بسم الله الرحمن الرحيم
الفَحـْـــــــــــــوَى
- الجـــزء الثالــث -
مرَّتْ سنتـَان على وَفاةِ والدِ "عبَّاس" واسْتعَادَتِ الحيَاةُ رَتابَتـَـهَا المَعهودَةَ في كلّ شيء، إلا في شخص"عبَّاس" فقد ظهَرَ مِنْهُ مَا يُوحِي بمِيلادِ رَجُل جَديدٍ مُختلِفٍ ، إذ صار مُعْتـَدًّا بنفسِهِ يَسْفـَعُ (4) بنـَاصِيَةِ أمْرهِ ويَنـْثـُرُ الخَيْـرَ وطِيبَ الأفعَال أنـَّى حَلَّ. فقـَدْ عمَدَ بدْءًا إلى تهْيئـَةِ مَسْجدِ الحَيِّ تهيئة شَامِلة طالتْ كلَّ أرْكانِهِ، ثمَّ أقامَ مَشْغليْن للنّسِيج أَوْكَلَ أَمْرَهُمَا إلى عمِّهِ الخَبير بالمَيْدَان وجَمعَ فِيهِما مِنْ ضِعَافِ الحَال عَدَدًا كبيرًا يتدَرَّبُونَ ويعْمَلونَ في آنٍ، كمَا خصَّصَ جُزْءًا منْ ناتِج المَشْغليْن لِمَنْ لمْ يَحْظَ بفُرْصَةِ عَمَل. وأكمَلَ "عبَّاس" العِقـْدَ بأنْ وَصَلَ مَا تقـَطـَّعَ مِنْ وَشـَائِج قـُرْبَى بَيْنـَهُ وبَيْنَ أخْوَالِهِ وجَدِّهِ لِلأمِّ، فتكفـَّلَ بإتمَام مَرَاسِم الحَجِّ له ولأحَــدِ أخْوَالِهِ، ثمَّ أفاضَ علىَ البقيَّةِ فيْضًا حَسَنـًا ليُمْسِيَ ذا حُظْوَة ومَعِينَ سَعْدٍ لا مَبْعَثَ شُؤْم كمَا كانَ يُنْعَتُ.
وبمَا أنـَّهُ كانَ لا بُدَّ مِنْ اسْتِيفـَاءِ الشـَّرْطِ الأوَّل الذِي قطـَعَهُ، فقدْ اسْتأذنَ أهْلَ والدَتِهِ لخِطْبةِ "سارَّة" بنْتِ عمِّهِ الصُّغْرَى وشَريكتِهِ الأولىَ أوان الغَـــوْصِ السَّاذِج في بَحْر المشَاعِر المُرْهَفةِ، فبارك الأهْلُ مُبْتغاهُ عنْ طِيبِ خاطِـــــرٍ وأقِيمَتِ الأفرَاحُ وتــمَّ الزَّوَاجُ برِضَا الجَمِيع في ظرُوفٍ تبْعَثُ على الارْتِيَاح. وهكـَذا انطلقتْ حَيَاةٌ جدِيدَةٌ مُبَارَكةٌ غمَرَتْ منْ حَوْلهَا، فأحَالتْ ذوي القـُرْبَى من الطـَّرَفيْن إلى تجَمُّع للأواصِـر المَتِينةِ والخَوَاطِر الطيِّبَةِ، وكانَ منـْزلُ العرُوسَيْن ملتقـًى للأحباب يعُــجُّ على الدّوام بالأهْل والخِلان، ولا يكادُ يخْلـُو يـوْمًا منَ المَآدِبِ المنْصُوبَة للضيوف من مُخْتلفِ الفئات ومن شتّى الأصْقاع والأمصار، فذاعَ صِيتُ "عبَّاس" وبَلغَ صَدَاهُ حُدُودًا جعَلتـْهُ حدِيثَ القاصِي والدَّانِي يُذكـَرُ فيُشـْكـَرُ. وتعْبيرًا عن هذا الامْتِنـَان، كانَ بدِيهيَّا أنْ يُطـْلَقَ اسْمَهُ على أغلبِ المَوَالِيدِ الجُدُدِ تبَرُّكا وتيَمُّنـًا بخِصَالِهِ.
لمْ ينْسَ "عبَّاس" في خِضَمِّ هذِهِ التحَوُّلاتِ الكبْرَى التي طرأَتْ على حَيَاتِهِ و مُحِيطِهِ أنْ يهتـَمَّ بشَأن الشيْخ "مصْبَاح"، فقـدْ أكرَمَ وِفادَتهُ عَدِيدَ المَرَّاتِ، وكانَ يَعُودُهُ توَاتـُرًا فيسْتزيدُ منْ نصَائِحِهِ ويَسْتنِيرُ بآرَائِــهِ، وتمَكـَّنَ بفضله منْ وُلـُوج السُّوق منْ أوْسَع أبْوَابهَا، فلم يَمْض وَقتٌ طويلٌ حتىَّ وَضَعَ حَجَرَ الأسَاس لِتجَارَةٍ مُزدَهِرَةٍ قِوَامُهَا الذهَبُ والأرَاضِي الفِلاحِيَّةِ. لمْ يكنْ يُؤرِّقـْهُ في تلكَ العَلاقةِ المُمَيَّزةِ إلا اسْتِحْضَارُهُ لمَوْضُوع الرِّسَالةِ الغامِضَةِ كلّما جَلسَ إلىَ الشيْخ "مصْبَاح"، ولمْ يألُ هذا الأخِيرُ جُهْدًا في تحْفِيـز "عبَّاس" للبرِّ بوَعْدِهِ والنظـَر بعيْن القناعَةِ لِمَا آلتْ إليْهِ حيَاتهُ مِنْ ترَفٍ بعْدَ والدِهِ.
ولمَّا مَاتَ الشيْخُ "مصْبَاح"، حَزنَ "عبَّاس" أيِّمَا حُزْن وحَرصَ على تأدِيَّةِ وَاجبهِ مَعَ أهْل الفقِيدِ فأعَانَ الأبْناءَ علىَ التوَاصُل مَعَ حُرَفاءِ والدِهِمْ ومُزوِّدِيهِ، ولمْ يتـْرُكْ ديارهم إلاّ بعد أن تيقّنَ من فـَهمَ كلٍّ منهُـــــمْ دوْرَهُ وخطَّ سَيْرهِ في السُّوق وفي المَنـْزل.
وعادَ "عبَّاس" إلى سَالِفِ حيَاتِهِ ونشَاطِهِ، يقـُومُ على الخيْر ويَبيتُ على الرَّفاهِ ويزدَادُ قرْبًا منَ النـَّاس، وكمُلتْ أفرَاحُهُ بمِيلادِ بنـْتٍ سمَّاهَا "رقيَّة" تَيمُّنًا باسْم والدَتِهِ ثم أنجبتْ "سارَّةُ" ولدًا خـُلِعَ عليْهِ اسم "مصبَاح"، فضَاءَ البيْتُ لِسَاكِنيهِ وانتشرَتِ السَّعَادَةُ فغمَرَتْ قلـْبَ الزَّوْجَيْن واجتهَدَتْ "سارَّةُ" في توْفير أسْبَابِ الرَّاحَةِ لزَوْجهَا، فكانتْ تُسَارعُ إلى فِعْل ما تعْلمُ أنهُ مبْعَثُ رضًا لهُ، فتـُعِدُّ الأطعِمَة كلَّ يَوْم جُمُعَةٍ وتـُوزِّعُهَا على فقرَاءِ الحَيِّ، ثم تهُبُّ لمُسَاعدَةِ المُحْتاج منْ أهْل "عبَّاس" لأمِّهِ كلّما سَمِعَتْ بفَرَح أقِيمَ لدَيْهمْ أوْ بنائِبَةٍ أصَابتهُمْ. وكانَ "عبَّاس" سعيدا جدًّا بمَا تـُقـْدِمُ عليْهِ زوْجَتـُهُ، يُثنِي على فِعْلهَا ويسْتحِثـُّهَا على المُضِيَّ فِيهِ. ولمْ يَكنْ من جانبهِ يعُودُ بعدَ غيَابٍ طالَ أو قصُرَ، إلا وهَدِيَّةُ "سارَّة" تسْبقـُهُ إليْهَا، فامتلأتْ خزائِنـُهَا بالحُلِيِّ والألبسَةِ وعلِمَتْ أنَّ زوْجَهَا وهَبَهَا أيْضًا قِطْعَتـَيْ أرْضٍ مُبَايَعَة تامَّة دُونَ اعْتِبَار مَا نابَ أهْلهَا مِنْ عَطايَا وهِبَاتٍ.
غيْرَ أنَّ "سارَّة" كانتْ تلحَظُ منْ حِين لآخَرَ شُرُودَ زوْجِهَا، وكلـَّمَا سَألتـْهُ عَن السَّبَبِ يُجيبُ أنَّ مَشاغِلَ التجَارَةِ والعَلاقاتِ الكثيرَةِ تسْري بهِ وتـُعْرجُ فلا يمْلِكُ لِنفْسِهِ سُلطانـًا، ثم ينتَهي عادَةً إلى رَسْم ابْتِسَامَةٍ عَريضَةٍ تعْلمُ "سارَّة" عِلـْمَ اليقِين أنـَّهَا لا تتجَاوَزُ حُدُودَ شفـَتيْهِ، لكنـَّهَا تُؤثِرُ الصَّمْتَ اضطرارا علىَ أنْ تثِيرَ غَضَبَهُ. وبالمُقابل، كانَ هو يألمُ أشدَّ الإيلام لعَدَم الإسْرَار لهَا بمَوْضُوع الرِّسَالةِ، ظـَنـًّا مِنهُ أنـَّهَا إنْ علِمَتْ بالأمْر فسَتشْقـَى كمَا يشْقىَ هُو، فلا مَعْرفةُ فحْوَى الرِّسَالةِ وَاردَة بحُكـْم العَهْـــدِ المَقطـُوع، ولا المُحْتوَى معْلـُومٌ لدَيْهِ لِكيْ يَضْمَنَ توَابعَهُ.
ظلَّ "عبَّاس" على هذِهِ الحَال مَا يَرْبُو عن عشْر سَنوَاتٍ، تهْفـُو أحاسِيسُهُ تجَاهَ "سارَّة" فيَدْنـُو مِنْ البَوْح وإعْلان ما يَشغلـُهُ، ثمَّ مَا يفـْتأ أنْ يترَاجَعَ ويسْتمِرُّ عَضًّا بنوَاجذِهِ على السِّرِّ الدَّفِين. وفِي يوْم منَ الأيَّام عَادَ إلى البيْتِ باكِرًا قبل رُجُوع الأوْلادِ مِنْ المَدْرسَةِ فدَعَا زوْجَتهُ إلىَ الجُلوس أمَامَهُ وقالَ لهَا بلهْجَةِ العَاشِق :
- أيْ حَبيبَةَ الدَّرْبِ وابْنةَ عمِّي الغاليَّة، هلْ شكوْتِ نقـْصًا مَا طِيلة عيْشِنا مَعَ بَعْضِنـَا ؟
انتفضَتْ "سارَّة" وهَاجَرَتْ بنظرَاتِهَا إلىَ وَجْهِ "عبَّاس" كأنَّهَا تكتشِفُ مَلامِحَهُ لأوَّل مرَّةٍ، فالسُّؤَالُ ونبْــرَتـُهُ أقلقـَاهَا وردَّتْ بتعَجُّبٍ :
- "عبَّاس" ... ما خطبُكَ أيُّهَا المَلاكُ الطيِّبُ ؟ أجبْ ولا تكِلـْنِي إلى هوَاجسِي أرْجُوكَ ...
ضَحِكَ "عبَّاس" مِلْءَ شِدْقـَيْهِ واسْتطْرَدَ :
- مالكِ يا امْرَأة ..؟ هَلـُوعَة كعَادَتـِكِ .. هههه .. ألا يَحِقُّ لِي الإطْمِئـْنانُ علىَ أهْل بَيْتِي ؟
- أه ...؟ بلىَ ... لكنْ .. " قاطعَهَا "عبَّاس" مُسْتلطِفـًا :
- لا تخَافِي .. لنْ أتزَوَّجَ عليْكِ .. هاهاهاها .." وقهْقـَهَ عَاليًّا وتبعَتهُ هِيَ دُونَ أنْ تشِيحَ عَنهُ بنظرَاتِهَا المُتسَائِلةِ. ثم واصَلَ حَدِيثهُ وهْوَ يَمْسَحُ دُمُوعًا رَافقتْ ضَحِكهُ : "هاههه ... اللهُمَّ اجْعَلْهُ خيْرًا،.. اسْمَعِي ... المَوْضُوع ومَا فِيهِ أنهُ آنَ الأوَانُ لنـُقِـرَّ بنِعْمَةِ اللهِ عليْنا ونـُؤَدِّي مَعًا فريضَة الحَجِّ .. أفهمْتِ ؟.
هَلـَّلتْ "سارَّة" حتى نفَـرَتْ دُمُوعُهَا منْ عَيْنيْهَا وقفـَزَتْ منْ مَكانِهَا وأحَاطـَتْ زَوْجَهَا بذِرَاعَيْهَا تـُقـَبِّلُ رَأسَهُ حِينـًا وَتحْضُنهُ حِينـًا آخَرَ ثمَّ رَفـَعَتْ يَدَيْهَا فِي تَضَرُّع :
- أحَمَدُكَ رَبِّي عَلىَ مَا وَهَبْتنِيهِ .. اللهُ أكبَرْ .. اللهُ أكبَرْ .. لبَّيْكَ اللـَّهُمَّ لبَّيْكَ .. سَأخْبرُ أمِّي وَأخْتـَيَّ الآنَ ..الآن .. نعَمْ الآنَ ..." وهمَّتْ بالمُغادَرَةِ، فأمْسَكَ "عبَّاس" بذِرَاعِهَا وأوْمَأ إليهَا بالجُلـُوس فلبَّتْ. وعَادَتْ مَسْحَة الجِدِّ ترْتسِمُ علىَ وَجْههِ وقالَ بترَدُّدٍ :
- لا شكَّ أنَّكِ توَدِّينَ مَعْرفـَة مَا يَشْغـَلُ بَالِي بيْنَ الحِين وَالحِين ... لذا قرَّرْتُ أنْ أقاسِمَكِ مَا يعْصِفُ بسَكِينتِي ولكنـِّي أتمَنـَّى عليْكِ ألاّ تدْفعِينِي إلىَ فِعْلٍ ينْسِفُ وَعْـدًا قطعْتـُهُ.
فغـَرَتْ "سارَّة" فاهَا ولمْ تنـْبُسْ ببنـْتِ شفَةٍ، فوَاصل "عبَّاس" حَدِيثـَهُ وأعَادَ علىَ مَسْمعها كلَّ ما حدثَ له بعْدَ وفـَاةِ والِدِهِ، وأتى بالطـَّبْع علىَ ذِكـْر الرِّسَالةِ ومَا خَلـَّفَتْ في نفـْسِهِ مِنْ نـُتـُوءَاتٍ تـُشَتـِّتُ ذِهْنَهُ وتَحْرِمُهُ طَعْم َالكَرَي أحْيَانـًا كثِيرَةً ، وأنْهَى حدِيثـَهُ بِمَا خَلـُصَ إليهِ أخِيرًا منْ قرارٍ رُبَّمَا يَضَعُ حَدًّا لهذا القلـَق الدَّائِم :
- لقـَـدِ ارْتأيْتُ أنْ أسْتـَفـْتِيَ ذوي العِلـْم والحكمةِ هناكَ فِي الأمَاكِن المُقدَّسَةِ لعَلَّ اللهَ يُيَسِّرُ لي سبيلاً أفـُكُّ بهِ النـَّذرَ الذِي قطـَعْتُ وأعْرفُ سَاعَـتئِذٍ مُحْتوَى الرِّسَالةِ الغامِضَةِ فتسْتكِينُ نفْسِي ويَقـَرُّ خاطِري، وهَذا ليْسَ عَزيزًا علىَ العَزيز القهَّار كمَا تعْلمِينَ.
- ونِعْمَ باللهِ ... " قالتـْهَا "سارَّة" بوُجُوم
- وهَذا مَا شَجَّعَنِي أكـْثـَرَ علىَ شَدِّ الرِّحَال هَذا العَامَ للحَــجِّ. فمَا قوْلـُكِ ؟
- الأمْرُ مَا ترَاهُ يَا عَزيزي وليَقـْـض اللهُ أمْرًا كانَ مَفـْعُولا.
(4) يسْفـَـعُ بالناصية : يأخـُـذ بالناصية
- يُتـْبـَـعْ -
(4) يسْفـَـعُ بالناصية : يأخـُـذ بالناصية
تعليق