قتـْل بإيعاز
رائحة الجيفة تملأ المكان، رغم أنه نائم، نائم فقط...لقد كانت تسمع صوت غثيانه طول الليل لكنها لم تتحرك قيد أنملة، كانت تتمنى لو اُختنق بقيئهِ و مات في النوم...لِمُدّة غير قصيرة أصبحت تشعر بالكراهية تِجاهَهُ، ما كان عليها أن تشعُرَ بِتِلكَ الكراهية فبَعضُ المشاعر تدخل في دائرة المُحرّمات و لا يَجـْرأ أحد أن يُجاهِر بها حتى نفسَهُ و لكن تلك الكراهية لم تًُخـْفِ نفسَها و كان عليها أن تنتبِه إليها هي التي طالما تدربت على رؤية نفسِها من الخارج و مراقبة ردود أفعالِها حتى العاطفية منها فلا تعيش اللحظة كما يعيشها الآخرون بل كرائية من الخارج -و في النهاية لا يصِل الحب إلى قلبـِها- و لكن إذا اُنتهت قِصّتُها تُعذبُها تلك المشاهد التي رأتها و تصير بعد حين جزءا من حياتِها.
دخلت عليه في الصباح، كانت رائحة الجيفة تملأ المكان، إنها رائحة الكراهية المتبادَلة و القيء الذي لم يجِد من يُزيلـُهُ و يُطهّر مكانه، صارت مُرهقة من واجبات عاطفية اُنعجنت بالكراهية و لم تقف عندها بل تحولت إلى لامُبالاة قاتلة تُهدّد روحَها و صارت تَرى أن الموت ليس فاجعة في كل الأحوال بل هو مصلحة في أغلبِها لأنه يُعيد ترتيب الموارد و المواقع، إنه مصلحة تتعدى كل المصالح في هذه البنى الإجتماعية المُغلقة التي لا تـَسمح بالتداول في أحقر المكانات شأنا لكن لا مصلحةَ لها من مَوْتِهِ فهي لا تطمح لهذا النوع من الصدارة و لا يُهمها أن تأخذ مكانَه، إنها فقط تُريد أن ينقشع من حياتها لكي تعرف الضوء و تطلـّق الخوف الذي يُعاشِرُها منذ عقود.
إنه يُناديها من الغرفة المُجاورة فيُحيي كل كراهيتها و هي تزيدُ إمعانا في تجاهُلِهِ، لم تستطع أن تكون لِرجُل سِواه بعد أن تزوّج بها صغيرةً و لم يستطع أحد أن يكسر ذلك الحاجز الرصاصي الذي كان يُطوّقها به، كانت علاقتُهما مُجرد اُستِلاب معنوي عقيم، طريق أحادي الاتجاه، تركيز مُتبادل من كِليْهِما على الآخر مهما اُمتلأ البيت بأهلِه من أبناء و أحفاد أو من العابرين و شبَحُ اُمرأة سابِقة ظلت روحُها المُعذبَة تملأ المكان بصُراخِها و هي تُجهَضُ تحتَ سِياطِهِ و ضحكاتِهِ السادية... كل تلك الأصوات كانت مُعلـّقة في السقف تصبّ رذاذا جليدا و تُلجِمُها بالصمت فلا تسمعُ إلا صوتَهُ الغاضب دائما المُتَشفـّيَ أبَدا في حين يُترجم هو صَمتَها بَرقا و رعدًا زمهريرا.
صوّبَ تجاهَها نظرات غاضِبَة حتى تراجعت للوراء و دون أن يطلب منها شيئا أحضرت سطلا به مادة منظفة و أخذت تطهر المكان و هي تتحاشى نظراتِهِ الحاقِدة إلى عودِها الذي مازال أخضر طريّا في حين جفّ عودُهُ و حَكم عليه المرضُ بملازمة الفِراش.
خرجت و هي تعتصرُ أمعاءَها و تفكر في اُغترابِ ذاتها و جسدها في واقع مُشابِهٍ... منذ تزوّجتهُ و حلمُ يقظة غريبٌ يُراودها و هو أن تُتّهَمَ بِقتلِهِ و تقضي سنين في السجن..كان الحلم يتكرر و لم تكن تدري سببا لذلك فهي لا تحمل أية نية في قتلِ أيّ كان، إنها تتحمل هذا الكمّ من الكراهية و تتعوّد عليه من سنة لأخرى حتى عندما كانت تُفلِتُ منه كلمة شكرٍ آلية تستغرب في داخلها و لا تعرف كيف ترُدّ عليه إلا بكلمات آلية مُقتضبة و كأنها لا تستطيع أن تتعامل مع كلام غير جارح و مؤذ.
جلست أمام المرآة و لامَسَت خصلات مفرقها فإذا هي بيضاء عندها رفعت نظرات واهنة إلى أعلى فاليمين فالشمال ثم كتبت على المرآة بأحمر شفاه قديم:"تموت المرأة حين يموت الرجل الذي يُحبها" أتمّت كتابة الجملة و فيما كانت تقرؤها باُنتباه شديد ظهر وجهُهُ خلفها فاُرتاعتْ. قرأ الجُملة و صرخَ: "خائِنة!" فضحِكت و هي تنظر إليه من خلال المرآة: "ما أسهل الكلام!" و أسرعَت نحو الحمّام لتقيء ما في جوفها.. تَبـِعَها بـِجُهْدٍ و هو يَجُرّ ظِلّهُ البارِدَ المُخيف، قال من خلـْفِها:"كم كبرتِ يا صغيرتي" اِلتفتت مدهوشة بعد أن بلـّلت وجهها و شعرها..اِقتربتْ أكثر و قالت:"ماذا قلتَ؟" قال:"صرتُ أراكِ أوْضَحَ من أيّ وقت و لكن بعد فوات الأوان" قالت بـِألم:"لم أفهم" قال:"لقد عذبتُكِ طيلة ثلاثين عاما لم أكن أراكِ فيها أكثر من موضوع للإنتقام، كنتِ تُعذبينني بـِصمتِكِ و خوفِك مني و لم أكن أستطيع فعل شيء حيال ذلك و لم يعرف أحد منا الآخر كفاية و لم يُحبّ أحدنا الآخر أبدا أو ربما أحببتُكِ دون أن أدري و رُبّما أحببتِني دون أن تدري...و لكن تجاهُلـَنا لهذا الحب جعله يتحول إلى كراهية و خوف و اُزدراء" أخذ يسعُل في نوبات مُتتالية ثم تداركَ:"لم يعد لي الكثير لأعيشهُ و لكن لو أوهَبُ الحياة ثانية سأجعلُ منك ملِكة" تداعت و هي تسمع هذا الكلام لأول مرة في حياتها..واصَلَ:"ما كان على أبيكِ أن يُزوّجَكِ من رجل يكبُرُكِ بِعشرين عاما في حين لم يتجاوز عمركِ الخامسة عشر".
اِنهارت على الأريكة باكية و هي تشعر بـِظلم الأب مُضاعَفا فأردف:"أعرف أنكِ تمنيتِ موْتي كما تمنيتُ أن تختفي من أمامي تلك الصورة الآثمة لأحلامِكِ المُنهارة و طفولتكِ المسروقة تجُرّ معها صورا قديمة لِزيجةٍ فاشلة كنتُ فيها الضحية الأولى و لكنكِ لم تُحرّري نفسكِ مني و تُحرريني أو حتى تخونيني فأجِدَ سببًا لكسر هذا القيْد القدَري الذي يشدّني لِلألم. كنتِ تحاولين دائما أن تختفي من أمامي لئلا أصطدِم بوجودِكِ و لِكنـّّكِ كنتِ حاضرة دوْما رغم ذلك".
كانت الدموع تسيل من عينيها في صمت و رأسها إلى أسفل، لماذا لم تتساءل من قبل عن سبب هذا العناء، إنه يُعاملها بنفس السادية التي كان يُعامل بها زوجته السابقة دون أن يمُدّ عليها يَدَهُ، إنه يُعذبُها نفسيا، إنه مريض نفسي و هي أيضا مريضة نفسية لأنها اُستسلمت لهذا الوضع سنين طويلة دون أن تفكر في تغييره، لقد أخرج "اِلِكترا" فيها و عامَلـَها على هذا الأساس و رغم حصيلة ثلاثين عاما من البـِناء و الأولاد لم يتغير شيء و وجدت نفسها في نقطة البداية: فتاة ذات خمس عشرة ربيعا بخصلات بيض و مجموعة من الأولاد و الأحفاد و رجُل مُسِنّ لا تكاد تعرف عنه شيئا.
فتحت الشبابيك و كأنها ترى السماء لأول مرة و نظرت إلى المدينة فرأتها بعيون الخامسة عشرة، رأت نفسَها تنزل و تلعب في الزقاق و تعود من الإعدادية صحبة رفيقاتها فيتحدثن عن الجارة الشريرة و الأستاذ الخجول و فتى المعهد الذي يُجنـّن كل الفتيات، تنفّست بِنَهَمٍ و حين اُلتفتت إلى الوراء و على فمها اُبتسامة عريضة اُصطدمت بوجهه الحزين و قرأت أفكارَه للتوّ، للحظة نسِيت وجودَهُ و ثلاثين عاما من الخوف و لم تعُد تسمع صوت زوجتِهِ السابقة لأنها لم تعُد تعنيها.
صنعت ضفائر أمام المرآة و مسحت الجملة المكتوبة عليه و خفـّت إلى الدَرَج تقفز و تقفز و تقفز و تضحك ضحكات صارخة و حين تجاوزت الباب وجدتْ عددا مهولا من الناس يملؤون المكان و سمعتْ أزيز سيارة الشرطة فاُستفسرت عن الأمر فإذا بـِزوجها جثة هامدة مُلقاة على الأرض من الطابق الرابع، دفعت المارّة مُحاوِلة الهرب في حركة غريزية و إذا بالشرطي يُلقي القبض عليها بتُهمة القتل و الهرب من العدالة.
دخلت عليه في الصباح، كانت رائحة الجيفة تملأ المكان، إنها رائحة الكراهية المتبادَلة و القيء الذي لم يجِد من يُزيلـُهُ و يُطهّر مكانه، صارت مُرهقة من واجبات عاطفية اُنعجنت بالكراهية و لم تقف عندها بل تحولت إلى لامُبالاة قاتلة تُهدّد روحَها و صارت تَرى أن الموت ليس فاجعة في كل الأحوال بل هو مصلحة في أغلبِها لأنه يُعيد ترتيب الموارد و المواقع، إنه مصلحة تتعدى كل المصالح في هذه البنى الإجتماعية المُغلقة التي لا تـَسمح بالتداول في أحقر المكانات شأنا لكن لا مصلحةَ لها من مَوْتِهِ فهي لا تطمح لهذا النوع من الصدارة و لا يُهمها أن تأخذ مكانَه، إنها فقط تُريد أن ينقشع من حياتها لكي تعرف الضوء و تطلـّق الخوف الذي يُعاشِرُها منذ عقود.
إنه يُناديها من الغرفة المُجاورة فيُحيي كل كراهيتها و هي تزيدُ إمعانا في تجاهُلِهِ، لم تستطع أن تكون لِرجُل سِواه بعد أن تزوّج بها صغيرةً و لم يستطع أحد أن يكسر ذلك الحاجز الرصاصي الذي كان يُطوّقها به، كانت علاقتُهما مُجرد اُستِلاب معنوي عقيم، طريق أحادي الاتجاه، تركيز مُتبادل من كِليْهِما على الآخر مهما اُمتلأ البيت بأهلِه من أبناء و أحفاد أو من العابرين و شبَحُ اُمرأة سابِقة ظلت روحُها المُعذبَة تملأ المكان بصُراخِها و هي تُجهَضُ تحتَ سِياطِهِ و ضحكاتِهِ السادية... كل تلك الأصوات كانت مُعلـّقة في السقف تصبّ رذاذا جليدا و تُلجِمُها بالصمت فلا تسمعُ إلا صوتَهُ الغاضب دائما المُتَشفـّيَ أبَدا في حين يُترجم هو صَمتَها بَرقا و رعدًا زمهريرا.
صوّبَ تجاهَها نظرات غاضِبَة حتى تراجعت للوراء و دون أن يطلب منها شيئا أحضرت سطلا به مادة منظفة و أخذت تطهر المكان و هي تتحاشى نظراتِهِ الحاقِدة إلى عودِها الذي مازال أخضر طريّا في حين جفّ عودُهُ و حَكم عليه المرضُ بملازمة الفِراش.
خرجت و هي تعتصرُ أمعاءَها و تفكر في اُغترابِ ذاتها و جسدها في واقع مُشابِهٍ... منذ تزوّجتهُ و حلمُ يقظة غريبٌ يُراودها و هو أن تُتّهَمَ بِقتلِهِ و تقضي سنين في السجن..كان الحلم يتكرر و لم تكن تدري سببا لذلك فهي لا تحمل أية نية في قتلِ أيّ كان، إنها تتحمل هذا الكمّ من الكراهية و تتعوّد عليه من سنة لأخرى حتى عندما كانت تُفلِتُ منه كلمة شكرٍ آلية تستغرب في داخلها و لا تعرف كيف ترُدّ عليه إلا بكلمات آلية مُقتضبة و كأنها لا تستطيع أن تتعامل مع كلام غير جارح و مؤذ.
جلست أمام المرآة و لامَسَت خصلات مفرقها فإذا هي بيضاء عندها رفعت نظرات واهنة إلى أعلى فاليمين فالشمال ثم كتبت على المرآة بأحمر شفاه قديم:"تموت المرأة حين يموت الرجل الذي يُحبها" أتمّت كتابة الجملة و فيما كانت تقرؤها باُنتباه شديد ظهر وجهُهُ خلفها فاُرتاعتْ. قرأ الجُملة و صرخَ: "خائِنة!" فضحِكت و هي تنظر إليه من خلال المرآة: "ما أسهل الكلام!" و أسرعَت نحو الحمّام لتقيء ما في جوفها.. تَبـِعَها بـِجُهْدٍ و هو يَجُرّ ظِلّهُ البارِدَ المُخيف، قال من خلـْفِها:"كم كبرتِ يا صغيرتي" اِلتفتت مدهوشة بعد أن بلـّلت وجهها و شعرها..اِقتربتْ أكثر و قالت:"ماذا قلتَ؟" قال:"صرتُ أراكِ أوْضَحَ من أيّ وقت و لكن بعد فوات الأوان" قالت بـِألم:"لم أفهم" قال:"لقد عذبتُكِ طيلة ثلاثين عاما لم أكن أراكِ فيها أكثر من موضوع للإنتقام، كنتِ تُعذبينني بـِصمتِكِ و خوفِك مني و لم أكن أستطيع فعل شيء حيال ذلك و لم يعرف أحد منا الآخر كفاية و لم يُحبّ أحدنا الآخر أبدا أو ربما أحببتُكِ دون أن أدري و رُبّما أحببتِني دون أن تدري...و لكن تجاهُلـَنا لهذا الحب جعله يتحول إلى كراهية و خوف و اُزدراء" أخذ يسعُل في نوبات مُتتالية ثم تداركَ:"لم يعد لي الكثير لأعيشهُ و لكن لو أوهَبُ الحياة ثانية سأجعلُ منك ملِكة" تداعت و هي تسمع هذا الكلام لأول مرة في حياتها..واصَلَ:"ما كان على أبيكِ أن يُزوّجَكِ من رجل يكبُرُكِ بِعشرين عاما في حين لم يتجاوز عمركِ الخامسة عشر".
اِنهارت على الأريكة باكية و هي تشعر بـِظلم الأب مُضاعَفا فأردف:"أعرف أنكِ تمنيتِ موْتي كما تمنيتُ أن تختفي من أمامي تلك الصورة الآثمة لأحلامِكِ المُنهارة و طفولتكِ المسروقة تجُرّ معها صورا قديمة لِزيجةٍ فاشلة كنتُ فيها الضحية الأولى و لكنكِ لم تُحرّري نفسكِ مني و تُحرريني أو حتى تخونيني فأجِدَ سببًا لكسر هذا القيْد القدَري الذي يشدّني لِلألم. كنتِ تحاولين دائما أن تختفي من أمامي لئلا أصطدِم بوجودِكِ و لِكنـّّكِ كنتِ حاضرة دوْما رغم ذلك".
كانت الدموع تسيل من عينيها في صمت و رأسها إلى أسفل، لماذا لم تتساءل من قبل عن سبب هذا العناء، إنه يُعاملها بنفس السادية التي كان يُعامل بها زوجته السابقة دون أن يمُدّ عليها يَدَهُ، إنه يُعذبُها نفسيا، إنه مريض نفسي و هي أيضا مريضة نفسية لأنها اُستسلمت لهذا الوضع سنين طويلة دون أن تفكر في تغييره، لقد أخرج "اِلِكترا" فيها و عامَلـَها على هذا الأساس و رغم حصيلة ثلاثين عاما من البـِناء و الأولاد لم يتغير شيء و وجدت نفسها في نقطة البداية: فتاة ذات خمس عشرة ربيعا بخصلات بيض و مجموعة من الأولاد و الأحفاد و رجُل مُسِنّ لا تكاد تعرف عنه شيئا.
فتحت الشبابيك و كأنها ترى السماء لأول مرة و نظرت إلى المدينة فرأتها بعيون الخامسة عشرة، رأت نفسَها تنزل و تلعب في الزقاق و تعود من الإعدادية صحبة رفيقاتها فيتحدثن عن الجارة الشريرة و الأستاذ الخجول و فتى المعهد الذي يُجنـّن كل الفتيات، تنفّست بِنَهَمٍ و حين اُلتفتت إلى الوراء و على فمها اُبتسامة عريضة اُصطدمت بوجهه الحزين و قرأت أفكارَه للتوّ، للحظة نسِيت وجودَهُ و ثلاثين عاما من الخوف و لم تعُد تسمع صوت زوجتِهِ السابقة لأنها لم تعُد تعنيها.
صنعت ضفائر أمام المرآة و مسحت الجملة المكتوبة عليه و خفـّت إلى الدَرَج تقفز و تقفز و تقفز و تضحك ضحكات صارخة و حين تجاوزت الباب وجدتْ عددا مهولا من الناس يملؤون المكان و سمعتْ أزيز سيارة الشرطة فاُستفسرت عن الأمر فإذا بـِزوجها جثة هامدة مُلقاة على الأرض من الطابق الرابع، دفعت المارّة مُحاوِلة الهرب في حركة غريزية و إذا بالشرطي يُلقي القبض عليها بتُهمة القتل و الهرب من العدالة.
تعليق