( لحظات الفزع ) قصة قصيرة
شاب عادى ليس فى مظهره ما يلفت النظر سوى نظراته القلقة الحائرة التى كان يصوبها حوله فى كل مكان وهو يتجه إلى البنك .. كانت يده اليمنى تقبض فى قوة وتشبث على حقيبة صغيرة أنيقة ، بينما يده اليسرى لا تكاد تستقر بجانبه .. يرفعها كل عدة ثوان لينظر فى ساعته .. فكر فى أن يعود من حيث جاء عندما استحلفه جسده المنتفض بذلك وهو يدخل البنك .. لكنه أخذ يطمئن نفسه ساخراً من خوفه .. لماذا أرتجف هكذا فى قوة .. إن الأمر فى غاية البساطة .. وها أنا ذا قد دخلت دون أن يشعر بى أحد بعكس ما كنت أعتقد .. وأنا أعرف ما سأفعله جيداً .. كل ما علىّ أن أضع الحقيبة فى دورة مياه البنك .. ولن يستغرق هذا سوى لحظات أبتعد بعدها سريعاً ، ثم أتوجه إليهم لأملأ جيوبى بالنقود التى وعدونى بها .. ما الداعى لكل هذا القلق .. هيا انفض عنك هذا الجبن .. حرك قدميك قبل أن يشلهما الخوف .. شق طريقك وسط زحام البنك فى الظهيرة قبل أن يكشفك عرقك المتصبب ...
وبعد جهاد طويل وسط الزحام وصل الشاب إلى دورة المياه فدخل مغلقاً الباب خلفه فى إحكام .. تنهد فى ارتياح وألقى نظرة خاطفة على ساعته .. ثم بدأ عمله السهل .. وضع حقيبته الصغيرة فى مكان يعرفه مسبقاً .. بحيث لا تراها سوى العين الفاحصة .. ابتسم فى سعادة جارفة .. فهكذا انتهى عمله .. لكنه لن يخرج مباشرة .. سينتظر دقيقتين فقط ثم يخرج ، وسيكون باقياً أمامه عشر دقائق كاملة يبتعد فيها تماماً عن البنك .. والآن مضت الدقيقتان .. رسم ابتسامة على وجهه محاولاً أن يبدو طبيعياً وهو يخرج .. مد يده وفتح الباب و .. كلا .. إنه لم يفتح الباب .. لقد حاول فتحه فقط .. لكن الباب اللعين لم يستجب .. أحس بسكين حاد يغوص حتى مقبضه فى قلبه .. حاول فتح الباب مرات ومرات مقنعاً نفسه بأن ذلك بسبب أعصابه المنهارة .. منعته دموعه وعرقه الغزير من التمييز بين عقارب الساعة فخيل إليه أن عقربى الدقائق والساعات يسبقان عقرب الثوانى فى الدوران .. عندما يئس من فتح الباب أسرع وأمسك حقيبته المشئومة .. نظر إليها فى ذهول وفزع ، لكن أصابعه لم تطاوعه على العبث بها رغم عبث الرعب بقلبه .. لقد بالغوا فى تحذيره من العبث بالحقيبة .. الدقائق تمر فى سرعة رهيبة غير عابئة به وعقله عاجز عن التفكير .. لم يعد أمامه إلا أن يصرخ مستنجداً بالناس ليفتحوا الباب أو يحطموه .. سوف يعلمون كل شيء حتماً ، ولكن حتى لو وصل الأمر إلى إعدامه فهو أفضل ألف مرة مما سيحدث له بعد لحظات .. صرخ .. صرخ بأعلى صوته ..
ولكن لم يصل إلى أذنيه سوى حشرجة مخيفة غامضة .. ألجم الفزع لسانه .. قيده الذهول والذعر لحظات أخرى غالية ، ثم هجم على الباب يدقه بيديه .. يركله بقدميه .. يضربه بكتفيه .. ولسانه لا يزال ساكناً .. لم تعجز أذناه عن سماع أصوات الناس بالخارج وهم يتساءلون عما يحدث .. اشتدت ضرباته على الباب فى هياج ثم ابتعد عنه حين سمع صوتاً يأمره بذلك .. طربت أذناه لسماع الضربات تتوالى على الباب من الخارج وإن بدت له هذه الضربات أضعف كثيراً من ضربات قلبه التى يسمعها فى وضوح .. نظر إلى الساعة وهو يكاد يفقد وعيه .. دقيقتان فقط وينتهى كل شيء .. لكن الباب انخلع أخيراً قبل أن ينخلع قلبه .. وجد بعض رجال الأمن أمامه .. أصر لسانه على السكون فأخذ يشير إلى الحقيبة فى هستريا شديدة .. فتح رجال الأمن الحقيبة فتدافع الواقفون يبتعدون فى هلع ، بينما سقط هو أرضاً يحدق بنظراته الزائغة الملتاعة فى رجل الأمن الذى انهمك يعمل بالحقيبة .. وأخيراً أخيراً .. أخيراً جداً .. شاهد رجل الأمن يبتسم ويتنهد فى ارتياح.
- تمت بحمد الله - ( عام 1994 )
إيهاب رضوان
شاب عادى ليس فى مظهره ما يلفت النظر سوى نظراته القلقة الحائرة التى كان يصوبها حوله فى كل مكان وهو يتجه إلى البنك .. كانت يده اليمنى تقبض فى قوة وتشبث على حقيبة صغيرة أنيقة ، بينما يده اليسرى لا تكاد تستقر بجانبه .. يرفعها كل عدة ثوان لينظر فى ساعته .. فكر فى أن يعود من حيث جاء عندما استحلفه جسده المنتفض بذلك وهو يدخل البنك .. لكنه أخذ يطمئن نفسه ساخراً من خوفه .. لماذا أرتجف هكذا فى قوة .. إن الأمر فى غاية البساطة .. وها أنا ذا قد دخلت دون أن يشعر بى أحد بعكس ما كنت أعتقد .. وأنا أعرف ما سأفعله جيداً .. كل ما علىّ أن أضع الحقيبة فى دورة مياه البنك .. ولن يستغرق هذا سوى لحظات أبتعد بعدها سريعاً ، ثم أتوجه إليهم لأملأ جيوبى بالنقود التى وعدونى بها .. ما الداعى لكل هذا القلق .. هيا انفض عنك هذا الجبن .. حرك قدميك قبل أن يشلهما الخوف .. شق طريقك وسط زحام البنك فى الظهيرة قبل أن يكشفك عرقك المتصبب ...
وبعد جهاد طويل وسط الزحام وصل الشاب إلى دورة المياه فدخل مغلقاً الباب خلفه فى إحكام .. تنهد فى ارتياح وألقى نظرة خاطفة على ساعته .. ثم بدأ عمله السهل .. وضع حقيبته الصغيرة فى مكان يعرفه مسبقاً .. بحيث لا تراها سوى العين الفاحصة .. ابتسم فى سعادة جارفة .. فهكذا انتهى عمله .. لكنه لن يخرج مباشرة .. سينتظر دقيقتين فقط ثم يخرج ، وسيكون باقياً أمامه عشر دقائق كاملة يبتعد فيها تماماً عن البنك .. والآن مضت الدقيقتان .. رسم ابتسامة على وجهه محاولاً أن يبدو طبيعياً وهو يخرج .. مد يده وفتح الباب و .. كلا .. إنه لم يفتح الباب .. لقد حاول فتحه فقط .. لكن الباب اللعين لم يستجب .. أحس بسكين حاد يغوص حتى مقبضه فى قلبه .. حاول فتح الباب مرات ومرات مقنعاً نفسه بأن ذلك بسبب أعصابه المنهارة .. منعته دموعه وعرقه الغزير من التمييز بين عقارب الساعة فخيل إليه أن عقربى الدقائق والساعات يسبقان عقرب الثوانى فى الدوران .. عندما يئس من فتح الباب أسرع وأمسك حقيبته المشئومة .. نظر إليها فى ذهول وفزع ، لكن أصابعه لم تطاوعه على العبث بها رغم عبث الرعب بقلبه .. لقد بالغوا فى تحذيره من العبث بالحقيبة .. الدقائق تمر فى سرعة رهيبة غير عابئة به وعقله عاجز عن التفكير .. لم يعد أمامه إلا أن يصرخ مستنجداً بالناس ليفتحوا الباب أو يحطموه .. سوف يعلمون كل شيء حتماً ، ولكن حتى لو وصل الأمر إلى إعدامه فهو أفضل ألف مرة مما سيحدث له بعد لحظات .. صرخ .. صرخ بأعلى صوته ..
ولكن لم يصل إلى أذنيه سوى حشرجة مخيفة غامضة .. ألجم الفزع لسانه .. قيده الذهول والذعر لحظات أخرى غالية ، ثم هجم على الباب يدقه بيديه .. يركله بقدميه .. يضربه بكتفيه .. ولسانه لا يزال ساكناً .. لم تعجز أذناه عن سماع أصوات الناس بالخارج وهم يتساءلون عما يحدث .. اشتدت ضرباته على الباب فى هياج ثم ابتعد عنه حين سمع صوتاً يأمره بذلك .. طربت أذناه لسماع الضربات تتوالى على الباب من الخارج وإن بدت له هذه الضربات أضعف كثيراً من ضربات قلبه التى يسمعها فى وضوح .. نظر إلى الساعة وهو يكاد يفقد وعيه .. دقيقتان فقط وينتهى كل شيء .. لكن الباب انخلع أخيراً قبل أن ينخلع قلبه .. وجد بعض رجال الأمن أمامه .. أصر لسانه على السكون فأخذ يشير إلى الحقيبة فى هستريا شديدة .. فتح رجال الأمن الحقيبة فتدافع الواقفون يبتعدون فى هلع ، بينما سقط هو أرضاً يحدق بنظراته الزائغة الملتاعة فى رجل الأمن الذى انهمك يعمل بالحقيبة .. وأخيراً أخيراً .. أخيراً جداً .. شاهد رجل الأمن يبتسم ويتنهد فى ارتياح.
- تمت بحمد الله - ( عام 1994 )
إيهاب رضوان
تعليق