيدا عن عيون الملك ، محاولةً إغراءه بجمالها الأخّاذ ومعسول حديثها العذب ، فهي حيّةٌ رقطاء يجب قتلها والخلاص منها، نجحت في الوقيعة بين الملك الإله وولي عهده ..
أشار إليها الفرعون الإله في ضيق أن تسكت ، فقد استشف منها كيدا ودسيسة مع " سامو رابي" كبير الكهنة ، فهو يعلم كرهها لـ "سالو راب " لأنها أجمل منها صورةً وأصغر منها سناً ..
كما أنه يفضلها على جميع زوجاته وجواريه منذ قدومها إلى طيبةٍ قادمة من " سرت " مدينة الملائكة التي تمتلئ بالخيرات والفتيات الحسان ..
الملكة " هتحور " تعلم بالطبع مدى عشق الملك الإله لزوجته الجميلة الصغيرة ذات الثمانية عشر ربيعا ، فهو يحبها أكثر من الملكة " هتحور " وهي أم الوريث وولي العهد والابن الأوحد للملك ، بل ويفضلها على جميع نسائه الأخريات ؛ فهي ناعمة رقيقة ، عذبة الحديث ، فاتنة الجمال ، بياضها كالثلج ، عيناها تلمعان صفاءً
بخضار الربيع ، وخداها تتنديان بلون الورد الأحمر ، وبشرتها ناعمة كالحرير .. يا لها من فتاة .. ليتها لم تحضر.. ليتها ترحل إلى بلادها ولا تعود أبداً ..
الملكة " هتحور " تتمنى ذلك ، لذا تريد التخلص منها ، ولم تجد المساعدة إلاّ من الشيطان الأكبر كاهن المعبد ...
فهي تعلم أن هناك ضغينةً يحملها كبير الكُهَّان نحو " سالو راب " بينها وبينه بعض المشاحنات والخلافات منذ الاحتفال بعيد وفاء النيل ...
فقد اختيار الكاهن الأكبر " سامو رابي " إحدى جواريها الخواص " ثيرانتور " وهي فتاة رائعة الجمال؛ طلبها لنفسه منها ، فرفضت أن تمنحها له لينالها ...
فاستغل عيد وفاء النيل ، وأسر مكيدته فقط للملكة الأم ، كي ينال رضاها، حين طلب الجارية الجميلة
علنا في حضرة الملك الإله ليلقيها أضحية للنهر العظيم – إنها نبوءة رآها في نومته بالمعبد الجنائزي في تلك الأمسية السابقة ليوم الوفاء ، كي يغمر المملكة بفيض الخيرات والماء والطمي الذي يثري الأرض ويجعلها تضخ النماء في كل الأرجاء ..
لكنها رفضت بإصرار أن تذهب " ثيرانتور" أغلى جواريها وأجملهم ضحية غدر الكاهن الأكبر ، وأقنعت الملك الإله بخطأ الكاهن الأكبر في النبوءة بأضحية وفاء النيل ، فطلب الإله من الكاهن الأكبر أن يعيد النظر في الأضحية حتى لا يغضب مليكته الجميلة.
فاختزنها لها الكاهن الأكبر وقرر الانتقام منها متخذا فرصة هروب الفرعون الصغير " حور محب " من القصر، ودفاعها عنه وحبها البريء له ذريعةً أمام الملك الإله ليوقع بهما معا وينتهي أمرهما في آنٍ واحد ..
ربما يخلو الطريق له ، فيعود بعدها طالبا " ثيرانتور" جارية له يهبها له الملك ، كما يتطلّع دائماً إلى السيطرة على المملكة بعد رحيل الفرعون الإله ، وربما بفعل فاعلٍ إلى العالم الآخر ، ليقفز على كرسي العرش ، فلا ينافسه أحد ..
لكن الملكة الأم - لم تكن تعلم أن هذا الكيّاد الماكر ينوي الخلاص من ابنها أيضا ، فاستفاقت للمكيدة التي دبرها هذا الشيطان ، وذهبت إلى الفرعون الملك تستسمحه، وتحاول أن تلقي باللوم كله على غريمتها ...
لكن الفرعون الإله يدرك غيرتها تماماً ، ويعلم أيضاً مكيدة الكاهن ، فلم تفلح ، ولن تفلح إذن أبدا .. جرّت قدميها الثقيلتان عائدة إلى مخدعها كسيرة الخاطر مهمومة الوجدان .. لا تدري ماذا تفعل كي لا يظهر اشتراكها في هذه المؤامرة الدنيئة ؟
وكيف الخلاص لابنها ولي العهد بعد الذي كان من كبير الكهنة المجرم في حياكة مؤامرته بإحكام شديد ، لذا فإنه إذن من أوغل قلب الملك الإله على ابنه ولي العهد ، كي يفضح أمره بين الجميع .. سحقاً له من كاهن ..؟
***
الخبر في عرض الأرض
التفت الفرعون الصغير يتابع أخباره على القنوات الفضائية أيضاً ، انتشرت أخباره في عرض الأرض ، فقد عرف بهروبه القاصي والداني من البشر ، منها الأخبار الصحيحة ، وأكثرها أخبار كاذبة ..
عاد يجلس وحيداً في إحدى المغارات المغلقة من آلاف السنين بعيداً عن عيون الجميع..!
حل الظلام حوله كثيفاً، بينما تعلن إحدى القنوات الأجنبية القصة الحقيقية في هدوء :
بالأمس زارت أميرة الثلوج المعبد الملكي ، تسمرت قدماها عند التمثال الصغير، أظهرت إعجابها به وبقلادته الذهبية ..
الأميرة سحرت قلب الصغير حين تزينت بمزايا الألفية الثالثة .. مدت يدها الرقيقة ، مسحت صدره وقلادته، لمعت عيناها بقوةٍ ، وسال لعابها غزيراً ، لكنهم أجبروها على الرحيل .. انصرفت ودموعها تمتلك مقلتيها وقلبه الرقيق وقلادته أيضاً..!!
حاول التمثال الصغير أن يلحق بها ، فمنعته الحرّاسة الملكية وتفجرت مشكلته الكبرى مع الملك ، أمره الفرعون الإله بنسيانها والابتعاد عنها ، وعدم ذكرها البتة حتى ولو بينه وبين نفسه ..
أعلن عصيانه المباشر وتمرده على رأي أبيه الملك الذي ثار عليه ، وقرر أن يذيقه أشد العذاب ، وأن يسجنه في قصر النسيان ، هرب من جحيم أبيه الإله بحثاً عن الأمان وأميرة الثلوج …!
***
القوى العظمى والغجرية الشجاعة
أعلنت القوة العظمى لعالمنا المعاصر:
أن الفرعون الصغير خارج عن القوانين والأعراف الدولية .. إنه إرهابي خطير جدا وخائن ، عدوٌّ للبشرية جمعاء ...
حاول اغتيال أميرة الثلوج بالأمس القريب ليحرم البشرية من أعمالها الخيرية والتمتع بجمالها الأخّاذ ..
من يقبض عليه له جائزةٌ ماليةٌ كبرى ووسام الشجاعة من الدرجة الأولى ، وفي حال عدم قدرة الفراعنة في السيطرة على الموقف وتسليم الفرعون الإرهابي في أسرع وقت ستضطر آسفةً للتدخل وإرسال قواتها للبحث عنه والقضاء عليه قبل أن يستفحل خطره ويزداد أنصاره من الإرهابيين والفراعنة القتلة ..
وحتى لا يبدأ في السيطرة على المملكة شيئاً فشيئا ، ثم يحتل المملكة ويلغي دور الفرعون الإله ، وربما يقتله أو يسجنه مدى الحياة ، كي لا يشاركه أحد في الحكم الغير ديمقراطي الذي يسعى إليه الفرعون الصغير ، ثم يتجه لدول الجوار فيؤلب الشعوب على الحكام ، ويشعل نار الفتنة في الشرق الجديد بأكمله ..!!
سمع كل ذلك ، ابتسم ، لم يعيه جيداً ، فلم يعره التفاتاً .. أشاح بوجهه المستدير إلى الجانب الآخر.. تمدد فوق تابوته غير آسف على شئ ، أخذ يحلم بعينيّ أميرة الثلوج من جديد ، ربما تعود إليه ثانيةً في الصباح..!
ضوضاء عالية خارج المعبد ، ينظر الفرعون نحو الباب ، فتاة غجرية تخترق عليه وحدته ، تدخل ، تغلق الباب بقوة ...
يبدو عليها الخوف الشديد ، ترتعش ، تجفل بشدة عندما تراه ، تتجه نحو الباب بتردد ، يشير إليها بالرجوع .. تنظر إليه في شكٍ وريبة ، يجلس على تابوته من جديد ، تشعر بالطمأنينة بعض الشيء .. يبتسم ويشير إليها بالجلوس ، تقترب ..
- ما اسمك ؟
- " خيتا " الغجرية..
- لماذا تهربين وممن ؟
- تصمت ، ولا ترد ، لكنها تتشجع وتسأله:
من أنت ؟
إن صورتك ليست غريبة علىّ ،
ولماذا أنت هنا ؟
- أنا .. ألا تعلمين من أكون أيتها الغجرية.. ؟!!
- لا.. لا أعلم ، فمن تكون ؟
- سوف ألقي عليك سراً .. ينبغي صونه والحفاظ عليه مهما حدث ، أنا ..الفرعون الصغير .. ولي العهد ..
- " تضحك بصوتٍ عالٍ ".. أنت كاذب ، وربما تحلم بأنك الفرعون ولي العهد ..
- يفغر فاه ويحملق فيها مستغربا جرأتها .. ماذا تقولين..؟
- أنت كاذب .. هكذا قلت – ما الذي يأتي بالفرعون ولى العهد إلى مغارة كهذه ، وبدون حرّاس ، هذا ضرب من الخيال ..
وماذا تريدين مني أن أفعل كي تصدقي أيتها الغجرية " خيتا " أنني الفرعون بشحمه ولحمه ؟
تريني خاتم الملك ..
هذا حل سهل ..
يمد لها يده التي بها الخاتم ، تمعن النظر في خاتم الملك في ذهول ، تمسح الخاتم بإصبعها جيداً لتتأكد منه ، تزداد ارتباكا وتخر ساجدة نادمة تحت قدميه قائلةً :
أعتذر لك يا مولاي لسوء أدبي وغلظة حديثي معك ، أرجو أن تسامحني ، وتغفر لي خطيئتي ..
يبتسم ، يسحب يده من بين يديها الرقيقتين ، ثم ينهضها بين يديه قائلاً : لا تعتذري ، يبدو أنكي هاربةً من شئ ما، وأنا أيضا هارب من أشياءٍ كثيرة ، فالحال واحد والفجيعة أيضا تبدو كبيرة ..
- لا يا سيدي أنت الفرعون ولي العهد والإله القادم ، فما الذي يدعوك للهرب وعدم مواجهة المواقف مهما كانت ..
- كبير الكهنة والملك الفرعون الإله وأميرة الثلوج وغضبة أمي الملكة ونقمة الكبار ، وغيرها الكثير من الأمور الأخرى التي لا مجال لها الآن..
- كل ذلك أنت تستطيع يا مولاي أن تتصرف فيه ، وتسيطر على أمورك وتعود إلى مملكتك ، ويعود كل شئ كما كان – لكنني لا أستطيع العودة إليهم ، فسوف يقتلونني..
- من الذي يسعى لقتلك ، ولماذا ؟
- إنه ابن عمي أقوى رجال الغجر وزعيمهم الفتاك .. إنه يريد أن يقيم طقوس الزواج بي غدا ، وأنا لا أريده أبدا ..
- وماذا حدث ؟
- أبلغ القوم بموعد الزفاف رغما عني ، وبمباركة أبي كبير الغجر ، وبموافقة كبير الكهنة بمعبد الغجر..
- أيضاً كبير الكهنة ..
- نعم .. إنه رجل فظ شهواني ، حاول استمالتي من قبل والانفراد بي ، لكني رفضته ، فاستشاط غضبا ، وأوعز إلى ابن عمي بأني سيئة السمعة ولابد لي من رجل يحتويني من عيون العامة من الناس ، ولابد أن يتزوجني هو لأني أجمل بنات الغجر وهو أقوى رجالات الغجر وهذه بتلك ، وحينما اعترض أبي على مشورة الكاهن لابن عمي ، قام بحرق منزلنا ، فالتهمت النيران أمي وعمل على تشريدنا وطردنا من القرية كلها ، فمات أبي كمداً ، وعندها زاد إصراره على الزواج مني رغماً عني .. والمصيبة الأكبر ما بعد هذا الزواج إن تم ..
- أية مصيبة ؟
- لقد أقنعه الكاهن بأن يتركني عنده لأخدمه وألبي مطالبه ، وقد وافق ليحوز رضاه ويباركه في كل ما يفعله بالغجر من القتل والتهديد وسلب أموالهم وغيرها من جرائم يشاركه فيها كاهن المعبد ..
- كل ذلك يحدث في قوم الغجر ، لكنك لم تخبري البصاصين أو رجال الفرعون الإله ، فيقبضون عليهما ويأخذان جزاءهما لما اقترفت أيديهما من أفعال شائنة ..
- من قال لك يا سيدي أنني لم أبلغ رجال الفرعون بكل ما حدث .. لقد أبلغتهم بكل شئ ، لكنهم تضاحكوا علىّ وصموا آذانهم ولم يصدقوا مقولتي ضد الكاهن العابد وابن عمي زعيم الغجر الذي يخافونه أيضا
ويحسبون حسابه ، علاوة على الرشاوى التي يقدمها لهم في شكل هدايا من آنٍ إلى آخر ..
يظهر الضيق على الفرعون الصغير ، يضرب التابوت بقبضته غيظا متسائلاً :
رجال المملكة يخشون غجري ويقبلون منه الرشاوى ، وكاهن مذنب مخالف لأوامر الإله بتحقيق العدالة في المملكة ؟ إذن على مملكتك السلام يا أبي .. لقد انتهى عصر العدل .. و ..
قاطعته الغجرية قائلةً :
عدل .. أي عدل يا مولاي .. إذن أنت لا تدري أن الظلم يعم المملكة والشعب يئن من الجوع والتعذيب وسيطرة الحاكم الظالم في كل مقاطعة ..
إنكم إذاً غافلون يا مولاي ، فالكهنة يحكمون الناس بالحديد والنار ، ويكممون الأفواه بالتعذيب والسياط ، كل ذلك بعلم الوزير ومساعدة رجاله .. العدل كلمة نسيناها يا سيدي ، ولا حق لنا فيها نحن الفقراء ..
يصمت مطرقاً إلى أرض المعبد الرملية ، واضعا يديه على وجهه ، غير مصّدقٍ لما سمع ورأى في السوق أو من الغجرية ..
بينما يولد الفجر من رحم الظلام .. تنظر إلى الفرعون مشفقةً في سخرية قائلة : أيها الفرعون :
ترى .. لو انقلبت دهاليز الكون ، وأشرقت الشمس يوماً من الغرب ، فكيف يكون غروبها آخر النهار؟
ولو اختلط اللبن بالتراب ، فهل يعود صافياً من جديد ؟
ولو استسلمنا ضد فسادكم أنتم ورجالكم، فهل يبقى هناك عدل ؟
ولو قتلتمونا مئات المرات ..
هل تبقون على كراسيّكم أبد الدهر ؟
سحقاً لكم .. حكومةٌ ظالمةٌ ، وشعبٌ جبان ..!
أشاحت بوجهها بعيد عنه ، ثم تتقدم في شجاعةٍ نحو باب المعبد وتخرج إلى الباحثين عنها مفضلةً ترك الفرعون الغافل فاغراً فيه ، غارقا في همومه التي يعتقد أنها هموم الكون كله ..
بضع لحظاتٍ تمر ، يتسرب خبرها إلى أذنيه ، قتلها زعيم الغجر لرفضها الزواج منه علنا أمام الجميع ، بمساعدة رجال الكاهن عبد الشهوات ..
يهمس لنفسه قائلاً :
غجرية أشجع منى .. تقاوم وتجابه الموت من أجل رفضها أن تكون سلعةً يتلاعب بها – الأقوياء الأغبياء والكهنة المرتشون .. اللعنة على الكهنة هم سبب الفساد في كل أرجاء المملكة ، اللعنة على الظلم في شتى صوره ..
فجأة يخترق أذنيه خبر طائر – أميرة الثلوج ستعود صباحاً في حراسةٍ مشددةٍ من الكوماندوز للبحث عن الفرعون الإرهابي ، والخبراء جميعاً ينصحون بالتروِّي وضبط النفس..
لم يعي شيئا مما سمع ، نسي أمر الغجرية المقتولة والشعب المقهور إبان حكم أبيه ، ومن يدري منذ متى القهر والظلم ، فربما أيضاً من عهود أجداده السابقين ..
لكنه أبداً لم يهتم ، نسي كل شئ ، ما يزال ينتظر متلهفاً مشتاقاً في قلقٍ وترقب..!
***
عودة اللصوص ، واللص قوةٌ عظمى
لا يهم ، فهي لم تأت بعد .. كان الجميع يبحث عنه، لكنه لم يعبأ بهم ، فليذهبوا جميعاً إلى قلب الجحيم…!!
سكرات الموت تسيطر على جسد النهار الهزيل ، بينما يأتي الظلام من بعيد يحمل أنفاسها المعطرة إليه ، تقترب .. قلبه يدق ، تقترب أكثر.. يدق قلبه أسرع ، تظهر أمامه في ضوء القمر.. يتلألأ وجهه كثيراً ، تتحسسه في رفق .. يزداد قلبه اشتعالاً ، بينما يبدأ الحفر من تحت قدميه..!
اللص " ماثاو " يحفر بهمة ونشاط ، يتعثر فأسه في أوصال أحد جدودنا ، يمزقه ، ويلقي ببقاياه بعيدا بحثا عن الذهب المدفون في التوابيت ، انه يكسِّر عظامهم ، ينتهك حرمة أجدادنا بلا روية ..
لم يشعر بما يسري في بدنه من قبل .. أمسكت رأسه بين كفيها ، يغمض عينيه هائماً .. تحتضنه ، ينغمس برأسه الحجرية بين نهديها ..
رعشةٌ تسكنه ، ولذة الجسد الدافئ تلهب الحجر اشتعالاً ، فينسى عالمه الآخر ، ويتوه في العالم الثالث ، بينما الحفر لا يزال مستمراً بعمقٍ تحت قدميه…!!
يشعر بهزةٍ عنيفة.. يفيق.. تنظر إليه ، يحملق فيها.. ليست نظرتها.. تنطق شفتاها :
"وجهٌ من حجر وقلادة من ذهب .. يا للعجب..!" ليس حديثها..
الرمال تغربلت من تحته ، غاص بعيداً في باطن الأرض ، يعود إليه كابوس الماضي ، الحراس يكبلونه بهمةٍ ، ويقيدونه من أخمص قدميه ، وحتى أسفل رقبته بالسلاسل الحديدية الغليظة ..
يحاول أن يفتح عينيه ، يزيل بقايا الرمال التي اندثرت فيهما .. يتأملها مشدوهاً ، والآخرون معاولهم حادة جداً تحطم جسده ، وخناجرهم تمزق حرمته ..
يحاول أن يصرخ .. يختنق صوته بداخله ، تمد يدها إلى قلادته الذهبية ، تجذبها في عنف ، تفشل .. تغرس معولها في رقبته ، يتلوى من الألم .. تضغط بقوّةٍ ، يتبادل ومعولها الصرخات ..
تتفتت عظامه ، ودماؤه تنبعث من جديد .. تقتلع قلادته ، تزيّن بها صدرها الفضيّ .. تضحك في سعادةٍ غامرة ، تخرج من المغارة ، تتملكها نشوة الانتصار .. تعانق عيناها السحب وقمم الأهرامات ، تطلق ضحكةً عاليةً تشق عنان السماء…!
يصرخ أحد المدثرين تحت الأنقاض قائلا ً:
" ماثاو " لص صغير .. يعلم الجميع أنه لص، وأميرة الثلوج سارقة أيضا ، لكن وراءها حارس يحميها من أصحاب الحقوق ، لكن اللص الدائم .. لص أكبر ، يبتلع أنفاسنا قبلنا ، يعمِّق جراحنا ، يغتالنا وأطفالنا ، حتى أحلامنا يستكثرها علينا.. اللص قوةٌ عظمى ..
***
أحقاً هناك نـهاية.. ؟
القبض على الفرعون الهارب بعد قتله في معركةٍ شرسةٍ مع الكوماندوز تحت قيادة الجنرال البارع المسمى بأميرة الثلوج ..
اقتحم الخبراء الموقع بعد حصارٍ شديد دام طيلة الليلة الماضية وصراعٍ مسلح ، تم فيه تبادل إطلاق النيران وعلى كافة الأصعدة ، واستخدمت كل الأسلحة الممكنة..
وأشتد الصراع مع بزوغ الفجر الجديد فزادت شراسة الفرعون الإرهابي في المقاومة لفرقة الكوماندوز ، لكن النصر كان حليفنا في نهاية الأمر...
ونحن نتقدم بمزيدٍ من الحزن والأسى ، والعزاء الواجب للملك الفرعون الإله على فقده لابنه ، ونشكره لتفهمه وقيامه بتقديم العون والمساعدة لنا ، خاصةً في مقاومة الإرهاب والسيطرة على المواقف الصعبة حتى ولو كانت ضد ابنه ، فمصلحة الوطن وأمنه ، بل والشرق الجديد كله - أهم من رابطة البنوّة وغيرها ...
ونحن إذ نشيد بموقف الملك الإله نحذر الفراعنة جميعا من جراء السير في نفس الطريق المهلك الذي سار به الفرعون الصغير ، وذلك حتى لا يلقون نفس المصير الذي آل إليه ..
بينما ظهرت القائدة الأميرة وهي تشرح لمراسلي الصحف والمجلات والإذاعات والقنوات الفضائية ..
كيف قامت بوضع وتنفيذ خطتها الذكية لتدمير الفرعون الإرهابي ليعم السلام العالم ، بينما كانت ترتدي قلادته الذهبية ، وصورة كبرى للملك الإله خلفها…!!
***
" حور محب " يستيقظ مجددا
- من بالباب ..؟
- افتح يا بني .. أنا أمك يا "حور" ..
- وماذا تريدين يا أمي ..؟
- أصحابك جاءوا للاطمئنان عليك ..
أصحابي .. يهب واقفا ، يشعر بآلام قديمه جداً ، ويحس آلاماً حديثة ، يتحرك ليخرج من باب الغرفة .. يفتحها ببطء ، يرى نفس الوجوه التي رآها في المنام ، يصرخ ، يسقط على الأرض بعنف مغشيٌ عليه...
يحمله زملائه إلى غرفته مرةً ثانية .. يُفيق .. يخبرهم بأنه منذ تلك الحادثة وهو يخرج كل صباح للبحث عن عمل ، ويعود خائبا في آخر النهار ، يخبرونه بأن خطابا من جهة مرموقة قد وصل لجهة عمله يوصي بعودته لعمله فوراً وترقيته درجة أعلى..
يبتسم غير مصدق لما يسمع.. يحاول النهوض.. يقفز عالياً ضاربا الهواء بقبضته.. يحتضن أمه وأختيه..
يصرخ :
يحيا العدل.. يحيا الملك الإله.. يعيش الفرعون الصغير.. ينظر الجميع إليه في دهشة.. يتبادلون النظرات.. تنطلق ضحكاتهم عالية.. يهنئونه وينصرفون..
***
" تمـــــــت "
الفهــــــــرس
م
عنوان ورقة الحلم
الصفحة
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
عودة " حور محب "
" حور محب" يعصى الملك الإله
مظلمة في موكب الفرعون الإله
الاجتماع وثورة الفرعون الإله
" حور محب " وصدمة المرور في السوق
ذيوع الخبر داخل المملكة
الغيرة سلاح ذو حدين
الخبر في عرض الأرض
القوى العظمى والغجرية الشجاعة
عودة اللصوص ، واللص قوةٌ عظمى
أحقاً هناك نـهاية.. ؟
" حور محب " يستيقظ مجددا
الفهـرس
6
21
30
38
44
54
61
68
71
83
88
91
94
تعليق