فرقد البراري خالتي /رسائل إلى خالتي/ الرسالة الرابعة
خالتي
ولا أجد مناصا من الحديث عن موطن نِشأتك من حيث غناه وفقره دنوه ونأيه عن مراكز العمران. وحين أقلب الفكر في بيئة نشوئك أجد ما كان لك في تمكينك من ذؤابة العز وأجد في عين الوقت ما كان عليك مما ينكث غزلك ويخسف الأرض من تحت قدميك .
ولقد أسهبت وأطنبت الحديث عما كان يسهم في تزييت عودك وتجميل نبتتك . وقي معرض رسالتي هذه لا أروم إلا الحديث عن جانب من جوانب تلك المنبت القفر التي ترعرعت فيها وأمضيت سنين الصبا فيها.
ولا أخال انك نشأت في موطن ناء عن مراكز العمران أو عن الحواضر . فلم يكن يبعد موطنك إلا شمرة عصا عن حاضرة الحواضر وأم المدائن ألا وهي حاضرة الموصل . بيد ان موطن نِشأتك بحد ذاته كان مقفرا بعض الشيء لابل مقفرا إلى حد بعيد. إنني لا اقول كل هذا إلا وفي نفسي حاجة.
إنني أتسائل عن سر بلوغك مدارج الكمال وأنت نبتة ذلك الموطن القفر. ولقد كان الموطن قفرا حقا. ولقد كنت تصبحين وتمسين في أكناف محيطك العائلي القليل النفر ودون ان تدخلي في علائق التحاكك مع محيط أكبر أو وسط أوسع إذ أن الديرة لم تكن مسكونة إلا من عوائل معدودة . لبعضها صلة القرابة ومن قريب مع عائلتك الأكبر من أم وأخ وأخت ولبعضها الآخر دون ذلك .
ولم يكن لك بعد هذا كله وسيلة إتصال بفتيات الحي , اللاتي لم تكن تعدن حتى على أصابع اليد, إلا حين كان يتعلق دلوك بدلوهن أوان السقي أو اجتلاب الماء من البئر . وربما كانت هنيهات اجتلاب الماء الهنيهات الوحيدة التي كنت تدخلين من خلالها معهن في حديث عابر لا روح فيه ولا لحمة. حديث لا يعلم أحد عن مداره وفحواه وإن كان يصلح أن يسرد في كتاب مقدس أو ملحمة . في كوميديا محلية أو كونية . وكل ظني أنه كان في الحي كله فتاة طرقت إلى أذناي اسمها كانت تشاطرك طقوس اخراج الماء من ذلك البئر الأسطوري .
والمحير في الأمر أنك لم تكوني يوما تتوقي إلى عشرة أو صحبة فتاة في الحي خارج بوتقة ونطاق العائلة. ولم تحظي يوما بزيارة من أحد. ولا أظن ان هذه العزلة الإجتماعية كانت مفروضة عليك طوقها وحزامها وأنما كانت عزلة تفرضها تقاليد الأسرة والعشيرة. ولقد كان الحي حقا مقفرا ومفرغا من الغادي والرائح . ولا يكاد يألف المرء عابر طريق إلا في مواسم . أما في ساعات الهجير فلا من طارق للربض ولا شاة ولا بعير .
ومن تعمق في علوم العصر قال بأنك وجدت عنفا وعنتا في العيش في تلك البيئة التي كانت تعبق برائحة الدم لا العصفر . لكنك أنت والحيرة تتملكني كنت التي تبثين الهشاشة والبشاشة في روع ذلك المكان القفر . لا بل كنت أنت ريش نعامة على وجه تكتنفه دمامل القبح . ولا أظن قط بأنك أحسست بعضة وحشة ذلك الحي . وربما كان يرهبك عضة من نمل أو عقرب أكثر من عضة التوحش الإجتماعي في تلك المرابع .
خالتي
إنك حقا عوضت قفر المكان بعمران الروح والشخصية . ودرجت مدارج الكمال دون أن يبصمك نتوء الشدوذ و يطمغك ثلمة الإنحراف . وسأسبر لك في قوادم الأيام سر استحالة حر الرمضاء إلى برد عبقر على قلبك .
تعليق