عندما يكمل القمر دورته ...

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عزالدين تسينت
    • 04-01-2008
    • 4

    عندما يكمل القمر دورته ...

    [align=center] عندما يكمل القمر دورته ...[/align]
    [align=left]عزالدين تسينت[/align]


    [align=right]على الرصيف لمحته بقامته الطويلة ، وهامته المشتعلة شيبا ، يسير مترنحا من الثمالة ، يوشك على السقوط ، ولا يسقط ،
    كان علينا انتظار لحظات قليلة جدا ، لنراه وقد سقط أرضا ، بقامته تلك ، كان يمكن أن يكون المشهد مألوفا لولم توقف البراءة أعين
    العابرين وأفئدتهم ، عندما تقدم طفل في ربيعه الرابع أو الخامس ، من الجثة الثملة ، محاولا مساعدة والده على النهوض ، ممسكا
    يده بيديه الصغيرتين ، وكأني به يصيح : انهض يا أبتي ، هو ذا قرص الضوء ينحدر ليغيب في عين حمئة ، سأخبئ ذاكرتي في
    جيب الشمس ، و آخذها ذات صيف ، عندما يكمل القمر دورته المائة والثمانين ، ساعتها سأكون أكثر نضجا لاستعمال أقصد
    لاستيعاب حقيقة هذه القنينة التي تخبئها في جيبك ، كأنما الأب الثمل سمع حوار ابنه الداخلي ، وبطريقة لا تتكرر إلا حين توفر كل
    الشروط ، وقف وعاد إلى الترنح من جديد ، بينما الابن سار أمامه بحذر ، حيث لمحناه يلتفت بين الفينة والأخرى إلى والده ، ليرى
    هل ما يزال يواصل الترنح ، أم سقط مرة أخرى ، ولأنني كنت أكثر العابرين فضولا ، آثرت أن أسير وراءهما لأتابع عن كتب
    مستجدات الطريق .
    من شارع إلى شارع ، يكاد يتوقف النبض هلعا ، بوسعكم أن تتخيلوا رجلا ثملا برفقة طفل صغير ، يقطعان شارعا من
    شوارع البيضاء المكتظة ، حيث سيارات الأجرة البيضاء ، تمر مسرعة كالأشباح ، يكفي أن تلوح لأحد سائقيها بيدك مستعملا
    إشارة من الإشارات السميائية المتعارف عليها لتجد عجلات السيارة على بعد سنتمترات من قدميك ، ناهيك عن الدراجات النارية
    التي تمر كالبرق ، تاركة للمارة صدى أصواتها المزعجة ، وأحيانا آثار حوادثها الأليمة ، لا أزعم أنني أمتلك وفاء أفلاطونيا
    لصديقي الراحل، عماد ، لكنني كلما نفش ديك الموت عهن الصداقات ، أذكره بحجم الألم الكامن في عمق صديق فقد صديقه
    ذات طريق ، كان باسما دائما بوجوهنا نحن الذين واعدناه بالذكرى كلما هوت نجمة في الجب ، وجاء السيارة ليكتبوا لحظة الوداع
    حيث الدمع مغتسل بارد وثواب، إنها الحقيقة التي لا تستعص على أحد ، النهاية الأكيدة التي يرتبها القدر في صور مختلفة ، حيث
    تغدو الحياة لمح بصر ليس إلا ، ليت أعني عبثيتها ، على العكس تماما ، هذا اللمح القصير وجد لنعيشه .. لنحياه .. لأننا على رأي
    شاعر كبير " نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا " لكن الغريب حين تجدنا في نفس الآن نبيعها بثمن بخس ، جرعات معدودة من
    اليأس والهروب والإحباط ، حد التشبع بالإخفاق ، والركون إلى الموت البطيء ، بالمخدرات والأفيون والكحول ، يبدو أننا نسينا
    أمر الرجل الثمل وابنه ، لنعد إليهما ، ربما يحتاجا إلى مساعدتنا .
    سرت في أثرهما تارة أتقمص الرجل حد الترنح في السير ، وتارة أتقمص الطفل حد القلق على الرجل ، بل حد التساؤل
    ما الذي جناه هذا الطفل لتغزو جيوش النيكوتين والكحول غلاف عالمه الملائكي ، حد الاحتباس الطفولي الخطير ؟ لاشيء سوى
    أنه ابن ذلك الرجل صاحب الظل الطويل ، غريب رغم ترنحه وانحنائه يظل ظله طويلا بحجم الحب الذي يكنه الابن لأبيه ،
    والصورة التي يرسمها بالطبشور على سبورته الصغيرة ، ويحضنها كلما اقترب الصبية منه ليسألوه عما يرسم ، دخلا زقاقا صغيرا
    ثم منه إلى زقاق آخر يمينا ، هناك في قارعة الدرب التقيت أحد عشر صبيا يلعبون الكرة ، شرد الطفل قليلا عن والده ، وهامت
    عيناه المسبلتان في تفاصيل المباراة ، لا أستطيع التكهن بالذي شد انتباهه : اللعب ، اللاعبون ، الكرة ، أم الأقدام التي تقذف الكرة
    بحثا عن هدف يباغت الحارس ، تذكر الصبي أنه مكلف دون سن التكليف بحراسة والده ، انتزع عينيه من المباراة ، وعاد لمتابعة
    السير مع والده .
    ابتعدنا خطوات قليلة ، التقيت أحد أصدقاء الدراسة ، حييته وسألته عن أحواله بسرعة أدرك معها أنني على عجلة من
    أمري ، فسألني :
    - لما العجلة ؟
    -لا شيء سوى أنني أقتفى سير هذا الرجل وابنه
    -لماذا ؟
    -لا أعرف تحديدا .. لكنه ثمل .. ربما الخوف على الصبي ..
    -لا تخف لقد أشرف على الوصول إلى منزله
    -هل تعرفه ؟
    - نعم .. بيته هناك على مرمى بصر ، إنها عادته اليومية ، مذ أوصدت الشركة التي كان يعمل فيها أبوابها ، ووجد نفسه في
    الشارع ، دون حساب أو تعويض ، إنه في بدايات عقده الخامس ، يبدو تعيس الحظ ، لم يمضي على زواجه سوى سنوات ست ،
    طلبت منه زوجته السماح لها بالعمل ، لكنه كان يرفض بشدة ، ويقول لها :
    - عندما أموت غريبا.. أقصد قريبا لك أن تفعلي ما شئت ، لكن ما دمت نصف ميت فلن أسمح لك أبدا ، أعدك بأن أجد عملا يوما ما
    وتجيبه الزوجة بقلب مطمئن بالإيمان :
    -الله ما كيسد باب حتى كيفتح بيبان ..خلي إيمانك بالله قوي .. بعد من هاد الويل لكحل .. راه ماشي هاد هو الحل ..الله يهديك
    -بصح ماشي هاد هو الحل .. و حتى هاد الهضرة ماشي هي الحل ..ماشي الله لي سد الباب ..ياك كتعرفي بينك او بين الله
    والله تيكول ( ...وما ربك بظلام للعبيد ..)
    -صحيح ولكن يمكن يكون هاد ابتلاء من الله .. بغى يختبر بيه الصبر ديالنا
    يتركها الزوج .. ويتجه إلى الغرفة لينام .. وهو يردد كلمات أغنية شهيرة :
    ناداني الصغير فولادي .. أبابا بغيت كتاب
    ناداني لكبير فولادي .. أبابا أش هاد لمكتاب
    سيروا.. سيروا .. سولوهم أولادي
    شكون لي سد علينا الباب....
    هذه هي السيرة اليومية لهذا الرجل مع ابنه وزوجته ، لاشيء يغري باقتحام تفاصيل حياته ، سوى الألم ، ودعت
    صديقي وعدت أدراجي ، لا أملك من الأمر سوى الحسرة والأسى على حال من أحوال كثيرة .. وجمرة من جمرات لا تنطفئ .[/align]
يعمل...
X